قراءة في كتاب ( جمالية الكتابة بالنسق الثلاثي : مقاربة منفتحة لشعر مليكة العاصمي) لأحمد بلحاج آية وارهام يمكن اعتبار هذا العمل الجاد إضافة نوعية للنقد الشعري المغربي الحديث والمعاصر، وفاتحة باهرة لتجذير ممارسة نقدية أصيلة ورصينة. ذلك أن العمل ركز على متن شعري واحد ومنسجم، إذ تم تناول الأعمال الشعرية التي صدرت لمليكة العاصمي ما بين سنة 1987 و سنة 2001 . وهي : ( كتابات خارج أسوار العالم ) و ( أصوات حنجرة ميتة ) و ( شيء له أسماء ) و ( دماء الشمس ). فضلا عن الاستئناس بالمؤلفات النظرية للشاعرة : ( المرأة وإشكالية الديمقراطية ) و ( جامع الفنا جامع الكتبيين و (أغاريد للحرية والتحدي ) و ( سؤال العصر : الذات والآخر ) إلى غير ذلك. مما جعل العمل دراسة تفصيلية لمنتوج الشاعرة. يقول مقدم الكتاب : " العمل القرائي الذي استلزمته دقيق للغاية ومفعم بالحيوية ونتائجه قليلة التجريد وكثيرة المصدوقية....(1). الميزة الثانية التي يمكن رصدها في هذا العمل، هي أدوات المقاربة والتذوق والمعرفة التي اعتمدها الكاتب في تحليله للمتن الشعري. وقد لخصها في عبارة " الكتابة بالنسق الثلاثي " وهنا تتجلى في الحقيقة أهمية اللقاء السعيد وقيمته بين الشعراء الكبار والنقاد المتميزين . فهنا لا نعدم العين البصيرة اللاقطة للجمال في أبهى تصوراته . مما يسمح للكاتب بالقول: " إن الإبداع بالنسق الثلاثي عند مليكة العاصمي يتخذ أبعادا عديدة لها جماليتها ولها دلالياتها تتضافر كلها لتكون عالما شعريا متميزا نضاخا بالفتنة والبهاء " . فكأن الكاتب كان يدرك بحدسه الشعري أن الاقتراب من نصوص العاصمي الشعرية يستدعي " عينا ثالثا لاستيعاب المنظور فيها ". وبذلك يمكن القول إن هذه المقاربة ارتفعت إلى فضاء النصوص الشعرية و أمسكت بمواطن الرهافة والجمال فيها. فنقطة البدء الجوهرية تكون دائما من داخل النص لا من خارجه، إدراكا من آية وارهام أن السبيل إلى بناء التأويل كفعالية إنسانية خلاقة يتم ابتداء من النص ذاته. ولأن الكاتب يدرك أنه أمام متن شعري غني ومتشعب يحبل بمعضلات كبرى كأسئلة الوجود والأخلاق والصيرورة والموت، فإنه اتخذ مفهوم " النسق الثلاثي " آلية توحيدية هي نواة تخترق بفعل تمفصلها كل ما يتشكل على مستوى اللغة والتخييل والإيقاع. وهي الآلية التي سمحت له بالحفر عميقا في الصور وفي مواطن الخيال بحثا عن المنظومة الكلية الكاشفة عن العلاقة بالنسق الأكبر العام ، وهو هدف المشروع النقدي المتميز. فالنسق الثلاثي أشبه ما يكون بوردة يذوب عطرها في المكونات الشعرية والجمالية للنصوص ، هو الحامل التصوري للشعرية لا بوصفه بنية مغلقة على نفسها، بل بوصفه إطارا ينفتح على العالم فيسعه ويتسع به في آن معا. وبذلك سلم المشروع من الوقوع في شرك النقد التجزيئي الضيق الذي يحول دون إضاءة المشكلات الشعرية. غير أن اتباع الكاتب لهذه المنهجية في تحليل النصوص الشعرية لم يحل دون الاستهداء بما سماه بالمقاربة المنفتحة. لأنه يعلم أنه بصدد مخيلة شديدة الدفئ والطراوة. وهنا تجدر الإشارة إلى أنني أختلف بعض الاختلاف مع الصديق الناقد عبد الجليل بن محمد الأزدي الذي تفضل بكتابة تقديم للعمل، في مسألة التزام آية وارهام بالمنهج النقدي الاجتماعي في مقاربته لنصوص مليكة العاصمي التزاما تاما. يقول محمد الأزدي بخصوص هذه الدراسة " تتوكأ على منهج تلتزم به ولا تحيد عنه بالرغم من صفة الانفتاح التي تشي بها في عتبة العنوان الفرعي..(2). فاعتقادي هو أن آية وارهام وهو الخبير بمرجان الأعماق ، ما استدرك العنوان الأصلي بالعنوان الفرعي " مقاربة منفتحة لشعر مليكة العاصمي " ، إلا لإدراكه أن الشعر، كما يقول أدونيس ، هو طريقة في الحس بالوجود وفي فهمه وفي التعبير عنهما. ولا يصح النظر إليه إلا في حدود جماليته.... فأجمل وأعمق ما في الشعر أنه لا يحدد ولا يقدم أجوبة . فالمقاربة المنفتحة للشعر بهذا المعنى الذي اقترحه الكاتب هي ما يحول دون تحول الكتابة النقدية ذات الصرامة المنهجية المبالغ فيها إلى نثر يجرجر أحشاءه في رمل بارد كما يقول أدونيس. وما يؤكد هذا الطرح لجوء الناقد في مقاربته النقدية إلى تفعيل مجموعة من المصطلحات ذات خلفية فلسفية أو عرفانية أو سوريالية كالإشراق والحدس والخلق المستمر بمفهوم ابن عربي بشكل خاص والإبحار في الديمومة والرؤيا إلى غير ذلك.وإذا ما رجعنا إلى مفهوم الكتابة بالنسق الثلاثي يمكن أن نطمئن إلى النتيجة التالية : فقد مكنت هذه الآلية الشاعر من الكشف عن طبيعة الإبداع وخصائصه الشعرية عند مليكة العاصمي. وهو إبداع للذات كذات وإبداع للذات كآخر وإبداع للعالم كتركيب. وقد أسعف الحس الشعري بشكل خاص آية وارهام في استثمار ذكي للثنائية ( رؤية _ رؤيا ) في تحليله الشعري. هذه الثنائية هي بمثابة بؤرة تسمح بالمزج بين البعد الصوفي والبعد الواقعي في عملية التأويل. أو لنقل هو الجمع بين النقد الاجتماعي والمقاربة المنفتحة للشعر . ويمكن التدليل على هذا بقول الكاتب على سبيل المثال في معرض حديثه عن رؤية الشاعرة للكون : " هذه النظرة عندها شبيهة بالصوفية التي هي في العمق رؤية وجدانية للكون والكائن من الزاوية الروحية.....(3) . لكن الناقد يدرك من جهة أخرى أنه أمام شاعرة ( عركتها تجربة التاريخ وتجربة الحياة الاجتماعية وتجربة الواقع السياسي وتجربة الاكتواء بعالم فظ...) (4) ، وأنها قادرة بشكل مدهش على استدراج الراهن الاجتماعي والسياسي إلى فضاء الشعر . هذا الجمع بين العقلي الذي يرتبط بأسباب المقدمات والاستنتاجات، والروحي الذي يسعى إلى البصيرة وإلى ما وراء التساؤل، هو ما جعل ( أنا ) الشاعرة " طرس يكتب الوجود وينكتب فيه " . وهو ما كشف عنه التحليل بالنسق الثلاثي . فالبعد الصوفي في العمل الشعري ليس دروشة أو انسحابا من الحياة أو تقوقعا على الذات ، وإنما هو عودة قوية إلى الوجود من جديد . فالروحي بهذا المعنى " يدمر الجسد ثم يستعيد ازدهاره، يدمر بيت الكنز ثم بالكنز يعيد بناءه " (5) تأسيسا لثقافة الوجود، لأنه من تأصل وجوده تأصل عزه . يمكن الإشارة كذلك إلى ميزة أخرى تحسب لهذا العمل الممتع ، وهي اللغة التي صيغ بها الكتاب، وهي سمة أسلوبية تميز كتابة النقاد الشعراء . لغة مفعمة بالحيوية والنضارة تطفح بشعرية وهاجة تفرض سلطتها الجمالية على التصور المنهجي وبرودة مفاهيمه . يقول الكاتب على سبيل المثال، في إطار حديثه عن ( قانون التقليب اللغوي ) لكلمة ( هوى ) : " فقد أدارت ( الشاعرة ) فيها كلمة " هوى " على مشاهد شتى حتى امتصت رحيقها ، ثم حولتها إلى مركز تدور عليه كلمات أخرى لتجدد طاقتها الدلالية .....والشاهد الشعري هو : عذاب هواها وأنس مودتها ورضاها عذاب رحيق هواها يرش على صفحة القلب طلا رشيقا ممض تذكرها ودمار لأيامي هذا الهوى المستحيل . (6) في الواقع يصعب تعداد مزايا هذا العمل الرائد في هذه العجالة. ورغم قول الكاتب في عتبات كتابه أن هذه المقاربة لا تزعم أنها ترهص بالإكتمال، وإنما " يكفيها أن تحلم بوضع الصوى في الطريق لمتلقي شعر هذه الشاعرة الرمز..." ، فإن عمله هذا هو بحق ثمرة تجربة طويلة من الإنصات للنصوص الشعرية وسبر أغوارها من جهة، ونتاج عين بصيرة بمواطن الجمال كشفا ومكابدة وإبداعا من جهة أخرى. هذه الخبرة الشعرية والجمالية النادرة هي التي أوحت لآية وارهام بالقول : " هكذا تظهر الشاعرة مليكة العاصمي خبيرة بجماليات الكتابة بالنسق الثلاثي ورائدة من روادها، سواء أتعلق الأمر ببنية القصيدة لديها أم ببنية رؤيتها الاجتماعية أم ببنية أنساقها الفكرية (7) . لأن الكتابة بالنسق الثلاثي هي من أسمى مراحل الكتابة وأعلاها، لأنها تنتج جماليات متفردة على مستوى اللغة والصورة والإيقاع والبنية والدلالة ، وعلى مستوى الرؤية إلى الذات والآخر والوجود. (8) المراجع 1 . أحمد بلحاج آية وارهام ، جمالية الكتابة بالنسق الثلاثي : مقاربة منفتحة لشعر مليكة العاصمي، منشورات اتحاد كتاب المغرب المطبعة والوراقة الوطنية مراكش الطبعة الأولى 2009 ص 15 . 2 . المرجع نفسه ص 15 . 3 . المرجع نفسه ص 21 . 4 . المرجع نفسه ص 94 . 5 . جلال الدين الرومي ، المثنوي كتاب العشق والسلام " تفسير جديد " تأليف سيد جهرمان صفافي، تقديم : سيد حسن نصر ترجمة : مصطفى محمود ، مراجعة طارق أبو الحسن آفاق للنشر والتوزيع مصر الطبعة الأولى 2007 . 6 . المرجع نفسه ص 29 . 7 . المرجع نفسه ص 166 8 . المرجع نفسه ص 166 .