يبدو أن التحولات السياسية العاصفة والمخاض العنيف اللذين يمر بهما العالم العربي خلال السنتين الأخيرتين وما يزال، وخاصة بعد التطورات التي حصلت في مصر، لا يقتصران فحسب على قضايا السياسة المباشرة، بل يطولان وبشكل خاص الحقل الديني، باعتباره واجهة للسياسة غير المباشرة. وإذ نلاحظ أن هذه التحولات الكبرى، ومن ضمنها ما يجري في مصر، قد أدخلت إلى المجال السياسي ودائرة السلطة فاعلا سياسيا يجعل الدين الأرضية التي يصوغ من خلالها خطابه ويقوم عليها موقعه في الساحة السياسية، يكون من باب أولى أن هذه التحولات سوف تمس بشكل أساسي المسألة الدينية، ولا نجازف إن قلنا إن التحولات المقبلة سوف تصبح بدرجة أولى داخل حقل الدين، وإن الانقسام حول السياسة ومسائلها سيصبح تابعا للانقسام حول الدين ومسائله. وعلى الرغم من أن الانقسام في مسائل الدين حصل دائما ولم ينقطع، إلا أن مقصودنا أن سرعة التحولات الحاصلة اليوم تستتبع سرعة التحولات في الحقل الديني، على عكس ما كان يحدث في السابق. وللتوضيح أكثر أقول: لقد كان النقاش حول حدود الدين وحدود السياسة يجري في الماضي بين تيار الإسلام السياسي الخاص والتيار السياسي العام، بين من يرى أن الدين لا يجوز إدخاله في السياسة صدقا أو تلاعبا ومن يرى أن السياسة جزء من الدين تلاعبا أو صدقا لكنه اليوم بدأ يتحول إلى نقاش داخل ممثلي المرجعية الدينية نفسها: إلى أي حد يمكن السماح بحشر الدين في الصراعات السياسية اليومية المباشرة التي تعبر عن مصالح متضاربة؟ وهل من الضروري التفاهم حول الفصل بين رجل السياسة ورجل العلم أم أنه يجوز الخلط بينهما؟ وهل رجل العلم في الشريعة يعبر عن صوت الأمة باختلافاتها وتعدد المشارب فيها أم أنه صوت طرف معين في وجه أطراف أخرى؟ إلى غير ذلك من القضايا. هذه تساؤلات أوحت بها استقالة نائب الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ عبد الله بن بية الموريتاني قبل خمسة أيام، الذي لم يتسرب من بيان استقالته سوى سطر واحد جاء فيه"إن سبيل الإصلاح والمصالحة يقتضي خطابا لا يتلاءم مع موقعي في الاتحاد"، لكنه كاف لكي يفسر دواعي الاستقالة المفاجئة، التي هي الأولى من نوعها داخل الاتحاد منذ تأسيسه عام 2004 وانتخاب الدكتور يوسف القرضاوي أمينا عاما له. ويعتبر بن بية من العلماء البارزين في العالم الإسلامي، وفي عام 2009 اعتبر واحدا من خمسين شخصية مسلمة الأشد تأثيرا في العالم. وبالرغم من أن الاتحاد ظل هدفا للانتقادات المتتالية طيلة السنوات الماضية، سواء بسبب هيمنة التيار الإخواني عليه وإقصاء التيار السلفي، أو بسبب عجزه عن إنجاز التفاهم المذهبي خاصة بين السنة والشيعة، أو لكونه يضم عددا كبيرا من ممثلي أهل السنة مقابل قلة قليلة من ممثلي الشيعة(الشيخ محمد علي التسخيري من المؤسسين ويعوضه اليوم محمد واعظ زادة)، أو بسبب طغيان شخصية القرضاوي عليه مقابل طمس الوجوه الأخرى، أو بسبب اقتصار العضوية فيه على ممثلي السنة والشيعة والإباضية فقط، بالرغم من ذلك كله فإن الاتحاد كان أول مبادرة حقيقية من نوعها على الأقل فيما يتعلق بإرادة تجميع علماء الأمة في ناد مشترك بينهم. بل يمكن القول إنه كان بمثابة محاولة لإحياء وتوسيع مؤسسة دار التقريب التي تأسست في القاهرة عام 1947، وبعث نفس الرسالة التي قامت عليها هذه الأخيرة، بدليل عضوية ممثلي الشيعة الإثني عشرية فيه. غير أن الاتحاد شهد في السنوات الأخيرة مجموعة من الانزلاقات، أظهرت في وقت مبكر أنه رهين الصراعات السياسية التي تحصل في العالم العربي، مما قزم من موقعه وحوله في نظر البعض إلى منبر لتكريس الخلافات الدينية والمذهبية بدل المساهمة في الحد منها. وقد بدأت هذه الخلافات منذ أول خروج للشيخ القرضاوي في تصريحات يهاجم فيها الشيعة، بالرغم من تلك المناظرة التلفازية الشهيرة التي جمعته بالشيخ علي أكبر رفسنجاني عام 2007، والتي لم تساعد في إظهار التقارب بين الإثنين بقدر ما أظهرت أن الجانبين على طرفي نقيض. إلا أنه منذ بدء الأحداث الأولى للربيع العربي قبل عامين بدأت الخلافات تتنامى داخل الاتحاد، نتيجة التصريحات المتوالية للشيخ القرضاوي الذي كان دائما يرفق إسمه عند كل خروج إعلامي بالصفة التي يتوفر عليها في الاتحاد، مما كان يعني في نظر البعض أن تلك التصريحات تعبر عن الموقف الرسمي لهذا الأخير حتى لو أن الشيخ القرضاوي يعبر فيها عن رأيه الخاص. وتطورت الأمور أكثر حين دعا علانية إلى قتل حاكم ليبيا السابق معمر القذافي، إذ اتهمه البعض بالدعوة إلى الفتنة وإباحة القتل مما قد يدفع الكثيرين إلى إدخال المحظور تحت ذلك الحكم، ثم تصريحاته النارية في القضية السورية، وأخيرا في ما يتعلق بالوضع في مصر. وهي كلها تصريحات يظهر فيها الشيخ القرضاوي كرجل يغلب جانب الانقسام على جانب الدعوة إلى الحوار، لأنه فيها كلها يتخذ مواقف تظهر فيها حماسة السياسي لا هدوء رجل العلم الشرعي. خاصة في الشأن المصري، حيث ظهر لديه جنوح إلى جماعة الإخوان المسلمين أكثر من الجنوح إلى تغليب كفة المصالحة، خلافا مثلا لمواقف آخرين من الاتحاد كعلي القرة داغي الذي طالب بعودة الشرعية رابطا إياها بضرورة المصالحة الوطنية، بينما وقف القرضاوي في خندق جماعة الإخوان المسلمين وأعلن حربا على التيار الآخر بجميع أطيافه، إلى حد أنه وصل إلى درجة التكفير، وهي كلها مواقف تتنافى مع طبيعة الاتحاد وهويته التي أسس عليها، ومن ضمنها الوسطية والوحدة الإسلامية وعدم الانحياز إلى دولة أو جماعة أو حزب معين. والواقع أن دور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بدأ يتعرض للتشكيك فيه منذ ما قبل اندلاع أحداث الربيع العربي، خاصة بعد طغيان شخصية الشيخ القرضاوي عليه وهيمنته الإعلامية من خلال قناة"الجزيرة"القطرية التي بوأته مكانة جعلت الكثيرين من العلماء يستفيقون على أهمية وخطورة الربط بين الدين والسياسة، وبين الدين والإعلام. ذلك أن الهالة التي أعطيت للشيخ القرضاوي أقنعت الكثيرين بأن العلم الشرعي اليوم، ومن تمة دور العالم، لم يعد يقتصر فحسب على الدور الذي يقوم به بصفته تلك، ما لم يتوفر له سند من السلطة أو الإعلام، أو منهما معا. ومن هنا خلصت تلك القناعة إلى أن المكانة التي منحت للشيخ القرضاوي لا ترجع فقط إلى وزنه في عالم الأبحاث الدينية والفتاوى الشرعية على ما يتوفر عليه من تراكم بل بدرجة أولى إلى ارتباطه ب"أجندة"سياسية تعمل على تعزيز موقعه وتحويله إلى"مرجعية"للخطاب الديني في العالم السني، على حساب علماء آخرين لا يقلون عنه في الوزن العلمي، بل يخالفونه في الكثير من المواقف، سواء في ما يتعلق منها بالقضايا الدينية أو بالقضايا السياسية. لذلك لا يحظون بنفس الدرجة من تسليط الأضواء عليهم، سواء لأنهم لا يخدمون تلك المصالح السياسية الكبرى في المنطقة العربية، أو لأن مواقفهم قد تخلق حالة من عدم الانسجام قد تؤثر على تلك المصالح بطريقة غير مباشرة، ذلك لأن حصر"المرجعية" في الشيخ القرضاوي يدفع إلى الإيهام بأن الإسلام المعاصر خال من الاختلاف، وهو إيهام ضروري من الناحية الاستراتيجية لتمرير المواقف السياسية المرغوب فيها، على عكس ما لو تم تعزيز الاختلاف وإظهاره. ولهذا السبب كان صوت الشيخ القرضاوي هو الأكثر انتشارا منذ بدء موجة الربيع العربي، وهو الحاضر باستمرار في كل القضايا السياسية المثارة، مقبل التعتيم على مواقف أخرى لعلماء آخرين. هذه الاستراتيجية وعتها السعودية، جارة دولة قطر، منذ ما قبل ثلاث سنوات. فقد فهمت المملكة أن سياسة المحاور لم تعد قاصرة على السياسة بل انتقلت إلى الدين، وأن الصوت الديني أصبح مسموعا أكثر في عالم اليوم في إطار التدافع السياسي، ولذلك عملت على تأسيس رابطة جديدة للعلماء يهيمن عليها السلفيون هي"رابطة علماء المسلمين" عام 2010 بالكويت، كمنافس للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الذي يهيمن عليه التيار الإخواني. وقد ضمت الرابطة رموزا معروفين للتيار السلفي، أمثال الشيوخ عبد الوهاب الحميقاني وعبد المجيد الزنداني اليمنيين وعبد الرحمان عبد الخالق المصري وعبد الرحمان بن ناصر البراك من السعودية. وقد أظهر تأسيس الرابطة أن التنافس بين السعودية وقطر أصبح يرتكز على خيارات دينية لدعم الخيارات السياسية لكل طرف. فمقابل المطالبة بتغيير الأوضاع وتأييد الثورات التي يعبر عنها القرضاوي من داخل الاتحاد هناك مطالبة بوحدة الأمة وتحذير من الفتنة التي تعبر عنها بيانات الرابطة. ومقابل الدعوة إلى الحفاظ على الشرعية في مصر، بعد عزل الرئيس محمد مرسي، التي يطالب بها الاتحاد أو بعض الأصوات فيه، هناك دعوة إلى الإجماع الوطني لدى الرابطة، التي قالت في بيان لها إثر أعمال التقتيل والمذابح في ساحة رابعة العدوية في الشهر الماضي إنها" تطالب الجيش المصري والمؤسسات الأمنية كافة أن تلتزم بتعهداتها ومسئولياتها الوطنية وألا تنزلق إلى تكرار تجربة الجزائر"، مما يكشف التأييد الصريح للانقلاب. وفي الوقت الذي يسوق كل طرف مسوغاته الدينية، التي لها سند في الفقه الإسلامي، فإن الأمر يتجاوز تلك الخلافات الفقهية بين علماء ويعكس صراعا بين محورين سياسيين، الاتحاد والرابطة فيه غطاء ديني يوفر المشروعية للسياسة، لكن لا يصنعها.