في خضم ما يعيشه العالم، الآن، من انتشار لجائحة فيروس “كورونا”، وما اتُّخذ ترتيبا على ذلك من تدابير احترازية بلغت حدّ إعلان حالة الطوارئ الصحية في بعض البلدان، ومنها المملكة المغربية، وذلك من أجل السيطرة على هذا الوباء والحد من انتشاره بين المواطنين. وإذا لم تُثر كل هذه التدابير أي إشكال بالنظر إلى معقوليتها والحاجة الماسة إليها، فإن تدبير إغلاق المساجد مؤقتا قد صاحبه نقاش عام بين فئتين اثنتين: أولاهما، وهي التي تمثل الأغلبية، لا ترى في ذلك أي مخالفة لأحكام الدين، بل إن المصلحة العامة تقتضيه وتُحتمه في هذه الظرفية بعينها. وثانيتهما، وهي أقلية، ترى أن هذا التدبير مخالف لأحكام الشرع، بل وتعطيل لبعض شعائره سيما صلاة الجمعة، ومن ثمة هدم لإحدى مقاصده، وهي: حفظ الدين. ولما كان مقصد تدبير الإغلاق المؤقت للمساجد هو حفظ النفس باعتبارها من أهم كليات الدين ومقاصده، والسلطات العمومية محقة وصائبة في اتخاذه، فإن ذلك لا يعني الافتئات والنيل من حفظ الدين طالما أن بإمكان الفرد المسلم أن يؤدي شعيرة الصلاة في منزله، خصوصا وأن ليس هناك في أحكام الشرع ما يوجب ويفرض الصلاة في المسجد إطلاقا. وفي ظل هذا النقاش، وارتباطا بشعيرة صلاة الجمعة، فإن الروح تنبعث من جديد في الاجتهاد الذي سبق وأن تفتقت عنه قريحة العقل المغربي زمنَ التقليد الفقهي، وهذا الاجتهاد هو ما جادت به بواكير الإمام المجتهد السيد أحمد بن الصديق الغماري المغربي منذ ما يزيد عن الستين سنة، حيث أجاز صلاة الجمعة خلف المذياع في بعض الحالات، وأصدر بذلك كتابا وسمه ب: “الإقناع بصحة صلاة الجمعة في المنزل خلف المذياع”. ويرتد سبب تأليف هذا الكتاب، كما أشار إلى ذلك شقيقه الإمام المجتهد السيد عبد الله في التقديم الذي خصه به، إلى السؤال الذي رفع إلى شيخ الأزهر حينها، العلامة الإمام السيد محمد بخيت المطيعي، من بعض علماء الهند، مؤداه: ما حكم الشرع في وضع جهاز راديو ببعض المساجد، لقلة الخطباء الذين يحسنون اللغة العربية، وبعد سماعهم خطبة الجمعة يقدمون أحدهم فيصلي بهم صلاة الجمعة ؛ فأفتى رحمه الله تعالى بعدم جواز ذلك، لأن ما اشترطه أصحاب الأئمة الأربعة من الشروط لصحة صلاة الجمعة لا تسعف في ذلك البتة. وأمام هذا الجواب الواقف موقف التردد بناء على ما تقرر في مختلف المذاهب الفقهية، ومراعاة لضرورة الاجتهاد المستوعب لما يستجد من حوادث ومسائل معاصرة راهنة، انبرى الإمام أحمد بن الصديق لبحث القضية ودراستها من وجهة نظر شرعية، متسلحا في ذلك بما تحار به الألباب من قواعد استدلالية، نقلية وعقلية، إلى أن انتهى إلى جواز صلاة الجمعة خلف المذياع ولو كان الإمام في قطر غير الذي يوجد فيه المأموم، شريطة الاتحاد في توقيت الصلاة بين القطرين، وتقدم قطر الإمام على قطر المأموم من جهة القبلة. ولما توصل الإمام ابن الصديق إلى هذا الاجتهاد، قامت قيامة علماء الأزهر حينئذ، مستنكرين ما ذهب إليه مما هو مخالف لمألوفهم المذهبي، وخارج عن تكوينهم الفقهي، فحَكَّم شقيقه الإمام عبد الله بن الصديق، وهو من علماء الأزهر أيضا، لثقته في علمه النقلي والعقلي، وألح عليه أن يعلق على كتابه بما يخالفه به أو يعارضه دون مجاملة أو محاباة، ليعلو الحق واضحا لا لبس فيه ؛ إذ لا مقصد لهما في كل هذا إلا الحق، ثم الحق، فالحق لا غير. وكذلك كان، فقد درسه شقيق المؤلف دراسة العلماء المجتهدين الناقدين، وعلق عليه قائلا: “الحق أقول: لم أجد فيه [أي الكتاب] ما يستحق التعليق والتصويب بعد أن قرأته بعين الناقد البصير، جاعلا نصب عيني قول الإمام أحمد رضي الله عنه: لا محاباة في العلم”. والغريب في الأمر، هو أن من انتقد هذا الاجتهاد بالأمس، صار اليوم، من حيث يدري أو لا يدري، مطبقا له في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، ذلك أن الصلوات أضحت تقام هناك في الإقامات والفنادق المحيطة بالبيت الحرام والمسجد النبوي خلف الإمام عبر التلفاز أو مكبر الصوت، وحتى تلك البعيدة عنهما شيئا ما. ولما كان صدور هذا الاجتهاد في ظرف صحي عادي، وأبان التطور الحاصل في توسعة نطاق الحرميين المكي والنبوي عن نجاعته من حيث الواقع، فكيف لا يستند عليه المسلم في وقت الوباء لأداء صلاة الجمعة في منزله حماية لنفسه ولغيره ولمجتمعه، خصوصا وأن إمكانية أدائها عن بعد بفصة مؤقتة، لمن لم يرغب في أدائها ظهرا، تظل قائمة مع ما استجد من وسائل اتصال حديثة لم تكن موجودة زمن تبلور المذاهب الفقهية المعتمدة، وتجاوزت حتى المذياع اللاحق عليها بكثير، بل والتلفاز أيضا. وتأسيسا على ما سلف، يبدو أن لأحكام الشرع سعة ورحمة لا تضيق إلا بالحجر على العقول، والتنطع في التعامل مع النقول، والجهل في الاستدلال بالأصول، والتطرف عند الاختلاف في الفروع.