لم تكن مائة (100) يوم كافية للحكم على السلوك السياسي للمعارضة بمختلف واجهاتها وآلياتها، ما تطلب تقليب النظر وإعادة قراءة المشهد السياسي مرارا على ضوء المستجدات الميدانية المتوالية، الشيء الذي حتم تأجيل كتابة هذه الأسطر إلى حين أن تنضج المواقف ويتضح "الدافع-الناظم" الذي يؤسس لسلوك المعارضة، وبالتالي جمع المعطيات الضرورية لتأسيس "منطق تشاركي" في الاتجاه الآخر، أي الرقي بخطاب المعارضة ليكون في مستوى اللحظة التاريخية التي يستأهلها مغرب الربيع الديموقراطي بكل متطلباته وتجلياته. 1. الاستقرار.. بين الاختيار والاضطرار! قبل الخوض في الحديث عن المعارضة المغربية، من الهام جدا وضع هذه المعارضة في السياق التاريخي الحالي بالارتباط مع مجموعة من البيئات السياسية العربية القريبة، والتي عرفت تجارب "الربيع" بصيغ مختلفة، لكنها في المقابل تتقاسم الكثير من السلوكيات السياسية التي يمكن الاستفادة منها في فهم الوضع الداخلي في عمومه، وكذا تعاطي المعارضة مع تدبير الشأن العام على وجه الخصوص، وذلك من خلال قراءة مسحية لمجريات الأحداث عبر ثلاث نقاط مقتضبة: أولا: شكلت التيارات الإسلامية أول التنظيمات المستفيدة من رياح "التغيير الثوري" التي ميزت الربيع الديموقراطي، إذ استقرت سفن الإسلاميين على كراسي مهمة في التشريع بعد إبحار طويل مع النفي أو التهميش أو التزوير (نموذج تونس والمغرب ومصر)، فيما أطلقت أشرعتها للمساهمة في التدبير الحكومي من مواقع وزارية مهمة (نموذج تونس والمغرب)، كل ذلك في مقابل الهزيمة المدوية التي منيت بها مجموعة من الهيئات والتكتلات التقليدية أو المتمسكة بما يسمى "الشرعية التاريخية"، وخسارة مواقعها السياسية الحيوية أو على الأقل تهدد مصالحها الحيوية التي ضمنتها "اللعبة السياسية" قبل انتفاضة الشعوب (نماذج قبلية القذافي في ليبيا وعلمانية بنعلي في تونس وحكم العسكر في مصر ونهج التحكم في المغرب). ثانيا: ونتيجة لاحترام إرادة الشعوب الثائرة، وجدت "سلطة الأمر الواقع" نفسها أمام واقع مغاير أفقدها الكثير من السلطة وأحيانا كل السلطة تقريبا، الشيء الذي حتم على هذه "السلطة القائمة" في مرحلتها الانتقالية، والتي لم تخل بعد من وجوه "الحرس القديم"، حتم عليها التعامل مع الأحداث بكثير من الاحتواء لاسترجاع الاستقرار تدريجيا مع الحفاظ على ما بقي من المصالح الاقتصادية وقبلها المواقع السياسية الضامنة لحماية واستمرار تلك المصالح، وهو ما أدى إلى صدامات متكررة مع الإسلامين؛ تارة من قبل رؤوس السلطة أو جيوب المقاومة المرتبطة بها بشكل مباشر (المجلس العسكري في مصر، العلمانية المتطرفة في تونس، بقايا المرتزقة في ليبيا، المتنفذون والمتحصنون في المغرب)، وتارات أخرى بشكل غير مباشر من خلال توظيف مجموعة من التيارات الجديدة الطامحة للسلطة، أو تلك الخافتة الفاقدة لها وبالخصوص التي لم تتجرع مرارة الهزيمة السياسية و/أو الإيديولوجية... توظيف مجموعة منها إلى التصادم مع الإسلاميين بمبررات وتحت مسميات متعددة. ثالثا: تنوع أشكال الصدام مع نتائج التغيير الديمقراطي (السلمي غالبا) أظهر بشكل جلي وجود بوادر لثورة مضادة، سِمَتها الأساسية تتلخص في محاولة توظيف التيارات الإسلامية لتحقيق "استقرار تكتيكي" يخدم سلطة الأمس القريب ومن دون أن يعود بأدنى كسب سياسي على الإسلاميين أنفسهم! أو في أحسن الأحوال، استثمار الأداء السياسي للإسلاميين وتدبيرهم اليومي للشأن العام في ضرب "المشروع الإسلامي" وتشويه سمعته وتقويض شعبيته في أفق تقديمه للرأي العام بصورة كلاسيكية مكرورة تجعل منه الوجه الآخر للعملة السلطوية التي نادى الشعب بزوالها، وبالتالي انتفاء الحاجة إلى تغيير الأوضاع السياسية وتحقيق الطموحات المشروعة للشعوب في الكرامة والتنمية والحرية والعدالة.. الخ. ولعل أحسن وأوضح مثال يقدم اليوم، هو بروز "فلول النظام السابق" للعلن في مصر وتونس وما سبقها من تكتيكات المتنفذين في الدولتين (المجلس العسكري، حماة العلمانية...) لإفراغ أغلبية الإسلاميين من قوتها التشريعية وتعطيل القوانين بقوة الدساتير الدكتاتورية البائدة، وتقوية الصلاحيات الموسعة للأجهزة العسكرية، ثم ما لحقها من قرارات قضائية تؤشر على تطويع القضاء لخدمة أجندة الاستبداد، والتي كان من نتائجها إلغاء المتابعة القضائية في حق وجوه سلطوية بارزة في البلدين، بل والتمكين لها سياسيا، وتخفيف الأحكام على أبرز المفسدين من نظامي "مبارك" و"بنلعي"، ومحاولة إعادة رسم الخريطة البرلمانية بتأشيرة من القضاء العالي (حل مجلس الشورى المصري، الحكم بإعادة التصويت في مراكز ومحافظات بعينها...). وفي ذات السياق، لا يجب إغفال الدور الإعلامي في تهييء الرأي العام للتطبيع المتدرج مع حيثيات الثورة المضادة المفضوحة! إذ شكلت الدعاية الإعلامية ضلع الارتكاز في تصريف أجندة المتسلطين والمتنفذين ابتداء، وفي إضفاء هالة على أولى المتابعات القضائية قبل أن تصدر الأحكام وتعم معها خيبة أمل متجددة لكنها بطعم الغضب وليس اليأس، وأخيرا في إبراز قوى معارضة مازال يصرح كثير من قيادييها بأنهم تمنوا لو لم يحصل التغيير حتى لا يحكم الإسلاميون! ويُصرَّف هذا الكلام عادة بأن دماء الشهداء راحت هدرا وأن نضال المواطنين ذهب هباءا!! الشيء الذي يزيد من لهب المشاعر وينبئ بالرجوع للمربع الأول، ما سيجعل الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي في مهب ريح عاصفة لا يعرف مستقرها ومستودعها!! 2. الاستثناء المغربي.. بين التعجيل والتأجيل! إن وضع المشهد المغربي في قراءة متأنية بجانب باقي المشاهد السياسية في دول الربيع العربي يظهر الكثير من القواسم المشتركة، ما يجعل خبر الاستثناء مؤجلا لكثير من الوقت؛ فوصول الإسلاميين إلى الحكم في المغرب واجهته الكثير من العراقيل وما تزال تتهدده الكثير من المطبات، شأنه شأن باقي البلدان التي تشهد مخاضات التغيير، وهذه القناعة كانت واضحة المعالم قبل تسعة أشهر من الآن وحتى قبل حصول "العدالة والتنمية" على المرتبة الأولى، إذ أكدنا حينها أن "...معطى "السرعة" في الاستجابة لمطالب الجماهير لم يعكس "الفاعلية" المطلوبة لتنزيل المقتضيات الدستورية والحفاظ على النفََس الإيجابي الذي طبع -على العموم- الأجواء السياسية؛ إذ ما لبث -في نظر الكثير من المتتبعين- أن انحسرت تلك الظروف "الإيجابية" تدريجيا وبسرعات متفاوتة، متيحة المجال لعودة نفس العقليات التي دأبت على تدبير المعطيات السياسية ورسم معالم المجتمع -من خلالها- في شتى مجالات الحياة؛ فأصبح ما سمي "استجابة" بمعيار اللحظة الدستورية مجرد "مناورة" لامتصاص الصدمة بمنظور المخاض الذي صاحب حيثيات ولادة القوانين الانتخابية"[1]. لكن ومع يقظة الشارع واستمرار الضغط الشعبي، لم يكن هناك مخرج للأزمة المغربية المعقدة إلا باحترام إرادة المواطنين وفسح المجال لتلكم الإرادة لتعبر عن نفسها عبر صناديق الاقتراع، وهو ما بوأ حزب "المصباح" موقعا هاما داخل مجلس النواب وبنفس الأهمية داخل الحكومة، ولتبدأ مع هذه المرحلة جولة جديدة من التعاطي السياسي تتقاطع معها كثير من المعطيات التي رأيناها في دول الربيع الديمقراطي. لقد شكل التربص وحصار المبادرات سمة بارزة في تعاطي المناوئين والمتنفذين مع الفوز الكاسح للإسلاميين وتدبيرهم اليومي للشأن العام، سواء في مجال التشريع أو في مساحات التنفيذ؛ وكما هي الأهداف واضحة اليوم في مصر وتونس، كانت الغاية واضحة -بالنسبة لنا- في الداخل المغربي، إذ أكدنا أن "...الكثير من التربصات تتقاسم هي الأخرى نفس الغاية في إفشال مهمة "العدالة والتنمية" من خلال واجهات متعددة، لا يهم فيها حضور الترصد أو غياب القصد والإصرار في محاولة الإفشال، لكن الأهم هو انطلاق الفاعل من قناعة "الفشل الذاتي" في تنزيل رؤية معينة، يقابلها أمر واقع يحدّث الناس والتاريخ باكتساح نسبي للائحة "المصباح"، وهو ما يجعل "البيجيدي" في مكانة "الخصم" عند البعض، وفي موضع "العدو" لدى البعض الآخر! وبين هؤلاء وأولئك، أصبحنا من اليوم، وحتى قبل تشكيل الحكومة، نسمع جهارا وعبر وسائل الإعلام (بما فيها العمومية) عن الاستعداد لتعبئة الشارع، وتجهيز العدة لخوض معارك سياسية تحت يافطات متنوعة..."[2]. لقد أكدنا على هذا المعطى قبل نصف السنة من الآن، وقد طفت إلى السطح كثير من حيثياته قبل أسابيع قليلة فقط. 3. طحين "المعارضة" وجعجعتها... عود على بدء! إن الحديث عن "المعارضة" هو من باب التجاوز فقط مادامت تتقاسم نفس الغاية بوضع العصى في عجلة التدبير الحكومي كما سنرى، وإلا فسيكون من الضروري التفصيل والتمييز بين المعارضة الحزبية التي تمارس "الحق الدستوري" ولو بعيدا عن "الواجب الدستوري" سواء من داخل المؤسسات أو من خارجها، وبين تلك المعارضة التي نفضت عن هيئاتها غبار السبات الطويل واندفعت للإضرابات أو الاحتجاج فجأة! أو حتى تلك المعارضة المتحصنة بالظل دون أن تتوارى نهائيا عن مواقفها بإقصاء أصحاب اللحى ولو كانوا من دون لحى! كما لا يمكن هاهنا أن نغض الطرف عن المعارضة التي يمارسها أشخاص من داخل الحكومة ذاتها، مستحضرين طبعا الماضي السياسي والأسس الإيديولوجية لكل طرف، مع الأخذ بعين الاعتبار علاقة هذه المكونات فيما بينها، بما فيها العلاقة مع مكونات الحكومة. غياب الموضوعية والجدية والارتهان للحسابات الذاتية، وحتى الشخصية، جعل "المعارضات" بمختلف تلاوينها تقع في فخ "المعارضة الآلية"، وبأسلوب أوتوماتيكي غير مبرر في أغلب الأحيان، وهو ما يفقدها الكثير من المصداقية المتخلخلة أصلا في العمل السياسي، ويهدد بتفويت فرصة ثمينة على المغرب في وضع قدم ثابتة على درب الديموقراطية الحقة والقطع مع واقع الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي الذي مازال يؤدي المواطنون ثمنه غاليا! فيا ترى لماذا تسلك "المعارضة" مسار التيئيس حينا والمزايدة أحيانا أخرى؟ وهل تغفل بعض مكونات "المعارضة" خطورة هذا الاختيار أم أن تقاطع المصالح السياسية و"الإيديولوجية" الضيقة فوق أي اعتبار؟! أولا: في الإرث الثقيل للمعارضة: تحاول المكونات السياسية-الحزبية التي دأبت على التسيير الحكومي منذ تجربة التناوب النأي بنفسها عن السياسات اللاشعبية التي تم تبنيها منذ أواخر التسعينات، وقد تصاعدت حدة التقاذف بالمسؤولية بين هذه المكونات مع تشتت "الكتلة" وتصدع التماسك التقليدي للقوى السياسية ومراكز النفوذ التي دأبت على دعم الأغلبيات الهجينة، ومن موقع المعارضة الصورية أحيانا! وإذا كان جزء من أحزاب الأغلبية اليوم يتحمل غير قليل من المسؤولية؛ فإن القدر الأكبر تتحمله بعض أحزاب المعارضة الحالية، وبالخصوص حزبي "الوردة" و"الحمامة" لوجودهما –حينها- على رأس وزارة الاقتصاد والمالية أو "أم الوزارات" كما دُئِب على تسميتها منذ حكومة اليوسفي الأولى[3]. ومادام الأمر على هذا النحو، فإن المعارضة الحالية خلفت وراءها إرثا ثقيلا، لا يؤهلها -في أحسن الأحوال- للحديث عن الحكامة والديموقراطية والدفاع عن الحقوق والحريات والانحياز لهموم المواطنين، كونها ارتكبت جرائم سياسية واقتصادية في حق شرائح وفئات واسعة من المجتمع المغربي، ولم تكن مشاريع الخوصصة ورهن السيادة الوطنية للمؤسسات المالية الدولية والتمكين الاقتصادي والسياسي لقوى الفساد والاستبداد إلا الجزء العائم من جبل الجليد الذي جمد تقدم الدولة ورقي رعاياها. ويكفي هاهنا الإشارة السريعة إلى بعض الأرقام والمعطيات الدالة حتى نتبين حجم هذا الإرث وقوة الثقل الذي أضحى يمثله على الواقع المعيشي من جهة، وعلى التدبير اليومي للشأن العمومي في ظل هذا التراكم السلبي من جهة أخرى: الدين العمومي: بلغت نسبته في 2011 حوالي 47% من الناتج الوطني الإجمالي، وبلغت نسبة النفقات على هذا الدين سنة 2010 نسبة 9% من الميزانية العامة (أي 24 مليار درهم تقريبا)، وهو يفوق بكثير الدعم المخصص لصندوق المقاصة. وستبقى ذمة المغرب رهينة الدين الخارجي إلى غاية 2017 بحوالي 20 مليار درهم سنويا في المتوسط! مؤشرات الفساد: من بين 178 دولة، احتل المغرب سنة 2011 المرتبة 85، إذ ينخر الفساد نسبة %2 من الناتج الداخلي الخام (حسب منظمة الشفافية العالمية: تراسبارانسي)، وخلال الفترة الفاصلة بين 2000 و2008، بغلت الخسائر الناتجة عن الفساد أكثر من 100 مليار درهم وهو ما يمثل حوالي ثلث الميزانية العامة للدولة (حسب مركز سلامة النظام المالي العالمي الأمريكي)، كما صنف المغرب من بين البلدان الست (6) الأولى المصدرة للرأس المال غير الشرعي في القارة الإفريقية ومن بين بلدان القارة الأكثر سوءا من حيث تهريب الاموال غير المشروعة بحوالي 25 مليار دولار، وقد أفادت تقارير حديثة أن أغلبية هذه الأموال تودع البنوك السويسرية، ما يزيد من خطورة الأوضاع الاقتصادية الداخلية التي تتحكم فيها مجموعات قليلة ومعروفة. الهوة الاجتماعية: الكلفة الباهظة للفساد لم تؤثر على الاقتصاد فحسب، بل عمقت الهوة بين طبقات المجتمع لدرجة باتت تشكل خطورة على الاستقرار والسلم الاجتماعيين، وأفرز هذا الواقع مؤشرات ما لبثت تصنف المغرب في مصاف الدول المتخلفة على مستوى الصحة والسكن والتعليم والحكامة السياسية والاقتصادية والتشغيل... الخ. وكثير من معطيات التقارير الدولية أكدتها المندوبية السامية للتخطيط؛ إذ تجاوز عدد العاطلين مليون و37 ألف سنة 2010، فيما زاد عدد الفقراء عن 8 ملايين علما أن 6 ملايين أخرى في وضعية هشاشة. وما زاد اتساع هذه الهوة تدهور القدرة الشرائية وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، والأساسية منها بالخصوص؛ إذ بلغت هذه الزيادات مع الحكومة الماضية فقط نسبة 42% تقريبا في الزيت و50% في الشاي و44.5% في المعكرونة و25% في الكسكس... الخ، مع عجز في صندوق المقاصة قدره 20 مليار درهم تتحمل نفقاته الحكومة الحالية !! ثانيا: في التموقع وممارسة المعارضة: أمام هذه المعطيات المهولة، لم يكن أمام "الأحزاب الحداثية" إلا أن تدفع ثمن ابتعادها عن الشعب كما صرح بذلك شهود من أهلها! فجاءت نتيجة الانتخابات قاسية على بعض الأحزاب التي رأت قياداتها أن التصويت كان عقابيا، ولم تجد بدا من التموقع في صف المعارضة حتى قبل انطلاق مشاورات تشكيل الحكومة وإعلان برنامجها، ما يعني أن موضوع "المعارضة" لم يرتبط بحق دستوري في ممارسة الرقابة والتوجيه على الحكومة وانتقاد اختياراتها في البرنامج المسطر، بقدر ما هو تموقع سياسي أملته دواع إديولوجية حينا، وفرضته حسابات ذاتية وشخصية أحيانا أخرى. ففور صدور النتائج الرسمية التي مكنت "العدالة والتنمية" من ربع مقاعد البرلمان، أعلن حزبا "البام" و"الأحرار" تموقعهما بالمعارضة، وهو أمر ليس بالغريب بالنظر للمتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي في شقه الحزبي خلال السنوات الأربع الأخيرة! كما أنه أمر متوقع من أحزاب توصم بالإدارية وعلاقة قياداتها المتسمة بالخصومة -درجة العداء- مع الإسلاميين معروفة لدى المتتبعين. أما حزب "الاتحاد الاشتراكي" فقد اختار المعارضة بعد أن انتبهت هيئاته التقريرية إلى أن "الوردة" أصبحت خارج تربة "القوات الشعبية" وبعيدا عن مشتل اليسار والاشتراكية!! فكان الرهان على خيار "المعارضة" التي تتجاوز قبة البرلمان إلى الشارع (حسب تصريح الراضي) قصد إعادة أمجاد الحزب على الساحة السياسية، وقبل ذلك إعادة هيبة الحزب وقوته التنظيمية إلى ما قبل تجربة التناوب، لكن تبين في حينه -وتأكد فيما بعد- أن خيار المعارضة لم يكن سوى الحل الأقل مرارة، إذ كان قرار المشاركة في الحكومة سيعصف بما بقي من الحزب ويشتت تياراته المتصارعة إلى أحزاب جديدة، خاصة أمام الإشارات التي أطلقها "الرئيس المكلف" بضرورة تغيير الوجوه وتشبيب الحكومة، وهو ما لم يكن يضمن لقيادات الحزب النافذة موضع قدم في عهد بنكيران، ليتأكد بالملموس أن المشكل في ذات "الوردة" وليس في تربتها! وهو ما عاد ليصادق عليه "الراضي" حين دعا تلك القيادات إلى عدم الدفع بالحزب لحافة الإفلاس السياسي على خلفية الاصطفافات الشخصية والصراعات الدائرة حول منصب الكاتب الأول للحزب. إن الأخذ بعين الاعتبار لدوافع الوقوف في مربع المعارضة يفسر الكثير من الانطلاقات الخاطئة في مسار التسابق على الرفع من وتيرة "المعارضة الأوتوماتيكية" والتقدم نحو خط المزايدات ولو خارج حلبة الموضوعية والمصداقية! إذ ما لبثت بعض الوجوه السياسية تنفث إيديولوجيتها داخل "الحق الدستوري" بشكل مترهل يحاول أن يصنع من مرارة الهزيمة جرعة زائدة في رد الصاع صاعين إلى الإسلاميين وحلفائهم، وهو أمر غير مستبعد من "المتسيسين" في زمن غاب فيه "رجال السياسة"، لا لشيء سوى لغياب "الرجولة" باعتراف المتحسرين عليها داخل السجون في حق المسجونين خارج أسوارها! أسرى "التهافت السياسي" المشبع بدسائس الليل ومكر النهار!! وإلا كيف نفسر من يطلب منصبا من وزير العدل وهو على رأس فريق نيابي معارض؟! وكيف نفسر تصريحا بتصويت فريق معارضة ضد مشروع قانون المالية ليس لأنه يعارض اختيارات الحكومية المالية وتدابيرها الاقتصادية بل سيعارضه احتراما للشكليات التي تفرضها اللعبة الديمقراطية؟! وكيف نفسر "الدلتونية السياسية" التي تجعل من البعض يخطب في الناس حول حكومة تضم 80% من الوجوه الجديدة بأن التشكيلة الحكومية لم تتغير؟! أم كيف نفسر التناقض الذي تمارسه وجوه معارضة حين تتمنى النجاح للحكومة -على المباشر- ثم تعلن بعد ثوان عدم ادخارها جهدا لإسقاط الحكومة؟! وقد نادى البعض بسقوطها -فعلا- على الطريقة المصرية، لكن من جانب الفلول!! إن المعارضة التي قدمت طحينا رديئا من موقع التسيير الحكومي والتدبير عن بعد، لا يمكنها أن تقدم طحينا أجود من موقع الكلام والاحتجاج والتآمر مهما علت جعجعتها على افتراض توفر المحصول، وإلا فإن المحصول الوحيد لحد الآن لا يعدو أن يكون "خطابات اتهام" و"أحكام مسبقة" تركب على زبد المصطلحات المهترئة والسلوكات المتناقضة في انتظار موجة استوزار في حكومة أزمة أو تصريف أعمال، والأزمة هنا ليس كما تتصورها المعارضة في "التشاركية" و"المناصفة" و"الحكامة" و"الشفافية"... وإنما هي أزمة ممارسة سياسية تكرس التخلف من جانب المعارضة وتفوت على المغرب فرصة الرفاهية وليس التنمية فقط! إن بعض الكائنات الحزبية التي لم تفطم بعد على كراسي الوزارات ومراكز القرار، مازال يحدوها الوهم بنكهة الأمل في فرض أجندة التدبير على الحكومة المنتخبة من موقع المعارضة، وكأن قدر الإسلاميين أن يمارسوا المعارضة ولو من موقع التسيير! وإذا ما واجه العامة -كما النخبة- هذا المسار بالصمت، فسنكون جميعا كمن أكل التفاحة ونام تحت الشجرة فوأد نظرية عظيمة في علم الفيزياء! ويبدو أن بعض التيارات في المعارضة تسعى لهذا التخلف بروح قتالية غير مسبوقة، لم تصف الحساب السياسي-الإيديولوجي مع مكونات الحكومة فقط، وإنما طالت حتى "أهل الدار" ممن رأوا السداد والصواب في بعض الخيارات الحكومية، وما الاعتداء الذي لحق "سعيد اشباعتو" عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي من طرف زميله في الحزب عن دائرة "صفرو" خلال مناقشة قانون داخل لجنة برلمانية، إلا الجزء البارز من الصراع الذي تعرفه جل أحزاب المعارضة في فرض "منطق المعارضة الأوتوماتيكية" على منتسبيها وبالقوة إن اقتضى الحال! فهل سيتورع البعض عن نقل العنف والفوضى من قبة البرلمان إلى الشارع العام كما توعدوا؟! يبدو أن رئيس مجلس المستشارين كان قاصدا لمصطلح "الغوغاء" حين وصف به الفوضى التي عمت جلسة علنية لقيام المعارضة بواجبها الدستوري! ويبدو أن رسالة مبطنة حملها المصطلح لمن يعنيهم الأمر، رغم محاولات التوضيح والتخفيف التي بادر إليها زميله في الحزب ورئيس الفريق المعارض؛ إذ على المعارضة أن ترتقي بنفسها -قبل خطابها- دون اتكالية على الارتقاء النظري للدستور بها، فستكون حينها حملا ثقيلا على الدستور من موقع المعارضة كما كان إرثها ثقيلا على المواطنين من موقع التسيير، وإنه لمن صالح المغرب أن تُفعَّل المقتضيات الدستورية لإيجاد معارضة مسؤولة وبناءة، تسهم في الصالح العام وتكسب المملكة مكانة متقدمة على الساحة الدولية، بعيدا عن حسابات التنازع الإيديولوجي وطلبات التصدر الشكلي للمشهد السياسي. والمعنيون هنا هم كل مكونات "المعارضة" سواء خارج المؤسسات أو داخلها، أو حتى داخل الحكومة والإدارة!! ***** [1] راجع مقالة: "دستور جديد.. عقليات قديمة!"، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس": 15/09/2011. [2] راجع مقالة: "بعد فوز العدالة والتنمية.. انتظارات وتربصات"، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس": 01/12/2011. ومقالة: "التحولات الإعلامية.. إيجابية السلبية!"، عبدالكريم كعداوي. موقع "هسبريس": 10/03/2012. [3] ترأس "فتح الله ولعلو" عن حزب "الاتحاد الاشتراكي" وزارة المالية بمسمياتها المختلفة لخمس ولايات متتالية، فترة 1998-2007، وترأسها "صلاح الدين مزوار" عن حزب "التجمع الوطني للأحرار" في الفترة: 2007-2011.