بعد طول انتظار وإتساع رقعة خيبة أمل المغاربة، أعلن بنكيران أخيرا عن حكومته المنقحة، و تتكون هذه الحكومة (الى جانب التقنوقراط) من الأحزاب التي و ضعت ثقتها من جديد في السيد بنكيران و حزبه، و الذي خول لنفسه الدفاع عنها في التلفزيون، و هي الحركة الشعبية، التقدم و الإشتراكية و حزب الأحرار. لكن السؤال المطروح من طرف الملاحظين و الرأي العام الوطني في الداخل و الخارج، هو لماذا هاته الحكومة في شكلها الحالي؟ نعم، بعد الهزيمة الأولى، سيقول لنا بنكيران "المغرب يمر من ظروف دقيقة يصعب فيها تجاهل المصلحة العليا للوطن" و "المغرب يواجه أشد الصعوبات و مخاطر داخلية و خارجية".. و غير ذلك من المسكنات و المهدئات التي يوزعها على المواطنين من دون تشخيص و لا تشريح، في إنتظار أن يجدد شعاراته الوهمية التي باعها للمغاربة الضعفاء، المغلوبين على أمرهم. أما الحقيقة التي لا غبار عليها، هي أن المغرب تهيمن عليه أزمة إقتصادية و مالية و إجتماعية خقيقية، لا حل لها في الإختيارات الراهنة و لا مخرج منها إلا في تغيير جذري للهياكل الإقتصادية المتواجدة. هذه هي الحقيقة التي لا يريد أن يسمعها بنكيران و من "يحزمه و يرزمه" لكي لا نعول عليه. و الحل يكمن في إبعاد كل القوى السياسية التي ساهمت في تفقير الجماهير و في تعميق الأزمة الخانقة التي يعيشها الشعب المغربي الذي ضحى بالغالي و النفيس من أجل حياة عادلة و مستقبل يسوده السلم الإجتماعي الحقيقي و العدالة الإجتماعية و الطمأنينة. لقد قبل بنكيران قيادة حكومة منقحة لكي لا يخسر ما تبقى له من رصيد و تعبئة، وهو بذلك يكون منفذا لجريمة سياسية جديدة ما دام لم يحدد ملامح حل الأزمة السياسية التي خلقها ليحاسب عليها. قال السيد رئيس الحكومة على مرآى و مسمع المغاربة في اللقاء الصحفي الأخير: "الحكومة لم تفشل"! غريب أمر هذا الرجل الذي بدلا من أن يقدم للشعب برنامج عمل واضح المحاور و كفيل بتجاوز الأزمة التي قادت بلادنا الى حافة الإنهيار و التفكك و التمزق، يقدم لنا دروسا في العنترية و العشوائية و الخذلان. إن الشعب المغربي ضاق ذرعا من الوضع الإقتصادي و الإجتماعي الحالي، و الفقراء لا يحتاجون اليوم لمن يعطف عليهم، بل يريدون من يتضامن معهم في التحرر و الإنعتاق. و ما خطط له بنكيران، ليس الخروج من الأزمة، بل هو تسريح مطلق للطاقات الشعبية على المستوى السياسي و الإقتصادي، و وقف كل الدابير التنموية الكفيلة بتحسيس الجماهير الشعبية المتضررة و تعبئتها ضد الإحتكارات و الفساد. أليس بنكيران هو من أفزع الجميع بخطابه الشعبوي و بشعاراته الفانتازية حول الفساد و المفسدين؟ أليس بنكيران هو من إستبلد المغاربة و كذب عليهم؟ أليس بنكيران هو الذي إحتقر المغاربة و قام بتهديدهم بالنزول إلى الشارع و المس بأمن البلاد؟ أليس بنكيران هو من إستهزأ من الأحزاب السياسية التي يتحالف معها اليوم؟ نعم كان ذلك يوم كان يعتقد - كما تقول العامة المغربية - أنه " قطع الواد و نشفو رجليه". و اليوم بعد أن ذاق حلاوة السلطة، عليه أن يعلم أن الظرفية الحالية تستوجب التعبئة الشاملة لصد التقهقر اّلإقتصادي و الإجتماعي، و ليس الإرتجالية السياسية والإقتصادية. إن فشله في إخراج البلد من المأزق السياسي الذي خطط له يوم كان طائرا في الهواء، ينظر "للربيع العربي" من فوق، غير مباليا بالحفر التي كان يحفرها أينما حل و إرتحل، يدعونا اليوم للتفكير في تصور نظري و عملي على المدى القصير. فهل بلادنا تستوعب اليوم، على ضوء ما حدث في العالم العربي، معنى الوعي السياسي عند فئات المجتمع، و الذي يجب أن يترجم الى تصورات ايديولوجية، و الى أفكار و برامج، إزاء الوطن و مؤسساته؟ إن الوعي بأي إستحقاق يجب أن يترجم الى إختيار صادق و نزيه و الى إحترام الرأي الحر، و ليس مجرد عملية لجس النبض و مناسبة ل"تبييض" المناخ السياسي السائد في المجتمع. إن العنوان العريض الذي يتداوله المختصون في الشؤون السياسية و الإجتماعية في بلادنا، هو اللامبالاة بجميع أنواعها و في كل الميادين. اليوم، بلادنا في حاجة إلى حوار مجتمعي بين الحاكم و المحكوم، بين الأحزاب السياسية و قواعدها، بين النواب و المستشارين البرلمانيين و الجماعيين و من إنتخبهم، و بين أرباب العمل و النقابات، و بين رؤساء المصالح و أطرهم و موظفيهم، و بين شركات النشر و دورها دور و قرائها، ... فالكل متهم و الكل برئي إلى أن تثبت إدانته، و من لا يقبل أن يكون في قفص الإتهام ليحاسب و يراقب أو يكرم و ينصف، لا يمكن أن يمارس السياسة. إن السؤال الذي يطرحه المغاربة على بنكيران، هو: لماذا لم ينفذ ما باعه من وهم للمغاربة أثناء دعايته الإنتخابية؟ أليس هذا جريمة سياسية يجب أن يعاقب عليها القانون؟ نعم، لقد إختار المغرب الطريق اللبرالي كمنهج و سلوك، و هو ما يجعل من الإنتحابات أساس مبدئي و إلتزام أخلاقي للتشاور بين الناخب و المنتخب من جهة، و بين السلطة و المواطنين من جهة أخرى. و تعتبر الأحزاب السياسية المحرك الأساسي للدينامية الإنتخابية و الرافد المركزي في تحريك العلاقة بين السلطة كموقع و الإنتخابات كإطار يوصل الى الموقع. فكفانا عبثا، "إن الحزب السياسي، طبقا لأحكام الفصل السابع من الدستور، يعمل على تأطير المواطنات و المواطنين و تكوينهم السياسي و تعزيز إنخراطهم في الحياة الوطنية و في تدبير الشأن العام". لذا، فالإنتخابات يجب أن تكون فرصة للمواطن أن يسمع صوته و يتبنى إختياراته المحلية و الوطنية بكل حرية و نضج، و ليس فرصة للسب و القذف و ممارسة العنف الرمزي و المعنوي و إستغلال الدين و أماكن العبادة، و إستمالة الفقراء و الضعفاء و المسنين و العجزة و الأرامل و ذوي الإحتياجات الخاصة، و تحويل مؤسسات عمومية إلى عيادات خاصة لتلقي العلاج، و إبتزاز العاطلين عن العمل، و رهن شيكات و ممتلكات الجاهلين و القاصرين سياسيا، و توزيع المال و إستغلال النفوذ...ألخ. إن الواقع الحالي يدعو الى القلق، و يفرض على البلاد تطبيق سياسة الرشد و النضج و ليس إرضاء الخواطر و تكريس المحسوبية و الزبونية في تسيير الشأن العام. عيب أن نسمع أن الوزير الفلاني توسط له فلان، و عيب أن نسمع أن المسؤول الفلاني إبن فلان، أو صديق أو مقرب من فلان. كنا نعتقد أن العهد الجديد قد فتح فعلا الأبواب للكفاءات في تخصصاتها في وجه كل أبناء الشعب من دون حيف أو زبونية أو تمييز، لكن على ما يبدو حرف النكوصيون هذا الإختيار وصاروا يعيدون إنتاج ما في ذمة التاريخ من صفحات سوداء... إن الجرائم السياسية في حق المغاربة، لم يعد لها مكان في عهد الإنفتاح الجديد، رغم طبول الدعاية النكوصية. لقد لاحظ المغاربة، أمام قلة الموارد، الرجوع إلى قبول و صاية المؤسسات المالية الأجنبية و إلى رهن مستقبل البلاد الاقتصادي و الاجتماعي بسموم القروض الأجنبية التي ستؤدي الى إحكام السيطرة على المغاربة، و هذه جريمة سياسية في حق الوطن. إن النتائج الهزيلة التي حصل عليها بنكيران ليست كافية للحد من الكساد الإقتصادي و التدهور السوسيو- إقتصادي، و نظرا كذلك لعدم و جود ضمانات كافية، فالمغرب سيكون عاجزا و لن يستطيع تأدية ديونه في وقتها، و هذه جريمة سياسية أخرى! كما أن النهج الذي بات يروج له السيد رئيس الحكومة، يؤسس لجرم سياسي جديد، يكبل قوى المغاربة و حيويتهم الإبداعية، و يقف ضد تنفيذ تحولات واسعة لصالح أغلبية الجماهير الكادحة بمشاركتها الواسعة. وفي النهاية، للخروج من الأزمة على المدى القصير، هناك تحديات ثلاثة: التحدي الأول، هو الإعلان عن إنتخابات (محلية و جهوية) سابقة لأوانها، و التهيئ لها بضمان مشاركة سياسية واسعة و حقيقية، و ذلك من خلال مسطرة صارمة و شفافة و موضوعية في تحديد القوائم الإنتخابية، و تقطيع الدوائر، و تمثيلية سياسية مستحقة. التحدي الثاني، هو التشجيع على الكفاءة و المصداقية و النزاهة و قطع الطريق على أصحاب الريع السياسي بكل أشكاله، و محاسبة كل المسؤولين عن تسيير الشأن العام الذين لم يقوموا بواجبهم على أحسن ما يرام، و ربط المسؤولية بالمحاسبة، أما التحدي الثالث، هو الإلتزام بالاختيارات السياسية الكبرى التي تخلق اليقظة لدى المواطن و تقف سدا منيعا أمام تمييع الإنتماء السياسي و الحزبي، و تخلق آليات حمائية جديدة ضد الفانتازيا الدينية و الفحولة القبلية و الكريزما العشائرية، و تناهض السماسرة و الشناقة و القوادة، و تعاقب و تردع كل المتلاعبين بمستقبل الوطن و أبنائه. أما على المدى المتوسط و البعيد فهي قصة أخر...