لقد كان من المنتظر أن تشكل الانتخابات الجزئية الأخيرة (2 أكتوبر 2013) محطة سياسية مفصلية ومؤشرا انتخابيا هاما غير منعزل عن الظروف والسياقات التي يعرفها الواقع المغربي، خاصة وأنها تأتي في ظل تقلبات حزبية وسياسية لم تُحسم فيها بعدُ مجموعة من الخيارات لدى الفاعلين السياسيين، ولم يستقر فيها الوضع "الاستثنائي" للمغرب كدولة أسست للتغيير بطريقتها الخاصة، وهي تؤسس اليوم ل"التغيير الآخر" بنفس الخصوصية كما يعتقد غير قليل من المتتبعين. في فهم السياق واستيعاب الخلفيات: لم تكتف الانتخابات الجزئية في دائرة "مولاي يعقوب" بخطف الأضواء عن دائرة "سطات" فقط، بل أخذت هالة متضخمة، وبشكل مقصود، لتحقق هدفا فريدا يدخل ضمن غاية معروفة، وهي معلنة بشكل صريح، على الأقل من طرف بعض خصوم "العدالة والتنمية"، خاصة وأن هذا الأخير لم يقدم مرشحا بدائرة "سطات" (على عكس ما ذهبت إليه بعض الجرائد المغرضة[0])، ما جعل المتابعة الحثيثة للإعادة الثالثة في "مولاي يعقوب" موجهة بالخصوص لجس نبض الأداء الانتخابي والسياسي لحزب المصباح، ولأحد آليات المواجهة السياسية الميدانية لهذا الحزب متمثلة في "تيار شباط" المترئس لحزب الاستقلال، وهو التيار الذي لم يكن له خيار غير الفوز (ولا شيء سوى الفوز) ليثبت حضوره الحزبي بعد قرار المحكمة الإدارية فتح ملف انتخاب "الأمين العام" وتنامي معارضيه، لكن أيضا ليبرهن عن إمكانية صلاحيته في الساحة السياسية بعد المهازل العديدة التي أحرجت داعميه، والتي كان آخرها مظاهرة الحمير العبقرية! فكانت محطة "مولاي يعقوب" ربما الفرصة الأخيرة، أو هكذا قرئت، ليحقق هذا التيار الأجندة المطلوبة منه أو يلاقي مصيره، وهو ما يفسر جزئيا "القتالية" التي عرفها التنافس الانتخابي في هذه الدائرة. لقد أخفت إذن "جولة مولاي يعقوب" معركة أكبر تدور رحاها في الواقع المغربي ضمن جولات متعددة، لم تبدأ مع دستور 2011 وما لحقها من تطورات سياسية أكدت على انحسار النفَس الإيجابي الذي طبع "اللحظة الدستورية" وبشكل جعل "المبادرة" الدستورية مجرد "مناورة" لامتصاص الصدمة[1]، ولكنها ابتدأت منذ عرف الواقع السياسي المغربي ظاهرة "الاسترزاق السياسي"[2]؛ حيث توظف الأحزاب لتأثيث المشهد السياسي بعيدا عن أي مصداقية في التمثيل الشعبي أو فعالية في تأطير المواطنين، وحيث تجد الأحزاب الجادة والمسؤولة نفسها في مواجهة سياسات الاحتواء أو التركيع بآليات ووسائل مختلفة، ليس أقلها الإنهاك السياسي عبر أحزاب إدارية كانت تؤسس ب"العلالي"، قبل أن يفرض مناخ "الربيع" تعديل الخطط وتوفير البديل باختراق أحزاب وطنية يمكن لزعمائها أن يؤدوا نفس الوظائف المناطة بأحزاب "المخزن". ولعل "إلياس العماري" كان في لحظة صدق حين همس في أذن أحد مُجالسيه بأن «اللي صالحينْ فهاذ الوقت لقيادة الأحزاب ومواجهة الاكتساح ديالْ الإسلاميين هم: حميد شباط في حزب الاستقلال، وإدريس لشكر في الاتحاد الاشتراكي، وحكيم بنشماس في الأصالة والمعاصرة"[3]. إن الاكتساح الذي حققه ال"بي جي دي" في انتخابات 25 نونبر 2011 فسّره بعض المتهافتين على أنه امتداد لوصول الإسلاميين إلى السلطة في دول الربيع الديموقراطي ولا يعبر بالضرورة عن شعبية الحزب، على اعتبار أن التصويت كان عاطفيا أكثر منه موضوعيا؛ إلا أن انتخابات الإعادة في 4 أكتوبر 2012 (السنة الماضية)، كذّبت هذا التحليل وأثبتت رسوخ شعبية "العدالة والتنمية"، بل تجذرها حدّ ممارسة "الشفاعة السياسية" لحزب في الأغلبية؛ الشيء الذي جعل من حزب المصباح ظاهرة سياسية فريدة في بيئتها المغربية (وحتى العربية)، استعصت على الفهم لدى العقليات المتقادمة كما استعصت على الهضم! وخيبت ظن مناوئي الحزب -من مختلف مواقعهم- في تراجع شعبيته بعد دخوله غمار التدبير الحكومي، وهو ما استلزم إبداع آليات مواجهة جديدة، ساهمت أعطاب الربيع الديموقراطي في تسريع وتيرة إخراجها، وطفت للسطح أكثر مع وصول مسؤوليَن حزبيَين أواخر دجنبر 2012 على رأس "الوردة" و"الميزان" بقدرة قادر! كان من أولى نتائج هذا التزعم الحزبي المشكوك فيه محاولة التأثير السلبي في فعالية التدبير الحكومي وتحجيم وتيرة الإصلاح في مجموعة من القطاعات الحيوية لمستقبل البلاد، في أفق حصر الإسلاميين ضمن معادلة "الإصلاح بالقدر الذي يحقق الاستقرار" ومن دون عائد إيجابي على حزب رئيس الحكومة؛ والأكيد أنها لن تنته مع تصاعد خطاب التخوين والتصنيف الذي ما فتئ يتعالى كإيقاع سمفونية مشروخة ضمن أوركسترا المعارضة، تعزف تارة على نوتة الأصولية والوهابية، وتارة أخرى على لحن "التنظيم العالمي للإخوان المسلمين"، والجديد ضمن هذا التوزيع المحكم أن يعزف البعض على أوتار خارج الإيقاع (كالعادة) بوضع إسلام رئيس الحكومة عينه موضع مساءلة ! وفي ظل هذه الأجواء من الاتهامات بالولاء والتخابر مع الخارج أو التصنيف ضمن الخوارج (في سياق مصرنة المغرب)، لا يتورع بعض المخططين والمنفذين عن القيام بجولات لتأسيس جبهة حداثية أو استقدام قيادات انقلابية (بمارديهم ومتمرديهم)، أو حتى الجلوس مع الصهاينة أنفسهم على نفس الطاولة بله جبهة انفصالية تهدد وحدة البلاد، في تأسيس متجدد للاستبداد بقوالب متناقضة، قاسمها المشترك مواجهة ما يسمى "المد الإسلامي" في ظل "جزر علماني" وانحسار مؤقت لشواطئ الاستبداد التي شكلت مرتعا لقوى الفساد[4]. إن هذا العبث السياسي، ومثله من الاختلالات الحزبية والسياسية التي يسجلها الناس والتاريخ للواقع المغربي في اللحظة الراهنة، يشكل أحد النواتج التي أفرزها تنامي إرادة الهيمنة على الحقل السياسي؛ وفي الوقت عينه، تعتبر أحد مداخل التحكم المتجددة، وبنفس الأساليب القديمة التي أطلت برأسها من جديد مع "موقعة مولاي يعقوب"، ما يجعل الاستثناء المغربي في مهب ريح عاصفة، لا تهدد الحياة السياسية فقط، ولكنها تضرب هيبة الدولة في الصميم، وتجعل مصداقية المؤسسات موضع تشكيك ! إن تبخيس سلطان الدولة ومنازعتها السيادة بكل تمظهراتها وتمثلاتها القانونية ليس وليد اللحظة؛ وإنما هو عودة لواقع قديم-معاصر، كاد أن يوضع فيه المغرب على سكة تونس-بنعلي لولا ألطاف الله وحركة الشارع التي أطلق شرارتها شباب 20 فبراير. ويتذكر التاريخ السياسي كيف تمت قرصنة إرادة المواطنين من طرف "الوافد الجديد" من خلال ادعاء تمثيلية شعبية وامتداد عضوي لا وجود له في الواقع، ثم تعويضه بمحاولات احتلال المشهد السياسي في أفق الاستئثار بتدبيره الأحادي، والاستفراد بالفاعلين السياسيين وإضعاف وجودهم الحيوي وتشويه سمعتهم لدى الرأي العام، وهو ما دفع مهندسي "الارتزاق السياسي" -حينها- إلى نهج سياسة التضييق والإقصاء والاستئصال بكافة الوسائل، فكانت البداية مع احتكار "الديموقراطية" وجعلها ماركة مسجلة لجبهة بعينها ! ومرت بابتزاز من تملك الدوائر المعلومة ملفاتهم العجيبة لتحتجز ولاءهم قسرا وأصواتهم عنوة لصالحها في قبتي البرلمان (ومازالت رئاسة "بيد الله" لمجلس المستشارين شاخصة للعيان)، ولم تكتف باعتقال قياديين إسلاميين من بينهم مسؤولين في "العدالة والتنمية"، بل سارت نحو الإجهاز النهائي على ضحاياها الماديين والمعنويين من خلال مصادرة الحريات الفردية والجماعية، وتقويض المكتسبات الهشة للدولة، حتى كادت تصاغ نظريات جديدة في علم السياسة تنضاف لقائمة النماذج التاريخية المعروفة في الاستبداد والطغيان والفجور السياسي [2] ! إن ما نشهده اليوم، هو مجرد تأقلم وتكيف مع مظاهر "الربيع" التي تختزن بين نُضرتها وتنوعها الكثير من الأشواك والكائنات "الضارة"؛ إذ تستدعي مرحلة الانتقال السلس نحو "الخريف" (بكل تساقطاته الطبيعية) تقليب عملة التحكم على وجهها الآخر، وتقديمها في قوالب جديدة بنفس المحددات والآليات التي طبعت الأداء السياسي والحزبي لمغرب ما قبل 20 فبراير (2011)، ما يعني أننا أمام حالة من الاستنساخ السياسي لواقع التحكم الذي عجز عن تنفيذه "حزب الدولة"، وها هو يفوت بمزاد علني لمرتزقة سياسيين بالوكالة، يتصدر فيه بعض الهواة المشهد في تقاطع مع مصالح مؤسسي الظاهرة الذين تواروا للخلف مؤقتا، على أمل أن لا تكون الكواليس مذبحا لمن يخطفون أضواء المسرح السياسي حين تحين ساعة الفداء وتكثر الأكباش ! علما أن مجموعة من السكاكين أصبحت حادة كفاية لمباشرة تقديم القرابين، تكفيرا عن أي خطأ سياسي فادح ! البلطجة والمال والنفوذ: الثالوث الملموس للعبث الحزبي-السياسي: في هذا السياق المتسم ب"الانقلاب الفضوح" على الديموقراطية المغربية، تضّح مجموعة من المعالم التي تؤسس للتحكم عبر بوابة العبث السياسي، وهو الأمر الذي ما فتئت وتيرته تتصاعد شيئا فشيئا، وبجرعات تمهد لواقع قد لا يختلف كثيرا عن تونس أو ليبيا أو مصر، فحتى التهديد بالاعتداء الجسدي أصبح يجد له منطقا داخل الممارسة السياسية المغربية، وما التهديدات التي طالت وزير الصحة (د. لحسن الوردي) إلا جزء يسير مما طفى من جبل الجليد الذي تناهى علمه للعامة، والذي ما فتئ رئيس الحكومة يتحداه جهارا من خلال تلميحات متكررة يعبر فيها عن استعداده للتضحية إذا كانت في سبيل الوطن. إن الاستعانة بالبلطجة (أو التشبيح أو حتى التشبيط كما يحلو للبعض) وتوظيفها في الممارسة السياسية، تشكل إشارة قوية لعودة التحكم، على اعتبار أن تشتيت الانتباه بالفوضى وتوطيد عنصر الغلبة بالقوة في الاختلاف السياسي كان دائما وسيلةً لتطويع الواقع والتحكم في النتائج الانتخابية على وجه الخصوص، وما جرى في "مولاي يعقوب" من اعتداء بالسيوف والهراوات في حق مراقبي صناديق، وفرض الأمر الواقع على ساكنة مجموعة من الأحياء بعدم المشاركة الانتخابية، ومنع آخرين من ولوج مكاتب التصويت، يشكل صورة مغربية مصغرة لما يتكرر في مشاهد الانقلاب المصري التي ترجع بالذاكرة لأيام مبارك. لكن الأخطر، أن تصبح هذه الممارسات الماسة بالسلامة الجسدية جزءا أصيلا من الواقع الحزبي والسياسي؛ حيث لا تصيب ناره الخصوم السياسيين (أو الإيديولوجيين) فقط، وإنما يتناثر لهيبها لِيَلتَهم "أهل الدار" أولا، ومشاهد التراشق بالكراسي في اللقاءات التواصلية والمؤتمرات لم تمض عليها أيام، كما أن التعنيف الذي لحق "سعيد اشباعتو" عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي من طرف زميله في الحزب عن دائرة "صفرو" خلال مناقشة قانون داخل لجنة برلمانية ما يزال عالقا بالأذهان ! استعمال المال واستغلال النفوذ، من جهته، يشكل أحد أوجه التحكم التي يؤسس لها العبث السياسي؛ وإذا كان رصيد بعض الأحزاب من استقدام "الرحّالة" أو/و أصحاب "الشكارة" والزج بهم في أتون الحملات الانتخابية معروفا، وإذا كانت الممارسة قد فضحت منطق تقاسم "الموارد المشبوهة" داخل بعض الأحزاب تحت طائلة التشهير المتبادل والاعتصام بالمقرات للحصول على النصيب من الكعكة التي تجاوزت أحيانا مئات الملايين؛ فإن آخر موضة كشفت عنها الممارسة الحزبية هي وجود سوق "الحشد بالجملة"؛ حيث ثمن الرأس لا يقل عن 50 ولا يتجاوز 200 درهم مع توفير النقل! ويبدو أن "لشكر" استفاد من فضيحة "شباط" في آخر خروج لهما ضد الحكومة؛ إذ فضّل الأول حبس بعض الناس داخل قاعة مغطاة مقابل 100 درهم لسويعات، بدل استقدامهم للسياحة في الرباط وإفشال مظاهرة لم يتمخض فيها جمل ولم يولد فيها فأر، ولم تحضرها إلا "القيادات" التي ارتضت أن تسير جنبا إلى جنب مع أمّة من خلق الله ! المكسب النقدي، في هذه الحالة، ليس أكثر قيمة من الماء الشروب أو الكهربة أو تعبيد الطرق أو توفير وسائل النقل، خاصة في المجال القروي؛ حيث يصبح الموقف السياسي مكلفا جدا؛ وبالارتباط مع حوادث "مولاي يعقوب"، تكفي الإشارة إلى أن أحد الدواوير ب"عين الشقف" أدى ثمن تبويئه مرشح المصباح المرتبة الأولى بالدوار في الانتخابات الجزئية الماضية (2012) بأن حرم الماء الذي كان يتزود به من ضيعة مستشار برلماني ينتمي لحزب معارض، وقِسْ على ذلك سلطة النفوذ التي يمارسها بعض رؤساء الجماعات أو المستشارين الجماعيين، وأحيانا بتواطؤ مع بعض رجال السلطة. وقد عشت تجربة خاصة مع إحدى الجماعات القروية التي اشترط فيها رئيس الجماعة على السكان التصويت لصالحه في الانتخابات البرلمانية مقابل إطلاق الكهرباء للبيوت والإنارة العمومية، رغم أن كل شيء كان جاهزا لتدشين الورش الذي يدخل ضمن كهربة العالم القروي، في استغلال واضح لأمية الناس وعوزهم. ويجب -هاهنا- أن نضع في خلفية الصورة أن سلطة المال والنفوذ لا تكون فعالة في بيئة تشهد الاكتفاء الذاتي على المستوى الفردي والأسري، وهو ما يفسر تحجيم مجموعة من المبادرات الحكومية الهادفة إلى إيصال الدعم للفئات الهشة والفقيرة، باعتبارها طبقة حيوية في رسم الخرائط الانتخابية والتحكم بها[5]. واتهام "العدالة والتنمية" بالاستغلال الانتخابي لمجموعة من الأفكار التنموية حتى قبل تنزيلها، يكشف العقلية الانتخابوية الضيقة التي تتعاطى بها مجموعة من الكائنات السياسية مع موضوع التنمية والإصلاح العميق الذي يباشره الائتلاف المساهم في الحكم. مآلات الممارسة السياسية: لمسة على نعومة التحكم الخشن ! إن قتل السياسة ووأد قواعدها، وإفقادها بريقها وجاذبيتها لدى شرائح وفئات واسعة من الشعب المغربي، أضحى أمرا مقصودا لذاته كمدخل أساس لتحييد جزء كبير من تلك الفئات والشرائح المجتمعية، وتصنيفها ضمن خانة "الأغلبية الصامتة" التي تكون -غالبا- ذات أثر محدود أو منعدم في الحسابات الانتخابية خصوصا، والسياسية عموما، ومن ثَمّ يسهل التحكم في المشهد السياسي؛ إذ من يملك قوة المال والنفوذ أكثر، يكون قادرا على كسب عدد أكبر من المقاعد؛ والدستور سهل عملية رئاسة الحكومة على مستوى القمة، فقط احصل على ما يناسب على مستوى القاعدة! لكن هذه العملية بقدر ما تتطلب من جهد تنظيمي في التوسع الحزبي مجاليا وتأطير المواطنين، بقدر ما تتطلب الاستعداد لمنافسة مجموعة من الفاعلين الحقيقيين. لقد شكل التدخل في الشؤون الداخلية للأحزاب أحد مظاهر العبث السياسي التي تنضاف لمعالم التحكم، ولم يعد خافيا أن حزب "البام" على عهد مؤسسه ومبدعه "الأول" ابتلع فور ولادته خمسة أحزاب[6] في لقمة واحدة ! وكان يخطط للمزيد ضمن ما سمي حينها ب"عقلنة المشهد السياسي" ! كما جعل نصب عينيه إنهاك حزب "العدالة والتنمية" باعتباره قوة تنظيمية لا يستهان بها، ومحاصرته خارج أي تحالف مع باقي الأحزاب في أفق الاستفراد به والهيمنة على المشهد السياسي والحزبي[7] ضمن خطة بررها "حسن بنعدي" (رئيس المجلس الوطني السابق) بقوله: "حتى لا تسقط البلاد في يد فاعل حزبي واحد"، وهو الفاعل الحزبي الذي كان يرى فيه "البام" خطرا على البلاد لم تستطع الأحزاب التاريخية مواجهته بعدما وصلت لمرحلة الترهل والشيخوخة ! إن هذه الخطة مازالت سارية المفعول بالنظر لمعطيات الممارسة الواقعية، فبيئة التطاحن السياسي (حزبيا ومجتمعيا) أضعفت الكثير من المنافسين على نفس المستوى من إضعاف منسوب المتابعة السياسية لدى المواطن العادي الذي بدا متحمسا للتعامل مع فعل "ساس" من موقع "الفاعل" قبل أن يتميع الخطاب السياسي (بشكل مقصود) ويوضع مرة أخرى في موضع المفعول فيه أو لأجله ! ففي الوقت الذي ينشغل فيه قياديو "البام" بترميم الحزب داخليا ومباشرة تأسيس تنظيمات موازية (خصوصا الشباب والنساء) استعدادا للمرحلة المقبلة، ينتبه الواقع السياسي لوجود تيارات تشكك في نتائج زعماء أحزابها وتصرح بدعم خارجي للمسؤولين الحزبيين الجدد على حساب منافسيهم؛ فتيار "بلا هوادة" داخل حزب الميزان مازالت قضيته في المحكمة للإطاحة ب"شباط"، و"تيار الزايدي" أسس مؤخرا جبهة لمواجهة ذبول الوردة وهي في يد "لشكر"، وبدأنا نسمع عن تيار "صامدون" داخل نقابة الاتحاد المغربي للشغل... وهكذا ! وبالنظر للسوابق السياسية المسجلة في سياق تدجين وتركيع الأحزاب والتحكم بالمشهد السياسي، لا يمكن استبعاد تدخل مؤسس "البام" مجددا في فرض أجندات حزبية وسياسية من موقعه كمستشار ملكي هذه المرة، وبالتالي استكمال الدور الذي لعبه من موقعَيْه السابقين؛ خاصة بعد بروز تصريحات صحفية تفيد تدخل "عالي الهمة" لدى الأمين العام لحزب "الاستقلال" (عباس الفاسي) من خلال رسالة تحمل تلميحا بترشيح "كريم غلاب" أو "توفيق احجيرة" في المؤتمر الأخير للحزب، وهو ما لم يتم تكذيبه حسب "العلوي" (الجريدة ع 706)، زيادة على تصريح مهم جدا للكولونيل السابق عبد الله القادري؛ حيث صرح بأن "فؤاد عالي الهمة" قال له (وهو يمهد لجمع قطع الجرار): "قالك سيدنا خصنا نديرو حزب كبير" قبل أن يجد "الحزب الوطني الديمقراطي" نفسه داخل جيب "البام" (المساء: 3/9/2013)، ويجد "القادري" نفسه وحيدا حين أراد استعادة الحزب وفك الارتباط مع "الوافد الجديد". إن النتائج التي سعى لها منطق "التحكم" سابقا، تصاغ اليوم بمدخلات أخرى في أفق تحقيقها بشكل ناعم وتدريجي، وهو أمر جدير بالاستقصاء العلمي والبحث الأكاديمي لتمحيص الأفكار التي تُدَبَّر بها المرحلة، وتجاوز المعالجة السطحية للأحداث والأدوار التي يقوم بها الأشخاص؛ فتجميع الأحزاب الذي باشره "البام" سابقا باعتباره أحدث "حزب إداري"، يُنفّذ اليوم بسواعد "لشكر" داخل ما يسمى "العائلة الاشتراكية"[8]، وهي جبهة تكرر نفس الغاية المعبر عنها في مواجهة الإسلاميين؛ إذ صرح "عبدالكريم بنعتيق" (الحزب العمالي) فور توقيع قرار الاندماج أن "بناء مشروع حداثي قادر على مواجهة القوى المحافظة يتطلب تجميع اليسار" عازفا على نفس الوتر من ضرورة "ترشيد المشهد السياسي وعقلنته". وإذا ما علمنا أن "الوردة" قد وجدت نفسها منذ مدة خارج تربة "اليسار" وبعيدا عن مشتل "القوات الشعبية"، سنفهم جيدا الأدوار المرسومة للاتحاد الاشتراكي بقيادة "لشكر" في هذه المرحلة، وهو ما فتئ يعبر عنه بعض القياديين جهارا حين تحدثوا عن "اختراق" الحزب، وأن أي تحالف بين "المصباح" و"الوردة" سيناهضه اللاديموقراطيون كما صرح بذلك "عبد الصمد بلكبير" (مستشار عبدالرحمان اليوسفي سابقا)، والذي اعتبر في إحدى محاضراته أن وضعية الاتحاد الاشتراكي "مأسوف عليها"، و"غير منسجمة مع حاجة الوطن إليه"، ووصف في مقام آخر عدم مشاركة حزبه في الحكومة بأنه "غامض". وهي تلميحات تغني عن أي تعليقات إضافية ! إن مواجهة حزب "العدالة والتنمية" أصبح الخيط الناظم لكثير من الممارسات الحزبية والسياسية، خاصة وأنه استطاع تشتيت التكتلات السياسية الهجينة من قبيل "G8"، ناهيك عن "الكتلة" التي شكلت كيانا سياسيا متماسكا لسنوات، وذلك في أول تمرين ديموقراطي حقيقي عاشه المغرب منذ الاستقلال؛ وإذا ما أضفنا إلى نتائجه الانتخابية، القوة التنظيمية والديموقراطية الداخلية التي يتمتع بهما، فسيكون من سابع المستحيلات أن يجاريه أي حزب داخل الحقل السياسي المغربي بالنظر للأوضاع المترهلة (تنظيميا وتصوريا) التي يعرفها المشهد الحزبي، ما يعني أن أي استحقاق انتخابي سيشكل -نظريا- فرصة للعبث السياسي أمام تجدد إرادة التحكم التي تبرز معالمها يوما بعد يوم، أما على المستوى العملي فإن هذا العبث يظل قائما في الممارسة السياسية بشكل عام، في ظل وجود فرصة سانحة لتوريط "العدالة والتنمية" ضمن مجال التدبير الحكومي من خلال ملفات معقدة ومعمِّرة من جهة (التقاعد، المقاصة، الضريبة، التعليم، القضاء، التغطية الصحية... الخ)، وقضايا ظرفية مفتعلة من جهة أخرى (دانيال، أنوزلا...)، يراد أن تحصد ضريبتها السياسية -مستقبلا- كل القوى الصادقة التي تنهج مسار الإصلاح إلى جانب حزب "المصباح"، على أن تجني ثمارها شبه الناضجة تلك القوى التي أسِّست منذ اليوم الأول لأجل أن تحكم وتتحكم ! وهو ما يعني تحقق الردة السياسية وعودة البلاد إلى المربع الأول؛ حيث لا صوت يعلو فوق صوت الفساد والاستبداد ! فهل من مذّكِر ؟! -------------- [0] نموذج جريدة "ليبراسيون" : (الانتخابات التشريعية الجزئية توجه ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية بعد أن خسر مرشح الحزب هذه الانتخابات، أول أمس الخميس، في كل من سطات ومولاي يعقوب). وكذا "النهار المغربية": (...حصد ابن كيران وحزبه العدالة والتنمية الأصفار في الانتخابات الجزئية التي جرت أول أمس الخميس بدائرتي مولاي يعقوب وسطات). وتوظيف الإعلام في المعارك السياسية بهذا الشكل ليس أمرا جديدا، راجع مقالة: "التحولات الإعلامية.. إيجابية السلبية !"، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس": 10/3/2012. [1] راجع مقالة: " دستور جديد.. عقليات قديمة! "، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس": 15/9/2011. ولنفس الكاتب على نفس الموقع: " طحين المعارضة.. وجعجتها! " (28/6/2013)، و "بعد فوز العدالة والتنمية.. انتظارات وتربصات !" (1/12/2011). [2] راجع مقالة: "المرتزقة الجدد ! " الذي كتب قبل محطة 20 فبراير، وقارن الأحداث لتتضح لك الصورة أكثر فيما نرمي إليه. موقع "هسبريس" (19/1/2011). وأيضا على نفس الموقع: "قسمات سامري" (23/8/2011)، ومقالة "وزارة عالي بابا ! " (4/10/2010) [3] جريدة المساء: عدد 1996، بتاريخ 23 فبراير2013. [4] راجع مقالة: "الأسئلة المحرجة للعلمانية المسبتدة ! "، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس" (26/7/2013)، ولنفس الكاتب مقالة: "في فهم النيو-عنصرية !" على نفس الموقع (18/8/2013). [5] انظر على سبيل المثال شهادة عبدالله القادري في حق "أحمد عصمان" حول العالم القروي (المساء: 3/9/2013). [6] تعلق الأمر بحزب العهد، والبيئة والتنمية، وحزب رابطة الحريات، وحزب مبادرة المواطنة والتنمية، والحزب الوطني الديمقراطي. [7] راجع مقالة: " برقية مفتوحة إلى أحزاب... ! "، للكاتب على موقع "هسبريس" (4/2/2011)، ومقالة: " قصة حقل سياسي! " على نفس الموقع (30/1/2011) وأيضا: "عقدة المبادئ السياسية" (25/2/2010). [8] نقصد هنا اندماج حزبين سياسيين يساريين في حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" (إدريس لشكر)، وهما "الحزب الاشتراكي" (عبد المجيد بوزوبع)، و"الحزب العمالي" (عبد الكريم بنعتيق)، وهي أحزاب كانت قد انشقت عن نفس الحزب.