كثيرة هي الأسئلة التي طرحت ولا زالت تطرح منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 25 نونبر 2011، وخاصة بعد تكليف الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران بترؤس أول حكومة ما بعد دستور 2011 ، وبالأخص بعد اتضح أن الحكومة ستقتصر في تشكيلتها على تحالف أحزاب العدالة والتنمية، الاستقلال، الحركة الشعبية، والتقدم والاشتراكية. من تلك الأسئلة التي أطلق أصحابها العنان لكثير من التأويلات نذكر على سبيل المثال: هل من تفسير لاختيار الملك صديقه وزميل دراسته فؤاد علي الهمة، صاحب مشروع الأصالة والمعاصرة ولكل الديمقراطيين، كمستشار للملك في لحظة استعداد الإسلاميين إدارة دفة الحكومة؟ ثم ما سر خروج الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى المعارضة بعد 14 سنة من تضبته بمقاعد الحكومة و الحديث عن مبررات ضرورة استكمال أوراش التغيير والإصلاح من داخل السلطة؟ أيضا طرح سؤال حول الخلفيات التي وراء مغادرة جماعة العدل والإحسان لقطار 20 فبراير في لحظة كان الجميع يعول على الحركة أن تواصل معركة تحفيز المجتمع السياسي على استكمال معركة إسقاط الفساد؟ كما أن سؤال اليسار إلى أين؟ طرح بشكل متزامن مع اكتساح لائحة "الملكية البرلمانية الآن" بقيادة محمد الساسي ساحة المؤتمر الوطني لحزب اليسار الموحد. كما حضر سؤال حركة 20 فبراير في السجال الدائر فيما بعد اقتراع 25 نونبر، حيث تم التساؤل عن مستقبل الحركة، هل إلى الأفول تتجه؟ أم أنها ستصبح حصان طروادة لليسار؟ لاسيما بعد خروج شباب العدل والإحسان. كلها أسئلة نابعة من صلب سجالات تعكس توجه الحقل السياسي المغربي إلى نوع من إعادة الاصطفاف. تموقعات تستبق ما يمكن أن تقدم عليها حكومة بنكيران من سياسات، عبر إعمال صلاحيات دستورية تسمح بإحداث نوع من التحولات في المشهد الراهن. فهل من قراءة منهجية لتجدد السؤال السياسي في مغرب اليوم؟ وكيف نفسر طبيعة الاصطفافات؟ وماهي طبيعة التحولات التي ستفرزها تلك التموقعات على تدبير السياسة في مغرب اليوم و الغد القريب؟ دولة ومجتمع في طور الانتقال الديمقراطي في المجال السياسي تطرح عادة الكثير من الأسئلة، ولكن من الناحية المنهجية الأساس في طرح الاستفهام السياسي هو محاولة فهم أثر أي سلوك سياسي لفاعل سياسي معين، دون إعطاء الكثير من جهد الاكتشاف قصد البحث عن المسببات والخلفيات والدواعي. لذلك فالكثير سعى في الأسبوعين الماضيين إلى البحث عن خلفيات كل قرار سياسي، بالمقابل السؤال الأساسي الواجب البحث عن جوهره هو مآل كل قرار اتخذه أحد الفاعلين على الحراك السياسي العام ببلادنا؟ كل هذا في سياق التسليم على أن بلادنا لم تجتز بعد مرحلة الانتقال الديمقراطي. فبالرغم مما أنجز من تحولات دستورية وسياسية وقانونية خلال العقد الأخير، وخاصة مع دستور 2011 فإننا لا زلنا في مرحلة البناء الديمقراطي. فديمقراطيتنا لازالت ناشئة وتبحث عن التوافق والتراضي، ولا تزال لا تستحمل الديمقراطية التنافسية، كما أن دستور 2011 هو دستور توافقي بالدرجة الأولى. ولعل من خصائص السياسة في مجتمعات الانتقال الديمقراطي، أن مساحة المشترك، والمصلحة السياسية العامة، قد تضيق في دفتر الثقافة السياسية للفاعلين، وبالتالي فهي تحتاج، مع تطور مؤشرات الديمقراطية، إلى مزيد من التعزيز والتوطين. إن معطى المصلحة الخاصة أولا في نطر كل فاعل تظل حاضرة في سياسة الانتقال، باعتبار أن كل فاعل لا يستحوذ على زمام التدبير يعتقد أن مصلحته الخاصة أو مصلحة الشرائح الاجتماعية التي يمثلها تظل خارج التحقق وهو خارج الحكم. في دولة ومجتمع في طور الانتقال الديمقراطي تظل إذن الثقافة السياسية بعيدة، قريبا أوجدا، من تمثل الحس المشترك، ومن الإيمان والاختلاف والتداول الحر على السلطة، وعن تدبير المصلحة العامة كل في موقعه. فالسياسة وإن كانت تبنى بالضرورة على رهانات المصلحة العامة، فإن ممارستها ترتبط بالواقع وتنازع مختلف الإستراتيجيات أكثر مما تتصل بالرغبة أو الإرادة. فالتفكير فيها هو بالضرورة تفكير في الممكنات المتاحة لفاعليها.. طبيعة الإصطفافات يمكن رسم خطاطة التحولات التي عرفها تموقع مختلف الفاعلين منذ الكشف خن خريطة انتخابات مجلس النواب الأخيرة كما يلي: * المربع الملكي: في حركية طرحت عدد الأسئلة عن المبررات والخلفيات والدواعي واللحظة، تأثث المربع الملكي بعدد من الرموز والشخصيات، فإضافة إلى ستة مستشارين للملك سابقين( أندري أزولاي، عمر القباج، زليخة نصري، عباس الجيراري، محمد معتصم، مصطفى الساهل) تم استقطاب عدد ممن كانوا مكلفين بعدد من الملفات، فقد تم إدماج الفقيه الدستوري الذي ترأس لجنة صياغة دستور 2011 عبد اللطيف المنوني ضمن المربع الملكي، نفس الأمر يقال عن عمر عزيمان رئيس لجنة صياغة تقرير الجهوية الموسعة، أضيف أيضا إلى لائحة المستشارين الخبير في السياحة البشير الزناكي. وأعيد على الواجهة أيضا فؤاد عالي الهمة بتعيينه مستشارا للملك، بعد أن خرج سنة 2007 من الوزارة المنتدبة في الداخلية وأنشأ حركة لكل الديمقراطيين وقاد مشروع الأصالة والمعاصرة. لكن رياح الربيع العربي جرت بما لاتشتهيه سفن الهمة، فعاد صديق الملك إلى حضنه الأول. السؤال الأكثر دلالة في هذه الحركية تتعلق بالهدف من هاته التعيينات في هذا الوقت بالذات، أي أثر تلك التعيينات على وقع السياسة في المغرب؟ ما يمكن استنتاجه أن إدخال أسماء بوزن المنوني وعزيمان والهمة إلى أهم مطبخ للعمليات المركزي في النظام السياسي المغربي ككل لن يكون له أثر على تضاريس السياسية بلادنا. على اعتبار أن هؤلاء اشتغلوا على ملفات حساسة منها دستور 2011 وورش الجهوية إضافة إلى الملفات الأمنية والسياسية بالنسبة للهمة. هل هذه هي أولويات القصر في المرحلة القادمة التي سيغطيها الإسلاميون وحلفائهم في تدبير السياسات العمومية على مستوى المؤسسة التنفيذية؟ وماهي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تنشأ بين قطبي تدبير مرحلة تنزيل مضامين دستور 2011 وإخراج الترسانة الضخمة من القوانين التنظيمية والمؤسسات الدستورية؟ * اليسار: في حركية اليسار المغربي بعد اقتراع 25 نونبر يمكن تصنيف الأثر السياسي لهذا المكون إلى ثلاثة توجهات، توجه مثله حزب التقدم والاشتراكية الذي انحاز إلى صف التحالف الحكومي، ثم هناك الاتحاد الاشتراكي الذي قرر الانحياز إلى صف المعارضة. ثالثا هناك توجه المقاطع لمسار الإصلاحات الدستورية والانتخابية وقرر الاستمرار على نفس التوجه. ولعل المؤتمر الثالث لحزب الاشتراكي الموحد الذي رفع شعار الملكية البرلمانية الآن يمثل تجسيدا عمليا لهذا المسار. هل ستؤدي مختلف التموجات التي يعيشها جسم اليسار على تكتل هذا المكون لمعارضة حكومة العدالة والتنمية؟ وهل ستؤدي مراجعات كل طرف سياسي داخل اليسار إلى بناء حزب يساري كبير بعيدا عن حزب التقدم والاشتراكية، أم أن أنانية كل طرف ستنتصر في النهاية؟ لقد اتضح استنادا إلى الخطاب الإعلامي لحزب الاتحاد الاشتراكي وتدبير الحزب للحظة انتخاب غلاب على رأس مجلس النواب، ووصف الراضي الحكومة الحالية بأنها حزب يمينية وأن حزب المهدي ارتأى المعارضة حفاظا على هويته، واستحضارا لحضور قيادات من الاتحاد مؤتمر حزب الاشتراكي الموحد، وتخصيص جريدة الاتحاد الاشتراكي افتتاحية كاملة لتمجيد مسعى تكتل اليسار المغربي، كلها عناوين تشير إلى أن اليسار يسعى إلى ترصيص جبهة هدفها توحيد شتات العائلة اليسارية لمواجهة الحكومة المقبلة كخصم، معركة تسمح من خلالها لليسار التخفيف من وطأة اختلافاته، وبالتالي التوحد على خصم ينبغي التصدي لاختياراته الايديولوجية والسياسية. *الحركة الإسلامية: سنقتصر بذكر تفاعل ثلاثة تنظيمات إسلامية مع ما بعد نتائج اقتراع 25 نونبر، واخص بالذكر جماعة العدل والإحسان، الحركة من أجل الأمة، البديل الحضاري. مع إغفال دور حزب النهضة والفضيلة الذي اصطف مع مشروع " جي8"، وأيضا دون الدخول في معطى دور التيار السلفي. ويمكن القول بأن تيارات الحركة الإسلامية الثلاث ستعيش فترة تجريبية لملاحظة العلاقة التي ستنشأ بين حزب العدالة والتنمية الذين يشتركون معه في المرجعية ويختلفون معه سياسيا. فقد تلقت تلك الحركات فوز العدالة والتنمية باقتراع 25 نونبر بنوع من البرود، على اعتبار اختلافهم مع المقدمات التي يستند عليها الحزب الإسلامي المشارك في الانتخابات في عملية المشاركة السياسية وبالتاي من الطبيعي على عدم الترحيب بالمخرجات. في الأفق يتضح أن تلك التنظيمات ستتبنى مقاربة انتظار مآل تدبير المرحلة الأولى من تدبير الشأن العام من قبل حكومة بنكيران، بعدها يمكن أن تتفاعل إيجابا أو سلبا. فالبديل الحضاري والحركة من أجل الأمة ستطالب بداية بتسوية وضعية الحزبين، وتصفية تركة ملف "بلعيرج"، وبالتالي تحقيق الانفراج في تعامل الدولة مع تيار الاختيار الإسلامي. بالنسبة إلى العدل والإحسان ستسعى إلى هدنة لالتقاط الأنفاس وعدم إحراج إخوان الصف الإسلامي، مع أن خروج العدل والإحسان من حركة 20 فبراير لا يصب من الناحية الإستراتيجية ومن منظور ميزان القوى في صالح صراع الحكومة لتنزيل برنامجها في مواجهة لوبيات مناهضة التغيير. *حركة 20 فبراير: ما وظيفة ودور حركة 20 فبراير بعد انتخابات مجلس النواب الأخيرة؟ وماهي طبيعة التحولات التي ستشهدها؟ أعتقد أن خروج العدل والإحسان من صفوف الحركة سيخلق أثرا عميقا في طبيعة أدوار الحركة في المستقبل، السيناريو الأكثر رجاحة هو أن تصبح الحركة بالتدريج محضن يستثمره تيارات اليسار بمختلف مكوناته لتجريب لحظات الاندماج خلالها، وتحويلها على إطار لخوض معاركه المستقبلية مع مختلف الفاعلين الآخرين بما فيها الحكومة. الحركة ستتحول أيضا على نوع من الجامعة المفتوحة التي سيعى من خلالها اليسار توسيع قواعده البشرية والاجتماعية التي انحسرت كثيرا في السنوات الأخيرة. هل سينجح اليسار في مسعاه؟ كيف سيكون رد الفعل من قبل المستقلين في الحركة؟ الأثر السياسي سيبقى رهينا بطبيعة رهانات اليسار، وكذلك سيبقى مرتبطا بطبيعة التدبير الحكومي المقبل. المغرب السياسي إلى أين؟ يتضح أن إعادة التموقعات التي شهدتها الأسابيع التالية لاقتراع 25 نونبر تضع الموقف من حكومة بنكيران ضمن دائرة ضوء اتخاذ القرار. إن ما أفرزته الانتخابات التشريعية ستجعل الخريطة السياسية أمام مشهد جديد: ملكية حاكمة ستسعى لتفعيل وظيفتها التحكيمية، وحكومة يقودها حزب إسلامي رفع شعارات إسقاط الفساد وتعزيز الحكامة الرشيدة، ويسار يريد استعادة دوره في المعارضة السياسية والهوياتية يذكرها بواقع سبعينات القرن الماضي، وحركة إسلامية ستفضل في مرحلة أولى على الأقل وضع حيادي، ومجتمع مدني في حالة انتظار، وشعب يرتقب. فماهي الوسائل التي تمتلكها الحكومة لإنجاح المسار، بالرغم من تلك التموقعات التي لا تدور في صالحها بشكل عام؟ الواضح أن حكومة بنكيران تتوفر بداية على أوراق رابحة ويجب استثمارها بشكل جيد وبمنهجية ذكية: دستور جديد يمنح صلاحيات واسعة لمؤسستي الحكومة ورئيس الحكومة، ملك يعطي تأويلا ديمقراطيا للدستور ومن مصلحته خلخلة الوضع وإسقاط الفساد، تفويض شعبي قوي، سياق إقليمي ودولي مشجع، تحالف حكومي يمتلك حدا أدنى من الانسجام في قراءة الخريطة السياسية لمغرب اليوم. الحكومة تمتلك أيضا مفاتيح التواصل مع الشعب لقول الحقيقة في كل منعطف، وتمتلك أخيرا رغبة الشعب في إحداث التحول. إن ما ستنجزه حكومة بنكيران خلال 100 يوم الأولى وطبيعة تدبيرها سيحدد مآل تلك التموقعات وطبيعة تدبير مختلف الفاعلين للحراك السياسي في مغرب يحاول أن يحقق الانتقال إلى الديمقراطية وإسقاط الفساد دون المرور بالضرورة من بوابة نماذج الحراك في الساحات العربية الأخرى كتونس أو مصر أو ليبيا أو سوريا أو الجزائر. فهل ينتصر كل من اليسار والحركة الإسلامية وحركة 20 فبراير للحس المشترك في لحظة المطلوب فيها تاريخيا التغاضي عن مقاربة مصير البلاد من خلال الأنانيات الضيقة؟ وهل ينتصر الاستثناء المغربي مرة أخرى؟ وهل من "يريد يقدر"؟ [email protected]