منذ ظهور أولى الأفكار التنويرية (التغريبية) ذات النكهة الإسلامية لم يوجد بينها جامع من حيث الأصول التي تقوم عليها ولا من حيث النتائج التي تقدمها للجمهور… بل كل ما يجمعها هو الإجماع على ضرورة نقد المنظومة الإسلامية شريعة وعقيدة… هذه الميوعة في الأصول والتوجهات تجد مستندا فلسفيا في تأكيد نسبية الحقيقة وانتفاء الحقائق المطلقة، وفتح الباب أمام سوفسطائية جديدة باسم التغريب… وهكذا تجد نفسك أمام تيار زئبقي من أحفاد "بروتاغوراس" لا يقدم أفكار للمناقشة بل قصارى ما يفعله هو التشكيك ثم التشكيك: يجب إعادة النظر في الأحاديث النبوية المنقولة إلينا! طيب ماذا سنفعل بالضبط؟ لا شيء المهم أن نعيد فيها النظر… التراث الفقهي لا زال في حاجة الى تنقيح؟ طيب، كيف؟ لا يهم، المهم فتح نقاش في الموضوع! علاقة الدين بالمجتمع تحتاج الى نظرة جديدة! كيف؟ الأمر يحتاج إلى تحقيق وتحرير… وهكذا يتركون الاجابات مفتوحة فضفاضة تتيح لهم مجالا من المناورة كل مرة، بل إن تركها هكذا يجعل الأجوبة تمتد حسب مخيلة المتلقي بل قد تتجاوز ما خطط له هؤلاء أصلا… ومع هذا فكل الاجوبة صحيحة مقبولة، إلا أن توافق الشريعة فتوصف بالجمود والتخلف… ثم تتناسل هذه الافكار وتتكاثر… وهدفها الوحيد تشكيك الشباب في ثوابت الأمة وإخراج جيل من المتشردين فكريا بدون مراجع يأوون إليها، ولا منطلقات يحتكمون اليها، وبعدها لا يضرهم في أي واد من أودية الضلال سقطوا… فإسقاط اليقين من قلب المسلم يجعله قابلا لتشرب أي فكر آخر… وهذا هو الهدف الاساس. هذا النوع من التفكير يجعل صاحبه قادرا على استثمار كَسَلِه المعرفي ليتحرر من كل قواعد التفكير والمنطق… فيكفيه أن يطالع مجموعة قصصة روسية ليصبح قادرا محاكمة أحاديث الصحيحين، بل تكفيه قراءة بعض خواطر جلال الدين الرومي لينصب نفسه حاكما على عقائد المسلمين! ثم بعد كل هذا يقدم هؤلاء أنفسهم أوصياء على الفهم الصحيح للإسلام… ودعاة تحريره من قبضة الفقهاء الجامدين… ولكن! هل وجدت يوما أحدا من هؤلاء يدعوا غيره للاسلام ؟ الحقيقة ان الامر يصعب تصوره فكيف تدعو غيرك إلى شيء ليس لك عنه تصور معروف أصلا؟ أم أنك ستدعوه للانضمام الى جوقة نقاد التراث وهدم الدين… تتعبدون الله بأسقاط هذه الشعيرة وتبرير تلك تفاديا للحرج أما المذاهب الفكرية الأخرى… ثم هل وجدت بعد كل هذه السنوات الطوال من التغريب ومحاولة إعادة قراءة الاسلام تصورا كاملا يمكنك اعتماده فقها وعقيدة… بل كل هؤلاء لا زالوا عالة على المنظومة الفقهية التي ينتقدونها بدءا من الصلوات الخمس إلى كل الفروع الفقهية المختلفة… هذا طبعا للذين لا زالوا يحافظون على شعرة معاوية بينهم وبين الاسلام أما من انسلخ من دينه فقد تخفف من التكليف وبلغ غاية التنوير ومنتهاه وحرر نفسه من "سلطة السماء" لتعود السيادة على الارض "للإنسان الإله". ملحوظة: مصطلح التشرد ليس لفظا قدحيا… بل هو المصطلح الذي استعمله بعضهم للدلالة على التحرر المطلق من سلطة الدين… كما أشار إلى ذلك رأسهم محمد أركون حين قال عن طريقة فهمه للنصوص الشرعية: (إن القراءة التي أحلم بها هي قراءة حرة إلى درجة التشرد والتسكع في كل الاتجاهات).