وما يجري في القاهرة منذ أن أطلق الشيخ يوسف القرضاوي تصريحاته، يستحق التأمل، فالنظام الحاكم في مصر يبدو راضيًا، وإن كان "رضا العذارى"، الذي يعبر عنه بالصمت الإيجابي، والمعلقون في الصحف المصرية بين مذاهب وتحليلات وقراءات شتى، مؤيد ومعارض ومتحفظ وخلافه، كما انتفضت عدة جهات دفاعًا عن القرضاوي ضد رد الفعل الإيراني العنيف، وأصدرت مئات الشخصيات الدينية والسياسية بيانًا نددوا فيه بالحملة الإيرانية ضد القرضاوي، وأشاروا في بيانهم إلى أن ما وصفوه بتلك الهجمة لم تقتصر على جهات إعلامية إيرانية شبه رسمية، بل شارك فيها أيضًا بعض علماء الشيعة الذين يحظون بقدر من الاحترام في العالم السني، منهم الشيخ محمد علي التسخيري، ومحمد حسين فضل الله وغيرهما . أما اللافت حقًا في هذا السياق فهو موقف جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية التي ينتمي إليها القرضاوي تاريخياً، وصار أحد أبرز رموزها وفقهائها الذين وإن لم ينغمسوا تمامًا في شؤونها اليومية، لكنه يمثل "مرجعية ما"، لجيل كامل وربما أجيال داخل صفوف الجماعة . وجد قادة جماعة "الإخوان المسلمين" أنفسهم بين شقي رحى، فالقرضاوي "عمدة الجماعة"، وأحد كبار عرابيها كما أسلفنا، وهو ما لا ينكره الرجل إلا على سبيل الاحتياط القانوني، وللإخوان أيضاً صلات طيبة ووثيقة بما يعرف بقوى المقاومة وفي الصدارة منها "حزب الله" الشيعي اللبناني، وبالتالي أراد الإخوان تمرير هذه الأزمة أو "الزوبعة"، كما يصفها أحد قادة الجماعة في أحاديث جانبية "ليست للنشر" . أما ما يجري على ساحة "القارة الافتراضية" المسماة بشبكة الإنترنت، فلم يكن أهون أو أقل خطورة، إذ اندلعت حرب إلكترونية بكل ما يعنيه هذا المصطلح من نتائج ومعان، فقد شهدت الساحة الافتراضية عمليات اختراق متبادلة لمواقع سنية وشيعية، بدأت بإعلان مجموعة مجهولة من المخترقين تعطيل نحو 300 موقع ديني شيعي، من بينها موقع المرجع الأعلى للشيعة في العراق آية الله السيستاني، ثم أعقب ذلك هجمات مقابلة على عدد كبير من المواقع السنية، من بينها موقع "نداء الإسلام" التابع للشيخ عائض القرني الذي تعرض لضربة تخريبية طالت كافة محتوياته، وموقع الشيخ عبدالعزيز بن باز، فضلاً عن الضربة الكبرى التي وجهت إلى موقع "العربية نت"، الخاص بفضائية "العربية" عبر شبكة الإنترنت، والتي ينظر إليها قطاع كبير من الشيعة باعتبارها "سنية التوجه"، كونها مملوكة لرجال أعمال سعوديين . أصداء المعركة وتدحرجت القصة لتصل إلى الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الذي أصدر بيانًا رسميًا قال فيه "إن الأمة الإسلامية واحدة سواء كانوا سنة أو شيعة لأن الجميع يدينون بالإسلام ويتجهون لقبلة واحدة ولا توجد خلافات جوهرية بينهم، مؤكدًا أنه لا ينبغي أن تكون هناك خلافات بين السنة والشيعة" . أما أحمد كمال ابو المجد نائب رئيس المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان فقد طالب بضرورة تجاوز ملف الخلاف وتبادل التهم بين السنة والشيعة والمتداول حاليًا عبر وسائل الإعلام المختلفة، وقال ابو المجد إنه في مثل هذه القضايا المتعلقة بوحدة الامة ومصالحها الكبرى يفضل ان تحل في مراحلها الأولى على الأقل بعيدة عن كل صخب اعلامي قد يعنيه الانفراد بالخبر او السبق فيه ولو لحساب مصالح كبرى . وأضاف انه لا يجوز تعريض هذه المصالح الكبرى للخطر من خلال الإعلام وذلك حتى يجلس العلماء والخبراء ويتشاورون في هدوء وروية والإحساس بالمسئولية والرؤية التامة لعناصر الموقف كلها . وحذر أبو المجد من أن تداول مثل هذه القضايا على الفضائيات ووسائل الاعلام يضر بمصالح المسلمين ولا يستفيد منه سوى الأعداء والمتربصين بالأمة. ويرجع تاريخ الخلافات بين المسلمين، الذي أفرز ما بات يعرف بخصومة السنة والشيعة، إلى نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان، حيث ظهرت فتنة لم تعرفها الدولة الإسلامية في عهد النبي وخليفتيه، أبو بكر وعمر ابن الخطاب، بعضهم يوجز أسباب الفتنة في شخصية أحد اليهود يدعى عبد الله بن سبأ، الذي نجح في بث أفكار وجدت لها تربة خصبة بين المسلمين، ليبدأ الحديث عن أحقية علي بن أبي طالب وذريته في الخلافة، وهي الدعوة التي انتشرت في أرجاء الدولة الإسلامية، غير أن عددًا من الباحثين من بينهم الأديب المصري الكبير طه حسين، أكدوا تناقض الروايات الخاصة بعبد الله بن سبأ، وانه لم يكن موجودًا في تلك الفترة التي شهدت خلافات المسلمين في تلك الآونة التي تبلور فيها الانقسام . وبغض النظر عن مدى صحة أي من الرأيين، فالأمر الثابت تاريخيًا هو أن الخلاف بين المسلمين الأوائل بدأ سياسياً حول الخلافة، ثم تحول إلى خلاف ديني أداره بعض أصحاب المصالح السياسية، وظل دائمًا يتخذ أشكالاً ووسائل متباينة، ويشهد مدًا وجزرًا، لكن السياسة ظلت حاضرة في هذا الصراع حتى اليوم . نبيل شرف الدين - إيلاف