قال الأديب المغربي عبد الكريم جويطي إن روايته الجديدة "ثورة الأيام الأربعة" تبحث في الجروح الوطنية ومعالجتها قصد الانطلاق نحو مستقبل المغرب، مشيرا إلى أن العديد من الشهادات تحدثت عن "أحداث مولاي بوعزة"، لكن عمل الرواية يأتي من أجل إعادة بناء الحدث نفسيا ووجوديا. وأضاف الفائز بجائزة اتحاد كتاب المغرب وصاحب "المغاربة"، في حوار مع جريدة هسبريس، أن الرواية تنتصر للأفراد المهمشين والمعزولين ممن لم يتذكرهم التاريخ، مسجلا أن موقفه الرافض للعنف والتغيير دون إطارات نظرية واضحة يحدد معالم الرواية. إليكم نص الحوار: السؤال الأول في حوارنا نبدؤه بسؤال الدهشة الأولى في الرواية: "السلحفاة سرمد" و"البغل فوق الجبل".. وهي تلتقي كثيرا مع "الحمار فوق الربوة" لمحمود درويش، وتكتنز بعضا من أسئلة شك "التفوق الإنساني" على باقي الكائنات. هل تمضي الرواية نحو فك هذه "اليقينية" بإبراز معالم حكمة حياة الحيوان؟ سرمد بنية أساسية للرباعية، وهي قلب الرواية والبطل الحقيقي، وستبقى حاضرة في كل الأجزاء. دائما أطرح على نفسي هذا السؤال الوجودي حول علاقة الإنسان بالحيوانات، خصوصا أنني أعيش في البادية. هل نفكر فيها كما هي أو نسقط أفكارنا عليها؟ والسؤال الثاني: هل نحن حقا نفهم الحيوانات؟ وهل أقمنا، منذ ترويض الإنسان للحيوانات، حوارا وجوديا مع الحيوان؟ أعتقد أنني أتعلم في المكان الذي أعيش فيه بشكل يومي من الحيوانات (أربي الحمام، الطاووس، البط والسلاحف). هناك حوار يومي لي معها، ومن أقواها واحدة كانت مع الحمام: يعيش في قفص كبير، لكن حين الولادة يختار باب القفص لوضع الفرخ الجديد، وقد كتبت هذا في يوميات أدونها: أول درس للفرخ الجديد هو الحرية والباب هو مفتاحها. سرمد وكل التأملات المصاحبة لها مع زياد السماعلي (بطل الرواية)، ستكون في كل الأجزاء، وهي محاولة للتداول معها وتجاوز الأفكار المسبقة (البطء، النوم..). بالنسبة لي، السلحفاة لها كبرياء خاص، ورمزية كبرى للاكتفاء الذاتي، فهي ليست بحاجة إلى العالم. والأنثى تضع أبناءها وتذهب إلى حالها ليتدبروا حياتهم بأنفسهم. هو درس في الاعتماد على النفس. السلحفاة في الرواية تتخذ لبوس المثقف كذلك وتدرسه، هل يعيش العزلة أو يكون منخرطا عضويا. السلحفاة هي نقيض الفكرة، لا تعتني سوى بنفسها ولا تنشغل إلا بنفسها غير لحظة التزاوج، وبعد ذلك تعود إلى "عزلتها الباذخة". وعلى غرار الرواية اليابانية، حاولت فتح "الحوار الوجودي" مع الحيوانات، واخترت السلحفاة، وأيضا كائنات أخرى (مبتسما، لا أريد حرق الرواية). في الجزء الثاني هناك حوار مع النمل. الرواية تدور في الجبل، وهو إفراط للطبيعة في عرض نفسها. وبالتالي، في كل الأجزاء هناك حوارات مع كائنات نتعايش معها. كما في روايتك "المغاربة" في نقاط عدة، دائما ما يشوب التردد حياة المغربي. لكن هذا الارتباك صاحب، هذه المرة، الخروج إلى الثورة، وبرزت من خلاله مواضيع "اللامبالاة" و"الجدوى" و"الانتصار للفرد". كيف كرست هذا الشك في المصائر، رغم أن الثوار يكونون واثقين من خطواتهم ودوغمائيين أحيانا؟ البطل ليس عضو المنظمة السرية، ولم أكشف بعد عن كيفية استدراجه، وفي الأجزاء المقبلة سيسترجع أحاديثه مع القائد، إضافة إلى أنه يتأمل عن كثب غياب الشروط الموضوعية للخروج. البطل أيضا ليس ثوريا محترفا، وهذا ما يتضح من خلال تفكيره طوال الطريق في الهرب مع رفاقه. هذا القلق ملازم للأحداث التاريخية الكبرى مهما تظاهر الإنسان بالتماسك أو الإيمان بشيء ما. دائما هناك شك وأسئلة. فسؤال: "لماذا أنا هنا؟" ملازم للطبيعة الإنسانية القلقة، خصوصا في تجارب قد تودي بالحياة وتذهب بالناس إلى السجن. العمل المسلح والثوري ليس سهلا. في الرواية هناك فقرات كثيرة حول ما يعتمل في نفس البطل، ويتضح من خلالها بجلاء أنه لا يمكن حمل السلاح دون حوافز نفسية تجعلك تقوم بالفعل. بالنسبة إلى رواية "المغاربة"، حاولت أن أتخلص منها في كل شيء: خرجت من السوداوية، ونقاش الإخوان العسكري الناقم والأعمى المنشغل بذاته. في المقابل، "ثورة الأيام الأربعة" فيها مرح رغم جسامة ما تحكيه، وتناقش المقاربة التاريخية، التي تكون دائما متجهمة ولا تعرف السخرية. العمل الروائي عمل على تحريرها من جديتها ومهابتها. الدافع الأساسي لكتابة "ثورة الأيام الأربعة" كان كذلك تناول موضوع الجبل، وهو مجال عظيم في تاريخ المغرب، باعتباره صانع الإنسية والحضارة المغربية مقارنة بالسهل. هو الذي حمى المغاربة من الأوبئة وبطش الإمبراطوريات المستعمرة، وهو الذي يعطي السكان للسهل.. بخلاصة، المغرب هبة الجبل. تتضمن الرواية عبارة فريدة شكلا ومضمونا هي: "العالم بكل شيء". فهي تكتب في كل الفصول بخط بارز مقارنة بباقي الفقرات، كما تحيل على فكرة "الأخ الأكبر" لدى جورج أورويل، لكنها معكوسة الآن، وتستهدف الفقيه البصري المحسوب على المعارضة. هل تمضي نحو نفي "الجماعة" واعتبارها في كلا الصفين مقلصة لحضور ذاتية الفرد؟ زياد السماعي، كما، تعلم التحق بالمنظمة السرية شهورا فقط قبل الانتفاضة، وكلما راودته أفكار وتساؤلات، كان الجواب دائما هو: "العالم بكل شيء" يعرف كل الأمور، وفعلا بدأ يتصور الفقيه البصري يعرف كل شيء، فالعبارة في الرواية تأتي جدية وليست ساخرة. هذا المعطى أكده لي بعض من التقيتهم، وكانوا مشاركين في الثورة، فبعد أن وجدوا الأمور غير منظمة في الجبل، بدؤوا يسألون عن مصير الثورة، فكان يقال لهم: الفقيه يعرف ماذا سيجري. هذا ليس تنقيصا من الرجل، ففي الأجزاء المقبلة (مبتسما، لا أريد حرق الرواية)، ستشكره شخصيات أخرى وستعتبره شخصية وطنية فذة. من أسئلة علاقة الرواية بالتاريخ التي تطرحها "ثورة الأيام الأربعة"، بناء شخصية "التيزنيتي"، ففي الواقع يقدمه المهدي بنونة كاتب "أبطال بلا مجد" بكونه هو من تسرع وأفشل خطة الثورة، لكن الرواية تعرضه حكيما متبصرا وصادقا أكثر من جميع الثوار. كيف ترى حدود التأثير والتأثر بين التاريخ والأدب؟ قدرنا في المجتمعات التي تريد بناء نفسها، هو تنظيف الجراح الوطنية أولا. لا يجب أن نخاف من أحداث شكلت مأساة قاسية لعائلات ودواوير، وأناس شردوا وتحطم مستقبلهم. ما عرف بأحداث "مولاي بوعزة" جرح كبير لا يجب تجاوزه، وإلا سيكون عطبا في الجسد. من الضروري تنظيفه، وهذا التنظيف مرتبط بتثمين الشهادات. كتب الكثيرون عن تلك الأحداث، ومهم ما دونه بودرقة ولومة والتوزاني وبنونة والفكيكي. الرواية دورها الآن إعادة بناء الحدث نفسيا ووجوديا لاستخلاص ما ينبغي استخلاصه، ومن بينه ضرورة النضال الديمقراطي وتعلمه بالممارسة، كما قال عبد الرحيم بوعبيد، عوض المبادرات العنيفة والدموية المرفوضة. كثير من الأشياء التاريخية عادة ما يتم تغييبها، لكن الرواية تمضي نحوها بشجاعة من أجل مستقبل المغرب. وفعلا لمست أن موضوع "أحداث مولاي بوعزة" عاد إلى الواجهة بقوة بعد العمل. ما أريد مناقشته كذلك بهذا الخصوص هو مآلات بعض ثورات الربيع العربي، فالرفض التام هو ما يجب أن يصاحب التحركات العنيفة فردا وجماعة. فيما كتبته دلالات كثيرة للأسماء، لكنها تلقي في التشبث بالمكان (التيزنيتي، الملالي، الصحراوي، الفيتنامي). لماذا تصر على ربط الاسم بالمكان؟ هذا الأمر مرتبط بطفولتي. والدي اسمه عباس بن بوزكري، لكن طوال طفولتي كانت أمي تناديه بالموساوي نسبة إلى بني موسى، أي بالنسبة للأطفال هو "الواليد" أو "با"، لكن بالنسبة للأم هو دائما الموساوي. في "الدرب" كذلك، كل الجيران لهم ارتباطات مكانية، فبجوارنا السرغيني والعطاوي والعتابي، ورغم اكتنازها قليلا من القبلية، لكن من في المغرب لا يركب وسيلة نقل دون أن يسأل غريبا في جواره: من أين أنت؟ المغربي لا يخاطب شخصا إلا حين يضبط تماما مجاله الجغرافي. هذا المعطى في المغرب خلاق وخصب وجميل. حين يلتقي ريفي وسوسي وفرد من وسط المغرب وشرقه، فالأمر يشبه فتح كتاب للتخاطب. بني ملال كذلك تشكلت من موجات هجرة كثيرة، فحي "كاسور" الذي كبرت فيه، كان فيه الريفيون والوجديون والشماعيون.. هكذا كانوا يسمون، لكن دون قبلية، فقط للتخاطب وفتح العلاقات بين الجميع. موازاة مع الانتقاد الذي توجهه إلى اختيارات شعبية كثيرة، بحثت "ثورة الأيام الأربعة" عن فولتير وروسو مغربيين في سياق التأسيس للثورة. كيف تقيم اشتغالات النخب المغربية سابقا وراهنا؟ باستثناء بنونة، الذي أرسل إلى الفقيه البصري وثيقة تتضمن 24 تبين أن لا شيء نضج لخوض الثورة في المغرب، فلا أحد وضع إطارات نظرية للخروج. حتى هذا الجبل الذي سينطلقون منه لا أحد درسه منهم أو كتب عنه. ما جرى كان نوعا من التآمر (غانديرو هاد القضية)، لأن من يخطط كان بعيدا عن الميدان ودفع الناس إلى تخريب حياتهم. وهذا يبرز بالملموس أن كل تغيير لا تصاحبه أفكار جديدة لا يمكن أن ينجح، وكذلك في السياق الحالي. يجب على الراغبين في الإقناع أن يأتوا بتصورات جديدة لمغرب الغد. في مسارات الاستعداد للثورة، كانت أسئلة البحث عن الذات وسط خيارات الجماعة مركزية لدى زياد السماعلي والتيزنيتي ضمن الرواية، بل قد تحتل صدارة التأثير لدى المتلقي مقارنة بفعل الثورة. ماذا تريد أن تقول من خلال محادثات السماعلي والتيزنيتي؟ هذه ملاحظة ثاقبة. هناك حلم جماعي بالخروج وتحقيق الثورة، لكن حينما يعود كل فرد إلى خلوته يطرح أسئلة، ويقول إن الأمور لا تسير كما ينبغي، وهذا التمزق والالتماعات الإنسانية توجد لدى الثوريين المحترفين كذلك، ويطرحه ليون تروتسكي في مذكراته. بمرور الوقت يتضح أن الأمر كان جلبة وتوهما بصناعة التاريخ، لأنه في النهاية هذا التاريخ الثور الهائج يرفس الجميع، منتصرين ومنهزمين. الأدب كله ينتصر للإنسان، كما يقول أبو فراس الحمداني "إذا مت ظمآن فلا نزل القطر"، وبالتالي فالأدب انتصار للفرد وليس للجماعة. حتى الأدب الشيوعي الذي انتصر للجماعة كان رديئا. لا بد من تذكر هشاشة وعزلة وانكسار الفرد. وهنا الانكسار لا يعني المنهزمين فقط، بل المنتصرين كذلك، فهم يحسون بشيء من الهزيمة لأنهم لم ينتصروا سوى على الإنسان. ما أود توضيحه كذلك أن الرواية تكتنزه أحزان متوهمين وتخريبا لحياتهم وللمحيطين بهم، لكنها أيضا ليست دعوة للعزلة والابتعاد عن الفعل، شريطة الوعي والثبات والحفاظ على حقوق الذات كذلك. وسط كل الانتقادات التي وجهتها إلى المغاربة في أعمالك الإبداعية، تقف "النساء المنتظرات فوق الربوة" ممانعات بعواطفهن القوية، فأمام قياسات العقل يبدو المغاربة شعبا منهزما، لكن على مستوى العواطف تصور المغاربة جياشين. "هل العقل للغرب والقلب للمغاربة"، استحضارا لعنوان مهدي عامل بقليل من التصرف؟ المغاربة شعب عاطفي ويفكر بعاطفته في المحطات الكبرى من تاريخه. السهل هو تعبئة هذا الشعب، مثلما جرى في حديث المسيرة الخضراء مثلا، عشت هذا وكانت التعبئة منقطعة النظير. الناس كلهم كانوا مستعدين للخروج. علاقة المغاربة بترابهم عاطفية كذلك، وهي من جعلته ينجو في كل المحطات التاريخية الصعبة، ومن بينها معركة وادي المخازن ومعركة اللبن مع العثمانيين. وهذه النجاة تأتي أساسا من عواطفهم الصادقة، فما الذي أبقى ذكرى الأبناء المتوفين في حرب الفيتنام أحياء سوى عاطفة الأمومة، ونفس الأمر بالنسبة للبلد. ما يجعل المغرب واقفا هو هذه العاطفة العظيمة تجاهه. قد يشتكي الناس من الوطن، لكنهم يحبونه حبا جنونيا ومستعدون للتضحية من أجله، وكلهم مثل الجميع في الرواية ينتظرون برجاء أن يكون المغرب أفضل وأحسن. نساء الربوة وتودا وباسو وحسن والثوار.. الجميع ينتظر وله أمل في المستقبل. تلقي الرواية انتقادات في بعض ختامها على الطموح وتتجه نحو الانكفاء على الذات بكثرة. هل يتراكم هذا الشعور لدى الطموحين عموما بعد تجارب سياسية ووجودية فاشلة؟ حاولت الكتابة عمن لا صوت لهم، من وجدوا أنفسهم في عمق الصراع دون أن يكونوا على اطلاع، ففي كافة التنظيمات السرية هناك قيادة تعرف، وصف ثان يعرف القليل وينفذ، ثم يأتي الحطب، وهم أغلبية صامتة، لو طرح عليهم السؤال: ماذا تفعلون هنا؟ لن يجيبوا، هم "أيتام التاريخ"، "الصامتون"، "المعذبون". كثيرون كذلك استقبلوا الثوار، بحكم الكرم الجبلي والأمازيغي، فوجدوا أنفسهم في السجون. هؤلاء من يهمونني، فأنا أعرف بأنني لن أقدم معرفة جديدة عن أحداث 1973، لكن الرغبة هي إعادة بناء الحياة والانتصار للجبل والمصائر الصغيرة فيه، وكذلك اليوتوبيات التي ضيع الناس حياتهم من أجلها رغم غياب شروط تحققها. العمل في النهاية هو انتصار للحياة ودعوة للاستفادة من التاريخ، خصوصا أن شعبنا له امتداد تاريخي كبير، ومر بفترات انحطاط عديدة، لكنه لم ينهزم كلية. وبالتالي، وجب التفكير في العمل والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمجالية كذلك، بما أننا في بني ملال.. مغرب يشعر فيه المغاربة بامتلاكهم نفس الحقوق. *(الجزء الثاني من الرواية سيصدر في أكتوبر المقبل)