خمس سنوات تمرّ على رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، هذا الشاعر الذي مثل حالة شعرية خاصة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، من خلال دواوينه المختلفة مثل «لماذا تركت الحصان وحيدا» و «أثر الفراشة» و «كزهر اللوز أو أبعد» و «عاشق من فلسطين» و «مديح الظل العالي» وغيرها. كان «درويش» المولود بقرية «البردة» بالأراضي المحتلة عام 1941 مثل «لاعب النرد» الذي يعشق الحياة حتى الثمالة، ويدافع عن حق وجوده فيها بروح شاعرة ملؤها التفاؤل والأمل رغم قسوة معطيات هذه الحياة، ما بين الربح والخسارة إذن كانت المعادلة الصعبة أو كما قال في قصيدته التي تحمل نفس العنوان «لاعب النرد»: أنا لاعب النرد أربح حينا وأخسر حينا كان درويش مغامرا إلى أقصى حدود المغامرة وذائبا في التجريب إلى آخر حدود الذوبان، ورغم أنه حافظ على شكل القصيدة التفعيلية إلى أنه كان أقرب شعراء قصيدة التفعيلة إلى كتاب قصيدة النثر من الشعراء الجدد، الذين يعتبرون درويش أحد المثل العليا في الشهر الحديث. وربما يرجع ذلك من كونه شاعرا لا يختلف عليه من رحابة البعد الإنساني الذي يغمر شعره. كان يقول: لادور لي في القصيدة غير امتثالي لإيقاعها لم تتوقف القصيدة عند «درويش» عند منظور المقاومة فقط بإعتبار كونه شاعرا فلسطينيا عاش معاناة شعبه، إنما إضافة لذلك إكتسبه موهبته حسا إنسانيا عميقا، مما جعل قصيدته تصل إلى قراء كثيرين في العالم، مستخدما في ذلك تيمات فنية استفادت من التراث خاصة التراث الصوفي، لقد سعى درويش بوعي شعري رهيف إلى توسيع قصيدته متوسلا المنظور الصوفي فيقول «أنا الأرض والأرض أنت» مستفيدا من عبارة ابن عربي «أنا أهوى ومن أهوى أنا» و «يتاخم المنظور الرومانسي التصور الصوفي، كاشفا عن العلاقة العضوية بين الأنا والأنت، التي تترجم عشقا يفيض عن حده. كان درويش عاشقا للمغرب، وخصوصا في الرباط، وبخاصة في مسرح محمد الخامس، حيث يقو: «أسبح في مائي. إن هذا المسرح من أجمل الأمكنة التي أقرأ فيها شعري حتى ولو كانت خالية من السكان. وبالتالي، لا أستطيع أن أقول بأن الناس في هذه القاعة هم جمهور، إنهم مؤلفون مشاركون في عملية تحويل العلاقة بين القصيدة والقارئ الى طقس. ما يحدث معي دائما في هذه القاعة هو نوع من الاحتفالية، أنا أحتفي بالجمهور، والجمهور يحتفي بي، وبالتالي، يساعدني الجمهور على أن أؤلف القصيدة تأليفا مختلفا عن كتابتها. إذن عندما ألتقي بجمهور مسرح محمد الخامس، لا أشعر بأنني أقرأ نصا شعريا مكتوبا، بل أشعر بأنني - أنا والناس - نعيد إنتاج وكتابة هذا النص بشكل احتفالي أو مسرحي إن شئت. أفهم من سؤالك المعنى الثقافي الذي تعنيه، وهو أن كثرة الجمهور تحمل في سياقها مطالب جمالية محددة تثقل على الشاعر، هذا يتوقف على مدى انصياع الشاعر للحظة الحماسة التي يريدها الجمهور. هناك جمهور يقود الشاعر، هناك شاعر يقود الجمهور، وهناك قيادة مشتركة بين الشاعر والجمهور، وهذا ما يحدث في علاقتي. أعرف أيضا من سؤالك بأنك تريد أن تقول بأن متطلبات الجمهور لاتحمل دائما شروطا جمالية، لكن هذا يتوقف عليَّ.وقد توحد درويش مع الأرض وقضية الإنسان ومصيره على هذه الأرض، فجاء شعره رغم بساطة عباراته، وجملة التعبيرة مليئا بالحس الفلسفي لكنه توحد أكثر بالأرض المغربية وناسها. وقد عبّر غير ما مرة عن حبه الكبير للمغرب وارتباطه الأكبر بسكانه، مثقفين وغير مثقفين. من هنا ارتأينا تخليد ذكرى رحيله الخامسة ببعض من شهادات كتّاب ورجال سياسة عايشوه وتفاعلوا معه ومع شعره وحياته. هذا القنديل الذي لا يجب تركه وراءنا ينطفئ « كنت أتصور دائما أنه إذا كان بإمكاننا أن نعيش حياة معينة فذلك لأننا يمكن أن نعيش حيوات أخرى لا نهائية». بول فاليري كان محمود درويش عندما يأتي إلى المغرب نعتبر أن الحظ جاء إلينا لمعاينة أبعاده الشعرية الأخرى. و ربما هذه ميزة زيارة الأدباء إلى البلدان الغريبة عنهم. و في هذه الزيارات، كما كنا نتتبعها من خلال وسائل الإعلام، كان محمود درويش عادلا، لا يزور البلد الواحد أكثر من مرة في السنة. و في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى التنقل الدائم، فقد شكل صورة في عقل و وجدان الناس من خلال كتبه الكثيرة، كما من خلال افتتاحيات مجلة «الكرمل» التي كان يرأس تحريرها. لقد كان دائم الخرق و الاجتياز لحاجز الصمت. لذلك فمقولة «ميشو»: « إذا مات شاعر علينا أن نعيد النظر في الشعر كله» تنطبق بقوة على هذا الشاعر الخالد. ما كان محمود درويش يريد قوله كان غير محدود العدد و الكثافة. فما كان يراه من أحداث في فلسطين هو وحده القادر على فهمها و تفسيرها و تحليلها، و كنا نلحظ نفس الشيء عند الإخوة الكتاب و الفلسطينيين المقيمين بالمغرب كواصف منصور و محمود معروف. و هناك أيضا طلبة من غزة و من الضفة الغربية يشكلون حالة استثنائية من الوعي السياسي و التاريخي الذي لا تكون إلا عند أبناء الشعوب المحتلة. ذلك العدد غير المألوف من القضايا التي كانت تزدحم في قلب و عقل درويش نقرأها في شعره و في مقالاته و حواراته، و خصوصا في افتتاحيات مجلة «الكرمل»، تلك المجلة الأدبية التي أحاط درويش نفسه فيها بمجموعة من المغتربين الروحيين مثله: إلياس خوري، إدوارد سعيد،سليم بركات، فيصل دراج، كاظم جهاد، غالب هلسا، صبحي حديدي، فخري صالح، حسن نصر، عمر كوش. هؤلاء الذين كانت الكتابة التقليدية تعيش معهم حالة المحو لتحل معها حالة الحداثة. وحالة الحداثة الكتابة هذه، كانت تصل كل شهر إلى المغرب قبل محمود درويش. إذن، محمود درويش « هذا بالذات، القنديل الذي ينبغي ألا ندعه وراءنا ينطفئ»، كما جاء في قصيدة للشاعر «فيليب جاكوتيه» نشرتها «الكرمل»، بترجمة كاظم جهاد. كنا نعرف أن محمود درويش هو شاعر يجيء من كل الامكنة، من كل البلدان. كنا نعرف أنه يقيم في عمّان. في ذلك البيت الذي نقلته وسائل الإعلام. لكن كنا نجده يجئ من اتجاهات كثيرة. من المسؤول عن هذا الإحساس الغامض؟ إنها قصيدته، طليعيته، حداثته، هذا المصطلح الذي ربما أكثر المصطلحات غيابا في مصطلحيته. و عندما يقف على منصات القراءة كنا نرى بوضوح أن «الإنسانية تنقسم إلى صنفين: الشعراء و الآخرون» حسب تعبير المفكر البرتغالي» أورتيغا إيغاسي». وهي مقولة تتصادى مع فكرة طرد أفلاطون للشعراء من المدينة. كان محمود درويش عندما يقرأ قصائده في مدينة الرباط أو الدارالبيضاء، نرى صمتا لا شبيه له. كان الطبيعة نفسها كانت تنصت، مثلما صورت ذلك العديد من اللوحات الفنية الكلاسيكية: أورفيوس يعزف على القيثارة و الطبيعة تنصت. و الشاعر هو موسيقي على الدوام. في هذا الصمت، ويعرف ذلك الشعراء الذين اعتلوا المنصات الكبرى، يولد نشيد الاحتفال بالعالم. رغم أن الشعراء يرون أن العالم ليل حالك و صحراء ممتدة: يا روحي، كبيرة هي الصحاري و كل شيء صحراء. لذلك عندما ينشد محمود درويش شعره في مدننا نشعر أنه رفيق لكل الشعراء، لفيكتور هيغو الذي يرى أن الشعر يضيء الإنسانية و يقودها في الليل. لمالارمي الذي كان يعطي معنى جديد للكلمة التي هي وحدها القادرة على كشف المعنى الأورفيوسي المحجوب. لكن حالة محمود درويش استثنايئة، لا يجاريها في هذا الاستثناء سوى حالة أوكثافيو باث، بابلو نيرودا و غابرييلا ميسترال، و إدغار ألن بو القائل بأن الأصالة الشعرية لا تتكون فقط من خلال القصائد. لكننا كنا نحار كيف نجيب على هذه الأسئلة: كيف كتب محمود درويش هذه القصيدة؟ كيف أتقن إلقاءها أمام الناس؟ لا نجد أفضل من جواب «إدغار ألان بو»:» لابد لكل شيء، في قصيدة مثلما في رواية، في مقطوعة مثلما في قصة قصيرة، أن يسهم في الحل. فالكاتب الجيد هو الذي يكون، مسبقا، في ذهنه السطر الأخير عندما يكتب الأول». مثل هذا المنهج العجيب نجده عند محمود درويش. فما أن يكتب، آو يلقي، السطر الأول، حتى نتبيّن السطر الأخير. فكنا نتابعه، قراءة و إنصاتا، وهو ذاهب إلى ذلك السطر النهائي، السطر الحدّ. لنتابع مثلا كيف كان أبو عمار ينصت إليه رفقة العديد من القيادات الفلسطينية، و هو يلقي شعره مستغرقا في تلك الرحلة الممتعة و العجيبة بين السطر الأول و الأخير. كان أبو عمار مستغرقا في الإنصات إلى «الحل»، حسب مفهوم «إ.أ.بو». و لنتأمل كيف كان الفيلسوف «جاك ديريدا» ينصت إليه و هو يقرأ في باريس. و تلك كانت وضعية كل الجالسين أمامه وهو ينشد، او الذين يقرؤون شعره في كتاب. لكن السؤال هو كيف كان يختار محمود درويش قصائده التي يلقيها أمام الجمهور؟ هل هو نفس معيار الاختيار في عمّان أو بيروت أو الرباط أو القاهرة أو دمشق أو باريس أو لندن أو تونس أو الجزائر؟ لا لم يكن يختار قصائد وفق معيار واحد. كان يطلع الناس على فلسطين و الشعر بشكل دائم من خلال حالات نفسية و عقلية مختلفة.كان في الرباط يقرأ من قصائده المعروفة، ثم يعود إلى قصيدة من بداياته، ثم يقرأ قصيدة عن الموت، ثم أخرى عن وطنه، ثم أخرى عن الحب، ثم أخرى عن المعنى، وذلك أمر مسموح به دائما لعبقري مثله، شيء من الخداع لزعزعة المعاني و الدلالات. وذلك كان يناسبه. فقصيدة فريدة من بين قصائد أقل فرادة، هي التي تجعل الإنسان يبصر اللانهائي الذي ينعم محمود فيه الآن. محمود عبد الغني هي خمسُ سنوات من الحضور الأبدي هي خمس سنوات مرّت على انتصار الموت على جسد محمود درويش، لكنْ محمود لم يأبه الموت، واصل لعبة النرد، متألقا أنيقا، على خشبة مسرح بلدية رام الله، يرانا ولا نراه، لكننا نسمع قصيده وحتى حركات يده، يلوح بها لنا أو للموت، مودعا أو مرحبا. خمس سنوات، لم اتوقف فيها عنده غائبا، بالنسبة لي، هو لم يأت بعد، لكنه سيأتي، وهاأنذا ألان اجلس لأكتب عنه، لا تذكر أني لم أره منذ اكثر من خمس سنوات، حيث كان لقاؤنا الاخير في باريس، وهو اللقاء الثاني الذي جمعني به خارج المغرب،على مدى 25 عاما، لذلك لا تكتمل صورة محمود درويش في مخيلتي الا ممزوجة بالمغرب، أصدقاء وأماكن. لكن المكان الذي لا تفارقني به صورته هو مسرح محمد الخامس بالرباط معبده الذي كان يرتل به قصيده، بعشق لا يخفيه، ان كان بتألقه في الترتيل، او حرصه على اعلان حبه باية مناسبة، تصريح أو حديث صحفي حديث شخصي، بلْ تلميحه وتصريحه برغبة التعبد في هذا لكنه خلد هذا الحب في قصيدته «في الرباط» بديوان « أثر الفراشة» : «ولي ... في مدينة الرباط مكان شخصي هو مسرح محمد الخامس. هناك تمتلئ نفسي بما ينقصها منضفاف. ما أَعرفه عن نفسي- وهو قليلٌ- يكفي لأن أتوحَّد مع هذا المعبد المفتوح لمفاجآت الإلهام. كأني هناك لا أَقرأ و لا أُنشد، بل أَرتجل ما يملي عليَّ الصمتُ والضوء الخافت والعيونُ التي ترسل الإشارات، فأصوغها في عبارات وأعيدها إلى أَيدٍ تمسك بها كما لو كانت مادة شفَّافة، مصنوعةً من هواء. كأني أقرأ شعر غيري، فأطرب لأنه شعرغيري.» في فبراير 2004 كان محمود درويش ضيفا على قافلة الكتاب التي نظمتها وزارة الشبيبة، وكان لي الشرف بأن أكون معه من لحظة وصوله للمطار للحظة مغادرته، ولم يجبني فيما بعد أن كان كتب قصيدة الرباط من وحي تلك الزيارة. لم تكن تلك المرة الأولى أو الأخيرة التي أكون فيها معه عندما يكون بالمغرب لكني في تلك الزيارة كنت اراه فرحا كطفل، انطلق بمرج اخضر واسع دون ان تكون هناك حواجز او قيود على حركته، نمشي بالشارع يصافح ويحيي من يصافحه ويحييه، ندخل مطعما ونجلس على طاولة لاربعة اشخاص، فتأتي عائلة ولا تجد طاولة تكفي فيشير لي بالانتقال إلى طاولة أصغر ويرفض صاحب المطعم وترفض العائلة وهو يصر. محمود درويش، بالرباط، ينبذ شعور الغربة، ومعاملته كشاعر، حتى وان كان من أعظم وأجمل ما وهبه العرب للأدب الإنساني، كان يريد أن يكون إنسانا، لان قمة شاعرية محمود درويش انسانيته. محمود معروف محمود درويش .. الباقي فينا أبدا قبل خمس سنوات فارقنا أمير الشعر الفلسطيني والعربي في العصر الحديث محمود درويش ، ونحن منذ ذلك اليوم نحاول أن نقنع أنفسنا بأن فراقه أبدي ، وأننا لن نراه أو نسمعه ثانية بقامته المهيبة وهو يعرّي واقعنا الفاسد والمهتريء في زماننا الذي كان القائد الشهيد ياسر عرفات يسميه (الزمن العربي الرديء) ، ويقوّي ثقتنا بالمستقبل وأملنا بالنصر . في حديثي عن هذا الهرم الشامخ الذي قلت عنه ذات مرة ( فأنت قطعة أرض شبّت وانتفضت واتخذت هيئة شاعر). تختلط عليّ الأمور بين الخاص والعام وبين الأدبي والسياسي ، فأجدني استرجع لقاءاتي به منذ أن التقيته ذات عشية في مطار الدارالبيضاء في ديسمبر من عام 1972 قادما من القاهرة ، حيث رافقته على مدار أكثر من شهر لا نفترق إلا عند النوم ، وطفت به في مدن طنجة وتطوان وفاس ومكناس ومراكش والدارالبيضاءوالرباط . وأتوقف عند الأمسية الشعرية الأولى له في قاعة وزارة الثقافة بالرباط ، حيث أخبرته أن عموم المغاربة يحفظون قصيدته ( سجّل أنا عربي ) ويودّون لو يسمعوها منه ، فردّ علي قائلا أنه لا يمكن أن يقرأها ( فهذه القصيدة كتبتها وأنا تحت الإحتلال الصهيوني ، وهي صرخة في وجه المحتل فهل تريدني أن أقرأها لأهلي المناضلين معي ) . ثم تتالت زيارات محمود درويش للمغرب ، بحيث لم يكن يمر عام دون أن يزور المغرب ، حيث نشأت بينه وبين الجمهور المغربي وخاصة جمهور مسرح محمد الخامس بالرباط علاقة حميمة تحدث عنها في أكثر من مناسبة . ولا بد لي من أن أتوقف عند إحدى هذه الزيارات حيث أقمنا له أمسية شعرية بمسرح محمد الخامس بالرباط ليلة 13 / 12/ 1986 . تكفلت شخصيا في تلك الأمسية بتقديم محمود ، وأعددت له تقديما شعريا يليق بمكانته ، وبدأت الأمسية والجمهور في حالة هستيرية ، وبلغني وأنا في كواليس المسرح بأن الجمهور في الخارج الذي فاق عدده العشرة آلاف سّد كل الطرقات المؤدية إلى المسرح ، ويرفض مغادرة المكان مما ينذر باشتباك بينه وبين قوات الأمن . كما لاحظت أن الجمهور داخل القاعة جلس تقريبا كل شخصين على مقعد واحد وانتشروا في الممرات الأرضية وممرات الطابق العلوي ، وكانوا ينهضون ويجلسون بل ويقفزون مع كل مقطع ، مما ينذر بأخطار على مبنى المسرح . فاغتنمت فرصة توقف محمود ليشرب بعد إنتهاء إحدى قصائده ، وتقدمت نحوه وأخبرته بالأمر وبما أتخوّف منه ، فاكتفى بحوالي خمسين دقيقة شعرية ، معتذرا بحالته الصحية ، وكانت هذه أقصر أمسية شعرية أحضرها لمحمود . واضطررنا للخروج متسللين من الباب الخلفي للمسرح للإفلات من تدافع الجمهور . وفي صباح اليوم الموالي ذهبت مبكرا جدا إلى الفندق واصطحبت محمود إلى المطار محمد الخامس بالدارالبيضاء حيث سافر إلى تونس ، وعدت إلى مقر ممثلية منظمة التحرير الفلسطينيةبالرباط ، فوجدت الإخوة كلهم مجتمعين وتكسو وجوههم جدية وكآبة ملحوظة ، فبادرني الأخ أبو مروان بالطلب مني أن أعود إلى بيتي ، ولما قلت له أنني لست متعبا اضطر إلى إخباري بأنه تلقى بالأمس خبر وفاة والدي ، وأنه لم يخبرني بالأمر لأنه يعلم بأن محمود إذا علم بالأمر فلربما يعتذر عن الأمسية مما سيسبب لنا مشكلة مع حشود الجماهير التي حجّت لسماع محمود . عدت إلى البيت وأنا في حالة غمّ وحزن كبيرين ، ولا أدري ما الذي جعلني أعيد قراءة ما كتبته لتقديم محمود في المسرح ، فاكتشفت أن ما كتبته كان وكأنني كتبته في رثاء أبي ، حيث قلت مع عبق التاريخ الآتي من رحم أريحا مع ترنيمات الكنعانيات على سفح الكرمل مع صلوات الكهّان ببيت الربّ في أورشليم مع أغرودات صبايا مرج بني عامر .. يأتينا صوتك يأتينا ممزوجا بهتاف طفل يقذف حجرا في وجه الغاصب بعرق الفلاّح الممزوج بطين الأرض ينزّ عروبه بدم الطلاّب المتحدّين المحتل لحدّ الموت برصاص فدائي يتوحّد بالرشاش ويمضي نحو النصر يأتينا صوتك ناعما كنسمة صيف وحاداّ كحدّ سيف وأتوقف مرة أخرى عند حكاية طريفة لمحمود مع زوجتي وولدي سفيان. فذات مرة حملت محمود بسيارتي إلى مسرح محمد الخامس لإحياء أمسية شعرية هناك ، وجاتءت زوجتي ومعها ولدي سفيان الذي كان في حوالي العاشرة من عمره ، وقد سبق لمحمود أن التقى أسرتي مرارا ، فلما سلّمت زوجتي عليه قلت له مازحا ( ها هي وزارة الداخلية قد وصلت ومعها ولي عهدنا سفيان ) فأراد أن يناكفني فقال وهو يصطنع الجدّية ( ولكن موش هذي اللي كانت معك بالأمس ) فردت عليه زوجتي ( نعم تلك هي زوجته الأولى أم سفيان وأنا زوجته الجديدة ). ثم اخبرته بحكاية طريفة وقعت لسفيان ، حيث كنت والعائلة عائدين من الدارالبيضاء ليلا والجو بارد ماطر ، واستمعنا لشريط عليه كلمة محمود درويش في إفتتاح مهرجان الشقيف الشعري بعنوان ( بيان في وصف حالتنا ) التي اعتبرها أنصار قصيدة النثر من صنف ما يكتبونه ، وبعد انتهاء الكلمة قال لي سفيان ( يا بابا وأنا اسمع محمود درويش أحسست بارتفاع حرارتي ) فقال محمود ( والله يا أختي أن إبنك يفهم بالشعر أكثر من كثيرين من النقاد العرب ، فإذا لم يستطع الشاعر أن يرفع حرارة المتلقي فالأفضل له أن يشتغل تاجر خردة ). وسأستمر في حديثي عن محمود درويش بعيدا عن الجوانب التي أعرف مسبقا بأن معظم من سيكتبون في ذكرى رحيله سيتحدثون عنها ، من حيث إبداعه الفني الفريد المتجدد الذي يحتاج لمجلدات لتضم الدراسات والأبحاث والمقالات والرسائل الجامعية التي تناولته بمختلف اللغات . وبالطبع لن أتحدث عن محمود درويش المناضل ، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، رئيس الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ، فمحمود درويش والنضال صنوان . ولكنني سأتوقف عند ثلاث محطات خاصة لها دلالاتها في إبداعات محمود درويش وما أحدثته في مسيرة النضال العربي والفلسطيني . إذ يكفي أن تتلو أسماء مجموعاته الشعرية أو عناوين قصائده ، لتفتح سفرا نضاليا عظيما . ويكفي أن تستعرض ألوان الفن الجميل الملتزم لتجد بصمات وكلمات محمود درويش . المحط الأولى : أثناء إنعقاد دورة المجلس الوطني الفلسطيني عام 1987 بالجزائر ، أقيمت أمسية شعرية في قاعة المؤتمر ، قرأ فيها محمود درويش رائعته ( مديح الظل العالي )، وعندما وصل إلى المقطع الذي يقول فيه « يا الله ، جرّبناك جرّبناك « قال الشيخ عبد الحميد السائح رئيس المجلس الوطني ? وهو عالم دين ومفتي فلسطين ? استغفر الله العظيم ، وخرج من القاعة . وما لبث بعد دقيقتين أن عاد إلى القاعة قائلا ( ولكنه شعر رائع وعظيم ). المحطة الثانية : بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 وبدء عملية عودة مسؤولي ومناضلي منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وأحزابها إلى مناطق السلطة ، كانت قوائم بأسمائهم يتم التفاوض عليها مع الجانب الإسرائيلي ، وفي حينها نوقشت مسألة عودة محمود درويش في ‹ الكنيست ‹ البرلمان الإسرائيلي . ولأول مرة في تاريخ الكنيست تتم قراءة قصيدة محمود درويش « عابرون في كلام عابر « ، واعتبرها أعضاء الكنيست بغالبيتهم تبشيرا بزوال دولة إسرائيل وتحريضا على قتل وطرد الإسرائيليين . وتمّ رفض دخول محمود درويش إلى أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية ( كشخص إرهابي)ولعل هذا الوصف كان وراء منعه من المشاركة في تأبين صديقه ورفيق دربه توفيق زياد . إلا أنه تمكّن من العودة بفعل إصرار قيادة السلطة الوطنية الفسطينية والقائد ياسر عرفات شخصيا والحملة الدولية الشاجبة والمستنكرة للرفض الإسرائيلي . وعلى ذكر الشهيد القائد ياسر عرفات فإنه قال ذات مرة : أنا القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية ، ومحمود درويش هوالشاعر العام . المحطة الثالثة : في بداية عام 2000 قرر وزير التعليم الإسرائيلي يوسي ساريد الذي هو زعيم حركة ميريتس اليسارية الإسرائيلية ذات الموقف المتقدمة نسبيا من الحقوق الوطنية الفلسطينية ، قرر إدراج بعض قصائد محمود درويش في المنهاج المدرسي الإسرائيلي . فقامت القيامة في إسرائيل ، ووصل الحال بالحاخام الأكبر لليهود الشرقيين في إسرائيل عوفاديا يوسف ، أن أحلّ دم يوسي ساريد باعتباره كافرا وخارجا عن الديانة اليهودية ، وهددت الأحزاب اليمينية والدينية المشاركة في الإئتلاف الحكومي وبعض نواب حزب العمل الذي يدّعي بأنه يساري ، هددوا بإسقاط الحكومة إن هي وافقت على ذلك ، حيث اعتبروا أن محمود إرهابي ومجر م خطير . لقد عرّت هذه الهجمة الشرسة على محمود درويش الكيان الصهيوني وأظهرته على حقيقته ككيان عنصري غير مستعد لتقبل الآخر ، وغير قابل للتعايش مع أهالي المنطقة التي يتواجد فيها . وبالتالي كشفت أن المجتمع الإسرائيلي لا زال غير ناضج للسلام ، وأكدت زيف الإدعاءات السلامية لبعض قيادات الكيان الصهيوني .. فإذا كان تدريس بعض قصائد محمود درويش للتلاميذ الإسرائيليين مرفوضا فكيف سيقبل الإسرائيليون بدفع إستحقاقات السلام في مواضيع شائكة وكبيرة كالقدس واللاجئين والمستوطنات . إضافة إلى ذلك فقد وجهت الهجمة على شخص محمود درويش وشعره صفعة قوية لكل دعاة التطبيع مع الإسرائيليين . فهاهم الإسرائيليون الذين تتهافتون على التطبيع معهم ، يرفضونكم ويعلنون الكراهية لكم . وعليه فإن التطبيع مع الإسرائيليين لن يكون إلا (تتبيعا) أو (تضبيعا) ? كما شبهه الأ ستاذ محمد جسوس . هذا هو محمود درويش بسيرته النضالية ومسيرته الإبداعية التي لخصها عندما قال ( على هذه الأرض ما يستحق الحياة ) . ويحكى أن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي التقى ريتشارد قلب الأسد قائد الفرنجة الصليبيين بعد معركة حطين وتحرير بيت المقدس ، وبعد أن إنتهى لقاؤهما وركب كل حصانه ، أراد ريتشارد قلب الأسد أن يظهر لصلاح الدين قوته ، فأخذ ما يشبه المسمار من الحديد ورماه في الهواء وتلقاه بسيفه وقسمه قسمين . فما كان من صلاح الدين لإظهار أنه أقوي وأمهر ، إلا أن نسل من عباءته خيطا من حرير ونفخ عليه فطار في الهواء ، وأهوى عليه بسيفه فجعله قطعتين .. ولعل هذا هو حال شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش مع المحتلين الصهاينة . واصف منصور صديق المغرب الثقافي لقد فجعنا فجيعة قاسية لرحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش، صديق المغرب الثقافي، صديق القصيدة المغربية الحديثة و صديقنا الشخصي. قد لا أكون في حاجة الى التذكير بالمكانة الشعرية والرمزية لمحمود، فالجميع من قرائه وجمهوره الواسع يدركون و يلمسون هذه المكانةالرفيعة التي ظل يتبوؤها الراحل الكبير؛ ذلك لأنه استطاع بفضل شعره ووعيه الفني وذكائه الجمالي أولا، وكذا بفضل التزامه الوطني كمناضل وكمعبر عن روح وعمق القضية الفلسطينية، استطاع أن يحفر لنفسه هذا الموقع المتقدم في خريطة الشعر العربي المعاصر بل وأن تكون له هذه الحظوة في الشعرية الانسانية الحديثة فأصبح يعد من كبار شعراء العالم الى جانب أسماء شعرية بارزة أمثال فيديريكو غارسيا لوركا، رفاييل ألبيرتي، بابلو نيرودا، يانيس ريتسوس وآخرين فضلا عن كبار شعراء العربية الحديثة الذين كان يشكل واسطة العقد بينهم من أمثال شعرائنا الكبار أدونيس، سعدي يوسف، نزار قباني، محمد الماغوط، ممدوح عدوان، محمد عفيفي مطر، سركون بولص، أحمد المجاطي، محمد السرغيني، عبد الكريم الطبال وغيرهم. تعرفت على محمود درويش في مارس 1983 بمكناس، ثم كان اللقاء الثاني سنة 86 عندما أحيى أمسية شعرية في ذكرى استشهاد المناضل عمر بنجلون، وبعدها تعددت لقاءاتنا الأخوية في المغرب أو في باريس. وإلى جانب صداقاتنا، كنت أعتز دائما بصداقته مع المغرب الثقافي والشعري، وبحرصه الدائم على الاستجابة لرغباتنا سواء في اتحاد كتاب المغرب أو في بيت الشعر في المغرب. لم يرفض لنا طلبا، ولم يعترض على مقترح. ولذلك آثرنا أن ننظم احتفالية تكريمية له سنة 2000 في الرباط دعونا اليها، ثلة من أصدقائه الشعراء و النقاد العرب. وكان جميلا أن يتوج هذا الحدث التكريمي للمرحوم محمود درويش بالتفاتة رمزية وازنة حين دعاه جلالة الملك محمد السادس الى القصر الملكي بالرباط ومنحه وسام الكفاءة الفكرية، أرفع وسام وطني في المغرب يمكن أن يحصل عليه رجل فكر أو إبداع. وتمتد علاقة محمود بالمغرب الثقافي لحوالي أربعة عقود، إذ جاء الى المغرب لأول مرة في بداية السبعينيات من القرن العشرين و ظل يتردد على المغرب دون انقطاع، وكان آخر لقاء شعري له في الرباط في فبراير 2007 على هامش المعرض الدولي للكتاب. كما كان منتظرا أن يزورنا يوم الجمعة 24 أكتوبر المقبل ليتسلم جائزة الأركانة للشعر العالمي التي يمنحها بيت الشعر في المغرب، بدعم وشراكة مع مؤسسة الرعاية لصندوق الايداع والتدبير وكان سيحيي أمسية شعرية جديدة له في نفس اليوم في المسرح الوطني محمد الخامس. وكنا نضع أيدينا على قلوبنا مخافة أن لا يأتي، مخافة أن يتوقف قلب الشاعر أو يصاب بشلل إذا ما أجريت العملية الجراحية المتوقعة. ومثلما أبهجه خبر فوزه بهذه الجائزة بقدر ما كان يعاني من الام مضاعفة أصبح الامل ضئيلا جدا أمامه لكي يتخطاها. وها قد ذهب الى مدينة هوستن بولاية تيكساس الأمريكية بحثا عن ذلك الأمل الصغير الذي تبقى له فخاب الأمل وكانت خيبتنا الكبيرة جميعا نحن اللذين احببناه وصادقناه وواكبنا خطواته واقتفينا أثر قصيدته كلما تحركت وتفاعل دبيبها. سنفقد برحيل محمود درويش علما شعريا شامخا، و اسما مرجعيا مؤثرا في سيرورة القصيدة العربية الحديثة، وأحد أصدقاء المغرب الكبار. فعسى أن نعثر في قصيدته وفي ثراته الأدبي والانساني على بعض العزاء. وبالمناسبة، فإنني آمل من اخوتي الشعراء والكتاب في فلسطين، في بيت الشعر الفلسطيني وفي الاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين وكذا في وزارة الثقافة وعلى مستوى الرئاسة الفلسطينية أن يوفروا لرفاة الشاعر الكبير مكانا جديرا باسمه داخل التراب الوطني المحرر (في رام الله مثلا) حتى لا يعبث الكيان الصهيوني بقبره كما عبثوا بقريته »البروة« فمحوها من الخريطة، وأن يتم التفكير في الآجال القريبة المعقولة بتأسيس مؤسسة ثقافية باسم الشاعر الكبير محمود درويش تصون كل ثراته الادبي والشعري وتحافظ على حقوق ذويه الفكرية والادبية وتجمع كل مخطوطاته وممتلكاته الشخصية الصغيرة والأوسمة والدروع والجوائز التي فاز بها في حياته ومخطوطاته المختلفة كي توضع في متحف يليق باسمه وبمكانته وبدوره الريادي كشاعر و كمناضل رفع سقف القصيدة العربية عاليا واسهم بحظ وافر في توطين القضية الفلسطسنية في الوعي والوجدان العربيين والانسانيين. تعازينا الحارة الصادقة الى السيدة حورية والدة محمود درويش وشقيقاته وأشقائه بفلسطينالمحتلة، والى أصدقائه الشعراء والكتاب الفلسطينيين والعرب. وكل التعازي الى الشعراء والمثقفين والقراء المغاربة الذين أحبوا هذا الهرم الشعري وتفاعلوا معه فقرؤوه بحب واستشهدوا بشعره وكلامه في رسائل حبهم وفي خطابهم اليومي. ورحم الله الشاعر محمود درويش الاخ والصديق العزيز والمعلم الكبير. حسن نجمي مسافة بين العلاقة.. علاقة المسافات شخصياً، لست من أتباع المتهافتين على الأسماء الأدبية المشهورة التي تزور المغرب من حين لآخر، فهناك الكثير من المتطفلين الذين يجيدون هذه اللعبة القذرة، كلما حل كاتب أو شاعر عربي ما بربوعنا، بل منهم من يقوم بدور الدليل السياحي حتى «»يرضى»« عنه هذا الكاتب أو ذاك الشاعر ويكتسب «»صداقته»« عبر الأيام. محمود درويش: ها هو الشاعر يحل بين ظهرانينا، فأين سنراه؟ في مسرح محمد الخامس، هنا سيقرأ شعره المتفجر بآلام شعبه الموزع المشتت في المنافي وعبر القارات. هنا يكاد المسرح أن ينفجر، تصفيق حاد ومتواصل في انتظار المزيد من الشعر الجميل ومن استرجاع النفيس، ساعة أو ساعة ونصف كافية للسفر بعيداً في البلاد وفي الذات المنكسرة المتشظية عبر الزمن، لا يفتأ درويش عن القراءة، لأنه يجد لذة نَفْسية كبيرة أثناءها، بخاصة في المغرب، وعندما ينتهي يزيل عن كاهله هذا «»الواجب»« الشعري الذي يتلقفه الجمهور بلهفة، إذ بعد كل قراءة جماهيرية يعود إلى ذاته وإلى أصدقائه، هو ذا الشاعر الكبير الذي لا يتحدث عن نفسه مرات، كثيرة جلست فيها إلى جانب درويش دون أن ألازمه كظله، ذلك أن كثرة المتطفلين لا يتركون لك الوقت للاقتراب منه والاستماع إليه. لقد كنت أضع مسافة بيني وبينه وبيني وبين بقية الكتاب العرب الآخرين. إن من أحس بأنه قريب مني ومن وجداني أسعى إليه دون تردد، ولا يعني هذا أن درويش لم يكن النموذج الإنساني الذي يروق لي بالعكس، فدرويش من طينة خاصة وصعب المراس، ليس من السهل القبض على تلابيبه، لذلك ليس له أصدقاء إلا صديق واحد يلعب معه لعبة «»النرد»« بعمان بالأردن، أما المعجبات فكثيرات لكن لا أحد منهن مستقرة في قلبه. آخر مرة جلسنا معه وكانت في بيت محمد الأشعري بعد الانتهاء من قراءته بمسرح محمد الخامس، كان معنا محمد برادة المهدي أخريف أحمد جاريد أحمد لمسيح أمينة أوشلح إدموند عمران المالح عائشة الأشعري. كانت ليلة حميمية ومفتوحة على الكلام الخاص والعام وعلى الضحك والسخرية، لم يكن درويش يتكلم بصوت مرتفع، كان صوته المهموس يكاد أن يُسمع ونحن نثرثر ونضحك في الصالون، وعندما قمنا الى مائدة العشاء، أصبحت أصواتنا قريبة الى بعضها. وأتذكر أنه كان يدعوني إلى زيارته في فندق »»هيلتون»« لنشرب قهوة ونتحدث خارج الشعر والثقافة ثم كنت أتركه لمواعيده الخاصة. درويش: سلاماً عليك في رام الله. ادريس الخوري محمود دروويش.. انتظروني سنة أخرى من حق المهتم بالشعر أن يَسْعد بكونه عاش في زمن محمود درويش، وعاصر صدور مجاميعه الشعرية التي جسدت بصدق فني التاريخ الحديث والمعاصر لفلسطين... تاريخ الأرض والإنسان والرموز.. فلقد كانت قصائده ومقالاته وما تزال الدواء والغِذاء لوجداننا العربي الذي كان يصطخب بين الغضب والفرح، وبين الخوف والرجاء، ونحن نرى أرض فلسطين تتناوشها القرارات والأفكار والأسلحة.. إن تراثه الإبداعي العظيم إكسير لاستمرار المقاومة، ورُسوخٌ للحبّ والتِماع للجمال في فضاءاتنا.. فالبحر الذي ينبثق بين شُقوق قصائده، هو بحرٌ أنتروبولوجي يستوعب رحلة الحضارة والإنسان عبر المكان الشعري الفسيح، عندما كان تراب الوطن يفر من تحت قدمي الشاعر ليتراكم تحت أقدام عدوه.. وقد لعب المنفى دوراً مؤكداً في تمثل هذا المكان الشعري الذي باستطاعته أن يمارس امتداداته الثقلفية والفنية العميقة، في أفق استعادة المكان الواقعي من يد الغاصبين. لم يكن محمود درويش مجرد شاعر من فلسطين، أو مجرد شاعر كتب عن فلسطين.. وإلا لكان كل شعراء فلسطين، وكل الشعراء الذين كتبوا عن فلسطين بحجمه وقامته.. كان محمود درويش عُنْفُواناً يكفي أن يمسَّ اللغة ليتحول معجمها إلى موسوعة من الرموز، ويكفي أن يفكر بالأساليب لترتبك القواعدُ، وينتكس النحْو المهجور، فاسحا للقصيدة كي تخرج من بين أصابعه لاهبةً كالجمر، ومُزدحمةً كمعجزة.. ولأن أرضه التي عبرتها شعوبٌ كثيرة، واستهوت أمما كثيرة، كانت مشْتلا كونياً لتأهيل الأبطال والشهداء، فقد كان محمود درويش جديرا بإطلاق صرخته العادلة: «أنا أول القتلى وآخر من يموت..» فالقتل في هذه الشِّعاب التي طهرتها السماء خطأٌ حربيٌّ يكلف القاتل تاريخاً كاملاً من الهزائم.. فالشهيد كما يُستعاد شعريا، يعرف جيداً أن دمه لم يذهب هدرا، وأن حياته الجديدة تعمل بفعالية أقوى وبحيوية دائبة.. فقد صار حضوره وبالا على أعدائه وعنوانا ممهورا بزمن السنابل المتموجة، وبأغنية العذاب الزائل عن شعبه: في البدء لم نخلقْ في البدء كان القول والآن في الخنْدقْ ظهرت سِماتُ الحملْ لم يكن قلب محمود درويش من نحاس، ولم يُهْدِ للمذابح فرصة النيل من رهافة مشاعره، وهذا هو السر في استمرار الشعر في شعره، وبقاء قصيدته الحاملة للزوابع المجدية.. ومثلما حرض على الموت استشهادا، حرض أيضا على الحياة بكل لذائذها، حتى لا يتحول الإنسان الفلسطيني إلى سلعة للموت، وحتى لا يرسخ في الأذهان أن «المخيم وعاء مفاهيم وإيديولوجيا، لا تجمع بشري، أو أنه مكان مصطنع لإنتاج مسلسل تلفزيوني عن لعبة الموت» على حد تعبيره .. ألم يخاطب جموع الشهداء من أحبائه وأصدقائه مخاطبة من ذاق لوعة الفقد، ملتمسا منهم ألا يبالغوا في الذهاب إلى الموت: لا تموتوا مثلما كنتم تموتون، رجاء لا تموتوا انتظروني سنة أخرى سنة سنة أخرى فقط لا تموتوا الآن، لا تنصرفوا عني أحبوني لكي نشرب هذي الكأس كي نعلم أن الموجة البيضاء ليست امرأة أو جزيرة ما الذي أفعله بعدكم؟ كان محمود موقنا بأن حماية الأرض تكمن في مدح الليلك ووصف البرتقال، وحماية الحضارة تكمن في الجهر بارتباكات الذات الحاضنة للجماعة، في قصيدة متقشفة تمدح البطل دون أن تسلبه حقه في الشهوة والحياة. إن الذات الحاملة للجماعة، إذن، لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تبتهج بالتفرج على الموت اليومي الذي يحصد الشهداء دونما نتيجة تتحقق.. ولا يكون الشاعر شاعرا ما لم يزرع في حقول تاريخه الجمالي شعوره الخاص بالحياة، ومعناه النبيل عن ظواهر الوجود، وتبرمه من تعاون السماء والزمن عليه. فمن حق الشاعر الرقيق أن يتعرى أمام عواطفه أحيانا قبل أن يستعيد صلابته الضرورية، وخياله المسعف، ليواصل ببطولة فصول التراجيديا الفلسطينية التي بدأها طفلا زاحفا تحت القصف، وماشياً في العطش من «بروة» التكوين إلى مخيم الشتات في لبنان.. هكذا كتب على الطفل أن يتعرف على محنة شعبه انطلاقا من محنته الخاصة، ولم يكن احتلال الوطن حينئذ يمثل بالنسبة إليه شيئا أكبر من احتلال طفولته.. أليس الأمر شبيها بغصن طري نازف إثر نزعه من أمه الشجرة.. ثم، أليس النزع هنا فعلا كافيا لاعتناق المباشرة؟! بلى.. ولكن ليس في حالة شاعر استثنائي دعاه وعيه الحاد إلى أن يلجم ضباب الرداءة بقولته العميقة: «الشعر لا يخلق الثورة. الشعر ثوري بطبيعته. لكنه لا يخلق الثورة، كما أن الحب لا يخلق الحبيبة.. إن أقصى ما استطاع شاعر ثوري هو تعميق حالة اليأس بين الناس الذين يحبهم.. بهذه المفارقة الغريبة والجارحة أعطى الشاعر أملا.» ولعل روح هذه القولة هي ما يدل بقوة على أن محمود درويش عارف بحقيقة الفن الشعري، مدرك للمعادلة الصعبة التي دوخت النقاد والشعراء على حد سواء في ما يتعلق بسرّ القصيدة العصيّ ولغزها المحيِّر. فعندما تكون التجربة مكتنزة، والوعي الشعر حاداً، وعندما تكون الحقيقة واضحة كالشمس، والمعاناة دبابيس تنغرس في الجلد والروح، تأتي القصيدة تحدّياً أسمى من القوانين، وعِناداً أفدح من الرفض.. قصيدة تفتح القواميس الجميلة، وتغدق منها على الإنسان نِعَمَ الطفولة، ولذائذ الحب، ودفء العواطف.. قصيدة تمسك بتلابيب الزمن وتُلغي إيقاعه، وتحول الرشاش إلى قيثارة، وتدعو نحْل القفير إلى «إعداد فطور شهي للجد فوق طبق من خيزران..» ما أجمل ما تتصنعه القصيدة بالأشياء والذكريات والأحلام القادمة، عندما يروق مزاج المنفيّ، أو يأتلق في شطحاته خيال العائد إلى وطنه في غنائية معاصرة مرفوعة بالإيقاع، ومزدهرة بالأمل الذي يغذي وجدان الشعب... محمود.. أيها الرجل النادر.. أيها الشاعر الذي تغرب طويلا، وحين عاد لم يصدق يقين الوطن، فظل في الأحلام يبحثُ عن صحْوةٍ للأرض، ظل يمجد الغياب، وينسج من مُزَق الأساطير لحظة بدْءٍ، كأن الرحلة حين انتهت لم ترحم تفاهة العمر، أو كأنه حين كان يكتب لسكان الأرض قصيدتهم، أبقى النساء بلا عرس، وتحدى الحب في سرير الغريبة.. ليس خوفا من حياة.. أو خوفا من بلاد. كان الشاعر يأتي إلى صورته بكل ما أوتي من وضوح القسمات فتغيم الألوان.. نحيلا كان ينازل صِنْوه، فيرتفع في المدى الغبار الأخضر، فيخرِج البحر من حقيبته ليتمدد على الشاطئ، وسريعا تنتشر الطرقات.. البنايات تغادر تخطيطها الهندسي، والفرس المحنَّطُ يَشْرَع في تحريك الذيل، وكانت نحلة الشعر تُعبِّئ شهدها بما سيأتي من عسل الوقت.. محمود.. أيها الشاعر الذي استعار من جلجامش نُسْغَ الخلود وعبَّأه في جداريته، فكان على حد تعبير هايدغر في حديثه عن هولدرلين من الشعراء الذين عرَّوا رؤوسهم تحت صواعق الرب، والتقطوا بَرْقة بأيديهم، وقدموا للشعب الهدية السماوية تحت وشاح النشيد.. لقد طوَّفْتَ طويلا بين مدن العالم.. وهاجمك الموت فيها مرارا.. لكنك الآن ترقد حيا في تراب بلادك.. كأنني بصوتك القديم ما يزال يتردد بين العباد: يا نوح ! لا ترحل بنا إن الممات هنا سلامهْ إنا جذورٌ لا تعيش بغير أرض ولتكن أرضي قيامهْ.. عبد السلام المساوي