لا يمكن عزل انتصار العدالة والتنمية، في الانتخابات التشريعية بالمغرب، عن سياق عام ينعت “بالربيع العربي”، وما تولد عن مخاضه من ظهور التيارات الإسلامية كقوة محتملة. فكيف يمكن تفسير تصاعد المد الإسلامي المستجد، واكتساح الأحزاب السياسية للمشهد السياسي؟ الفرضية الأولى: العودة إلى الدين إن فوز حزب العدالة والتنمية، على غرار نظيراتها في المجتمعات العربية، لا يدل على ميل طبيعي، أو حاجة مرتبطة بطبيعة الإنسان وعلاقته بما هو روحي . لا يتعلق الأمر بتبعات الابتعاد عن الدين، و الضرورة الملحة للعودة إليه. فالعودة إلى الدين في مجتمعاتنا لا ترتبط بفراغ روحي، وكل ما يرافق ذلك من فقدان المعنى، بسبب الاستغراق في الحياة اليومية، وبسبب هيمنة واستئساد نمط معين في العيش، مثلما يحدث في المجتمعات الغربية، كما أشار إلى ذلك بعض الفلاسفة المعاصرين ( هربيرت ماركوز، إدغار موران، جون بودريار...)، عندما وجهوا نقدا لاذعا للتركيز على هذا البعد الواحد في الإنسان المعاصر، والمتعلق بالاستهلاك، ولهذا العقل المهيمن المطلق، الذي يبالغ في تجاهل كل أشكال اللاعقل. في المقابل إن تصاعد التيارات الدينية، يتزايد في المجتمعات العربية، وفي المجتمع المغربي، ليس لكون الفرد مستغرقا في الاستهلاك، بل لكونه عاجزا عن الاستهلاك، حتى في حدوده الدنيا الضامنة لكرامته الإنسانية. كما أن العقل لم يتحول بعد إلى نسق مغلق، بل مازال مجتمعنا يعاني من عدم الترشيد ونقص في العقلنة، هكذا فصعود المد الإسلامي في مجتمعنا، على غرار باقي المجتمعات العربية الأخرى، ليس مطلبا دينيا (العودة إلى الدين)، بل مطلبا سياسيا (البحث عن بديل محتمل في التدبير السياسي). وبالتالي فالتصويت على العدالة والتنمية في المغرب، لم تكن الغاية منه المراهنة على الدين وعلى الإسلام كحل، بل المراهنة على الحزب كتنظيم سياسي بديل. الفرضية الثانية: الدولة الدينية قد يبدو ظاهريا أن تصاعد التيارات الإسلامية، ونجاح بعضها في الانتخابات التشريعية، كما هو الشأن بالنسبة للعدالة والتنمية، تعبير عن الحاجة إلى دولة دينية، لكن الأمر ليس كذلك. فالأنظمة العربية المنهارة، بفعل الثورات التي شهدتها الدول العربية، كثيرا ما قدم بعضها نفسه باعتبارها دولة لائكية (تونس)، أو دولة تكن عداء للحركات الإسلامية (مصر)، كما قدمت نفسها على أنها جمهوريات وليدة “ثورات”، أو تحديدا انقلابات، كانت تدعي من ورائها توطين العدالة الاجتماعية وتأصيل الديمقراطية، قبل أن تنقلب عليها، بل منها من قدمت نفسها باعتبارها نظاما معاديا للإمبريالية والصهيونية (ليبيا وسوريا). لكن هذه الجمهوريات ما لبثت أن تحولت إلى دول مستبدة، دول متمركزة حول النخبة الحاكمة، لذا يمكن اعتبار الثورات التونسية والمصرية واليمنية والسورية، هي ثورات ضد الدولة المستبدة، حيث التطلع سياسيا ليس إلى دولة دينية، بل إلى دولة ديمقراطية، دولة غايتها المصلحة العامة والاستجابة لمطالب الشعب المشروعة، هذا هو الأفق الواقعي الذي يفسر انتصار التيارات الإسلامية، باعتبارها قبلت واستوعبت معنى أن تكون أحزابا سياسية، إذ أصبحت ويا للمفارقة هي من تدافع عن الدولة المدنية، ضد عسكرة الدولة، وضد استبداد النخبة الحاكمة، وضد الفساد العام. الفرضية الثالثة: غياب شروط الديمقراطية تقوم هذه الفرضية على اعتقادين مختلفين: اعتقاد يرى أن الشعوب العربية، بما في ذلك الشعب المغربي، غير مؤهلة حاليا لامتطاء صهوة الديمقراطية. لقد روج هذا الاعتقاد من طرف الأنظمة السياسية السائدة ذاتها، والتي كانت تضع شعوبها بين خيارين: إما استبداد الدولة وقبول النظام كما هو، أو صعود الحركات الإسلامية، وما يمكن أن يصاحبها من إرهاب. لقد نجحت الأنظمة السياسية، دون أن تقصد، في الإعلاء من أسهم الأقطاب الدينيين، واستقطاب أتباعهم، بسبب منعهم من الحق في المشاركة السياسية، هكذا فقد ساهمت هذه الأنظمة دون أن تدري، في تقديس حركاتهم، ومراعاة سريتهم، وتقدير طهرانية دعوتهم (هذا ما حدث مثلا مع جماعة العدل والإحسان)، أو أنها عملت على الاعتراف بهم وتحويطهم بسياج من الحذر، ومهاجمتهم وتهديدهم بنزع الاعتراف بهم، وبالتالي عملت هذه الأنظمة السياسية على حشد تعاطف الناس معهم، لأنها حولتهم إلى ضحايا، بل أصبحت أحيانا، هزه الأحزاب تستمرئ وضعية “الضحية”، ساعية وراء تقوية رصيدها السياسي النضالي (حزب العدالة والتنمية). الاعتقاد الثاني، هو الذي تتبناه بعض القوى الديمقراطية، التي ترى أن غياب الشروط الفعلية لتحقيق الديمقراطية، هو المناخ الذي استفادت منه القوى السياسية ذات التوجه الديني. لهذا كان موقفها هو مقاطعة المشاركة في الانتخابات، في ظل “دستور ممنوح”. ورغم اتفاقنا مع صحة منطلقات هذا الاعتقاد، فإننا لا نشاطره نتائجه. إذ لا يستطيع تجنب إحراج قوي يفرض نفسه: لما لم ينجح هذا الموقف، وهذا التيار، في التغلغل داخل المشهد السياسي المغربي؟ ولما لم تنجح هذه القوى في حشد “الجماهير الشعبية”؟ ولما لم تنجح في خلق تكتل ديمقراطي قوي، ضد الاستبداد وضد القوى المحافظة والمناهضة لقيم الحداثة؟ ولماذا فشلت حيث نجحت القوى المعادية لها. لا ريب أن ظهور الحركات الدينية مرتبط بغياب الديمقراطية في المجتمعات العربية، لكن المفارقة هو كون انتصارها واكتساحها للمشهد السياسي، رهين باستفادتها من الهامش الديمقراطي. الفرضية الثالثة: فشل اليسار نحن هنا أمام أمر واقع أريد به باطل، وأمام إشكال فلسفي بامتياز يقوم على التمييز بين الواقعي والحقيقي. فصعود الحركات الإسلامية، وبالتالي انتصار حزب العدالة والتنمية، ليس مرده فشل اليسار كفكر وكإيديولوجيا، بل فشله كقوى ممارسة داخل المشهد السياسي. لقد كانت القوى الدينية سابقا مصطفة داخل المنظومات السياسية الحاكمة، وبالتالي فالمعارضة كانت تتمثل أساسا في قوى اليسار، والتي كانت تبشر بالثورة، وترغب في الإطاحة بالنظام، والاستجابة لصوت الشعب ولمطالبه الاجتماعية، لكن تحولها من الثورة إلى الإصلاح، ومن الاحتجاج إلى الاندماج، سيخلق أزمة داخل المشهد السياسي المغربي، ألا وهو ضعف إن لم نقل غياب المعارضة الفعلية. ها هنا تكمن قوة الحركات الدينية، وحزب العدالة والتنمية نموذجا، باعتبارها حولت الدين من إيديولوجيا لخدمة النظام القائم، إلى إيديولوجيا معارضة تجد فيها الحركات الاحتجاجية بيت قصيدها (هذا ما لم يستوعبه البعض، بصدد حضور جماعة العدل والإحسان إلى جانب القوى اليسارية بالنسبة لحركة 20 فبراير). إن قوة التيارات الدينية تكمن في كونها أصبحت تتقاسم مع بعض قوى اليسار – واحتلت موقع البعض الآخر منها – ثقافة الاحتجاج والمعارضة، وبالتالي فهذه التيارات الدينية تمتلك أكثر ناصية لغة الوعد، و تعيد الأمل في معانقة اليوطوبيا من جديد... فمع تزايد المطالب الاجتماعية، ومع تنامي الحركات الاحتجاجية، داخل مناخ تاريخي وسياسي اصطلح عليه ” بالحراك الاجتماعي”، فإن المشهد السياسي يعاني أكثر من ضعف قوى اليسار، ومن غياب المعارضة الفعلية وليس المصطنعة والمؤثثة للمشهد. هكذا كان من الطبيعي أن تتبوأ التيارات الدينية هذه المكانة، لكي تنتزع الاعتراف بها متجاوزة عقدة الشرعية التاريخية والمشروعية الوطنية، معوضة إياهما بالشرعية الدينية، و بمشروعية الاحتجاج، معوضة لغة الحمد بلغة النقد، ومرددة صدى الاحتجاج، عوض التسربل بصوت الاندماج، فأصبحت ملاذا لغير المنظمين ، وللغاضبين، المتعطشين لمواجهة الفساد. الفرضية الرابعة: العزوف السياسي هناك من يعتبر تصاعد المد الإسلامي، ونجاح حزب العدالة والتنمية، نتيجة أفرزها العزوف السياسي، معللا ذلك بكون نسبة الأصوات المعبرة عنها، لا تمثل إلا من هم مسجلون في اللوائح الانتخابية، ناهيك عن نسبة الأصوات الملغاة، وبالتالي فحسب هؤلاء حزب العدالة والتنمية هو المستفيد الأكبر من ضعف المشاركة السياسية. لكن الأمر ليس كذلك في اعتقادي، فحتى لو افترضنا وجود مشاركة مكثفة، فإن ذلك لن يعمل سوى على تعزيز انتصار العدالة والتنمية كحزب سياسي وليس كحزب ديني. وإلا فكيف نفسر صعود مثل هذه التيارات داخل دول عرفت مشاركة سياسية مكثفة، مثل حزب النهضة في تونس، ومثل الإخوان المسلمين أو حزب النور في مصر، ومثلما حدث سابقا في تركيا، أو مثلما قد يحدث في ليبيا واليمن وسوريا...وبناء عليه، يمكن القول إن انتصار حزب العدالة والتنمية، يرجع بالأساس ليس إلى العودة إلى الدين – كما قلنا سابقا – بل إلى العودة إلى السياسة، بما هي حقل صراعي، يقوم على علاقة معينة مع النظام السياسي، ويترجم مطالب الشعب، ويستلزم الحق في محاسبة من أوكل إليهم سلطة التسيير والحق في اختيار من سيوكل إليهم تدبير الشأن العام. الفرضية الخامسة: الحزب الشعبي هل انتصار التيار الإسلامي، حزب العدالة والتنمية، يعني بالضرورة كونه حزبا شعبيا؟ لا أعتقد ذلك، فهذا الانتصار راجع بالأساس إلى قوته التنظيمية، على مستوى الهياكل والأجهزة والأجندات المسطرة. علينا أن نعترف أنه حزب يتجذر أكثر فأكثر داخل المشهد السياسي، من خلال حسن تفعيله لآليتي الاستقطاب والتعاطف، والعمل على توسيع دائرة قواعده، ومناصريه، وتمتين أواصر الانضباط والطاعة، التي هي من جهة سمة التنظيم السياسي الناجح، ومن جهة أخرى واجبات وإلزامات المؤمن، بهذا المعنى يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية، على غرار باقي التيارات الدينية، يستثمر جيدا مرجعيته الإيديولوجية. علينا أن نعترف أن المشاركة في الانتخابات لم تكن مكثفة، لم تكن مشاركة شعبية، بل مشاركة كثيفة للحزب الأكثر تأطيرا، والأكثر تنظيما. علينا أن نعترف أن حزب العدالة والتنمية، هو الحزب الذي كان أكثر حضورا داخل المشهد الانتخابي، على باقي الأحزاب أن تتساءل هل ازداد عدد منخر طيها والمتعاطفين معها، مقارنة مع الانتخابات السابقة، أم عكس ذلك تقلصت؟ ماذا فعلت هذه الأحزاب خلال السنوات الأخيرة على مستوى التأطير والإعلام والنشر؟ لقد فقدت الأحزاب التقليدية فئة المتعاطفين، كما فقدت الثقة في مصداقية خطابها، وفي مدى نجاعة ممارستها السياسية، تلك هي الأرضية الموضوعية لصعود و نجومية حزب العدالة والتنمية. الفرضية السادسة: حزب العدالة والتنمية من سلطة الحزب إلى حزب السلطة مما لا شك فيه أن سلطة حزب العدالة والتنمية، مستمدة من قوته التنظيمية ومن ممارسته للمعارضة، ومن تبنيه لخطاب يمتح تأثيره من عمق الجرح الاجتماعي، فهل سيكسب الحزب رهان تنمية اجتماعية عادلة؟ ورهان عدالة متنامية؟ هل سيحافظ الحزب على قاعدة الأتباع و المتعاطفين، بعد أن أصبح حزبا ممارسا للسلطة، لا منتقدا لها؟ لقد كان دائما الدين مكونا روحيا واجتماعيا متغلغلا داخل الجذور الثقافية للإنسان المغربي، الذي كان ينخرط أو يتعاطف مع الأحزاب التقليدية، نظرا لتاريخها الوطني، أو لنضالها الاجتماعي، ولم يكن الدين معيارا في حكمه عليها. وإذا كان العزوف السياسي يرجع لما تراكم سابقا لدى المواطن من عدم الثقة في النظام السياسي، وعدم جدية الانتخابات التشريعية، فقد انضاف الآن عدم ثقته في من استوطنوا داخل المشهد السياسي. في خضم مناخ موسوم بإضعاف المعارضة عموما، وتهميش على الخصوص الأصوات المعارضة المعبر عنها خارج الأحزاب التقليدية والرسمية. على حزب العدالة والتنمية أن يتجاوز الوعي الفرح بالانتصار، وأن لا يبقى حبيس نشوة إثبات الذات، وأن يعلم أن وجوده في هرم السلطة تثبيت لدعائم النظام السياسي الحالي: فإذا كانت الثورات الأخيرة في الدول العربية، أفرزت التيارات الإسلامية كقوى سياسية، مجسدة لآمال الشعوب، في التحرر من الاستبداد والقضاء على الفساد، فإن صعود حزب العدالة والتنمية، وتحوله إلى حزب حاكم، قد تم داخل النظام وليس عبر الإطاحة به. وهذا يستلزم شيئين: أولا، يتعين على النظام السياسي أن يستوعب جيدا أن قوته لا تكمن في احتضان الخطاب المعارض، بل في تقوية المعارضة. ثانيا، يتعين على حزب العدالة والتنمية أن يعلم أن لعب دور صمام أمان النظام السياسي، سيضعه في محك ” تنزيل الخطاب”، حيث الاستجابة لمنتظرات اجتماعية. فهل نأمل في مشهد سياسي يتعاضد بوجود قوة سياسية معارضة، أم سيظل يعاني من أزمة المعارضة؟ هل سينجح حزب العدالة والتنمية في تحويل سلطة خطابه الديني، إلى سلطة واقعية وسلطة سياسية حقيقية، أم سيكتفي بكونه حزبا في السلطة، أم سيختزل في كونه مجرد حزب السلطة؟ هل يتعلق الأمر ببداية أم نهاية حزب العدالة والتنمية؟