يصعب الحديث عن تجربة الإبداع ، من طرف مبدع أدمن لزمن طويل على مكابدة الشعر ، وبشكل عصامي ، وتلقائي ، موزعا بين مد الحياة ، وجزرها ، دون أن ينتبه إلى تكريس نظرية في الشعر ، أو مراجعة تحققات شعرية ، تنفرط مثلما ينفرط حبل الحياة وفي غياب مواكبة نقدية تدلل طريق الخلق ، وتحدد ملامح التجربة، ومسارها إذ الحديث عن هذه التجربة ، لا ينفصل أساسا عن الحديث عن حياتي بكل استهاماتها ، وتمفصلاتها ، وليس عن استثناء ، أو تفرد ، او ميزة فوق حياتية . يجب الإنتباه إليها في كل آن وحين ، ورصد خطها التصاعدي ، ومع ذلك ، تفاديا لكل إطناب ، أو نسيان قد يعتريني ، أو عدم استفاء بعض الأسئلة حقها من الجواب ، وعلى سبيل الإستئناس لأنني لست متمرسا ، عادة بخاصية الارتجال ، ارتأيت أن أحضر بعض وجهات نظري في تجربتي الإبداعية ، وقضايا الشعر مما سبق أن أثير في لقاءات ، جمعتني بقراء ، في محافل عدة , أتمنى أن تفي بالغرض المطلوب ، وتساعدني على التركيز أكثر. محمد شاكر الإنسان ، والشاعر من مواليد سنة 1951 ، بمدينة القنيطرة ، أب لأربعة أبناء ،أرغمتني وفاة الوالد ، المبكرة ، على الإنقطاع عن التعليم، وإعالة أسرة فقيرة ، وكبيرة ، أشتغل حاليا ، موظفا بالخزينة الإقليمية لوزارة المالية ، على مشارف التقاعد . مرتبط أساسا ، بهذه المدينة التي علمتني التواضع ورحابة القلب ، وألفيت فيها المثال الذي أضعته في زمن سالف . بدأت النشر بمحاولات أولى ، تعتبر البواكر، بالصفحات الثقافية ، لجريدة العلم ، والمحرر والإتحاد الاشتراكي ، على فترات متباعدة ، لأن فرص النشر كانت ناذرة ، نشرتُ بشكل شخصي ، ولم أسلك أي طريق مما تواضع عليه المتلهفون على النشر. وأدرجت لي نصوص كثيرة ، على صفحات الملاحق الثقافية ، الوطنية ، كالعلم ، والإتحاد الاشتراكي والبلاغ ، وأنوال ، والمنعطف الثقافي ، والبيان الثقافي ، وفي مجلات أدبية ، كالرصيف ، وكلمات والزمان المغربي ، والثقافة الجديدة ، ومجلة الناقد اللبنانية ، ومجلات خليجية لا أذكر أسماءها الآن ومجلات جهوية أقمت العديد من الأمسيات الشعرية داخل الإقليم ، وخارجه . شاركت في مهرجانات ثقافية ، إقليمية ، وقرأت في أمسيات شعرية إلى جانب شعراء مغاربة ، وأجانب مرموقين وذلك بمناسبة الإحتفال باليوم العالمي للشعر، وبالمعهد الثقافي الفرنسي لمكناس بمناسبة ربيع الشعراء .ومناسبات أخرى عديدة كُرِّمت من طرف العديد من الجمعيات المحلية ، والوطنية ، في مناسبات متفرقة ، على سبيل المثال لا الحصر ، كجمعية القبس للسينما ، والثقافة ، المهرجان الثقافي لمدينة الرشيدية ، مركز طارق ، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ، هواة العدسة ، واللائحة طويلة...... أراكم العديد من النصوص الشعرية ، التي تُحوّل ، في كل مرة ، ظروف قاهرة ، دون انتظامها في دواوين ، أتمنى أن أكفرعن هذا الذنب في مقبل الأيام . المرجعيات لم أتلق تعليما جامعيا ، نظاميا ، يؤهلني لكي أختار بشكل تراتبي ، مطالعاتي . فقراءاتي منذ البداية كانت منفتحة ، بشكل تلقائي على كل أجناس الكتابة الإبداعية ، بدون استثناء ، ثراتية ، ومعاصرة ، عربية ، وفرنسية ، أتلقف كل ما أصادفه في سوق الكتب . وحتى محاولاتي الإبداعية ، كانت تراوح بين القصة ، والقصيدة ، والمسرحية ، إذ كنت ، في بداية الأمر ، ودون عمد ، أو ترصد أبحث عن الشكل الذي يستوعب ذائقتي الأدبية ، دون أن يفيض عن أحوالي , وأحس أنني ، فيه وثقت تطلعاتي ، بعيدا عن المتداول . وبهذا ، فقد أذعت في نهاية الستينيات ، إلى جانب المحاولات الشعرية المحتشمة ، مجموعة من النصوص القصصية القصيرة ، على الأثير ، من راديو فاس ، وطنجة ، ثم بعد ذلك ، بين الحين والآخر ، كان الشاعر الكبير ، المرحوم إدريس الجاي، يدرج لي نصوصا شعرية ، مذيلة بتعاليقه الذهبية . ثم جاء الشاعر ،المرحوم محمد بنعمارة في برنامجه " حدائق الشعر" الذي أذاع الكثير من نصوصي الشعرية ، في بداية حلقات البرنامج ، كقصائد مختارة . لكن مع تقدم التجربة ، وافق الشكل الشعري هوى في النفس أو نداء خفيا ، تيقنت بأنه الأنسب على احتواء الفيض الشعوري ، الذي ينفر من التفاصيل ، والتقرير النثري ، وينحى منحى إيحائيا راقصا ، ومنفتحا على آفاق رؤيوية ، تحتفي باللغة في احتمالاتها القصوى . وهكذا لم أعد إلى القصة ، ولا المسرحية ، ولكني انفتحت على قراءة الأدب العربي ، والغربي ، في نصوصه المشرقة التي تنأى عن المباشرة ، والتفاصيل ، وترتكز أساسا ، على الجرأة في إعمال الخيال ، والمواربة في كل شيء ، بشكل شخصي ، ربما كان هذا من جملة الأسباب التي أثرت لغتي ، وحافظت على أناقة التعبير النثري ، والشعري ، وتنوعه على حد سواء . حسب تصريحات أكثر القراء ، إلا أني ، لحد الساعة ، لا أقنع بكل ما جرَّبت وما تكوَّن لدي من أدوات ، إذ أسعى ، وهذا مطمح ملح ، إلى أن تكون كلُ آصرة لغوية ، ولو قصيرة ، بوحا شعريا ، يغني عن كثيرا من التفاصيل. وأرفع شعارا ، مفاده المحافظة على استعمال الطاقة اللغوية ، حتى لا تترهل في ضمور الأفكار ، والدلالات . وكثيرا ما تساءل الأصدقاء ، والقراء عن السر في إبداع جميل ، ينم عن تنوع المقروء ، وفخامة اللغة مع أن صاحبه موظف بوزارة المالية ، أنا نفسي لا أدري لماذا ، إلا أني أجد نفسي متوازنا في الحالتين ، فلغة الأرقام تحيلني على ضراوة الواقع ، وسعي الناس وراء جمع المال ، في حين تحيلني لغة الشعر على ثراء الروح البشرية التي لا تنضب ، ربما كانت هذه المفارقة الغريبة في حياتي ، هي التي أذكت لدي عشق الشعر ، وهيأت لي أسباب الإنغماس في ضفافه الوارفة القناعة ، هربا من رعونة المال ، واستدرارا لشفافية الروح، والغريب في الأمر أن أجمل قصائدي دبّجْتها وأنا غارق في معالجة ملفات الصفقات العمومية ، والطلبيات ، وأجور اليد العاملة ، ربما حياتي المهنية ، التي تبدو في ظاهرها مناقضة لميولي هي التي أعطتني القدرة على التفرس في أحوال الشعر ، بشهية متجددة ، ورغبة ملحة ، لأن المراوحة بين الوضعين يجدد الطاقة . إنني أمشي على حد الشفير ، مزودا بكل غنى الوزنية الثراية ، الخليلية التي تفتح وعيي عليها ، أول الأمر في البرامج الدراسية ، وعلى الخصوص في مطالعاتي الحرة ، وكذا تجاربي الكتابية الأولى ، ومباهج النثر في النصوص الشعرية الحديثة ، عربية كانت ، أو غربية ، وصوفية ، مما كون لدي هذا النزوع نحو شعر ، ينحى إلى نثر رقيق ، ونثر حتى في ردودي ، يكاد لا يتخلص من رقص شعري ونزوع نحو الإيحاء . كل هذا فتح أمامي آفاقا إيقاعية ، لا حد لها ، واكسب بذلك نصوصي الشعرية خفة الكائن الذي يتدارك سقوطا إيقاعيا ، وهو يحمل بضاعة ثقيلة ، عليه أن يعبر بها إلى ضفة متلق ، يقف على أبواب مرجعية ثراتية ، ويسمح أن تهب على روحه رياح التغيير . وأعلم أن الحيلة لا تنطلي عليه ، في حالة الإسفاف . ربما كنت موفقا في أن أجعله يبارك شطحاتي التي لا تنجرف ، أو تنحاز ، بعيدا عن ذوقية شعرية عربية ، بل تحفظ المعنى ، والإيقاع . إني لا أستنكف من شعر منثور، كما يحلو للبعض تسميته ، أو المزاوجة بين أكثر من منحى إيقاعي ، في النص الواحد ، سعيا وراء تركيبة موسيقية تتشكل من كل هذا الكورال الموسيقي ، الذي لم يكن في أي تجربة شعرية خضتها ، سابقا على التجربة الحياة ، والنفسية .ولكنه مواكب لها ، ومتساوق معها ، لحظة الخلق ، إلى درجة أني أفاجأ ، في النهاية ، بصيغ إيقاعية تقوم مقام الوزنية التقليدية ، تحققت في النص ، وحافظت على الشحنة الشعورية التي كنت أصبو إلى إجلائها ، من غير زيادة ، أو نقصان الأهم هو أن يسلم لنا الشعر ، الذي هو إكسير اللغة ، ربما كان هذا بعض سر الغنى العروضي ، كما أسلف القراء . وبالتالي ، فأنا مشدود إلى جذور الشعرية الموغلة في القدم ، بقدر ما تلبي حاجة في نفس النص ، أو توافق تركيبتي الشخصية ، والفنية . وقد أشار الكثيرون إلى مجال اقتباسي من القرآن ، كتعبير عن النفس ، والوجدان ، والعالم الروحي والإبتعاد عن تمثل الأساطير الإغريقية .وأعتقد أن المسألة ، قاسم مشترك بين كل الشعراء الستينيين ، والسبعينيين ، كوْن كثيرين منهم ، لم يغش صفوف المدرسة العصرية ، إلا بعد أن تخرج من الكتاتيب القرآنية ، التي كانت كلُ عائلة مغربية ، تحرص على أن يحفظ أبناؤها كتاب الله ، حِفظا للدين ، وتزودا ببعض من إعجازه اللغوي المبين ، ولم أتخلص من رسم حروف الكتاب ، إلا بعد جهد جهيد، لأعوضها بالحروف العصرية التي أكتب بها الآن أحلامي ، وإحباطاتي . وظل القرآن كخلفية مرجعية جزءا من تكويني الثقافي ، والنفسي ، لما يزخر به من ثراء ، وإعجاز فني ، وموضوعي ، تطور توظيفه ، في نصوصي الشعرية ، بشكل مطرد ، وعفوي إلى أن اكتشفت مدى قابلية استثماره ، على مستوى رموزه الدينية ، وأحداثه التاريخية ، ولغته البليغة ، والمُشعّة ، والصادقة ، في كل الأحوال ، وقدرته الجلية على التدليل ، على واقعنا الراهن ، وقد سعيت إلى امتصاصه داخل نصوصي الشعرية والإرتقاء معه إلى مستوى الحوار وتوخيت من خلال ذلك أن أكون مُكسّرا ، ومثيرا لأفق انتظار المتلقي العربي، والمسلم ، الذي فقد سرَّ تفوقه ، بتخليه عن هذه القيم ، والفضائل. عامل آخر صوغ لي توظيف النص القرآني ، بديلا عما كان متداولا في الساحة الشعرية ، وبفعل انفتاحنا على جيل الرواد، الذي اغترف من الأساطير اليونانية ، وتحولت الأسطورة في لحظة تاريخية إلى مجال لاستعراض العضلات الفنية ، وتراكم زائد عن الحد في النصوص الشعرية العربية ، لا يفي بحاجة النص الحقيقية ، لإظهار مقاصده ، واغترابا عن المتلقي العربي ، وهكذا اهتديت إلى أنجع وسيلة للتصالح مع المتلقي من بني جلدتي ، وعقد آصرة فنية ، تخدم الواقع وتفعل التراث . أما لغتي ، اليوم ، فهي المشترك التاريخي ، والثقافي ، والعروة الوثقى ، بكل مرجعياتها، وزخمها ، وحمولتها ، تنبجس من ذاتي مضمخة ، ببعض أطايب الصدق ، وبقع من لون الوجع الحائل إلى ذبول لا تنفك تتجاذبني أقطابها ، ولكنني أستعين على تخفيف وطأة هذا الجذب، بتمريرها عبر مصفاة الروح ، والتجربة الصادقة ، والإنزياحات ، التي تفتح إمكانيات جديدة للتأويل ، والعمق ، والمغامرة ، والإدهاش ، وأحيانا بتكسير المتواضع عليه ، وتشكيل بدائل، أحاذر فيها أنا أمشي، على ضوء فانوس الأعماق ، فوق حد الصراط ، أو المنزلة بين المنزلتين، بالاصطلاح الصوفي . فأكثر حالات "النيرفانا" الإبداعية تحققت بهذا التقمص ، واسعفتني قي خلق عالم مأمول ، تعويضا عن إحباطات الواقع المكرس ، وفشلي في التحقق به ، بالمواصفات التي تمليها راهنيته . إنني أسعد بحريتي ، وانعتاقي ، من خلال هذه اللغة الموشومة بنبض الوجع ، ورهافة الحزن ، وأحسني أتقوى وجدانيا ، ولي فيها مآرب أخرى ، حتى لا أظل في سراديب تتحلل فيها أحلامي المعتقة ، بفعل رطوبة التعبير ، وحشرجة الألفاظ .
سؤال الشعر سؤال مرعب ، يشهدُ الجوابُ عنه تقلبات ، مرتبطة أساسا ، باحتياجات روحية ، وشروط ذاتية ، ومجتمعية ، لا فكاك للذات المبدعة عنها . فكلما تقدمت في الشعر عتيا ، وفي ظل أوضاع مجتمعية آنية ، وشروط إبداعية إستثنائية ، تقلص الجواب ، وذابت الأهمية ، ليبقى مجرد وهم صغير ، أدلل به طريقا حياتيا ، مليئا بفخاخ المقت ، والإمتعاض . وربما أجمل به خلفية المشهد المأساوي ، لحياة تتأبى على الإنصياع ، لعلي أعبر دون أن تعلق بالروح بقع من دم الأحلام . الآن ، أنا بالشعر ، أوثق خيباتي ، وأختلق بوْحا حميميا مع ذاتي ، نهش به ، أنا ، وإياها ، على عزلة توشك أن تطبق علينا من غير رحمة ، ولا هوادة . الآن ، أنا أنكتب , لضرورة بيولوجية ، لأني مملوك للشعر ، وهو ينيخ علي بكلكله ، إلا أنه لا يخنق في سوى ذرات اليأس ، وأنا أستعذب هذه الدغدغة الروحية ، التي تنطلي على قساوة الحياة. إنني كالذي يستنشق آخر الأنفاس ، ليبلغ نهاية المطاف ، وبعدها يأتي الإنهيار الكبير الذي لن يخلف في الروح ، هتافا أو مجدا أثيلا . أكيد أن الشعر في لحظتنا الراهنة ضروري ، كالمطر ، والضوء ، لنرى ، ونتطهر ، ولكنه بالنسبة لي ، يَسْتر سوءاتي ، ويخصف علي مزيدا من حب الناس ، ويجعلني على الأقل أؤسس أهراماتي التي أوهم بها الآخرين ، بأني واحد من الأبطال . المهم في الحياة ، أن أتعاطاها بطلقة واحدة ، بيميني الشعر، وعلى يساري عفويتي ، التي لا حد لها ، ليستقيم البوح ، ويصدق القلب من غير إكراهات ، أو طمع حياتي جارف . ربما يكون الشعر مسكني الوجودي ، في اغتراباتي المتعددة ، لكن كثيرا ما تهجرني ، إكراهات أخرى ومتاهات أشد وعورة ، غالبا ما أكون فيها الكائن الأشد عراء ، وضعفا . المفارقة الكبرى التي أحيا ، في علاقتي بالشعر ، هي ، بقدر ما تنقص أهميته ، وحضوره بالنسبة لي وتتراجع وراء إكراهات الحياة ، أجدني متورطا فيه حد الهذيان . أأجل دائما سؤال الكتابة الشعرية ، لأني أخشى ، لانصياع لنظريات ، ورؤى ، تفوّْت علي أوضاعا شعرية طازجة وأهرب من المشاريع الكبرى ، لأني أريد أن أكون ، عابر سبيل ، أميط الأذى عن طبيعة الإنسان البدئي ، في تجاوبه مع محيطه بصدق أكبر، وحميمية قصوى ، وقريبا جدا مما تلهج به نفسي .
كلمة عن التجربة الكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية محمد شاكر 13.03.2010