استدعاني صديقي إدريس لحضور حفل الحضرة عند إحدى قريباته بالحي المحمدي. كان أول عهدي بمثل بهذه الحفلات. حفل موسيقي رهيب اختلطت فيه الروحانيات بالشعوذة، والخيال بالواقع. جماعة من الرجال ينفخون على نايات طويلة، وآخرون يدقون الدفوف والبنادر، ويرددون بأصوات صاخبة أغان لم أفهم منها شيئا. نبراتهم تغلب عليها سمة الأولياء والأضرحة وأسماء الجن مثل: حمو وميرة ومليكة وشمهروش. وموسيقاهم تشد المستمعين والمتفرجين إليها. كلما ازداد العزف حدة دخلت إحدى النسوة إلى وسط الحلبة وتبعتها أخرى، يرقصن بدون شعور وهن يتأرجحن من أسفل إلى أعلى. يسبحن في عالم مجهول بأقدام حافية وشعر منفوش. وسرعان مااقتحمت المكان امرأة بدينة طاعنة في السن، سوداوية البدن ،تحمل مبخرة يتصاعد منها دخان كثيف. رائحة البخور تخنق الأنفاس، وتبعث على الغثيان. صاحت العجوز: - قد نزل الأسياد... عم الدخان والبخورأرجاء المكان. اشتدت دقات الدفوف والبنادير وأنين النايات. في كل لحظة تسقط امرأة وسط الحاضرين، تتلوى على الأرض كخروف مذبوح غير آبهة بما حولها، تتشعث جدائل شعرها، ينزلق (شربيلها) المذهب الفاسي من قدميها، تتدخل إحدى قريباتها لمساعدتها، وتلملم ما تلاشى من أغراضها محاولة ستر سيقانها وصدرها التي كشفت عنها دون مبالاة. تسمرت قرب النافذة أتفرج على الأجساد البشرية شبه عارية، ترقص بجنون، وتتمرغ على الأرض بطريقة فظيعة، وبين الفينة والأخرى تنفجر ضحكات عالية لإحدى الراقصات أو أحد الراقصين. وتصيح العجوز مرة أخرى: - صلوا على رسول الله، اطلبوا النجاة والتسليم لأهل المكان. اشمأزت نفسي من هذه المناظر المترعة بالطوبائية، ومن رائحة البخور الكريهة، ومن صخب المكان. كدت أتقيأ، أصبت بدوار فظيع ، تناسلت في ذهني أفكار غريبة، أصبحت كالتائه وسط التيار، خفت الانسياق وسط هذا الزخم الآدمي والانخراط مع الراقصين والراقصات. تمالكت نفسي. انزويت في ركن بعيد شيئا ما عن الضجيج خارج الحلبة. هناك كان يقبع شيخ في السبعين على فراش خشبي بدون مضربة. يرتدي جلبابين صوفيين رغم حرارة الجو وحرارة المكان. يحتسي من كأس شاي باردة، وينفث دخانا لا يقل عن دخان القاعة من سيجارة رخيصة حرقت شفتيه وأصابعه. جلس منعزلا كأسير في زنزانته، راكم السنين فوق كتفيه، سنين كلها تعب وضنك. يموت في صمت. يمر الليل بطيئا حزينا. تعلو وجهه تجاعيد غيرت ملامحه، وسرق الزمان ماتبقى من أيامه بعدما نخر جسمه واغتال أحلامه. تخطى الستين بقليل. اكتفى الرجل بالاستماع من بعيد، واكتفيت بالنظر إليه وهو يتلذذ سيجارته المرة في نشوة تبلسم بعضا من جراحه الغائرة. لم يبادرني بأي سؤال، واكتفى باختلاس نظرة إلي عند كل جرعة. من كوة سطح الدار تراءى لي القمر باهتا يغيب السماء في فضاء قاص في رحم السماء، يرحل إلى حيث لا أدري. تطلعت إلى عيون الشيخ الغائرة بفضول طفولي لم أعتده في من قبل. حاولت التعرف عليه أكثر. هالني أمره، رفع ناظريه. ابتسمت لأساير مزاجه الذي حشده بنفث الدخان الرخيص. تحاشى ابتسامتي وعاد يدغدغ عقب السيجارة الذي أحرق أصبعيه. يسمع من الداخل نواح حاد لامرأة ركبها الجن. أفزع العويل الرجل وارتجفت أوصاله وسقطت العمامة البيضاء من فوق رأسه. لم أستطع أن أدفن ضحكتي وأنا أسترق النظر إليه. هد جدار السكون المطبق بيننا، ارتسمت الكآبة على ناصيته، حياني باقتضاب، بادلته نفس التحية، مزق ستار الصمت بيننا، استجمع شجاعته وسألني: لماذا لاتتفرج بالداخل؟ لا أرغب في مثل هذه الفرجة، قد ترعبني حينما يختلط فيها الجن بالإنس على حد قولهم. من هم؟ أصحاب الحضرة. لكن الحضرة أو الجدبة نوع من الفنون الشعبية لها عشاقها وطقوسها. لا تخلط الأوراق، لعلك تقصد كناوة. نعم. شتان بين رقصات كناوة وعيساوة وبين هذا التهريج. أنت محق. تمتم بكلام لم أفهم معناه، وعاد يصب في بطنه ما بقي من شاي باردة. نامت المدينة والأجساد الراقصة المتلاصقة - أحيانا - لم تنم، ورائحة البخور والسجائر تخنق الأنفاس وتزكم الأنوف، وضبابها يلف أرجاء القاعة، والجوقة بدفوفها وناياتها لم تتوقف، ولم يدب فيها السأم أ والملل. استفسرت الرجل بنفس السؤال الذي وجهه لي: - لماذا لم تتفرج بالداخل؟ أشعل سيجارة أخرى وشرب منها بقوة، حتى خرج دخان كثيف من منخريه، وأردف بتنهيدة عميقة ثم طأطأ رأسه. فهمت منه أن الرجل يقل هموم الدنيا على كتفيه، وأنه صمت ليبحث عن جواب ليس فيه إحراج، لكن صمته زاد، وكأنه يبحر في فضاء اللا محدود، يرتب في أعماقه الحروف والكلمات التي سيفوه بها. داريته بابتسامة ماكرة وسألته مرة أخرى، وكأني أنتشله من يم لاقرار له ثم نطق بلغة الحكماء: - نحن ضحايا هذا الزمان اللعين، غرر بنا كثيرا حتى نسينا أنفسنا. -لم أفهم ماذا تعني؟ - أنا مثلك أكره هذه الفرجة ،وأكره من يمارسها أو يتسلى بها. - ولم مجيئك إلى هنا؟ مسح شاربيه، وامتص من السيجارة نصفها، ولم يستطع هذه المرة إخفاء حزنه الدفين، وطعم المرارة يتصاعد من أنفاسه مع دخان السيجارة: - أنت في سن ولدي، جئت مع زوجتي وهي بالداخل ترقص مع الجن كما ذكرت - هل تؤمن بان الجن فعلا يراقصهم أو يرقص معهم؟ - أنا أومن بشئ واحد. - ماهو؟ - هو اني من أشد الناس تعاسة. - ربما هذا قدرك. - لا، أنا الذي ساهمت في تعاستي ،لما طلقت زوجتي وطردت أبنائي من البيت، وآثرت عليهم العجوز الشنطاء. قلت له: - باستطاعتك إعادة الأمور إلى نصابها. - متى؟... بعد خراب مالطة. وضعت كل ما أملك بين يديها، حتى دكاني بعته من أجلها، وها أنا اليوم أعيش عالة عليها بعدما تقدم بي العمر، ونxبذني أبنائي. ثم انهمر يبكي بكاء الندم، وكنت أشاهد أول رجل يبكي كما النساء. انقطع النور عن المنزل فجأة ودون سابق إنذار. توقف العزف واستمر العويل والأنين. استفاق الجن وبقي الإنس من النساء في غفوتهن. كثر اللغط في البحث عن الشموع. الحوانيت مغلقة في مثل هذه الساعة. حل الهزيع الأخير من الليل. لم يبق إلا غبش وينبلج الفجر من رحم الزمان. امرأة خارت قواها من فرط الرقص والعويل والصياح. أرخت جسدها المنهوك وتهاوت على الأرض دون حراك. ابتلع ما بقي من الظلام، مزيج الألوان الذي يعم الغرفة: زرقة الحيطان ودماء بعض الراقصين والراقصات، حمرة الدم وحمرة الصدور والأفخاذ العارية. ولم تبق إلا روائح البخور والسجائر المنفوثة في الهواء تحلق كغربان فوق قبور حجرية صماء. تفقدت العجوز المسكين فوجدته هب كطفل مذعور من معلمه ملبيا نداء سيدته، أقصد زوجته التي تأبط شر ذراعها، وخرجا للتو دون أن يكلف نفسه بإيماءة لوداعي.