عندما كان الحديث الثقافي في مدينة القصر الكبير يتجه صوب الشعر، كانت صورة الشاعرة وفاء العمراني، أول ما يتبادر إلى الأذهان. كان الوعي الشعري للجيل الذي أنتمي إليه في مدينة القصر الكبير، يحيل على الشاعر محمد الخمار الكنوني، باعتباره أحد المبشرين بالقصيدة المغربية الحديثة، والشاهدين على مخاض ولادتها، ولكن النزعة الشعرية السائدة كانت تحيل على الشاعرة وفاء العمراني، فلم يكن يتردد لصوت شعري صدا غير صداها. إلتقيت بالشاعرة وفاء العمراني لأول مرة، عندما تشرفت بتأطير لقاء شعري نظمته جمعية الامتداد الأدبية بالقصر الكبير في شهر أبريل سنة 1995، قبلت فيه الشاعرة ( وفاء العمراني ) الحضور كضيفة هاى جمعية الامتداد، في مدينتها، بعد رفض وتردد داما طويلا. قبلت الشاعرةالوقوف لأول مرة أمام أهاليها في مدينة القصر الكبير لتلقي عليهم تعاويذ قصائدها، بعدما تحصلت على المناعة الإبداعية وتولدت لديها المجازفة الشعرية لمواجهة جمهور قصري مختلف في كل شيء. كانت حكاية الإتقان الكبير للإلقاء الشعري الذي تتميز به الشاعرة تسبقها، ويعرفها العادي والبادي في المجال الشعري في مدينة القصر الكبير، وفِي المغرب الشعري كله، لذلك كانت قاعة النادي المغربي، إحدى المآثر الثقافية في مدينة القصر الكبير، مملوءة عن آخرها بالمحبين للشعر وللشاعرة، والمستطلعين والمستكشفين، وكذلك ببعض المتلصصين من القصريين الذين اعتبروا النجاح الباهر الذي عرفه اللقاء ميوعة أدبية وخروجا عن التقاليد والأعراف الأدبية في مدينة محافظة بامتياز. وقفت الشاعرة أمام جمهورها، ضمّته وأعلنت حبها عليه، عانقت طهر القصريين في جمعية الامتداد الأدبية، وأصبح ترددها على الوقوف الشعري في القصر الكبير لازمة سنوية جميلة استمرت طويلا. مرّ الزمن، وانقطعتُ عن الشعر وأهله، وانقطعت عني أخبار الشاعرة وفاء العمراني سنينا، إلى أن التقيت بها في مدينة طنجة بمناسبة لقاء شعري نظمه اتحاد كتاب المغرب على هامش اللقاء الدوري لاتحاد الكتاب العرب سنة 2015. وقفت الشاعرة لتلقي قصائدها… وكأن الزمن توقف عن الجريان بين سنتي 1995 و 2015. بين التاريخين، جرت مياه شعرية كثيرة في نهر قصيدة الشاعرة وفاء العمراني. وبين التاريخين، مرّ الزمن ومرت الشاعرة بمحطات عمرية وشعرية شتى، وظل التوهج كما هو، لم ينقص ولو ومضة واحدة، بل زاده الزمن عمقا وتوهجا وإنضاجا. ثم التقيتها بعد الحفل الافتتاحي لبيت الشعر بالمغرب الذي نظم في الرباط في أكتوبر 2018. مرّ الزمن كذلك، ولازالت الشاعرة وفاء العمراني تحرك داخلك كل الهواجس الشعرية الممكنة… كما لازالت تطربك وتدخلك، بإلقائها المتفرد، في دوامة نشوة لا تستطيع الخروج منها إلا بجهد جهيد. كان (الأنخاب)، سنة 1992، مولود الشاعرة البكر، ثم سرعان ما آخته بمولود آخر اختارت له من الأسماء (أنين الأعالي)، 1992، ثم توالى غيثها الشعري بمسميات لا تخرج عن الوحي الشعري الذي علمها الأسماء كلها، فكانت (فتنة الأقاصي)، 1996، و(هيأت لك)، 2002، و(حين لا بيت)، 2007، و(تمطر غيابا)، 2011، في انتظار ميلاد (إبن البلد). فتح ( الأنخاب) أمام المتابعين للشعر المغربي وللشاعرة وفاء العمراني باب اللوعة وباب المجاهدة، مَجّد العري، وعرّى القابع والساكن والمتواري، سافر بين المابين وأحوال التيه… في (الأنخاب) مارست الشاعرة وفاء العمراني فعل الاحتراق الشعري، إلى درجة أن القارئ يستطيع استنشاق دخان تلاقي الحروف والكلمات واحتكاكها وملامساتها ومغازلاتها وشظاياها… كان لابد أن يكون للأنخاب ما بعدها، فكان الأنين والفتنة والنشوة والجسد والولع والقلق، وكانت الروح والأعماق والجمال والشطح والكشف والحلم والحيرة والله… كل هذه التعبيرات، وغيرها كثير، يمكن اعتبارها دالة على أعالي الروح وجمالها، على بياض السريرة وأناقتها، على شبق الأنثى ورغبتها وغربتها، على الشاعرة وشعرها الذي يتلاقى فيه الذاتي بالموضوعي بالكوني بالمطلق. يدخلك صوت وفاء العمراني بلا استئذان، يغمرك، يحرك شهوة الشرود فيك، يحيي صورة الإنسان الذي أنته أو كنته، يعيدك إلى أحلامك الأولى وإلى حدائقك الخلفية الأولى، وإلى غواياتك الأولى، وفِي آخر المطاف يجعلك تكتشف أنك، بكل بساطة، تعشق الشعر. صوت وفاء العمراني يحمل هوية القصيدة، بصيغ متعددة، صيغة الجمال وصيغة الحكمة صيغة الحرية صيغة اللذة… ما يكشفه صوت وفاء العمراني هو هذا الزخم الهائل من سلطة الشعر. الشاعرة وفاء العمراني ترسم في شعرها خارطة أخرى للعالم، كل الأماكن فيها والأشياء والأسماء قابلة لكي تتبدى إما ارتعاشة حزن أو إشراقة طيف أو صبوة وجد أو صحوة ضمير. وفاء العمراني شاعرة وجدانية رومانسية بدرجة حساسية عالية جدا، هي تستطيع ترجمة رؤاها وإشراقاتها بدفق وجداني فاقع، وتستمد منه هواجسها الإبداعية الرامية للتخطي والمواجهة والحرية، هي تتنفس الحرية على جميع الواجهات والمستويات، هي تعارض ذهنية الثبات وترسخ دينامية الحركة والصيرورة… وهي بهذا تحمل مشروعها الحداثي على كتفيها، باقتناع وانتباه، لذلك، لا عجب إذا قرأنا شعرها ونحن متأبطين القاموس الشعري الحداثي، نبحث، بين عواصفه الفكرية والإبداعية، عن شعار أو نغمة أو فكرة. أحد النقاد قال عن الشاعرة، ( إنها تحمل في عمقها هوية وملامح دالة على الفاعلية ومتعطشة للانخراط في معركة التطور الشعري والبحث عن الممكن الإبداعي). وأحد آخر قال، ( إنها شاعرة رائية، لأنها خالقة أشكال وخالقة رؤى وخالقة أنماط من التفكير، وأنها بتعبيرها الجمالي المدهش إنما ترصد حقيقة الحياة ). والشاعرة قالت، ( لعنتي الأنوثة والكتابة مجدي ). ثم قالت، ذات قصيدة: علي ثانية أن أصعد هاويتي شمس أخرى جديدة هي الشمس الأرض هي الأرض الماء الهواء الزرع هو الزرع والناس غير الناس.