سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف يرى المبدعون فكرة «الحب» كمتخيل وكقيمة إنسانية؟
عندما يسود الحب العلاقات الاجتماعية يختفي الحقد والبغض والكراهية..
نشر في المساء يوم 15 - 04 - 2015

يأتي هذا الملف المكرس أساسا لفكرة «الحب» من منطلق كونها تمثل النواة الأساس للقيم الاجتماعية على تباين واختلاف مظاهرها. ذلك أن هيمنة حصيلة من القيم كالتسامح، الحوار، التعاون، السعادة والصداقة، يخفي الأساس الذي تنهض عليه، والمتمثل في فكرة أو موضوعة «الحب».
والواقع أن الثقافة، في بعدها الكوني العالمي، أولت مكانة سامية لهذه الفكرة، إذ تحقق درسها بالتمثل والمقارنة والاستيعاب على عدة مستويات، سواء الأدبية أو الفلسفية، وعلى تباين واختلاف المرجعيات والمنطلقات المعتمدة في ملامسة الفكرة وربطها بكافة الجوانب والقضايا المحيطة بها، التي ولا أدل في هذا الجانب بالضبط، من ضرورة الإشارة إلى كتاب «في مدح الحب» للفيلسوف الفرنسي الآن باديو (من مواليد الرباط)، وهو كتاب حواري يوازي بين الأدبي وعمق الفلسفي.
على ألا يفوتنا في هذا المقام التلميح إلى كتاب «مشكلة الحب» للراحل إبراهيم زكريا، كما إلى تجارب روائية عربية استلهمت الفكرة ذاتها، وكمثال رواية الراحل عبد الرحمن منيف «قصة حب مجوسية»، و»قالت ضحى» لبهاء طاهر، و»أحلام مريم الوديعة» لواسيني الأعرج. وأما عالميا فيصعب حصر التجارب لكثرتها وتعدد متنها الواسع.
ولقد عكست المساهمات التي حفل بها هذا الملف، وجهات نظر مختلفة حيال هذه الفكرة، ولئن كان الثابت:
أ الإشارة العامة إلى القيمة الاجتماعية والإنسانية لفكرة الحب.
ب التأكيد القوي على ضرورة التفكير في سيادة الحب على مستوى العلاقات الاجتماعية، تفاديا لمظاهر الحقد والبغض والكراهية.
ت الحاجة إلى استعادة الفكرة وضرورتها ومكانتها الحقة، بعيدا عن الابتذال والإسفاف المخل بالأخلاق.

الحب كمتخيل عند الكتاب
فوزية السالم الشويش
سؤال العزيز صدوق نور الدين ما هو إلا ورطة وحيرة ومواجهة لحالة ربما هي عيش لواقع دونما طرح أي سؤال. ليس هناك من يرغب في السؤال عن الحب بقدر ما يود معايشته دون أي أسئلة عنه، والأكثرية تعيشه دون أن تسأل عنه، وبالنسبة لي هذه أول مرة أتواجه مع مثل هذا السؤال في الحب الذي عشته كواقع دون الرغبة في تفسيره أو معرفة ماهيته أو أسبابه وكل ما يطرح عنه من أسئلة، وربما من يعيشه لا يحتاج أن يبحث عن معرفته، فتجربته تعني إدراكه ومعرفته، وعند ذلك تتوقف كل الأسئلة وينقطع حبل الجهل به وينمحي التوهان.
الحب إن لم يعشه الكاتب ولم يتذوق أحاسيسه المضطرمة وكل ما تأتي به من هزات الشوق والشغف وطوفان المشاعر المتضاربة ما بين الحب والكره والغيرة والرضا والغضب والسكون والثورة، مشاعر متأججة لا تخضع لسيطرة العقل ولا لكافة قوانين السيطرة والانضباط، هذه الأحاسيس إن لم يختبرها الكاتب ولم يجرب نار لظاها وجنة نعيمها، فكيف بإمكانه أن يكتب عنها؟!!
الكتابة عن الحب تأتي من التجربة والمعايشة، فلا يمكن للكاتب أن يصف أحاسيس حسية دون أن تمر عبر مختبرات حواسه، ولن تصل إلى القارئ ما لم تضربه تجربة الكاتب في شبكة أعصابه المتماثل وجودها لديه.
لذا نجد أكثر الروايات التي اشتهر كتابها وحظيت بنسبة مبيعات عالية هي تلك التي كتبت الحب، وتفجرت بمشاعر وأحاسيس كاتبها التي سكبها على أبطال وشخوص روايته، ولم تكن في حقيقتها إلا نقلا لتجربته الحقيقية في الحب.
في رواياتي لم يأت الحب كهدف أساسي في كتابتها، لكنه يأتي كرديف يخدم الفكرة الأساسية في العمل الروائي، وليس بحد ذاته كجوهر تدور عليه الحكاية. ولم أكتب أي رواية كان هدفها الرئيسي هو معالجة الحب كعمل روائي. كانت هناك أسباب جوهرية أخرى يدور حولها النسيج السردي الذي يختلف من واقع إلى آخر، فأحيانا يكون الحب معالجا من ناحية اجتماعية مثل ما كتبته في روايتي الأولى «الشمس مذبوحة والليل محبوس»، التي تطرح قضية اغتصاب القاصرات من قبل شيوخ تحت بند الزواج. وفي روايتي الثانية «النواخذة» تناولت الحب من منظور تاريخي وتراثي وأسطوري، حيث كان يدور حول زمن الغوص والسفر إلى أعالي البحار قبل ظهور النفط في الكويت، وكان الحب وقتها يُعاقب عليه في زمن العيب والحرام. وفي رواية «مزون وردة الصحراء» كان محور الرواية الرئيسي يدور حول الزنا وأسبابه وعقاباته، وهنا جاء الحب المحرم المذنب الذي يُجلد ويُرجم حتى الموت. أما في رواية «حجر على حجر» فالحب فيها بحث عن الذات والهوية عبر التاريخ، فمن حب «راشيل» اليهودية ل«يرحب» النوخذة اليمني عبر تاريخ زمني ممتد إلى 500 عام من ضياع مدينة غرناطة، حب تعددت فيه الولادات وتعددت فيه الهويات حين أصبح هو المنتهى والمبتدأ ليمحي أكذوبة السلالة النقية الموحدة.
في روايتي «رجيم الكلام» كان هناك حب من نوع آخر، هو حب الوطن الذي هو حب يسمو فوق كل أنواع الحب الأخرى، وتهون الروح في سبيله.
أما في روايتي الأخيرة «سلالم النهار»، فالحب فيها سياسي يُستخدم للغاية تبرر الوسيلة، إذ يصير نوعا من المقايضة السرية، التي تستبيح الجسد وتعتليه في تجبر وغطرسة، ثم تُلقيه في أقرب نفاية تحتويه. فالحب في هذه الرواية هو أساس العهر السياسي، الذي يربط سلطة المال بالجنس، الذي يقسم الناس ما بين أسياد وعبيد، والحب فيها ليس إلا جواز مرور لمتعة مؤقتة.
يبقى الحب عنصرا أساسيا في الكتابة بشكل عام، فأي عمل روائي لا بد أن يشكل الحب جزءا منه أو كله، والمهم أن تكون المشاعر المبثوثة فيه حية نابضة وصادقة معيشة من قبل مؤلفها قبل أن يؤلفها، ولا أقصد أن يكتب عن تجربة حية يعيشها، فما أقصده هو تلبيس شخصية العمل مشاعر حب معيشة بنبض جسده وشغف أحاسيسه، وهو ما يصدقه القارئ ويتفاعل معه ويظن أنه حقيقة معيشة من قبل الكاتب أو أنها حكاية حب الكاتب ذاته، وهو ما ينطبق عليه جملة: أعذبه أكذبه.

الكتابة والحب
محمود الرحبي
يقترن الحب – عند الكاتب – بالكتابة، والعكس، حيث تقترن كذلك الكتابة بالحب. لا بد من هذا القوت ليستطيع الكاتب أن يدفع أحلامه ورؤاه عبر الورق إلى العالم. ففي حين يكون سبب الكتابة أو الدافعية إليها غامض، وسؤال لماذا أكتب؟ بعيدا عن اللمس والتعيين، يكون الحب هو الجواب الأكثر ملامسة ووضوحا. فالكاتب يكتب لأنه يحب. وهو يحب لكي يكتب. يتزود الكاتب بالحب ليكتب، وبالتالي ليحيا. وهو بذلك يتقمص أكثر من حياة عبر الكتابة، ويعيش أكثر من حياة عبر القراءة.
في حياتنا اليومية – ككتاب – تذوي سريعا جذوة الحب، وبالتالي تذوي الرغبة في الكتابة، حيث يذوب الكاتب في تفاصيل الحياة وإكراهاتها، فيتحول إلى موظف وسائق وأب ومعلم ومتسوق وموصل سلامات ومنكت ومعاود مرضى وجزء من النسيج البشري وعاداته، ولكنه في لحظة الكتابة، لحظة العزلة، يجد نفسه التي يتوق إليها وهي تنتظره أن يتوحد بها، ومن خلالها يتوحد بالعالم الحقيقي الذي يعرفه ويحبه، يتوحد بأرواحه التي يرعاها في جميع خلواته وشروده وانكفائه وأحلامه. في هذه اللحظات يعيش الحب بمعناه الأكثر عملية. فحين يحب الكاتب، حبا عاطفا أو وجوديا، فهو في الحقيقة – وهذه ورطته – يحب من أجل الكتابة، من أجل أن يدفع بمخياله نحو هذه الرحابة التي يؤثثها ويرصف عليها شخوصه وعوالمه، ثم يمضي تاركا بصمة خجولة.
الحب تلك العشبة الأسطورية، التي تلتقط بأصابع القلب والمشاعر كما تلتقط ورود الصباحات. في جولات الكتابة عبر التاريخ يصعد الحب في مختلف تجلياته إلى النص، سواء عبر التمثلات الذهنية أو عبر الوصف الفيزيقي المباشر، محفوفا بميسم الجوى الذي يصبغ ظاهرا أو يرعش باطنا جذوة الحب ويقودها إلى متاهاتها الواقعية أو أبراجها الرومانسية. لذلك يغدو الحب بالنسبة للكاتب شأنا غير محدد، ولكنه النسغ الذي يتسلل عبر كل كتاباته/ مقترنا بالحنين في حالة الفقد أو بالأمل في حالات التطلع، أو متحدا بالموت والفناء في حالات النوستالجيا البعيدة. لن تخلو كتابة ما، مهما أفرطت في عمقها أو سذاجتها، من ميسم الحب، بل إن الحب الذي تتغذى به الكتابة يمكن أن يأخذ كل شكل ممكن، بما فيه شكل الجمود الجبلي أو شكل الموت القاصم للحياة. إن ذلك الصراع الجاذب والنافر بين الحبيب والمحبوب، بين العاشق والمعشوق، والمتمثل في الطبيعة والمرأة والوطن والحرية واقتحام المجهول، هو صراع متأصل في عمق الحضارة البشرية منذ نشأتها، وما الكتابة عن الحب إلا أحد تجليات هذا التأصل الكامن في كل حركة من حركات الحياة وانعطافاتها. تتم معاداة الحب، يتم هجره وتحطيمه ونبذه، ولكن كل هذا العنف في وجهته المثمرة بالنسبة للكاتب هو الساحة الأكثر خصوبة للخلق؛ لأن الكلمات، التي هي السلاح الأعزل والوحيد للكاتب، ليست في حقيقتها الفعلية حروفا مصفوفة لتشكل معنى تتم به مواجهة رتابة اليومي وبرود الحياة، وإنما هي شأن تخلقي مثمر يتولد في ساحة الورق والبياض، ولكنه يحلق ملامسا كل شيء وبعناد لا يهزمه الزمن؛ لأن الكتابة ليست فقط نمط تعبير، بل هي فعل وسبب وجود شرعي للكاتب. هو موجود ليكتب، وبالتالي موجود ليرعى هذا الحب. قد يسجن الكاتب ويعزل ويقصى، ولكنه يموت إذا كفت يداه عن الكتابة. أتذكر كاتبا من الأورغواي كتب رواية كاملة عبر ذهنه، وحين خرج من السجن، حيث كان يقضي عقوبة سياسية مدتها سنتان محروما حتى من ورق الكتابة، أفرغ روايته التي حظيت بقراءة واسعة عبر العالم. كان هذا الكاتب يستمد هواء بقائه عبر هذا الحب، فاستطاع بذلك أن يصمد في سجنه، فلو لم يسعف نفسه بالحب لمات بدون أثر. الكتابة التي نحيا بها هي تنفس يومي، هي بمثابة التمارين بالنسبة للرياضي، والمطر بالنسبة للفلاح، واللعب بالنسبة للطفل. لذلك فسؤال الكتاب: لماذا تكتب؟ هو كسؤال المحب: لماذا تحب؟. لن يجد جوابا واضحا لأنه مسكون به، مسكون بالحب والكتابة، وبدون الحاجة لأن يعرف السبب. هل هو شعور يومي خارج الزمن والوعي؟ خارج تأطير المعرفة وتنظيراتها؟ ربما..

ما جدوى الحب؟
لحسن احمامة
مازال الحب يشكل إحدى القيم الإنسانية الكبرى، وإحدى القضايا الجوهرية في مسار الفكر البشري. فمنذ أن وعى الإنسان انفصاله عن الطبيعة واغترابه، سعى إلى تحقيق الاتحاد الضامن له وجوده في علاقته بالآخر، باعتباره فردا داخل المجتمع. ذلك أن الوعي بالانفصال قد يفضي إلى الجنون إن لم يستطع الإنسان تحرير نفسه منه، أي من ذلك السجن، وينطلق، ويوحد نفسه بشكل أو بآخر مع الناس، ومع العالم الخارجي. من هنا كان مصدر الحب ومبدأه هو الإنسان الذي هو كائن محب. فالحب قيمة إنسانية كلية، وخبرة بشرية، وحالة قصوى من حالات الشرط البشري؛ تلك الحالة التي تتأسس عليها كل القيم الإنسانية النبيلة، الحق والخير والجمال، وهي حالة ملازمة لهذه القيم.
ولما كان الحب قاهرا لكل انفصال، فقد لزم النظر إليه كتجربة شخصية لا يمكن أن تكون لدى الإنسان إلا لنفسه وبنفسه، أي أن موضوعه موضوع للممارسة والفعل: تجربة تنبع من الذات وترتد إليها. ولذلك يصعب أن يرتقي إلى مستوى النظر الفلسفي أو التأمل الميتافيزيقي، من حيث إن الموضوع الميتافيزيقي تحكمه مقتضيات الخطاب الميتافيزيقي. ولهذا كان الحب دائما في حضرة مشاهدة، والمقصود بها الإنسان نفسه: حب الرجل للمرأة والعكس؛ أو في حضرة الغائب، أي الذات الإلهية كما جاء في العرفان الصوفي. ولأنه تجربة شخصية، فالحديث عنه أو استكناه ماهيته من أشد الأمور صعوبة. فكل ما يتعلق بالوجدان لا ينفذ إلى النفس إلا عن طريق الوجدان. ولعل ما يؤكد ذلك قول أحد الشعراء حين سئل عن العشق: «كونوا مثلي تعرفوه».
وعلى الرغم من ذلك فقد سعى العديد من الأدباء والشعراء والعلماء والفلاسفة إلى إعطاء تعاريف له. وهي تعاريف تختلف باختلاف منازعهم وتوجهاتهم ومرجعياتهم. يرى دانتي أن «الحب قوة كونية، لأنه هو الذي يحرك الشمس وباقي الأجرام السماوية». وهو بذلك ينطلق من تصور لاهوتي يرى أن هذه القيمة هي المحور الرئيسي في الكون. ويرى جسدروف أن الحب طريق إلى معرفة الآخر: إذ يقول: «إن الحب ليس عاطفة أو رغبة أو شهوة، بل هو فعل عرفاني ندرك بمقتضاه صميم ماهية الشخص الآخر». ويلاحظ باسكال أنه معرفة قلبية؛ ويربطه بلزاك بالإنسان، حيث يرى أنه «توافق بين الحاجات الحيوية والمشاعر الوجدانية». ويقف بروست موقفا معارضا، إذ يرى أن «الحب مجرد وهم من الأوهام، ونحن نطمح عن طريقه لامتلاك شخص من الأشخاص، لكننا لا نلبث أن نتحقق من استحالة تحقيق هذه الرغبة». في حين يرى تولستوي أن «99 بالمائة من الشر المنبث بين الناس يرجع إلى تلك العاطفة الزائفة التي يسمونها باسم الحب، والتي لا تشبه الحب الحقيقي أكثر مما تشبه حياة الحيوان حياة الإنسان». هكذ يميز هذا الروائي الروسي بين الحب الحقيقي والحب الزائف. أما لاروشفوكو فيعتقد أن الحب ليس شرطا إنسانيا أو حالة فطرية، بل منتوج ثقافي، حيث يقول: «لو لم يكن الناس قد سمعوا الكثير عن الحب، لما قدر للكثيرين منا أن يقعوا صرعى لما نسميه باسم الحب». وبهذا يعتقد أن الحب بناء اجتماعي وثقافي وليس بيولوجيا. في حين يعتبره أدلر مزيجا من القوة والحنان. أما هارتمان فيعرفه بأنه انتصار غريزي حقيقي على الأنانية، فيما يرى شيلر أنه ذلك الذي أفهم فيه الآخر من حيث هو شخص مغاير لي.
وعلى الرغم من أن الحب حاجة المبدعين من شعراء وفنانين وروائيين، وليس قضية الفلاسفة من حيث إن الفلسفة أساسها المقولات العقلية، فثمة من الفلاسفة من تطرق إلى هذه القيمة. يرى أفلاطون أن الحب ضرب من الجنون الإلهي. ويقول إريك فروم إن الحب جواب عن إشكال الوجود الإنساني، ويربطه بالإنتاج، حيث يرى أنه «قوة تنتج الحب، والعقم هو العجز عن إنتاج الحب». كما أن من إيجابياته العطاء وليس التلقي، والوقوف وليس الوقوع؛ وهو قبل كل شيء طريق لمعرفة السر. من ثمة فهو، في نظر هذا الفرويدي الجديد، فعل وحركة، ونشاط منتج.
أما فرويد فيرى في الحب ظاهرة جنسية محضة، أي أنه رغبة جنسية وحاجة عضوية لا بد من العمل على إشباعها، بل إن الحب، والكراهية، والطموح، والغيرة، في تصوره، هي نتائج الأشكال المختلفة للغريزة الجنسية. من هنا يبدو الاختلاف جليا بين فرويد وفروم. ذلك أن الأول يربطه بالحاجة البيولوجية، أي إشباع الرغبة الجنسية، حيث يكون الحب في هذا السياق حبا نرجسيا أنانيا، هدفه الأول هو الأخذ بدل العطاء، و»هذا النزوع النرجسي نزوع لا يعيش فيه الإنسان كشيء حقيقي سوى ما يوجد في نفسه». فيما يرى الثاني أنه شرط يختص بالطبيعة الإنسانية، من حيث هي طبيعة تسعى إلى إشباع رغباتها التي لا تنتهي. غير أن الحقيقة الرئيسية تكمن في شمولية الوجود الإنساني، أي في تحقيق الاتحاد. هكذا، فكينونته متحققة بهذا الفعل ليس كرغبة أو غريزة، وإنما كشرط ليس كوظيفة.
هكذا تبرز هذه القيمة كموضوع ذي أهمية بالغة عند معظم المفكرين والأدباء، من حيث كونها، في ما أعتقد، قضية جوهرية في سيرورة الإنسان. وابن عربي لم يجانب الصواب حين قال إن «الحب ديني وإيماني»، لكونه ذا علاقة عمودية، أي علاقة الذات البشرية بالمفارق المتعالي، وعلاقة أفقية، أي علاقة الإنسان بالإنسان كشرط للوجود. وهو الرحم الذي تخرج منه كل القيم الإنسانية الأخرى، ليس بسبب جوهريته في الحياة وحسب، وإنما في تلك القوة التي يحوزها. هو مصدر الإبداع وملهمه. إن الحب يبدع، والكراهية تدمر. وهو قوي مثل الموت كما يصرح بذلك نشيد الأنشاد.

نوري الجرَّاح: أنا كنت مع تسليح الثورة السورية منذ أيامها الأولى
الشاعر السوري ل«المساء»: لا أطلب من المثقف أن يغيِّر التاريخ فقط أن تكون شهادته بليغة
حاوره – صلاح بوسريف
نوري الجرَّاح، شاعر سوري، من الجيل الذي اعتبر الشِّعْرَ تعبيراً جمالياً، قابلاً للصيرورة، والخروج، بلا انقطاع، من تَرِكاتِ الماضي الثَّقيلة، التي أصبحت، في كثير من المواقف والحالات، عائِقاً في وجْه الشِّعر، الذي اخْتُزِلَ في نمط واحدٍ، هو "القصيدة"، في معناها الشِّعريّ القديم أو التقليدي. وهو إلى جانب هذا الانحياز التَّحْديثِيّ في الشِّعر، لا يترك لُغَتَه خارج ذاتِها، بل يَعْتَبِر اللغةَ قابِلةً لِتَحَمُّل كل المُتَغَيِّراتِ واسْتِدْخالها في النص لخدمة أفقه الشِّعريّ وسياقه الجمالي. لكن، اليوم، هذا الشَّاعر، القَلِق، المُتَوَتِّر، الذي لا يفتأ يُغَيِّر مجرى النَّهْر الذي يسبح فيه، هو في قلب ما يجري في سوريا، لم يبق خارج الحَدث، بل دَخَلَه بالفعل، وكان شريكاً في الاحتجاج، وفي دخول سوريا للمُشاركة في الثورة، وفي الشهادة على ما يجري من قَتْلٍ وتدمير. كما انخرط في المؤسسات التي سَعَتْ إلى تفعيل العمل الثقافي ليكون "سلاحاً" في هذه الحرب غير المُتكافِئَة. لا يمكن اعتبار نوري مثقفاً ينظر من بعيد إلى ما يجري، بل شريكا في الفعل وفي الشهادة، ومُنْخَرِط في أفق التغيير هذا، وهذا ما جعله يكتب ديوانَيْنِ، كانا بمثابة اللحظة التي فيها يبدو الدَّمُ نفسُه مُغْتالاً، ويبدو "الأصل" البعيد لِدَم الخليقة يجري في نفس موقع الجريمة، في أعالي جبل قاسيون، كما في سَفْحِه، حيثُ جُزَّ رأسُ أخٍ بيد أخٍ لم يَحْدَسْ أنَّ ل"الجريمة" تاريخها، ولها من سيُعيدُ تصويرها، ربما بأبْشَع مما جرى في الماضي، وبدخول أكثر من يَدٍ في موقع الجريمة هذا. بهذا المقطع الشِّعري من أحد ديوانَيْه الأخيريْن يبدأ نوري حواره هذا:
حاوره – صلاح بوسريف
– (أنا نُوحُ يا خالِقِي
ركْبَتايَ مَفْروطتانِ عند صَخْرَتِي
وآلِهَتِي ترْجُمُنِي
بما تبَقَّى من حُطاَمِ الجَبَلْ)
ما الذي دفَعَك إلى اختيار هذا المقطع بالذَّات؟ وما الأفق الذي تذهبُ إليه، بقراءتك نصا فيه الصخرة، التي هي استعادة لِحمْل سيزيف وإصْرارَه؟.
بدأتُ معك من حيث انتهيتُ مع نفسي. مشاعري، وأفكاري، وخلاصاتي الوجودية عند هذه الصخرة، صخرة سيزيف. يُراد للسوريين جميعاً أن يتحوَّلوا إلى سيزيف الآن، يحمل صخرة الدّم إلى الجبل، وينزل ليلتقطها ثانيةً ويحملها على ظهره إلى أعلى هذا الجبل. لن ييأس شعبي، الذي يُراد له أن يُبادَ الآن، تحت شتَّى الكلمات واليافطات والدَّعاوى والنُّكران. أقصد أنني، الآن، أعيش لحظة جماعية، كفردٍ، لم أعُد أستطيع أن أكون شخصاً مفرداً، كما كنتُ دائماً لأنَّ هناك حادِثا لا أخلاقيا كبيرا يحصُل في المشرق العربي، وهذا الحادث لم يشغل النُّخَب العربية المثقفة، وحتى المبدعون العرب لم يشغلهم بالمعنى الوجداني، والوجودي العميق للكلمة. الخارطة الآن تحترق، ونحن عاجزون عن فعل شيء إزاءها، وحتَّى الشهادة متلعثمة. أنا لا أطلب من المثقف أن يغير التاريخ، هذا ليس في مستطاعه. أعرف أن تغيير التاريخ يحتاج إلى أدوات، والتاريخ هو الذي يصنع المثقف، وليس العكس، لكن أن تكون شهادتُه بليغة، في لحظة الدم الوجودي الكبير. ما يجري اليوم في المشرق هو نار تلتهم كل الخارطة، وستصل إلى أطراف بعيدة قد لا يخالها أحد، لأنَّ عاصمتيْن ثقافيتين، من عواصم روحنا ووجداننا الأنطولوجي تحترقان، وتذويان، وتقعان تحت الاحتلال الفارسي.
– هذا تعبير، في الحقيقة، عن جُرْح عميق ودفين، تختزنه داخلك، وأيضاً تفجره بهذه الطريقة، التي يبدو من خلالها أننا ندخل مُنْعطَفاً آخَر، في تاريخ الإنسان العربي، وفي تاريخ الجغرافية العربية، وفي تاريخ السياسة العربية، هو حاصل ما تراكم من تسلط، ومن ديكتاتوريات، ومن أنظمة فاسدة، وحتى المثقف بدوره يتحمَّل مسؤولية كبيرة في ما يجري، إما لأنه تواطأ مع السلطة، وإما لأنه صَمَتَ، وظل يكتفي بما يكتبه من كلام، ويعتقد أن هذا الكلام وحدَه سيُغَيِر، فهو لم ينتقل إلى الفعل، أو خرج من الفعل إلى مساحة الصمت والخَرَس. كيف ترى، كمثقف، دور المثقف اليوم، في سياق هذا الانقلاب العظيم الذي يجري؟
أولاً، أن يكون شاهداً بلسان، وليس شاهداً أخرس، وأن يكون اللسان بليغاً بلا لعثمة لأنَّ الضحية معروفة، واضحة المعالم، والقاتِل واضح المعالم. الجريمة موصوفة وكاملة. الجريمة تكاد تُعيد ذاتَها بالمعنى القابلي، حيث الشقيق يجرّج الوجود بجمجمة الشقيق. أنا أعرف أنَّ الشعراء يأتون من المستقبل، لذلك لا يفكرون كثيراً بالذهاب إليه، يعيشون اللحظة. لكن، مع ذلك، فكيان لغتنا يتمزق لأنَّ اللغة ليست مجرد ترميز تجريدي، فحسب، وإنما كيان حيّ. فكيف تكون قصيدتي، ويكون صوتي صريحاً، وجسدي ممزق؟ هنا السؤال عن دور المثقف، أعني الشاعر. ليس هناك شاعر بوظيفة يومية، هذا أمر معروف، ولكن هناك شاعر بوظيفة كاملة، وجودية ووجدانية، وروحية عظيمة. إذا هلك جميع المثقفين، ولعبوا ألعاب البراغماتية، يبقى الشاعر هو الصوت الصريح للضحية، ويبقى هو الصوت البليغ إلى الأبد، هو صوت الإنسان عبر التاريخ، هو تمثُّلات لكل الأزمنة. لذلك لا يجب أن يقع في لعبة المثقف، يعني المثقف النسبي، والمُداهِن، والمُهادن، وأتحدث عن الحريق الشامي والعراقي، أتحدث عنه كمثقف، وكإنسان، يعيشه في جسده. أين نحن كشعراء ومبدعين وأدباء من فكرة المنطقة الخاصة بنا؟ هل نحن مستقلون كفاية لنرفع صوتَنا عالياً، خارج التقسيمات والألاعيب، والعُصَب والنُّخَب السياسية التي تلهو بالأدب، وتستعمل الأدب كأقنعة؟
– ألهذا السبب نظرتُم إلى أدونيس، مثلاً، بأنه خارج السياق الثقافي، لأنه كان له موقف، وكتب رسالةً يطلب من الأسد أن يتنحَّى، ولكن موقفَه كان، بالأساس، هو أن الثورة لا تخرج من الجامع، بل تخرج من الشارع، وتخرج من وسط الإنسان الذي يدافع عن وجوده وكيانه من جهة، ومن جهة ثانية، أن الثورة لا ينبغي أن تلبس لبوس الدين. بالنسبة إليك أنت، كيف تنظر إلى موقفه، علماً أنَّ هناك نقدا كبيرا وُجِّه إلى موقفه واعْتُبِرَ بأنه يدافع عن النظام؟.
هذا، في الحقيقة، يفتح الباب على قصة كاملة وكبيرة. كنتُ أنتظر من شاعر، أنا كشاعر، أن ينتمي بعيْنَيْن مُغْمَضَتَيْن إلى دم الضحية. هذا لم يحصل، ولعدم حصوله أسباب واعتبارات كثيرة ناقشها المثقفون، وتبادلوا الاتهامات مع أدونيس: اتَّهَمَهُم واتَّهَمُوه. أنا بالنسبة إلي السؤال هو ليس فقط كيف نشهد على ما يجري، بل كيف نكون مما يجري؟، هذا هو ما يُحَدِّد موقع الشهادة. أنا نزلتُ إلى سوريا، في أول الدم، ونزلت إلى هناك لأنادي الناس من هناك، حتى لا يُقال إنني أنادي الناس إلى محرقة وأنا خارجها. ذهبتُ إلى قلب المحرقة، ووقفتُ على قلب المحرقة، التي بلغت الآن مداها الأوسع، والمُرَوِّع، وناديتُ من هناك المثقفين، ومنهم أدونيس، لكن للأسف لم يستجب الكثيرون. ربما كان مطلبي غير واقعي، بمعنى أن الناس رتَّبُوا أمورهم وحياتهم، كبشر، في مكان آخر، وهي مغامرة غير محسوبة ومجنونة. لكن هنا سقط المثقف في هذا الحساب، بين ما كُنَّا عليه قبل الثورة، وما بتنا عليه بعد الثورة. هي لم تُغَيِّرْنا، لم تلعب بِقَدَرِنا، لم تجرح قَدَرَنا، ولم تفرض علينا بطريقة أو بأخرى، لأسباب عديدة كل واحد اخترع سبباً. لم تفرض علينا أن نكون في قلبها.
– لكن الفرق بينك وبين أدونيس هو أنك أنت ذهبتَ إلى قاع «المعركة»، إلى مكان السلاح، وهو يقول إن الثورة بمجرد أن تحمل السلاح تخسر نفسَها وقضيتها، وتتحوَّل إلى شيء آخر.
لا، أنا لم أحمل السلاح، أنا ذهبتُ لأنادي المثقف والمبدع بأن يلتحم بأهله الذين بدؤوا معركتهم لينالوا الحرية والاستقلال.
نعم، أدونيس يقول إن الثورة حين حملت السلاح خرجت عن مسارها الحقيقي، فهو يرى أن التغيير ينبغي أن يكون دون سلاح.
أنا تحدثتُ في أكثر من قناة عربية، وفي حوارات متعددة، كان الحديث فيها مُنْصَبّاً على موقف الشاعر مما يجري، وقلتُ شيئاً بسيطاً جداً، ما زِلْتُ أومِنُ به: لم يكن بالإمكان لهذه الثورة ألا تتسلح، لأنها تواجه وحْشاً أسطورياً، لأنَّ الاستبداد كان بلغ من العُتُوّ ما لا يمكن تصوُّرُه. فهو اعتقَد أنَّ الكل صار جزءاً من لحمه، ووجوده، وأنَّ انفكاكهم عنه هو تَهَتُّك كامل جسده وسقوطه. هذا الاعتقاد كان بلغ مداه، ولذلك لم يكن من خيار أمام السوريين غير حمل السلاح، لأنهم وُوجِهُوا بالقتل والرصاص منذ اليوم الأول، فأنت لا تستطيع أن تواجه قذيفة، ولا تستطيع أن تواجه براميل الموت هذه بالغناء فقط، وبالأناشيد السلمية. الثورة فُرِض عليها السلاح فرضاً إجبارياً، وكان من الجُبْن ألا تتسلَّح. لذلك أنا كنتُ مع تسليح الثورة منذ أيامها الأولى.
– أعود بك إلى مسألة أعتبرها فارقة في مسار الثورة السورية، وهي هذا الانشقاق والتصدُّع الذي حدث داخل صفوف الثورة، بين توجُّهات مختلفة، لعل أعنفها وأشرسها هذا التطرف الديني، الذي منه خرجت هذه الأصوليات القاتلة، المتوحِّشَة، التي فتكَتْ بالجميع دون رحمة، ودون هوادة. كيف تفسر أن تصير الثورة وحشاً يأكل نفسَه بنفسه؟.
أنا لا أرى الثورة، الآن، وحشاً يأكل نفسه بنفسه. لا بد أن نميز الأمور عن بعضها. لنتفق أنَّ المجموعات الأصولية، العنيفة، المتطرفة، هي ورم في جسد الثورة، وليست مخلوقات جديدة نحاسبها. هذه المجموعات المسلحة العنيفة خرجت من قفطان الاستبداد، وليس من الثورة. وقد خرجت من جسد الثورة عندما أُسْقِطَتْ على جسد الثورة، وأُخْرِجَتْ من جسدها، عندما تَهَتَّك جسد الثورة بالقتل المُريع، ولسنوات، من دون أمل. نحن نعرف أنَّ عدداً كبيراً من قادة هذه المجموعات الظلامية خرجتْ من سجون الأسد، وخرجت من غُرَف مظلمة إيرانية. نحن نعرف أن هذه القيادات هي التي جاءت من جسد حزب البعث العراقي المفكك، ومن جسد القاعدة المفكك على خارطة العالم الإسلامي. كما نعرف أنَّ القاعدة إنشاء أمريكي بالكامل.
– وكيف تفسر قول أوباما الأخير بأنَّ «داعش» هو بضاعة الأسد والمالكي؟.
هو لا يستطيع أن يقول غير هذا لأن هذه هي الحقيقة. القاعدة في صيغتها الداعشية منتوج فرانكشتاوي، بالأصل أمريكي، ولكن، في النهاية، اعتمَدَتْه كلغة، واشْتَغَلت عليه الأنظمة، في العراق وفي سوريا، وعلى رأسهما المختبر الإيراني قُمْ، معبد الجريمة الأكبر. منذ هبط الخميني من سُلَّم الطائرة على أرض إيران، لم تر المنطقة خيراً. فهذا الشرطي الجديد، الذي جاء بعد الشرطي السابق شاه إيران، مشغول بتصدير نموذجه الإسلامي. يريد أن يصدر هذه الفكرة الجنونية التي يُسمِّيها الحاكمية لله، أي حاكمية الله في الأرض عبر ما يُسَمُّونَه مرشد الثورة، وهذا النموذج اصطدم مع الأنظمة الموجودة في الخليج، وفي العالم العربي أيضاً. لكن كان دائماً هناك عمل يومي في هذا المختبر الإيراني لخلق نماذج في اليمن، في سوريا، وحتى في المغرب، فالمغرب طرد ذات يوم البعثة الإيرانية لأنه اكتشف أنَّ هناك عملا على تشييع سياسي للناس في المغرب.
– ما هو الأفق الذي تراه لسوريا في ضوء كل ما يجري اليوم؟.
ما يجري الآن في سوريا لم يعد مستقبله رهيناً بالقوى الموجودة على الأرض، بل أصبح مرهوناً بالقوى التي تُغذِّي هذه الثورة، وتقطع عنها الأنفاس، فالنظام أصبح رأسُه نظام حرب، فهو يحكم منطقة صغيرة، ويحكم بعقلية أمير الحرب، يرسل رجاله فيقتلون ويغتصبون، ويستجلب عصابات لتقتل شعبه، يستجلبها من الطاجيك، من إيران، ومن كل مكان، وحتى من الأهواز المعذّبة. بالمقابل «داعش»، وغيره، يأتي من كل المعمورة ليكون لنا نموذج لوحش واحد بِلونيْن. الشعب السوري لن يتراجع عن ثورته من أجل الحرية والكرامة، لأنه تعرض لكل السكاكين ولم يستسلم. صمت المثقفون، للأسف، عندما لم يتمكنوا من أن يُبَلْوِروا منصة خاصة بهم، مستقلة عن التجاذبات السياسية الموجودة في العالم العربي. وبالتالي، لم يتمكنوا من أن يكون لهم صوت يصف الجريمة، ويصف المجرم معاً، ويصف طريق الخلاص. تبدَّى لنا أنَّ المثقف نفسه مُتَخبِّط، لا يعرف، رغم ما أسَّسناه من مؤسسات وما قُمنا به من جهود في هذا الاتجاه. حين كُنّا نُسأل، كمثقفين، أنتم من أنتم؟ أنتم مع قطر أم مع السعودية؟ أنتم مع إيران أم مع النظام؟ أنتم مع تركيا أم مع أمريكا؟ لكن لم يسألنا أحد إن كُنَّا نحن سوريين. وأنا أقول هنا، من دون تبرير لأحد، هل تستطيع أنت أن تلوم الغريق إذا التقطه أحد، أو التقطتْه يد، أي يَدٍ؟.
– أنا أقف عند هذا السؤال، لأنه يختزل كل شيء، وأريد أن أخرج بك من الثورة إلى الشِّعر. باعتبارك شاعراً، هل في تجربتك الشِّعرية الأخيرة، وما تكتبه اليوم، ما تسرَّب لمتخيلك، للغتك، لفكرك، ولوجدانك، في ما تكتبه من شعر، مما له علاقة بما يجري على الأرض. وبالتالي، هل قبِلتَ أن تحوله إلى خطاب أيديولوجي صارخ، صاعِق، كما كان يحدث من قبل، أم أنك حافظتَ على ضرورة أن يكتب الشَّاعِر بالطريقة التي يريدها، دون التنازل عن جماليات الكتابة، حتى في حالة التعبير عن البشاعة؟.
هو ذا السؤال الذي يُوَجَّه إلى الشَّاعِر في لحظة جماعية كبرى. أين أنت كصوتٍ مفرد من لحظتك الجماعية؟ السؤال والإجابة عنه صعبة جدّاً. ربما ليس من وظيفتي الشخصية أن أقول لك إن كنتُ نجحتُ أو أخْفَقْتُ في بناء معادلة جديدة تُتيح لي أن أكون هذا الشاعر الذي يعيش لحظة جماعية. هذا سؤال نقدي بالأساس، والجواب عنه، أعتقد أنه موجود عند الناقد وليس عند الشَّاعِر، عند القارئ..
– لكن، في علاقتك بما تكتبه، هل تُحسّ بأنَّ نقطة دَمٍ ما تسرَّبت إلى لغتك، أم أنَّ هذه النقطة هي ذلك الحِبْر الذي حاولْتَ من خلاله ما تراه؟، وأعطيك مثالاً، عندما قرأتُ الديوان الأخير لسليم بركات، وجدتُ أنَّ نقطة الدم موجودة، ولكن عبَّر عنها بشعرية، استطاع من خلالها أن يصل إلى قارئه دون أن يصرخ، ودون أن يَخْرُجَ الشِّعر من يَدِه.
أنا حتى الآن لم أقرأ ديوان سليم بركات، سأحصل عليه وأقرأه، أكيد، فأنا أحب سليم كشاعر وكتجربة، وأعتبره أحد كبار الشُّعراء العرب، والناثرين أيضاً. فأنت تضعني في زاوية قد تجعل الشَّاعِر لا أخلاقياً في أن يأخذ دور الناقد، لكنني سأقول لك ما أشعر به. هناك ثورة الشعب السوري، أنا أحب أن أسميها الانتفاضة. هذه الانتفاضة جرحَتْ لغتي، وجعلتْها تنزف، وقصائدي الأربع الكبيرة الأخيرة، التي كتبتُها عبر أربع سنوات، في كتاب «يوم قابيل» وكتاب «يأس نوح»، واستغرقتْني القصيدة الأولى عاماً كاملاً، ثم أخذني وقت كبير لأكتب القصيدة الثانية، مع قصائد أخرى قصيرة.. مجموعة القصائد هذه تمثل كل ما كتبتُه في هذه اللحظات الدَّامِيَة. كنتُ منذ اليوم الأول في اشتباك مع ذاتي، اشتباك عنيف: كيف تقول اللحظة الجماعية وتبقى شاعراً، أن تتحوَّل إلى ناطق باسم جماعة، وأنت في الحقيقة لا تكون إلا ناطقاً باسم ذاتك؟ هناك سطر في قصيدة يقول: «أنا لا أكتبُ قصيدتي، لكنني أمزق يدي في الورق». هذا السطر يعبر عن عنف العلاقة مع اللغة في تلك اللحظة، في تلك القصيدة، فهي مشدودة كهذا السطر. هذا، طبعاً، يحتاجُ العودةَ إلى القصيدة، إلى بنية القصيدة، هل تستطيع أن تكتب بصوتٍ خفيض في لحظة جماعية، ضاجَّة بالأصوات؟.
– وهذه ملاحظتي الشخصية. ولهذا الغرض طرحتُ السؤال قبل قليل بخصوص ما يتعلَّق بتجربتك من قبل والآن، فأنا أعرف أنك شخص حَرَكِي، دينامي، قَلِق، تتحرك في كل الاتجاهات، ولكن شعرك قبل الثورة، شعر هادئ، بلغة فيها نوع من الوشوشة، فيها نوع من التأمُّل. في هذه الوشوشة الظاهرة يكمن عنف خفيّ، وهذا القلق الذي قال عنه المتنبي: «وكأنَّ الرِّيح تحتي».
أنا أدافع عن قصيدتي الجديدة دفاع المُسْتَمِيت، لأنها كل سلاحي الوجداني، الشعوري والرؤيوي، لأنَّ فيها رسالتي إلى شعبي. يأس نوح. فنوح، كما نعرف، هو في حدِّ ذاته لحظة أمل، لكن هذا الأمل مبني على نهاية اليأس من البشرية. هنا رسالة القصيدة، فنحن في ذروة الطوفان، وعلينا أن ننقذ هذه السفينة.
– لا تنس أنَّ نوحا تخلَّى عن ابنه في ذروة الطوفان أو اشتعاله.
نعم. فنوح هنا ليس مجرد قِناع، إنَّ هناك تجربة تموزية في الشِّعر العربي، لها ظلال ومُلحقات في أصوات الشعراء الآخرين، وكلنا كتبنا القناع، وكل هذا متصل بفكرة الاستعارة، استعارة الاسم، أو القناع، لكن نوح، هنا، هو أنا، وهو أنت. نوح هنا من يريد أن يكون المنقذ، ويحار أن يعرف كيف يفعل. لذلك هو يأس نوح، ولكن في داخل يأس نوح هناك قابيل وهابيل، في القصيدتَيْن.
– هل بهذه العودة إلى الأصول الوجودية للإنسان، وفق الديانات، طبعاً، من خلال قابيل وهابيل ونوح، تعود إلى تاريخ العنف الدموي، وإلى تاريخ الانجراف الكبير الذي حدث على الأرض من خلال هذين الرمزيْن؟.
المدهش أنَّ مسرح الجريمة هو نفسه، لأنّنا نحن في أساطير المكان الدمشقي. أن قابيل قتل هابيل في جبل قاسيون، في رأس الجبل، وهناك صخرة تبكي، حسب الأسطورة، وكُنَّا، ونحن أطفال، نخرج من بيتنا في سفح الجبل إلى الجبل، لنرى كيف تبكي الصخرة على هابيل. فنحن نعيش في كنف الجغرافية الأولى للجريمة، وهاهي الآن تتكرر. ليس بوُسْعِي أن أدافع عن لغة نصِّي الآن، أي بالمعنى المعياري، بل أدافع عنها بالمعنى الاختياري، بمعنى لغة المعركة، المعركة مع الذات. الشاعر ليس لديه منافس ينافسه، ولا من يصارعه، فهو في معركة مع ذاته، والمعركة مع الذات شرسة، لأنها صريحة، وليس فيها مُساوَمَة. هذا ما شعرتُ به في علاقتي مع اللغة، وفي لحظة الكتابة. فكل تاريخ علاقتي باللغة انفتح أمامي في السنوات الأربع الأخيرة. انتفاضة الشعب السوري، خروج السوريين من كهف الظلام ومحاولة خروجهم إلى النور، اشتباك جسدهم مع الرصاص، لحظة الغناء العالي للكرامة، هزَّني، بالمطلق وجعلني شفافاً إلى درجة أنني أستطيع أن أستقبل لغتهم الآن وأدخلها في لغتي، فتصبح لغتهم جزءاً من صوتي وجسدي، وأصير أنا قادرا على حب هذه اللغة، والمُضيّ بها عميقاً وبعيداً مع أسئلتي، ورغباتي، ومع محاولاتي أن أكون حيّاً، في هذه اللحظة.
– وهل لديك أمل في أن يكون الشعر جزءاً من معركة كبيرة، حاسمة، وأن يكون، في نفس الوقت، هو الشِّعر الذي يؤثر ويُغيِّر، لكنه لا يحدث في نفس اللحظة، فهو بطيء، لكنه قادم؟.
لذلك قلتُ إنَّ الشُّعراء لا ينظرون إلى المستقبل، هُم يأتون من المستقبل، ويخوضون صراعهم مع الوجود الراهن، بأي معنى. الوجود الحاضر ليس وجوداً عابراً، كما يخال البعض، فالوجود الحاضر هو كل شيء.
– وأنتَ، من أين أتَيْت إلى الشِّعر؟.
من حواسي، من رغبتي في معرفة المجهول، من محاولتي حب الآخرين، من رغبتي في أن أعرف ذاتي، من وَلَعِي أن أكون حُرّاً، ومن حب الشِّعر، حب اللغة، وحب إيقاعاتها، وجمالها، وألوانها. حقيقة، أنا ضد أن تُسْتَعْمَل اللغة. لذلك أنا أُقَدّر سؤالك عندما تقول كيف تشتبك بلغتك الشخصية مع عالم يفْتَرِع بلغاته.
– ألا تخشى أن تفقد لغتك؟.
أنا لا أخشى أن تتغيَّر لغتي، حقيقةً، لأن هذه اللغة إذا لم تتغيَّر، فهي خشب، هي ميتة. على لغتي أن تتغيَّر، ولكن أن تبقى تحمل سمات مِنِّي، وأشياء خاصة بي، ليست لغة مغروفة من صندوق عمومي، فهي تخرج من اختياراتك الشخصية، من فرحك بالأسرار، والنِّعَم الغائرة هنا وهناك في اللغة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.