هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التيارات المذهبية المخلة بالتماسك الديني للمغاربة


الأستاذ المرحوم فريد الأنصاري

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:كان "الاتجاه السلفي" من أوائل التيارات الإصلاحية التي ظهرت بالمغرب في العصر الحديث. فقد انطلقت نداءاتُه التحريرية منذ العهد الاستعماري البائد، حيث ظهرت دعوته مع علماء مغاربة كبار، من أمثال الشيخ أبي شعيب الدكالي، وشيخ الإسلام ابن العربي العلوي، ثم الأستاذ علال الفاسي. ثم تطور مفهوم "السلفية" بعد ذلك؛ ليصبح شيئا آخر، مع مجيء الدكتور تقي الدين الهلالي، والشيخ محمد الزمزمي آل ابن الصديق، ومن تتلمذ على أيديهما.ومن هنا يمكن أن نميز في تاريخ السلفية بين مرحلتين: الأولى مرحلة وطنية أصيلة، ارتبطت أساسا بقصد مقاومة المستعمر الفرنسي، واستنهاض الهمم والقوى؛ لمحاربة ما من شأنه أن يثبط العزائم، من تواكلية خرافية وفهم فاسد للدين.وأما المرحلة الثانية: فقد تطورت معها السلفية؛ لتصبح مجموعة من المقولات العقدية، وترسانة من الأحكام الفقهية؛ لمصادرة الخصوصيات المغربية، في العقيدة والمذهب والسلوك، متسلحة لذلك بالمقولة الشعارية المشهورة: "الكتاب والسنة" ظاهرا، ومستبطنة مذهبية حنبلية متشددة باطنا!والحق أن الدعوة السلفية بالمغرب كانت - في أول عهدها - حركة مباركة. فقد أسهمت إسهاما بالغا في عودة الناس إلى ممارسة الشعائر الدينية، وتجديد الإقبال على الخير والصلاح العام. إلا أنها – رغم إيجابياتها الكثيرة – لم تسلم من اختلال عدة موازين في مرحلتها الأخيرة. وبيان ذلك نجعله في فصلين نعرضهما كما يلي: الفصل الأول استبطان المذهبية الحنبلية في السلفية الدخيلة باسم "الكتاب والسنة"لعل أول صخرة اصطدم بها الفكر السلفي الدخيل هي صخرة المذهبية. فقد كان من أخطائه المنهجية الكبرى أنه استهان بأمر الخصوصيات المذهبية للمغرب؛ فأدى ذلك إلى فشل مشروعه الإصلاحي. ولعل بعض من رَوَّجُوا له بالبلاد – بعد وفاة الدكتور الهلالي رحمه الله - لا خبرة لهم بالخلفية المذهبية التي تضمنتها مقولاته؛ نظرا لعدم الاختصاص بالفقه وأصوله، وبعلم الخلاف العالي من ناحية، ونظراً لأن الرسالة السلفية – من ناحية أخرى - قد ألقيت إليهم على أنها هي العمل ب"الكتاب والسنة". فَدُلِّسَ عليهم كثيرٌ من الأحكام الفقهية الحنبلية، وتلقوا ذلك بنوع من السذاجة، دون الدخول في تدقيق تلك المقولات، وتحقيق مدى قوة علاقتها بالكتاب والسنة، بعرضها على موازين القواعد الفقهية والأصولية، دلالةً واستدلالاً. ثم النظر في اختلاف العلماء من قبلُ، واستعراض أدلتهم كُلاًّ على حدة؛ لمعرفة الراجح من المرجوح. وقد تجلت حنبلية السلفية الدخيلة في أمرين: الأول فقهي جزئي، والثاني منهجي أصولي.فالأول: الذي هو التجلي الفقهي للسلفية متعلق بمجموعة من الأحكام الفقهية، التي قال بها الحنابلة قديما، وجعلوها من اختياراتهم، فصُدِّرَتْ إلينا على أنها ضرب من التجديد للدين ومحاربة للبدع، كالقول بوجوب النقاب على النساء(هي رواية عن أحمد، ومشهور مذهبه موافقة الجمهور في استثناء الوجه والكفين من عورة المرأة، لكن متأخري الحنابلة أخذوا بالرواية الأضعف فصارت تقليدا راسخا.)، وعدم جواز مس اللحية بشيء من القص والتهذيب مهما طالت(الفقهاء الأربعة على جواز قص ما زاد عن القبضة من اللحية؛ للآثار الواردة في ذلك. وغيرهم على وجوبه. وقال أحمد: الأولى عدم الأخذ منها مطلقا. فجعل المتأخرون من أتباعه اختيارَه هذا على الوجوب، فحرموا الأخذ منها مطلقا. وهو مخالف لمشهور فقهاء الصحابة، الذين هم أَقْعَدُ بفهم السنة ممن جاء بعدهم من الخلف. وسيأتي لذلك بيان بعد قليل بحول الله.)، ووجوب الخروج من الصلاة بتسليمتين لا بتسليمة واحدة، وبطلان القول بالندب في ذلك، كما هو عند المالكية وغيرهم، وكذا القول بتكفير تارك الصلاة بناء على ظواهر النصوص(وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله، والجمهور على خلافه.)، وتبديع القول بالقنوت في صلاة الصبح، والتشنيع على المغاربة في ذلك زمنا طويلا! مع أن أصله ثابت في السنة الصحيحة عند الشيخين وغيرهما، بل هو متواتر مقطوع به، وإنما الخلاف هو في علة ترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – له، أهو نسخ أم هو لمجرد بيان عدم وجوبه؟ كما حدث في صلاة التراويح مثلاً(وقد اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده بين القول بنسخه والقول ببقائه سنة جارية. ومضى على العمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة رضوان الله عليهم أجمعين. فعن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (إني لأقربكم صلاة برسول – صلى الله عليه وسلم - وكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح، بعدما يقول "سمع الله لمن حمده"، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار.)(رواه أحمد، وابن حبان. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين). كما اختلفوا أهو قبل الركوع أم بعده؟ وثبتت السنة الصحيحة بذلك جميعاً. وقد حكى الإمام الشوكاني الخلاف في القنوت على خمسة مذاهب، وسرد أحاديث كل فريق ثم رجح في النهاية مشروعيته. وقال في نيل الأوطار: (وَأَمَّا الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوع فَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.) فَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ فَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ). رواه النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وصححه الألباني في الإرواء وفي تعليقه على سنن ابن ماجه والنسائي. وقد صحح الألباني أحاديث القنوت في صلاة الصبح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عدد من الصحابة والتابعين استمراراً بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على عدم النسخ، وبقاء مشروعيته. إرواء الغليل: 2/160-166)...إلخ. هذا على سبيل المثال، وإلا فالفروع الحنبلية المنقولة إلينا عبر الفكر السلفي كثيرة جدا، ليس هذا مجال تفصيلها.هذا، وقد خَرَّجَ بعضُ المعاصرين منهم أحكاما فقهية - في بعض النوازل الجديدة - على أصول مذهبهم وقواعده، من مثل القول بتحريم التصوير "الفتوغرافي" بشتى أنواعه! اعتماداً على مطلق المنع من التصوير، بمفهومه القديم الوارد في الحديث، دون النظر إلى علل المنع؛ فوقعوا في أقْيِسَةٍ باطلةٍ؛ لوجود عدة فوارق بين الأصل والفرع، ولعدم تحقيق مناط النصوص بما يناسب النازلة الجديدة بصورة سليمة(كل الأحاديث الواردة في منع التصوير راجعة إلى إحدى علتين: إما المضاهاة وإما الوثنية، وإما هما معا؛ فتكون العلة مفردة ومركبة. من مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ترويه عاشة رضي الله عنها قالت: (دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ هَتَكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ! أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ!") متفق عليه. وعَنْهَا - رَضِي اللَّهم عَنْهَا – (أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ؛ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ!" وَقَالَ: "إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ!") متفق عليه. ولا شيء من ذلك متحقق في نوازل التصوير الفوتوغرافي وما شابهه، كالتصوير بالفيديو أو نحوه؛ لأن هذا إنما هو نَقْلٌ للصورة، وليس تصويرا في الحقيقة. وإنما التصوير ما كان فيه محاولة إبداع بشري. والأولى أن تقاس الصور الفوتوغرافية على صور المرآة؛ إذ كلاهما يعكس الصور التي خلقها الله - جل جلالُه - على أصل خلقتها الفطرية، بلا مضاهاة ولا تحوير. وأما الوثنية فلا علاقة لها بالصورة من حيث هي صورة، ولكنها متعلقة بالمعتقدات الفاسدة أنى كانت، ولو تعلقت بشجر أو حجر، أو أي شيء مما لا روح له. والمشكلة في نهاية المطاف راجعة أساسا إلى قضية المصطلح؛ إذ ما كان ينبغي أن يسمى مثل هذا (تصويرا)، بل كان أولى أن يوضع له اسم غيره؛ لأن المصوِّر إنما هو الله جل جلاله. وهو اسم من الأسماء الحسنى.). وقد كثر النقل عن أئمة الحنابلة - رحمهم الله - بدءا بالإمام أحمد، ثم الإمام ابن الجوزي، وابن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الرباني الإمام ابن القيم، وانتهاءً بشيوخ العصر منهم، كالعلامة ابن باز، والشيخ العثيمين رحمهما الله، وسائر المنتسبين لمؤسسة "هيئة كبار العلماء" السعودية. وجرت ألقابهم وكناهم على ألسنة المنتسبين للتيار السلفي بالمغرب؛ حتى رسخت لدى كثير منهم عبارة (قال "شيخ الإسلام") دون ذكر ماذا يقصدون بهذا اللقب؛ لظنهم أن المعني واضح؛ وظنهم أن شخصا واحدا هو من اشتهر به! وإنما هم يقصدون شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وهو صحيح، ولكن الإطلاق إنما هو عند متأخري الحنابلة فقط؛ ولذلك وجب التقييد! ولكنهم لا ينتبهون إلى أنهم في المغرب المالكي، وأن المغاربة هم أيضا عندهم من اشتهر بهذا اللقب! كالإمام ابن عبد البر الأندلسي(ت:463ه)، والإمام أبي الوليد الباجي(ت: 474ه). ثم اشتهر به من المتأخرين: شيخ الإسلام ابن العربي العلوي السجلماسي، المتوفى في القرن الماضي.وممن اشتهر بهذا اللقب من غير المذهب قديما: المحدث الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (ت: 450ه)، وأبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي الحنبلي (ت: 481ه)، وسراج الدين البلقيني الشافعي: (ت: 805ه)، والقاضي شرف الدين يحيى بن محمد المناوي الشافعي (871ه) والقاضي أبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري المصري الشافعي (ت: 928ه)، وغيرهم كثير. وأما من وُصِفَ به في غير اشتهار فأكثر من أن يُحْصَى.كما أن الدولة العثمانية بتركيا أيضا كانت تعتمد هذا اللقب؛ وذلك لتمييز منصب رئيس العلماء ب"دار الحكمة" في اسطنبول، على غرار "شيخ الأزهر" بمصر. ومن أشهر شيوخ الإسلام بالدولة العثمانية: شيخ الإسلام العلامة مصطفى صبري رحمه الله.وغير ما مرة سمعت قولهم: (قال إمام أهل السنة والجماعة!) دون تعيين المعني؛ لظنهم أنما هو شخص واحد أيضا من اتصف بهذا الوصف من دون العالمين! وإنما يقصدون به الإمام أحمد بن حنبل(ت: 241ه) رحمه الله. وكأنَّ مالكا بن أنس(ت:179ه) – وقد عاش قبله بأكثر من قرن ونصف القرن من الزمان - لم يكن كذلك! أو كأنه كان إمام طائفة أخرى، غير "أهل السنة والجماعة!" وقد عُلِمَ تاريخيا أن مالكا رحمه الله هو المؤسس الأول - على المستوى المذهبي الاجتماعي - لمدرسة "أهل السنة والجماعة" فقهاً وعقيدةً! وكل الأئمة الأربعة هم أئمة "أهل السنة والجماعة"، وما كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيمية عنا ببعيد! ولكن الهوى الحنبلي المدسوس في الفكر السلفي الوافد، قد قصر ذلك الوصف على الإمام أحمد رحمه الله، ومعلوم ما في ذلك من التقوية لآراء الحنابلة الفقهية إذا اختلف الناس! فردد بعض المغاربة ذلك؛ بسبب الجهل حينا، وبسبب المجاملة لمصادر التمويل في الخليج أحيانا أخرى. كل ذلك والقوم يدعون محاربة المذهبية!(قد بينا بطلان ذلك بما فيه الكفاية في كتابنا: (مفهوم العالِمية).)وقد بُدِّعَتِ الخلاصاتُ الفقهية المالكية بالجملة وبلا تمييز! وصارت أقوال المغاربة باطلة حتى يثبت بصحتها الدليل؛ بينما أقوالهم هم صحيحة حتى يثبت ببطلانها الدليل!ومن أغرب الأشياء التي صادفتها أكثر من مرة في بعض مصنفاتهم عند تخريجهم للأحاديث أنهم - مثلا - يعزون الحديث إلى مسند أحمد - إن كان في المسند - ثم إلى صحيح البخاري أو مسلم أو هما معا، ثم إلى كتب السنن الأربعة مثلا، ويكون الحديث المقصود بالتخريج والتوثيق قد سبق مَالِكٌ - رحمه الله - إلى إخراجه في الموطأ، ولكنهم يُغْفِلُونَ ذلك إغفالاً!
والأمر يتكرر في غير ما مصنف ورسالة! فإن كان القصد الاقتصار على المصادر الصحاح فالعزو إلى البخاري كافٍ. والموطأ أصح من المسند بالإجماع! وأما إن كان القصد الترتيب التاريخي للمصادر فالموطأ أقدم من المسند. فلم يبق إذن إلا التأثر اللاشعوري أو الشعوري بالنزعة الحنبلية.والثاني: هو التجلي الأصولي المنهجي، وذلك هو المسمى عند الأصوليين ب"الاجتهاد في إطار المذهب". وهو من أدق الأمور المذهبية حيث لا يستطيع اكتشافها إلا أهل الاختصاص من أهل العلم. وهذا ينسحب على كثير من الفتاوى المعاصرة التي قال بها بعض علماء التيار السلفي. وقد ذكرت غير ما مرة عند بعض الحوارات العلمية، مع بعض إخواننا منهم، أن هذه المسألة أو تلك، إنما هي تخريجة حنبلية، وليست نصا من الكتاب والسنة، بل هي ضرب من الفهم لهما؛ فَيُعْتَرَضُ علينا بأن القائل بها إنما هو فلان أو علان من مشاهير العلماء، وهو عندهم ليس متمذهبا أصلا، لا بالحنبلية ولا بغيرها؛ بدعوى أنه خالف أحمد بن حنبل رحمه الله في كذا وكذا. وهذا من أكبر الجهل وأعظمه! فإن هذه الدعوى باطلة علميا وواقعيا؛ لأن المذهبية ليست بالضرورة تقليدا لإمام المذهب في الفروع، بل قد تكون مجرد تقليد له في الأصول، مع إمكان مخالفته في الفروع. وهذا هو "الاجتهاد في إطار المذهب". وأما المجتهد في الأصول والفروع معا فهو "المجتهد المطلق" حقا. وهو الذي اتخذ لنفسه منهجا أصوليا غير مسبوق، وترتيبا استدلاليا خاصا به. وهو من الندرة بمكان! بل هو في تاريخ الأمة صنف معدود! وهم أرباب المذاهب البائدة والباقية.وقد خالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن الإمامَ الأعظم أبا حنيفة النعمان، ومع ذلك صنفهما العلماء ضمن طبقات الحنفية. وكذلك كان الأمر مع الإمام ابن القاسم، وابن وهب، وسحنون، وابن الماجشون، كلهم خالف الإمام مالكا، وهم مع ذلك من رواد المذهب المالكي. وقد تفرد علماء المغرب والأندلس باستنباطات خالفوا فيها الإمام مالكا، من أمثال الإمام ابن عبد البر، وابن رشد الجد، وأبي الوليد الباجي، وأبي بكر بن العربي المعافري، وأبي عبد الله القرطبي، والإمام أبي إسحاق الشاطبي، وغيرهم كثير، حتى اشتهرت مقولةٌ أندلسية جرت مجرى المثل في الفقه المالكي المغربي والأندلسي، وهي قولهم: (لَسْنَا مَمَالِيكَ لِمَالِكٍ!) ورغم ذلك كله كانوا حماة المذهب المالكي ومجدديه عبر التاريخ. وقد واجه الإمام أبو الوليد الباجي معاصره ابن حزم الظاهري - رحمهما الله تعالى - مواجهة شديدة؛ دفاعا عن المذهب المالكي، مع أن الباجي يعتبر من المجتهدين لا من المقلدين الحرفيين لمالك. وما أنكر أحد من هؤلاء وأولئك "مالكيتَه" قط، ولا تَنَكَّرَ لها!وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما، وكثير من علماء العصر، كالعلامة ابن باز، والشيخ العثيمين، والعلامة ناصر الدين الألباني، وغيرهم من فضلاء المجددين. هم مجتهدون حقيقة، ولكن في إطار المذهب الحنبلي، أي باستعمال أصوله وقواعده في الاستنباط والاستدلال. ولا يعيب ذلك أحداً منهم أبداً. ومن هنا؛ فكثيرا ما يفتي أحدهم بحكم ما، في أمر حادث جديد من نوازل العصر؛ فنقول هذه فتوى حنبلية، بمعنى أنها مخرجة على أصول المذهب. كما نقرأ لبعضهم فتاوى مخرجة على أصول أبي حنيفة، ككثير من فتاوى العلامة يوسف القرضاوي مثلاً.وكان حريا بمن تأثروا بالدعوة السلفية من المغاربة أن ينتبهوا إلى هذا كله. لكنهم لم يفعلوا. بل نقلوا كثيرا من الأقوال الحنبلية نقلا حرفيا، على أنها هي الكتاب والسنة! لا أنها ضرب من الفقه للكتاب والسنة. سواء في ذلك ما هو حنبلي محض، أو ما هو مُخَرَّجٌ على قواعد الحنابلة. فاصطدموا بما جرى عليه العمل من الفقه المالكي المغربي. وتكسرت تياراتهم على صخرة الجهل بالاختلاف المذهبي!ذلك، وإنما الموفق من وفقه الله. والله وحده المستعان.

الفصل الثاني الأخطاء المنهجية للتيار السلفي في العمل الإصلاحي بالمغرب لقد ترتب عما سبق بيانه من إشكالات مذهبية، وقوع التيار السلفي بالمغرب في عدة أخطاء منهجية، متفرعة عن استصنامه الحنبلي المشرقي شكلا ومضمونا، نوجزها في خمسة أخطاء فرعية، هي كما يلي: - الخطأ المنهجي الأول: الإعراض عن المذهب المالكي واختلال ميزان الأولوياتلقد كان حريا برواد التيار السلفي بالمغرب أن يدرسوا تاريخ المذهب المالكي؛ لتأصيل مقولاتهم فيه. فللمالكية أيضا سلفيتهم لو كانوا يعلمون! فقد اشتهر منهم الإمام ابن عبد البر، وابن أبي زيد القيرواني، والإمام أبو إسحاق الشاطبي، والإمام أحمد زروق الفاسي، وغيرهم كثير. فهؤلاء من أبرز فقهاء المالكية الذين اشتهروا بمحاربة البدع في العقائد والعبادات والتصوف، لكن دون النقض لمذهبيتهم المالكية، ولا التنكر لتصوفهم السني، تماما كما صنع الإمام ابن القيم رحمه الله في الحفاظ على حنبليته الاجتهادية، وتصوفه السني الأصيل معاً!لكن إخواننا بالمغرب لم يستطيعوا التخلص من تقليد المذهبية الحنبلية حتى على المستوى المدرسي البسيط! فقد كانت مدارسهم العتيقة تركز في الفقه على الخلاصة الحنبلية المشهورة "زاد المستقنع" وشروحه، بدل الخلاصة المدرسية المالكية: "مختصر خليل" أو "رسالة ابن أبي زيد القيرواني"، وشروحهما، أو "القوانين الفقهية" لابن جزي الغرناطي مثلا. ثم الإحالة في الفتوى العامة على المصادر الحنبلية ككتاب "المغني" لابن قدامة، مع وجود الأمهات المالكية التي تبز كتاب "المغني" مادةً ومنهجاً، وحجةً واستدلالاً، ككتاب "الاستذكار" لشيخ الإسلام حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر الأندلسي (ت:463ه)، وكتاب "التمهيد" له أيضا، وكتاب "النوادر والزيادات" لابن أبي زيد القيرواني (ت:386ه)، وكتاب "المعونة" للقاضي عبد الوهاب البغدادي (ت:422ه)، وكتاب "المنتقَى" لأبي الوليد الباجِّي (ت: 474ه)، و"البيان والتحصيل" لابن رشد الجد (ت:520ه)، و"المقدمات الممهدات" له أيضا، و"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض السبتي (ت:544ه)، و"أحكام القرآن" و"عارضة الأحوذي"، وكتاب "القبس"، كلها لأبي بكر بن العربي المعافري (ت:543ه)، و"الجامع لأحكام القرآن" لأبي عبد الله القرطبي (ت:668ه)، ثم "الذخيرة" للإمام القرافي (ت:684ه)... إلخ. فالمكتبة المالكية هي من السعة والضخامة والشمول؛ بحيث لا تستوعبها الأعمار، ولا تحصرها الأقطار. ولكن الهوى المذهبي اللاشعوري استوطن قلوب كثير من دعاة السلفية الحنبلية فصعب عليهم الرجوع إلى تراثهم الخاص. والتنافس بين المشرق والمغرب قديم، فَمِنْ قَبْلُ كَتَبَ أحدُ المشارقة تقريظا على كتاب "مشارق الأنوار" للقاضي عياض السبتي، فيه شيء من التعريض بالمغاربة، وهو قوله:مَشَارِقُ أنْوَارٍ تَبَدَّتْ بِمَغْرِبٍ *** فيَا عَجَباً كَوْنُ الْمَشَارِقِ بِالْغَرْبِ!فلم يقبل القاضي - رحمه الله - تَعَجُّبَ صاحبِه من صدور العلم عن المغاربة؛ فرد عليه ببيت مُعَارِضٍ له قال فيه:وَمَا شَرَّفَ الأوْطَانَ إلاَّ رِجَالُهَا *** وَإلاَّ فَلاَ فَضْلٌ لِتُرْبٍ علَى تُرْبِ!ومشهور جدا - لدى المغاربة - إنشاد الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي:أنَا الشَّمْسُ في جَوِّ العُلُومِ مُنِيرَةٌ *** وَلَكِنَّ عَيْبِي أَنَّ مَطْلَعِيَ الغربُ!وَلَوْ أنَّنِي مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ طَالِعٌ *** لَجَدَّ علَى مَا ضَاعَ مِنْ ذِكْرِيَ النَّهْبُ!وشهد الله أننا لا نقول هذا تعصبا للمغاربة، ولا للفقه المالكي، ولكنا نقوله بيانا للحق وترجيحا للحكمة، ولوجوب مناسبة الزمان والمكان والإنسان والبيئة، في الدعوة إلى الله، إحياءً للسنن وإماتة للبدع.ثم كان أَوْلَى بمن تصدى لتجديد العلم بالمغرب صادقا؛ أن يبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في صحيح البخاري(صحيح البخاري: كتاب العلم، باب: "العلم قبل القول والعمل"..)فيؤسس التعلم على المذهب المالكي أولاً، ثم يرتقي به إلى محاولة الاجتهاد في إطاره، ثم إلى رتبة الاجتهاد المطلق، دون التعرض لمذهب العامة مما جرى به العمل من مذهبهم؛ لما فيه من الفتن ما الله به عليم!ثم كان أولى بهم أن يتجردوا للدراسات العلمية التأصيلية. دون الاستغراق في القيل والقال، وسهر الليالي في اغتياب الرجال! وأن يتفرغوا لخدمة الكتاب والسنة من خلال تأصيل كتب الفقه المالكي، دلالةً واستدلالاً، وتصفيته مما علق به في عصور الانحطاط من البدع، كما حصل لغيره من سائر المذاهب الفقهية بلا استثناء؛ بسبب فشو الجهل وسيطرة التقليد على العباد. وأن يشتغلوا برد كل متونه ومنظوماته إلى أصلها من الكتاب والسنة، وبيان طرائقها الاستنباطية، ومآخذها الاستدلالية، وبنائها - من الناحية المنهجية خاصة - على الأصول والقواعد التي قال بها مالكٌ رحمه الله، وجَعَلَهَا أساسَ مذهبه. ولا يمنع ذلك أبداً من رد بعض الأقوال وإبطال بعض الأحكام – بتلك القواعد والأصول نفسها - مما تبين أن غيره أرجح منه وأولى، لكن على علم وبصيرة، كما صنع من قبلُ أئمة المذهب الكبار، من أمثال الإمام ابن عبد البر، وابن رشد الجد، وأبي بكر بن العربي، وغيرهم. وما عاب أحدٌ من أهل العلم عليهم صنيعهم، بل اتخذوهم أئمة لهم، وصاروا بهم مقتدين، وباجتهادهم متعبدين؛ لِمَا تواتر من تفوق علمهم، وخالص نصحهم، وصفاء صدقهم، وبالغ حكمتهم.ثم الاشتغال من خلال ذلك كله – لو كانوا عقلاء - بتربية جيل من العلماء المجتهدين، والحكماء الربانيين، لتأسيس نهضة علمية إصلاحية بالمغرب؛ إذ بغير ذلك لا يكون لهم ولا للدين شان.هذا، وإن الحركة السلفية بالمغرب – بعد هذا وذاك - قد فقدت نصرة الناس في المجال الدعوي الصرف؛ بسبب اضطراب ميزان الأولويات الدعوية، والجهل الفظيع بفن "التواصل" عند مخاطبة الجمهور؛ وذلك بالتركيز على المفاسد الجزئية الخلافية، وإهمال المفاسد الكلية الإجماعية القطعية! وعدم مراعاة حاجة البيئة الدعوية، وطبيعة مشكلاتها، بل إن أغلبهم ينقل إلينا معارك ليست واقعة ببلادنا أصلا، أو ربما نحن نعاني ما هو أعظم منها، فلا ينتبهون إلى الاختلاف البيئي، وينخرطون في إيقاظ فتن ومشاكل هي عندنا بحكم الميتة؛ فيفسدون ولا يصلحون، ويدمرون ولا يعمرون!وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ أمر من يشعل نيران معارك كلامية حول قضايا "الذات والصفات"، و"الإثبات والتعطيل أو التأويل"، في بيئة مات فيها علم الكلام أصلا! أو ربما مات التدين ذاته! ومن أغرب الغرائب وأكلح الطامات أن يثار مثل ذلك في أروبا، بين شباب أضاعوا دين آبائهم وأجدادهم من أبناء الجاليات الإسلامية هناك، وكذا بين قوم حديثي العهد بالكفر من المسلمين الجدد! وما كان أحوج هؤلاء وأولئك إلى التلطف والتألف! ولكن العمى المنهجي يجعل أولئك "الدعاة" مصرين على البدء بما حقه التأخير، أو ربما حقه الإلغاء كلية! فيكونون بذلك مجرد موقظين للفتن لا أقل ولا أكثر!ومن الاختلال المنهجي أيضا الغلو في محاربة البدع، وعدم التمييز بين "البدع الحقيقية" وبين "البدع الإضافية"، على ما قرره العلماء في هذا الشأن ورتبوه، من أمثال أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله(كتاب الاعتصام: 1/210.). ثم بين بدع العقائد وبين بدع العبادات. وبين ما الشأن فيه أنه عبادة في الأصل؛ لكنه سيق مساق الوسيلة التعليمية، كقراءة الحزب القرآني بالمساجد، وأشكال أداء الأذكار والدعوات، وبين ما هو عبادة محضة مقصداً وغايةً، كحقائق الإيمان الكبرى من إخلاص الدين، وأداء الصلوات، خشوعها وركوعها وسجودها. فمن الخطأ عدم مراعاة الأولويات فيما ينبغي البدء به من ذلك كله، وما ينبغي الختم به، وتقديس الاجتهادات الحنبلية في ذلك كله!وإنه لمن الجهل بالبيئة وحاجاتها مثلا أن تُقَامَ الدنيا وتُقْعَدُ؛ حرباً على قراءة "حزب القرآن" في وقت لا سلطان لهم عليه ولا على الناس! وإنما النتيجة الطبيعية لعمل مثل هذا هي حجب القرآن على الناس! والإسهام في تضييق دائرة الاشتغال به والإقبال عليه! - الخطأ المنهجي الثاني: الغلو في التحقيقات العقديةوذلك بالدخول في مواجهة الأشعرية بإطلاق، دون تَحَرٍّ ولا تقييد، والأشعرية. ثم القيام بإحياء الفِرَق البائدة؛ وبالدخول في معارك ماتت، وبعث فتنها من جديد. وتصنيف الناس في العصر الحاضر على موازينها، دون مراعاة التغيرات المعاصرة، ولا أحوال الزمان وأهله. ثم الغلو في التحقيقات العقدية وإدخال العامة في متاهاتها! مما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه من بعده! الشيء الذي أدى إلى تعقيد التدين والغلو في أخذ أحكامه، ثم إلى نفور عموم الناس من الإقبال عليهم. وما كان ذلك من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحبه. وما حمل السابقين على بيان الفرق قديما إلا الضرورة التاريخية؛ دفاعا عن الدين والتوحيد خاصة. و ربما جاز شيء من ذلك اليوم في بلاد أخرى، استمرت فيها الطائفية وبقايا الفرق القديمة. أما المغرب فقد بقي بعيدا – والحمد لله - عن ذلك كله. حتى قمنا نحن اليوم بإثارة الجدل الكلامي المعقد بين الناس، بل بين العامة منهم، فاستهوى الشيطان بعضهم وجعلوا ينطقون بمقالات المبتدعة.فانظر كم يكون حجم المفاسد التي يستجلبونها عندما يجلسون إلى العوام وأشباه العوام يحذرونهم من التأويل والتعطيل! وهم أصلا لا يعرفون لا هذا ولا ذاك! وإنما عقيدتهم سليمة على الفطرة الأصلية البسيطة، التي جاء بها القرآن الكريم، وبينتها السنة النبوية، بلا تعمق ولا تكلف. ولو سألت أي مغربي اليوم بصورة تلقائية، فقلت له: "أين الله؟" لقال لك، كما قالت الجارية الأعرابية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "في السماء!" فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - لصاحبه: "أعتقها فإنها مؤمنة!"( رواه مسلم) فلماذا لا يعتق هؤلاء الناسَ اليوم؟ لماذ لا يحررونهم من هذا الجدل البيزنطي العقيم؟ أم أن الجارية كانت تعرف "علم الكلام"؟ وتفرق بين التأويل والتعطيل والإثبات، وبين العلو والنزول؟ لماذا التفتيش العقدي المعقد؟ ولماذا الفتن؟ ولماذا البحث عن أمور هي عندهم هناك في المشرق، وما عندنا لها في المغرب من أثر؟ إن عموم المغاربة على العقيدة السلفية الفطرية السليمة. بلا دراسة ولا بحث في المذاهب والملل والنحل. إنهم على عقيدة القرآن وعقيدة السنة، يؤمنون بما جاء عن الله، بمراد الله، كما بلغ عنه رسول الله.والأخطر من هذا وذاك أن أغلب من تتلمذ على متأخري زعماء السلفية إنما هم العوام وأشباه العوام. وما تخرَّج عليهم من طلبة العلم إلا قليل؛ فنتج عن ذلك - بعد فترة "الانفجار العظيم" وانطلاق دخان الفتنة من ركامه - أن تصدَّر المجالسَ جيلٌ من الجهال، يقودون حركة الانشقاقات! ويمسخون السلفية الأصلية إلى "سلفيات"! فأصدروا الفتاوى والبلاوى! وإنما أغلبهم من الفاشلين دراسيا، المطرودين من المدارس في وقت مبكر من أعمارهم، والعاجزين حتى عن طلب العلم الشرعي في مدارس التعليم العتيق! فصار منهم من تَسَمَّى "شيخا" ومن تَسَمَّى "زعيما"! وإنك لتجد أحدَهم يكاد يقبض بأصابعه على أطراف شفاهه؛ لتقويم كلامِه وبيانِه؛ عسى أن يسلم له نطقُ لسانه، ولكن دون جدوى، تتكسر دون مراده الكلمات، وتنحرف في فمه العبارات! ثم يجادل - بعد ذلك - في حُجِّيَّةِ الحديث، ومراتب الإجماع، وأنواع القياس! ويُجَهِّلُ هذا العالِمَ ويُبَدِّعُ ذاك!ومن هنا؛ وبمؤثرات سياسية من جهات مشبوهة - داخلية وخارجية – تكونت "السلفية القتالية"! - ولا أقول: "الجهادية"( مصطلح "الجهاد" مفهوم تعبدي نظيف، ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في سياق تزكية النفس؛ بإفنائها في ذات الله، بدءاً بمقامات الإخلاص في أصغر الأمور وأدقها، وانتهاءً بمقام الاستشهاد في سبيل الله؛ إعلاءً لكلمة الله. فهو إذن مصطلح كلي شمولي لا يقبل التجزيء. وشتان شتان بين ما تستعمله اليوم وسائل الإعلام المغرضة، والجماعات الضالة؛ من دلالة محرفة لهذا المصطلح وبين حقيقته القرآنية السامية ومفهومه العظيم في الإسلام!) – فتناسلت عقاربها في كل مكان! لقد كانت بيئة التفتيش العَقَدِيِّ، والمنهج الحرفاني - ذي الأصول الحنبلية - في فهم الكتاب والسنة، بالإضافة إلى النفسية المرضية التي تعاني منها الفئات الاجتماعية المهمشة، وكذا الظلم السياسي العالمي للمسلمين في كل مكان؛ كل ذلك وما في معناه كان سببا في
تفريخ العقليات "الخوارجية"(الأصل في النسبة أن تكون للمفرد، كما تقتضيه القاعدة النحوية، لكنا آثرنا هنا جعلها للجمع؛ رفعا للبس في دلالة المصطلح.)، التي خرجت على المجتمع من تحت جبة التيار السلفي مع الأسف! - الخطأ المنهجي الثالث: مواجهة التصوف بإطلاقثم دخلوا في مواجهة التصوف مطلقا، بلا تمييز بين أشكاله ومسالكه، ولا بين صالحيه وفُجَّارِهِ! وما تكلم ابن تيمية نفسُه – وهو نَقَّادَةُ التصوف - عن كثير من المتصوفة المشهورين إلا بخير! وما ذكر الشيخَ عبد القادر الجيلاني في فتاويه إلا أعقب ذكره – في الغالب - بقوله: "قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ!" وقد نقل عنه في علم السلوك عدة نصوص(مجموع فتاوى ابن تيمية: 8/306. وكذا:10/458، وكذا: 10/470، وكذا: 10/490، ونحو ذلك كثير.). وما تحرج تلميذه ابن القيم من شرح كتاب "منازل السائرين" لشيخ صوفية الحنابلة، الإمام أبي عبد الله الهروي الأنصاري، وما كان يصفه إلا بلقب "شيخ الإسلام!"وأما فيما يخص شطحات القوم فإن الإمام ابن القيم - رحمه الله - قد نصب لذلك ميزانا ذهبيا، يُحِقُّ الحقَّ ويُبْطِلُ الباطلَ، جاء في نص بديع تشد إلى مثله الرحال! نورده لبيان هذه الحقيقة التي عمي عنها كثير من مدعي السلفية في هذا الزمان. وهي قوله رحمه الله: (هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس! إحداهما: حُجِبَت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظن بهم مطلقا! وهذا عدوان وإسراف! فلو كان كل من أخطأ، أو غلط؛ تُرِكَ جملة، وأُهْدِرَتْ محاسنُه؛ لفسدت العلوم والصناعات والحِكَم، وتعطلت معالمها!والطائفة الثانية: حُجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم، ونقصها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا حكم القبول والانتصار لها. واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون.والطائفة الثالثة: - وهم أهل الإنصاف – الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته!)( مدارج السالكين: 2/39-40.)هذا بالإضافة إلى حقيقة تاريخية أخرى، أدت الاستهانةُ بها إلى فشل المشروع السلفي. وهي أن المغرب بلد صوفي بامتياز! فالتدين الشعبي فيه إنما شكلته من الناحية التاريخية المدارس الصوفية منذ القديم. ولذلك ما أسرع أن تنجح فيه المبادرات الصوفية، فتتمكن من الانتشار والاستيعاب للمريدين؛ بمجرد ظهور أحد الأشياخ المتمكنين من الإقناع والإشباع الروحيين، سواء كان على حق أم كان على باطل. فتلك قضية أخرى. فإنما حديثنا هنا عن طبيعة اجتماعية دينية لدى المغاربة. ولذلك كثيرا ما اصطدمت دعوات الفكر السلفي بصخرة الطرق الصوفية على المستويين الرسمي والشعبي، فارتدت مشاريعها خاسرة. والحكمة تقتضي من الدعاة تقديم بديل متوازن ينفي عن الدين - بعلمٍ وبحكمةٍ - غلو بعض الطرق الصوفية، وانحرافها عن الدين الخالص إلى متاهات الخرافة والدجل. وذلك بإنضاج خطاب رباني ندي، تغلب فيه طراوة الروح ونداء الإيمان على لائحة أحكام الحلال والحرام ومنطق الاتهام. وإنما الحكيم هو من يسوق الأحكام الشرعية مساقا تربويا ربانيا، على هدي السنة والمنهاج التربوي النبوي الحق، لا مساقا عقابيا سِبَابِيّاً! فيكسب قلوب الناس أولا، ثم يكسب سلامة دينهم من الخرافات والبدع ثانيا. ولكن كثيرا من الدعاة - مع الأسف - عن هذا عمون. ذلك، وإنما الموفَّق من وفقه الله. - الخطأ المنهجي الرابع: تضخم الشكلانية المظهريةحيث صار المظهر الخارجي هو المقياس الأساس لسلامة الدين لدى كثير منهم. وغدا إعفاء اللحية وتقصير الثوب بالخصوص هو المقياس الأساس للاِلتزام بالدين! نعم لا شك أن ذلك من أهم سنن الهيآت الدينية والمظاهر التعبدية في الإسلام. لا ننقصها شيئا من أحكامها ولا نصوصها مما شرعه الله ورسوله. ولكنَّ بعض التيارات السلفية ضخمته كثيرا، وأعطته من الرعاية الدعوية أكثر من حجمه! حتى كاد أن يصير هو أساس "الولاء والبراء" لدى بعضهم! بل لقد صار..! ونحن لا نمنع أن يدعو المصلحون إلى سُنَّة مندوبة أو واجبة، ولكننا نعيب تضخيمها إلى درجة أن يحتل الفرع محل الأصل! فيحصل تشوه الدين في الفكر والممارسة.وإنما حدث هذا الاستصنام الشكلاني للمظاهر؛ بسبب اعتماد الرؤية التجزيئية للشريعة، وانعدام الفقه السليم لمقاصد النصوص ومراتبها الدلالية والاستدلالية؛ مما نتج عنه ضرب من الظاهرية الفقهية، واعتماد الشكلانية في التدين، واللاوطنية في اللباس؛ تقليدا للمشارقة، عربا وعجما، فصار اللباس الأفغاني موضة التدين بين فريق من الناس زمنا، ثم صار اللباس الخليجي هو الغالب بعد ذلك. وخاصة أشكال التنقب لبعض النساء! اللائي صرن يتصرفن بطريقة الخليجيات في التحجب. وكان أولى بهن - لو صدقن في تدينهن حقا - أن يتنقبن - إن كان ولا بد - بطريقة المغربيات الأصيلات، كما كان الأمر عندنا لدى الجدات والأمهات في السابق. والجلباب النسوي المغربي الأصيل أَسْتَرُ وأَوْقَرُ، لو كانوا يعلمون! ولكن لعن الله الأهواء! فالشيطان يزين لكثير منهن التعمق في الإغراب والغلو في الاختلاف!ولبس بعض الشباب قمصانا ذات هيئة باكستانية، أو خليجية، وأعرضوا عن القمصان المغربية والجلابيب المغربية، كأنما هذه لا تستر عورة ولا تفي بسنة!وزاد حرفانيةَ الفهم للدين وتجزيئَهَ الشكلاني غُلُوّاً أنَّ من انتسب للعلم منهم قد تخرج من معاهد كانت تعاني أصلا من اختلالٍ في مناهج التعليم، وعدم توازنها؛ بإغفالها لتدريس علم أصول الفقه وقواعده، ومقاصد الشريعة ومراتبها، وقواعد اللغة العربية وبيانها، وعلم الخلاف العالي وأنواع المذاهب؛ مما نتج عنه ضيق الأفق العلمي للمتخرجين، وانحصارهم في دائرة التقليد لما تلقنوه، دون القدرة على محاولة معرفة أدلة الآخرين، بله محاولة الاجتهاد والتجديد!وبسبب التعصب المذهبي الكامن في مثل هذه العقليات، نبت منهم قوم لا يتورعون في الرد على مخالفيهم من الدعاة بالشتم واللعن والسباب، والتعبير بأبذأ العبارات والألفاظ، مما تمجه الآذان المؤمنة، وتكرهه العقول السليمة. حتى آلُوا هم أنفسهم – في نهاية المطاف - إلى التشرذم الفِرَقِي، والتحزب الأهوائي، ووقعوا فيما عابوه على غيرهم! وتكونت "جماعات" مصغرة بشكل "ميكروسكوبي"، تلتف حول بعض الأنصاب البشرية، ذات النزعة "الشخصانية"، أو "البترودولارية". فسهل بذلك – وقد استحكمت الأهواء من الأنفس - التورط في الاستجابة للتوظيفات "المخابراتية" المختلفة، والدخول الآثم في الاصطدام "الموظَّف" ضد الحركات الإسلامية، ثم ضد ثوابت الوطن الدينية، فقهاً وسلوكاً؛ لأغراض سياسية يجني ثمارَها قومٌ يترصدون بالدين وأهله الدوائر. فكانت عقارب السلفيين بذلك أشد وأنكى من غيرها! والله المستعان.وقد كان حريا بزعماء السلفية بالمغرب أن ينخرطوا في مشروع التصحيح - لو كانوا حكماء عقلاء - من خلال مقولة ابن عاشر المشهورة:فِي عَقْدِ الأشْعَرِيِّ وَفِقْهِ مَالِكْ وَفِي طَرِيقَةِ الْجُنَيْدِ السَّالِكْولهم في الأشعرية الأصيلة خير مجال لعرض عقيدة أهل السنة والجماعة الصحيحة السليمة. كما أن لهم في أصول مالك وقواعده الاستنباطية ما يساعدهم على تصحيح التدين عقيدةً وعبادةً، وإرجاع ما انحرف من ذلك إلى أصله من الكتاب والسنة. ولهم في ذلك سلفٌ عظيم، من أمثال ابن عبد البر والإمام الشاطبي وغيرهما كثير.ثم لهم في مفهوم "التصوف السني" المجال الأوسع والأرحب؛ لرد كل سلوك في هذا الشأن إلى ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، ثم مشاهير الزهاد والعباد من التابعين وأتباعهم، ممن أجمعت الأمة على فضلهم، كالإمام الجنيد، شيخ القوم وإمامهم. ولهم خير مرجع وطني تاريخي، في الحركة الإصلاحية الصوفية، التي بدأها الشاطبي بالأندلس، واستأنفها أحمد زروق بالمغرب، وكذلك أبو عبد الله المالقي الساحلي؛ لرد التصوف إلى أصوله، وتصفيته من علاته وشطحاته، وضبط مقولاته بضابط الشريعة، وإنارة مسلكه بنور العلم. كل ذلك من داخل بنيته وكيانه، ومن خلال مدارسه ورجاله؛ بتسليط حقه على باطله، وضرب دجاجلته بأوليائه! فتستبين طريقُ الصلاح بإذن الله، بلا ضجيج ولا عجيج. وإذن يكون رجال السلفية بذلك – كما كان الإمامُ الشاطبي قديما، وهو الفقيه المالكي المجدد للفقه والتصوف - مصلحين للبلاد والعباد، من الداخل لا من الخارج! ويكونون أفقهَ لأحوال الناس، وأدرى بطبيعة أدوائهم. فيتنزل الدواءُ على قَدْرِ الداء. وتلك هي عين الحكمة. ولا بركةَ في عملٍ أَخْطَأَتْهُ الحكمةُ. وتجاربُهم الفاشلة في هذا السياق خير دليل! - الخطأ المنهجي الخامس: الارتباط المادي المشروط ببعض الدول المشرقيةوالسبب الرئيس في اصطباغ السلفية الدخيلة بالمذهبية الحنبلية – لدى بعضهم - إنما هو الارتباط المادي بدول الخليج! وأنا أزعم أنه لولا "البترول" لما كان للحنبلية - في ثوبها الجديد - كل هذا التأثير على كثير من دول العالم الإسلامي! الشيء الذي دفع بعض الانتهازيين إلى تصدر قيادة التيار السلفي أو الانتماء إليه على الأقل؛ طمعا في الحصول على دعم مادي يخرجه من الفقر إلى الغنى، أو منحة دراسية بالمشرق تفتح له الآفاق، أو منصب "داعية" بالخارج يتقاضى عليه أجرة شهرية منهم، أو نحو هذا وذاك.ونحن لا ننكر – من حيث المبدأ - أن تساعد بعض الدول الغنية الدعاة إلى الله في غير بلادها، وأن تنفق على العمل الإسلامي والعمل الخيري هنا وهناك، بل هذا من أفضل أسباب تقوية التواصل بين أعضاء الجسم الإسلامي الكبير. لكن المشكل إنما هو الدعم المادي المشروط كما وصفناه أعلاه. أعني أن تمتد إليك يد المساعدة بشرط أن تكون حنبليا أو أن تكون شيعيا! هذا هو الإشكال. وهو من أبرز الأخطاء المنهجية التي أربكت العمل السلفي، إذ وجد بعضُ زعمائه أنفسَهم كالمضطرين للدعاية لمذاهب أخرى، غير ما استقر عليه العمل في بلده؛ فاستظهر كثيرٌ منهم دروس "التوحيد" وأضاع دروس الإخلاص! ودَرَسَ أصول "العقيدة" وفَقَدَ أصول الإيمان! مما أدى ببعضهم ممن غُلِّقَتْ دونهم الأبواب - لأسباب تنافسية - إلى رد فعل نفسي تكفيري، فصار يلعن سلفية "البترودولار" كما سماها، وأنشأ "سلفية" أخرى ذات خلفية "خوارجية"، ومنهج تكفيري قتالي! فانضم إليه كل من يعيش منهم مأساة التهميش الاقتصادي والإقصاء الاجتماعي. وأسسوا خطابا "خارجيا"، ذا خلفية انتقامية من الناحية اللاشعورية. وما كان لمثل هذه الأمراض أن تظهر بالصف الإسلامي السلفي لو التزم بمذهبيته المالكية، وفك ارتباطه بالدعم المادي الخليجي؛ ولو فعل لجاء بسلفية تصحيحية فعلا، تعالج الغلو والانحراف في العقائد والعبادات، تماما كما كان شأنها في المغرب عبر التاريخ؛ وذلك لما للمذهب المالكي من قدرة استيعابية لكل وجوه الخلاف، وقدرة فريدة على التعايش مع سائر الاجتهادات، بعيدا عن منطق التبديع والتكفير؛ لأبسط الأشياء ولو كانت اجتهادية محضة! ولما لأصوله الفقهية وقواعده الاستدلالية من مرونة قلما تجدها في مذهب آخر، بنفس السعة والشمول.
خاتمة وأخيرا، فتلك أهم الأخطاء المنهجية، الأصلية والفرعية، التي استقريناها من مقولات التيار السلفي. ذكرناها بهذا التقييد موجزة؛ عسى أن ينفع الله بها مَنْ (كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(ق:37). وإنما الموفق من وفقه الله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.------------------------------ المحاضرة التي ألقاها الأستاذ المرحوم فريد الأنصاري رئيس المجلس العلمي المحلي لمكناس ضمن فعاليات اللقاء الوطني المهني للمرشدات خريجي مركز التكوين – الرباط الجمعة/السبت: 26-27/01/2007م
http://www.almajlis-alilmi.org.ma/ar/details.aspx?ID=532&z=5&s=5


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.