دينامية السياسة الخارجية الأمريكية: في نقض الإسقاط والتماثل    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    أنشيلوتي يدافع عن مبابي.. "التكهن بشأن صحته الذهنية أمر بشع"    المغرب التطواني بطلا لديربي الشمال رغم تغييب جمهوره    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    المتقاعدون يدعون للاحتجاج ضد تردي أوضاعهم ويطالبون برفع التهميش    الجزائر تعتقل كاتبا إثر تصريحاته التي اتهم فيها الاستعمار الفرنسي باقتطاع أراض مغربية لصالح الجزائر    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    مكتب "بنخضرة" يتوقع إنشاء السلطة العليا لمشروع أنبوب الغاز نيجيريا- المغرب في سنة 2025    الشراكة الاستراتيجية بين الصين والمغرب: تعزيز التعاون من أجل مستقبل مشترك    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    استغلال النفوذ يجر شرطيا إلى التحقيق    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري    انخفاض مفرغات الصيد البحري بميناء الناظور    موتسيبي "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    معهد التكنولوجيا التطبيقية المسيرة بالجديدة يحتفل ذكرى المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بوعشرين: أصحاب "كلنا إسرائيليون" مطالبون بالتبرؤ من نتنياهو والاعتذار للمغاربة    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    اختفاء غامض لشاب بلجيكي في المغرب    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    الوزير برّادة يراجع منهجية ومعايير اختيار مؤسسات الريادة ال2500 في الابتدائي والإعدادي لسنة 2025    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الندوة الخامسة لمؤسسة علال الفاسي ليوم السبت 18/12/2010
الحركة الوطنية علمت الحماية أن الإصلاح هو تحقيق مطالب الشعب المغربي
نشر في العلم يوم 21 - 12 - 2010

الأستاذ عبد الكريم غلاب رئيس اللجنة الثقافية لمؤسسة علال الفاسي: «النقد الذاتي» دستور للفكر المغربي
نفتتح الندوة الخامسة في سلسلة الندوات التي نظمتها مؤسسة علال الفاسي لتنوير الفكر في موضوع مهم هو «التطور الثقافي والأدبي بالمغرب خلال القرن العشرين، ومساهمة علال الفاسي فيه» تذكيرا بموضوع مائة سنة لميلاد علال الفاسي الزعيم الوطني ، المحرر، المناضل الثقافي والشاعر المتميز والمناضل في كل ميدان لإخراج البلاد من ورطة الحماية والسلوك بها في طريق الاستقلال والديمقراطية.
وقد مرت بنا أربعة ندوات في هذا الموضوع خلال هذه السنة، تعلقت بالمغرب في عهد الحماية وقبل الحماية وبعدها وتعلقت كذلك بالحقل السياسي والدبلوماسي والتعليمي والديني والحقل الاقتصادي والاجتماعي كذلك. وتكملة لهذه السلسلة نعقد هذه الندوة التي تتعلق بالتطور الثقافي والأدبي بالمغرب في القرن 20. فلماذا إذن اخترنا القرن 20 ، أولا لأنه يصادف الذكرى المائوية لميلاد علال الفاسي من جهة ومن جهة أخرى لأنه أهم فترة في تاريخ المغرب، ولأن المغرب مدين لهذه الفترة وينتظر أن يشهد تطورا مهما انطلاقا من هذا القرن وفي الحقب القادمة.
ويعتبر القرن 20 فترة هزيمة سياسية للمغرب، لأنه اقترن بعهد الحماية، ولكن إنه في الواقع فترة انتقال وانطلاقة كبيرة للمغرب وتطور مهم جدا والخروج بالمغرب من عهد التخلف وعهد الانهيار وعهد السيطرة الأجنبية إلى عهد الاستقلال والحرية والديمقراطية. وهذا القرن الذي كان ينظر إليه على أنه قرن الهزيمة، نعتبره قرن الانتصار، ذلك لأن الأحداث الكبرى التي مر بها المغرب في هذا القرن تعتبر انتصارا للمغرب لا هزيمة له، فقد كان في الفترة الأولى يتوقع خطرا أكبر، ومع ذلك أضاءت الفكر المغربي إضاءة مهمة جدا، دفعت بالكثير من المثقفين إلى وضع لبنات أولى للثورة المغربية الجديدة التي تتخطى الاستعمار وتتحداه.
وقبل الحماية كانت هناك نخبة من المثقفين المغاربة الذين انطلقوا يفكرون بعيدا جدا لوضع دستور متطور ينطلق المغرب فيه وعلى أسسه لتعليم المغاربة أولا تعليما إجباريا، وتدريبهم إجباريا على النضال العسكري، وإعطاء المغاربة حقهم في الحرية والعمل والكفاح من أجل المستقبل، وهذا الدستور مع كامل الأسف أجهض بالحماية، ولم ير النور ولكن مع ذلك كان انطلاقة كبرى ظلت في الذاكرة المغربية تحييها وتبعثها إلى المستقبل القريب.
وكان الحادث الثاني المهم والخطير هو حادث الحماية الذي شهده أيضا القرن العشرين، وهو حادث فريد من نوعه في تاريخ المغرب، لأن المغرب لم يعرف احتلالا مطلقا لا في عهد الرومان ولا قبلهم في عهد القرطاجيين، ولكن تحرر من الرومان ومن الوندال ومن القرطاجيين قبلهم، وظل المغرب صامدا لبناء البلاد ولتطوير الشعب. وفعلا كان مستقبل المغرب مرتبطا بالمشرق العربي وذلك باستقباله لنور الإسلام وبتوحده مع الديانة الإسلامية في نطاق الفهم الإسلامي الواسع والمتوسع، وفي استقباله اللغة العربية كلغة ثقافة وعلم وأدب، واستقباله لكثير من الوفود الخارجية التي أعطته دفعة قوية، هذا هو المغرب الذي بنى امبراطورية واسعة من حدود المشرق حتى الأندلس ، وهذا هو المغرب الذي استطاع أن يكون نفسه وأن يحافظ على نفسه رغم الجهود الكبيرة التي قام بها الأجانب في شمال المتوسط للإطباق على هذه البلاد من عهد الرومان حتى عهد الفرنسيين والإسبانيين، ولكن مع ذلك المغرب نجا من كل ذلك.
وجاء عهد الحماية الذي تميز بنظرتين إحداهما خاطئة من دون شك، نظرة مهمة المجموعة الحاكمة من جهة، وكذلك عموم الشعب المغربي الذي اعُتبر الحماية هزيمة واعتبر أن القدر أصاب المغرب بخيبة أمل كبيرة، ولكن الواقع أن هذه الحماية في نظري كانت منطلقا لمغرب جديد، وكانت تطورا للمغرب الذي عرف فيها أن هناك عالما آخر يجب أن يتخطاه ليصبح مغرب حقيقي.
هكذا تطور المغرب في عهد الحماية تطورا فيه الظلم، وفيه الإرهاب وفيه انتزاع الأراضي وفيه إقامة شعب آخر بديل للشعب المغربي ليبقى على هامش الحياة، ولكن مع ذلك انفتح الفكر المغربي وهذه مزية الجماعة.
وانفتح الفكر المغربي ليجعل من بلاده المستقبلة، بلادا كما نعرف اليوم بلادا مستقلة، تسير في طريق التنمية البشرية، وفي طريق الديمقراطية الحقيقية، فلولا الحماية كان من الممكن أن تطول الفترة لنصل إلى هذا التطور، ولكن الحماية دفعت بالمغاربة إلى أن يتحدوا الواقع، وإلى أن يتحدوا الاستعمار بكل خطواته وأن يجعلوا من بلادهم عقبة في طريق انتصار الاستعمار. ونعرف هذه العقبة من الخطوات التي خطاها المغاربة، ابتداء من الشهر الأول للحماية، وفي أبريل ثارت مدينة فاس وفي حوالي مارس ثارت الشاوية، وثارت بني أزناسن، وبدأت الثورات هنا وهناك، ثم انطلقت الثورة الكبرى في الأطلس المتوسط، وظلت هذه الثورة تناضل لتحرير المغرب حتى سنة 1933، ثم امتزجت بها الثورة العظمى، ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي في الريف، وكانت هذه الثورة تحريرية استقلالية وحدوية وعلمت المغاربة أن هناك شيئا آخر هو أن الاستقلال في طريقه إلينا.
ولو لم تحقق الثورة الريفية والأطلسية كل آمال ما، مع ذلك كانت المنطلق الأكبر لتحقيق الاستقلال. وأخذت المشعل الحركة الوطنية ابتداء من سنة 1927 إبان تراجع الحرب الريفية، كما كان يسميها عبد الكريم الخطابي، وبدأت الحياة الوطنية المناضلة، وقاد الشعب المغربي هذه الحياة، وكان علال الفاسي في مقدمة القواد الذين حققوا انتصارات كبرى في سبيل استقلال البلاد.
هذا المنطلق الذي بدأ من الشعلة التي اتقدت في أفكار النخبة الوطنية في السنوات الأولى من القرن 20 ، وجد نفسه كذلك في بداية الثلاثينيات، وبدأت الحركة الوطنية تعلم الحماية أن الإصلاح هو تحقيق مطالب الشعب المغربي، وقدمت الحركة الوطنية هذه المطالب تحديا للحماية سنة 1934، وكانت إذن ثورة جديدة، لأنها تقدم البديل وليست ثورة سلبية كما كان الفرنسيون يقولون، ولكنها كانت إيجابية تعلمهم أن الإصلاح هكذا يكون، وهكذا يجب أن يكون. واستمرت هذه الحركة بين شد وجذب واعتقالات وكان علال الفاسي من بين المعتقلين سنة 1937 والذي قضى في المنفى 9 سنوات في الكابون، وكذلك بقية الزعماء الذين اعتقلوا ونفوا وحتى الزعماء والذين جلدوا بمجلدة بلبغدادي، كلهم أفذاذ، قدموا التضحيات الكبرى من أجل أن يدخلوا للمغاربة في فكرهم أن الحماية ليست قدرا وأن الحماية يجب أن نتحداها لكن نتخطاها، وهكذا كان بعد تقديم وثيقة مطالب الشعب المغربي بعشر سنوات فقط، فتقدمت الحركة الوطنية بتقديم وثيقة الاستقلال سنة 1944 والحرب يومئذ قائمة. ومع ذلك جاء التحدي مرة أخرى ليقول للمغاربة إننا يجب أن نتحدى لنخرج من هذه الهجمة الكبيرة جدا، التي هي الحماية، وبطبيعة الحال كان الانفعال قويا في الدائرة الاستعمارية وكانت اعتقالات ومصادمات كبرى.
ومع ذلك استمرت الحركة الوطنية في توحيدها للمغرب من شماله إلى جنوبه، وفي مطالبتها بالاستقلال باعتبار سلطة الحماية كانت عاجزة على أن تصلح المغرب، وعاجزة على أن تقدم للمغاربة حتى المدارس لتعليم أبنائهم، ولا المعامل لتشغيلهم، هكذا أصبح الاستقلال هو المطلب الأساسي.
وتحقق الاستقلال ما بعد الحدث التي قامت الحماية، وهو نفي محمد الخامس واعتقاله هو وعائلته، وإخراج المغرب من عهد المطالبة بالاستقلال إلى عهد الحماية الأبدية، وكان التحدي مرة أخرى يسقطها في الحضيض، وكانت المقاومة الباسلة وكان الاستقلال في سنة 1955 بعد رجوع محمد الخامس بيوم واحد.
إن الحركة التي قادت المغرب من بداية القرن حتى الاستقلال كانت حركة فكرية ولم تكن حركة انفعالية ولا حركة اندفاعية، تقوم بخطوات وتحسب خطواتها، ولا تقوم بخطوة إلا بعد دراستها، وكانت خطواتها محسوبة.
وهذا المنطلق انتهى بمجيء الاستقلال وبدأ منطلق آخر لتحقيق الديمقراطية، وكان علال رائدا في هذا الميدان، وكان رائدا منذ عرف النور وميلاده يقارب ميلاد الحماية، ولكنه لم يكن طفلا منشغلا بما ينشغل به الأطفال، ولم يكن من الذين أعمتهم الحماية، واعتبروها قضاء الله وقدره ولا محيد عنها، بل كان من المناضلين، وشاعرا مناضلا وهو بعد ذلك يتدرب على قول الشعر، وكان ينشد قصائده في المجموعات الصغيرة من الطلبة زملائه، ثم خطا خطوة مهمة، حيث كانت تقام في مدينة فاس حفلات في ذكرى المولد النبوي، وكانت تقرأ فيها الهمزية والبردة، وكان علال الفاسي يلقي قصيدته في هذا المجمع الكبير، ومن هنا انطلق علال الفاسي لينشد شعرا في مدح الرسول والحديث عن الحركة الوطنية وعن مستقبل البلاد.
وهكذا عرف علال الفاسي، ابتداء من شعره كمفكر وككاتب في كل صحيفة سواء في الجزائر أوفي المغرب وبهذا أصبح علال الفاسي رائدا من رواد الفكر، بحيث كان يلقي دروسا في جامعة القرويين وكان يحضر هذه الدروس مئات من الطلبة ومن غير الطلبة وكانت بمثابة مشعل وقيدة التوعية للشعب المغربي.
وتطور علال الفاسي بعد ذلك، ليصبح كاتبا ومفكرا وباحثا في العديد من الميادين، في تاريخ الحركة الوطنية وفي مقاصد الشريعة وكتب حتى في التخطيط الثلاثي كتابا، يدرس فيه مسألة اقتصادية مهمة، وكان يكتب في كل شيء، في القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية وتوقف في مسيرته الفكرية عند كتابه «النقد الذاتي».
ويعتبر كتاب «النقد الذاتي» بمثابة دستور للفكر المغربي، وكيف يسير هذا الفكر بعد الاستقلال، وكان يتوقع في سنة 1949 و1950 أن الاستقلال في اقترب أجله، وكان يتساءل مع نفسه، عن ماذا نصنع بهذا الاستقلال، وهذا السؤال خطير ومهم جدا، والجواب عنه صعب، ولكنه جلس إلى قلمه وأبحاثه ودراسته وخطط لنا كيف نسير لبناء الاستقلال. وهذا التخطيط تجلى في كتابه «النقد الذاتي» وهو كتاب فكر ودراسة، ولم يكن كتاب ثقافة استقلالية عاطفية انفعالية، ولكنه كتاب فكر.
وعلال الفاسي في مخططه لبناء الاستقلال وبعد أن وجه الشباب في ألوكته المهمة، اتجه إلى النضال الديمقراطي، والمطالبة بالدستور مباشرة بعد تحقيق الاستقلال، وكان وهو الزعيم الكبير يخرج إلى الشارع ليؤيد مشروع الدستور في وجه الذين كانوا يريدون إسقاط هذا الدستور، وكان يقول، مهمتنا أن نضع أولا اللبنة الأولى، ثم يمكن بعد ذلك إصلاح الدستور، كما يتطلبه تطور الأحداث. وهكذا كان علال الفاسي رائدا من رواد الحركة الديمقراطية، ومناضلا في سبيل هذه الديمقراطية، وبدأ من داخل مجلس النواب يناضل من أجل تحقيق الديمقراطية الحقيقية، وكان يخطب في كل موضوع يتعلق بالديمقراطية وبحقوق الإنسان حتى أن أحد المعارضين قال له، إنك يا علال الفاسي تتكلم في كل شيء، فقال، أنا موجود هنا لأتكلم في كل شيء يهم وطني وهذه مهمتي في مجلس النواب.
ولم يكن علال الفاسي مناضلا انفعاليا، بل كان مناضلا فكريا، ثم جاءت قضية كبرى ومهمة جدا، وهي قضية الصحراء، وكانت مؤامرات استعمارية من اسبانيا وفرنسا على الخصوص، تتعلق بإدماج الصحراء بالاستعمار الاسباني، وتغيبها عن الوطن المغربي، وبدأ علال الفاسي يتزعم قضية الصحراء، خاصة في كتاباته في المجلة التي أنشأها حول هذه القضية، وكان ينشر فيها الوثائق، وكان يجمع حزب الاستقلال كله للمطالبة بتحرير الصحراء، هكذا سار حتى تحقق ذلك عبر المسيرة الخضراء، التي نظمها المغفور له الحسن الثاني، وقال حينها الحسن الثاني رحمه الله، لو كان علال الفاسي ما يزال حيا لمات في قلب الصحراء.
وكل عمل وطني قام به علال الفاسي رائده هو الفكر، وكل عمل نضالي من أجل الديمقراطية، أو من أجل تحرير الإنسان أو من أجل حقوق الإنسان رائده هو الفكر، هكذا كان علال الفاسي.
لذلك أيها الإخوة أيتها الأخوات، حينما ننظم هذه الندوات التي انطلقت منذ بداية السنة الحالية، يحدونا فكر علال الفاسي، ليكون موضوع هذه الندوة: «تطور الفكري والثقافي والأدبي في القرن الحالي» وسيؤطر هذا الموضوع نخبة من المثقفين المغاربة، الذين لهم إسهامات كبرى في ميدان الثقافة المغربية.
الأستاذ محمد العربي المساري عضو اللجنة الثقافية لمؤسسة علال الفاسي يكشف عن معطيات دقيقة لتأثر المغرب بالمشرق على المستوى الإعلامي
المغاربة تعاملوا بانتقائية مع التيارات المتفاعلة في المشرق
يمكن أن نلمس وجود التأثير المشرقي في المغرب أثناء الفترة التي تغطيها هذه اللقاءات المنعقدة بمناسبة مائوية علال الفاسي على عدة صور. ولا يقتصر الأمر على الصحافة، خاصة وأن الصحافة الوطنية لم تظهر إلا بعد عقدين من فرض الحماية. ومن البديهي أن ندخل في الاعتبار الوشائج التي كانت منسوجة بحكم الرابطة الدينية بين المغرب وأشقائه المشرقيين.
وإنه لذو دلالة على الأواصر الفكرية مع المشرق أن البيعة الحفيظية قد تضمنت مطالبة السلطان بأن « يستخير الله في تطهير رعيته من دنس الحمايات، والتنزيه من اتباع إشارة الأجانب في أمور الأمة لمحاشاة همته الشريفة عن كل ما يخل بالحرمة، وإن دعت الضرورة إلى اتحاد او تعاضد فليكن مع إخواننا المسلمين كآل عثمان، وأمثالهم، ببقية الممالك الإسلامية المستقلة».
ويمكن أن نضيف أن مشروع دستور 1908 في المغرب الذي أثمره نفس المسلسل الذي أدى إلي البيعة المشار إليها كان يقتفي تقريبا مشروع « الخط الشريف « ( 1839) الذي كان مبشرا ببدء الإصلاح في الدولة العثمانية. ولابد أن نسجل أن المشروعين كان لهما نفس المصير، إذ أن الوثيقة العثمانية التي اتخذها السلطان عبد المجيد لاسترضاء الحكومات الغربية، سرعان ما طويت، وكذلك وقع لمشروع الدستور المغربي الذي لم ير النور أصلا.
ونستطيع أن نؤكد أن تلك الوشائج مع المشرق لم ينفع في طمسها ما بذلته الإدارة الاستعمارية، في منطقتي الحماية، وإن كانت الجهود المبذولة في هذا الصدد أشد إحكاما وصرامة في المنطقة السلطانية، منها في المنطقة الخليفية. و يدل على ذلك تقرير كتبته مصالح إدارة الشؤون الأهلية بإشراف روبير مونطاني عن تحركات الشبيبة المغربية في أواخر العشرينيات على إيقاع الذيول التي خلفتها حركة بن عبد الكريم الخطابي، والتأثير الوارد من المشرق. وكان هذا التقرير بتاريخ 29 يوليو 1929. ونجد فيه إشارات واضحة إلى قوة الصدى الذي خلفته حركة الخطابي. وهذا أمر معروف من صور صدى الحركة الخطابية في المشرق نشيد في ثنايا العجاج الشهير، لإبراهيم طوقان. والأكثر من ذلك رواج اسم الأمير الخطابي كمرشح للخلافة الإسلامية، وذلك في مؤتمر انعقد بالقاهرة.
ومن صور التأثر بالمشرق في وقت مبكر الصدى الذي أحدثته الحركة المسرحية المصرية. وإذا كان الباحث رشيد بناني يشكك في زيارة فرقة جورج أبيض للمغرب سنة 1921، فإن كل من أرخوا للحركة المسرحية في المغرب يتفقون على أن سنة 1923 هي التي تعلم بداية عهد الجمهور المغربي بالمسرح، وقد تم ذلك على يد فرقة مسرحية مصرية هي فرقة محمد عز الدين، خليفة سلامة حجازي الذي زار المغرب بمنطقتيه. حيث كشف الباحث في تاريخ الحركة المسرحية الأستاذ رضوان احدادو أن عرضا للفرقة المذكورة قد تم في تطوان وذلك في مسرح رينا بيكطوريا بعاصمة الشمال، يوم السبت 4 غشت 1923 حيث قدمت مسرحية هارون الرشيد والصياد. وقدمت هذه الفرقة عروضا كان لها استحسان تجلى في منح السلطان م. يوسف وساما لرئيسها. وكان المغاربة يحتفلون بالفرق المصرية الزائرة. وتلا ذلك تقليد المغاربة للمصريين بتقديم عروض مسرحية، كانت نصوصها مقتبسة من رواد المسرح في المشرق. ومعروف أن المغاربة استلهموا المشارقة في تجاربهم المسرحية الأولى. وهذا واضح عند كل من حسن المنيعي، ورشيد بناني، وع. ق. السميحي، و مصطفى بغداد.
وقد تجدد التعبير عن قوة تلك الوشائج في المجال السياسي وتجلى خصوصا بمناسبة قضية الظهير البربري كما يشهد على ذلك السجل الضخم الذي جمعه الحسن بوعياد عن أصداء ظهير 16 مايو في المشرق العربي والإسلامي من مصر حتى إيندونيسيا.
وفي أواسط العقد الثاني من القرن العشرين، كان في المغرب أصداء لأسئلة النهضة المطروحة في المشرق. وقد أحسن تلخيص الانشغالات التي راودت الرعيل الأول من قادة الحركة الوطنية، الباحث أحمد زيادي في كتابه «رسائل وطنية» حينما سجل بتركيز شديد، أنه في سنة 1926 برزت ثلاث جماعات وطنية في الرباط وفاس وتطوان، كانت متشبعة بآراء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وشكيب أرسلان، ومتجاوبة مع دروس أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي، ومهتمة بنهضة مصر بزعامة سعد زغلول وحركة جماعة الدستور في تونس، وبأعمال مصطفى كمال في تركيا. (ص 7 من المصدر المشار إليه).
ومعلوم أن الصورة كانت مضطربة إلى حد بعيد من جراء سيطرة الغرب على الأمم الإسلامية، من تركيا إلى الهند مرورا بمصر والشام. وهو اضطراب فكري وسياسي واجتماعي لم يضعف الفكرة التي عمت العالم الإسلامي في اتجاه استعادة عناصر القوة من خلال خلق الشروط الضرورية للنهضة.
وتم الكشف منذ سنوات قريبة عن قصيدة لعمر بن عبد الجليل أنشأها وعمره 14 سنة، وأهداها لأستاذه في الثانوي بفاس، محمد بلعربي العلوي. وكانت القصيدة لتحية انتصارات أتاتورك. وكان هذا الموقف مماثلا للشاعر الرباطي الجزولي ولمحمد الناصري ولمحمد السليماني ولعبد الملك البلغيثي ( ع. الرحمان الحرايشي، العلم 30 /10/1998) ومن جهة أخرى هب الزمزمي بن جعفر الكتاني إلى تركيا ليقاتل ضد اليونان. ويمكننا أن نضيف أن المغاربة تفاعلوا مع أتاتورك كزعيم وطني في انتصاراته على اليونان، ولكنهم أعرضوا عنه حينما بدت منه ميول تغريبية.
ومن جهة أخرى تضامن المغاربة منذ وقت مبكر مع الفلسطينيين لمقاومة وعد بيلفور. و يروي الأستاذ محمد الفاسي قصة عريضة حملت مئات التوقيعات من فاس، لاستنكار الاعتداء على المسجد الأقصى، وذلك في صيف 1929، وهو أول تحرك من نوعه موثق بشهادة تتضمن تفاصيل. ( مجلة القدس، العدد 34، بتاريخ 1 /11/ 1929).
وفي مصر، كان الإشعاع الفكري والديني المحليان قويا جدا له أصداء في مجموع العالم العربي، وكان يخاطب مخيلة المغاربة، فقد كانت المعركة هناك على أشدها مع الإنكليز، علي إيقاع ذيول ثورة عرابي، وقيام مصطفى كامل. ولكن عقد العشرينيات، وما تلاه، كان مصبوغا بالألوان التي أضفاها سعد زغلول علي الحياة المصرية، ابتداء من 1919.
كما سجل تقرير مونطاني وجود صدى للكمالية لدى أوساط النخبة المغربية كما تبين من برقية تحية وجهها إلي مصطفى كمال قدماء تلاميذ مدرسة أبناء الأعيان بالدار البيضاء. وهي مبادرة مرتبطة بأحداث انتهت بالمسؤولين عنها إلي السجن في الصويرة.
وفي المذكرات التي دونها امحمد بنونة عن أول تنظيم وطني بالمغرب سنة 1926 (العلم، غشت 1951) إشارة تفيد تحسر الشاب التطواني لافتقار الساحة المغربية لزعامة مماثلة لسعد زغلول. وهو ما يدل علي ما كانت تمثله مصر في مخيلة الشبان الذين تصدوا لتأسيس العمل الوطني بالمغرب. وفي «مذكرات غير شخصية» لعبد الله كنون، (ص 53) يذكر مؤرخ النبوغ المغربي، أنه حينما سافر إلي مصر بقصد الدراسة كل من عبد الخالق الطريس ومحمد الطنجي والمكي الناصري وامحمد عزيمان، « كدت أصاب بالجنون ،،، لأني كنت أنا الآخر أريد السفر لأتفتح أكثر، وكنت أبكي ليل نهار
لأن والدي منعني من ذلك «.
ويحكي كنون أيضا كيف أن الزاد الدسم الذي كانوا يتلقونه هو ما كانت تزخر به الجرائد المصرية، والكتب المترجمة في مصر والشام. وكان يمكن أن تمر سنتان حتى تصل إلى المغرب الكتب التي سبق الإعلان عنها في تلك الصحف. ( ص ص 51 و 53). ولكن الجمهور كان يتطلع إلى تلك المنشورات بشوق.
وفي نفس الفترة كان شبه الجزيرة العربية يغلي بالاضطرابات التي جلبتها رغبة الشريف حسين للاستقلال عن الباب العالي بتشجيع من الإنكليز. وقد ألقى أحمد بلافريج سنة 1929 محاضرة في قصر الجمعيات بباريس، عنوانها «شهر في الحجاز» وصف الحالة كما رآها ليعرف بها زملاءه. ويدخل ذلك في إطار رصد النخبة المغربية لتطور الأوضاع في البلاد العربية. ويعبر هذا النشاط عن وجود موضوع شغل أحد الفاعلين وكان هناك جمهور متجاوب.
إزاء هذه الأوضاع وجد الوطنيون المغاربة أنفسهم مطالبين بأن يحسبوا خطواتهم في المعترك الدولي. و وجد الوطنيون أنفسهم، وهم يتحركون في المشرق، أمام مشهد صاخب بكيفية مدهشة، و متنوع مفعم بالتعقيدات، وكان عليهم أن يرسموا مسار خطواتهم بدقة.
واتخذ الوطنيون المغاربة مجلة « الفتح « لمحب الدين الخطيب، منبرا لهم. وفيها نشر أحمد بلافريج مقالا عن اغتيال ملك أفغانستان أمان الله، الذي اتهمه المحافظون بالتشيع للغرب. (الفتح، العدد 175 بتاريخ 28/11/1929). وبسبب احتضان المجلة السلفية لأطاريح الشبان المغاربة، تم منعها بالمغرب في أبريل 1930.
وسجل تقرير مونطاني السالف الذكر أن «أخطر» ما كان يقوم به عدد محدود من الفاسيين المقيمين في القاهرة والإسكندرية هو إرسال الجرائد الممنوعة إلى المغرب. وفي رسالة من الطيب بنونة إلى عبد الله كنون بتاريخ 23 يوليو 1928 أخبر الشاب التطواني صديقه نزيل طنجة، بأن البوليس توصل بتعليمات من حكومة الديريكطوريو (دكتاتورية بريمو دي ريفيرا) تقضي بمصادرة الصحف الآتية من المشرق. وهو عينه ما كان يتم في الجنوب. (إدريس كرم، جريدة الاتحاد الدستوري 6/2/1997)
وعلى صعيد آخر كان إصلاح الأزهر، والأخذ بالأنظمة العصرية للتعليم العالي الجامعي في مصر، قد أثار اهتمام النخبة في العالم الإسلامي بأجمعه. وفي المغرب اقتدت المدارس الحرة التي أسسها الوطنيون بالمقررات التعليمية التي كانت متداولة في المدارس المصرية. وكان لتفسير طنطاوي جوهري صدى كبير في المغرب، واعتبره الشبان عدة فكرية لمهاجمة الطرقية.
وحتى إذا سلمنا بأن الجانبين السياسي والفكري كانا يتجلى فيهما أكبر قدر من التأثير فإن المغاربة مثل سائر العرب انجذبوا نحو المشارقة وخصوصا المصريين فيما يخص الهندام الرجالي وطريقة تأثيث البيوت وهي مظاهر واضحة للتفرنج اشتد انتشارها بعد أن بدأت السينما تمارس مفعولا سحريا على المخيلة، وكانت تضرب العين حينما يزور مصريون المغرب أو يزور المغاربة مصر. واقترن ذلك كله بانتقال الاجتهاد الموسيقي المصري على الخصوص إلى الذوق المغربي.
وتعامل المغاربة بانتقائية مع التيارات المتفاعلة في المشرق. فنعرف مثلا أن مجلة «الفتح» كانت في خصام مع التيار الذي كان يمثله طه حسين، لكن أغلب الشبان المغاربة الذين توجهوا إلي مصر للدراسة كان الأزهري المتمرد هو أستاذهم المفضل. وحتى دون التتلمذ عليه، نجد محمد حصار ( مقال في مجلة «المغرب» بالرباط، يونيو 1933 ) قد انبري للدفاع عن ط. حسين، وشنع على من هاجمه في مجلة «الرسالة» المصرية. ووصفه بأنه « الكاتب الوحيد الذي ابتكر جديدا في العربية «.
وحينما ظهرت في القاهرة فكرة إنشاء رابطة للشباب تضم مصريين وطلابا من مختلف الأقطار، كان هناك اسمان مغربيان من بين مؤسسي «جمعية الشبان المسلمين» التي أسندت رئاستها إلى الدكتور عبد الحميد سعيد، هما محمد المكي الناصري والحسن بوعياد. ونعلم أن نشيد تلك الجمعية (ربنا إياك ندعو...) وهو من تأليف مصطفى صادق الرافعي، كان يغنى في المغرب باللحن الذي وضعه محمد داود.
وقبل ذلك نشر الشبان المغاربة في جرائد شرقية وتونسية وجزائرية في وقت كانت السلطة لا تسمح للوطنيين بأن تكون لهم جرائدهم. ومن ذلك مقالات نشرها في الشهاب كل من اليزيدي وعلال الفاسي وعبد الله الجراري والمكي الناصري في سنة 1926. وفي مصر نشر هؤلاء وغيرهم في الزهراء والفتح والسياسة ومجلة الشبان المسلمين والجامعة المصرية ونور الإسلام التي أنشأها الأزهر، والشورى التي أصدرها الفلسطيني م. ع. الطاهر. وهذه المنابر متباينة في ميولها. ولكن الشبان المغاربة كانوا قادرين على مخاطبة كل التيارات.
على أن تعطش المغاربة للإنتاج الأدبي في مصر كان مظهرا بارزا للوشائج الفكرية مع المشرق. وهذا ما يتجلى في عمل النوادي الأدبية في سلا والرباط وطنجة وتطوان، حيث كان الإلهام مغربيا وكذلك التعابير الشعرية والنثرية، ولكن بانفتاح واضح على المشرق.
إن خواطر المغاربة ومشاعرهم كانت تجنح غالبا نحو الأمم الشرقية التي قاومت الغرب. ففي 1923 حينما نظمت مظاهرة بالرباط ضد تصريحات لرئيس الغرفة التجارية بشأن الحد من الارتقاء بمستوى تعليم الأهالي، كان الجنرال مورييل حاكم الناحية قد استقبل المحتجين، وفي سياق مساجلة نظرية، سألهم ومن سيساعدكم غير فرنسا على الارتقاء إلى مستوى العصر، فأجابوه: هناك اليابان. (من حديث للشاعر الجزولي، مع الكاتب).
ومن علامات الانفتاح الخاص على المشرق دعوة الطريس في تطوان إلى الاحتفال بألفية المتنبي، وترؤس علال الفاسي في فاس لمراسيم الذكرى، التي جمعت مادتها في عدد خاص من مجلة « المغرب الجديد «. وكذلك الاحتفال بذكرى شوقي في العاصمة العلمية. بل إن وفدا من الشبان الوطنيين حضر في القاهرة حفلا تذكاريا لشوقي وعمل رشيد رضا على إجلاس الوفد في المقاعد الرسمية بدلا من بن غبريط الذي أوفدته الإدارة. وكان الوفد الوطني يتألف من محمد الحريشي، والحسن بوعياد، والعربي الحريشي ، وأحمد الرامي.
وحينما تأسست في باريس « جمعية الثقافة العربية « في ديسمبر 1927 كان المؤسسون يستحضرون اسم زعيم مغربي هو عبد السلام بنونة لدعوته للمشاركة في خدمة أهداف الجمعية وهي مناقشة القضايا الفكرية والاجتماعية والعمرانية. وكان رئيس الجمعية هو محمد صلاح الدين وأمين سرها هو فريد زين الدين وهما رفاق الدراسة لكل من بلافريج والوزاني و م. الفاسي. (أب الوطنية، ج1 ص 262)
وكذلك كان الشأن حينما قر عزم الجماعة نفسها على تنظيم مؤتمر عربي في فرانكفورت بألمانيا سنة 1929 وجهوا الدعوة للحاج عبد السلام لتأمين تمثيل « المغرب الواقع تحت الاحتلال الإسبنيولي «. وكان المؤتمر بالاتفاق مع عصبة مقاومة الاستعمار. ( أب الوطنية، ج 1 ص 295)
وتحدث علال الفاسي في الحركات عن نشاط قام به عالم رباطي هو محمد العتابي في الأستانة ثم الحجاز وألمانيا والسويد والنرويج، حيث انضم إلي العاملين في المؤتمر بإسطمبول مضاعفا الجهود من أجل مقاومة احتلال المغرب (الحركات، ص ص 147 و148 و 149).
وهكذا فإن هذه الأصداء التي ترجع في جلها إلى العشرينيات نجد أن الجماعات الوطنية الأولى انفتحت بكثير من التركيز علي المشرق، بسبب الاقتناع بأن الدعم من هذا الجانب مضمون لاعتبارات دينية وثقافية بديهية. وتجلى ذلك في المعاكسة التي لقيها الخطابي في عصبة الأمم مقارنا بالتأييد التلقائي الذي لقيه في المحافل الإسلامية. ويمكننا أن نستخلص ما يلي:
- تصرف الوطنيون المغاربة بانتقائية حيال العناصر المتضاربة التي كان يتكون منها المشهد السياسي والثقافي في المشرق برافديه العربي والإسلامي. ويدخل في ذلك التزام الحذر إزاء الأمور الخلافية.
- أيدوا الأتراك دون أن يكون مفروضا عليهم موقف اتباعي. أيدوا وعارضوا ما كان يعتمل في الساحة التركية، دائما بالانطلاق من اقتناعات خاصة. وسعوا لتكوين رؤية خاصة تجاه ما كان يعتمل من مسائل ومواقف سياسية وفكرية كانت تتبلور سواء في مختلف أقطار المشرق، أو في الميطروبول. ومن هنا مقالات تحليلية عن الأوضاع في مختلف البلدان، بما اكتنفها من وضع مسافة إزاء ما هو مطروح من قضايا ومواقف.
- انتفعوا بالصدى الخارجي المكتسب من خلال تحركهم في محافل خارج الحدود، لتحقيق الاستقطاب الجماهيري في الداخل، وكوسيلة ضغط معنوية أمام الإدارة. وبذلك تدربوا على أن يخدم الخارج الداخل وبالعكس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.