سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
3 مارس 1973.. الثّورة المنسية «المساء» تزور مناطق عرفت اندلاع مواجهات مسلحة بين «الثوار» والنظام وتلتقي بالفاعلين الرئيسيين في انتفاضة 1973 بعد 40 سنة من الصمت
هؤلاء مرّوا من هنا، تاركين وراءهم العدم وذاكرة مكان مشحونة بالأمل والألم. هنا، نقتفي آثار ماض مؤلم. أرادوها ثورة سنة 1973، فكانت هي شيئا آخر. في هذا التحقيق، سنحاول قدْر الإمكان المشي على خطى من سبقونا من هنا، من «الأطلس المتوسط»، وبالضبط من منطقة «أجلموس»، البعيدة عن مدينة خنيفرة بأقلَّ من 40 كيلومترا، التي كانت مسرحا لجزء من المواجهات بين «الثوار» والجيش، نعيد تجميع الصورة لثورة منسية من تاريخ المغرب، اندلعت ذاتَ ربيع من سنة 1973، لنطرح الأسئلة المتناسلة: أي جحود أكبر من أن يُسقط التاريخ أحداثا صُنعت بالنار والدماء؟ كم هي الطموحات التي ضاعت وسط آفاق غامضة؟ كم هي الخصال البشرية التي تم إفسادها؟ ماذا تبقى من الموتى، ومن الأحياء، ومن «الموتى -الأحياء»؟ هل هناك من مغزى يجب الاحتفاظ به كدرس من القدر المتناقض لهؤلاء الرجال الذين قرّروا، رغم ذلك، توحيد مصيرهم؟.. الجواب يكمن بالضبط في هذا الصمت العنيد، الذي طالما غطى هذا التاريخ المأساوي. التاريخ: يوم الأحد، 10 مارس 2013، المكان: أحد فنادق خنيفرة. يلتقي محمد أونجدي وعبد الله المالكي بعد فراق دام 40 سنة، في عروس الأطلس المتوسط. عناق حارّ بين ثوريين غزا الشيب شعرَيهما، لكنّ روح «الرجل الثوري» استقرت داخلهما إلى الأبد.. يتذكران مَشاهدَ «ثورة مسلحة» من أجل قلب النظام خططوا لها ونفذوها، لكنْ لم يُكتب لها النجاح. يتذكران أيضا فصول قصة تداريبهم في معكسر الزبداني في سوريا لعدة سنوات قبل تهريبهم إلى داخل التراب الوطني من أجل المشاركة في انتفاضة 1973، أو ما يعرف إعلاميا ب«أحداث مولاي بوعزة». خلال الأربعين سنة هاته تحولت خنيفرة من مدينة ثائرة إلى مدينة «عاهرة»، أو هكذا أريد لها أن تكون في ما بعد، من أجل طمس ماضٍ اختلط فيه الألم بالدم بالثورة. من هنا انطلقوا قبل أربعين سنة، عندما كان للثورة مكان في عقولهم.. اليوم، وبعدما شاخوا، تستدعي ذاكرتهم ما تبقى من ذكريات يروونها على مضض، رفاق كما جمعتهم «ثورتهم المنسية» في مارس 1973 فرّقتهم. إبراهيم أوشلح، البشير الزين، عبد الله المالكي، أحمد بويقبا وأمزيان.. هنا حيث جالسناهم في «أجلموس» -ضواحي مدينة خنيفرة، حيث يلتقون لأول مرة منذ 40 عاما، بعد فشلهم في إسقاط جدار الخوف عند استبدالهم حديثَ القلم بطرق الرصاص: «لسنا نادمين على ما حدث، ولسنا ضحايا بل أبطال».. هكذا يُردّدون، في ما يشبه الإجماع، لكنّ لغة الجسد أدقّ وأعمقُ. هنا نروي حكايتهم كما يروُونها هم عن أنفسهم، وعن رفاق فارقوهم قبل الأوان، لكنْ ما نفع «القصّة» عندما يغيب صاحبها؟ هم إذن «أبطال بلا مجد»، كما وصفوا أنفسَهم من قبل. أجلموس.. بقايا معركة الطريق من خنيفرة إلى قيادة «أجلموس» مليئة بالمنعرجات. تواصل السيارة التي تقلنا اختراق مناطق وعرة، قبل أن تصل بنا إلى أماكن كانت مسرحا للمواجهة بين الجيش المغربي والثوار. نحن هنا أمام أحد منازل من يوصفون ب«الثوار». في هذا المكان الآمن، وقعت اشتباكات بين رفاق الفقيه البصري ومحمد بنونة، الشهير ب«محمود»، العقلين المُدبّرَين للانتفاضة، مع قوات العسكر، و«لعلع» صوت الرصاص فوق سماء هذه المنطقة ذات الطبيعة الخلابة. كانت خنيفرة في ذلك العهد تضمّ 10000 نسمة، فأصبحت بؤرة ثورية كامنة على الخريطة الإستراتيجية للتنظيم، فحوْل خنيفرة تمتدّ منطقة متوحشة من تلال تغطيها الغابات وجبال وعرة، ما يشكل أرضا مثالية لحرب تقوم على نصب الكمائن. «بماذا تذكرك هذه الجبال؟»، تسأل «المساء» عبد الله المالكي، أحد المشاركين في أحداث 1973. يصمت للحظات. كانت عيناه تشيان بعد هذا السؤال بحُزن دفين، قبل أن ينطق: «مأساة.. لقد وقعت أخطاء في التنفيذ نتحمّل مسؤوليتها». نقلنا السؤالَ نفسَه إلى أحد أبرز العقول العسكرية المدبّرة للانتفاضة، إنه البشير الزين، الملقب بين الثوار باسمه الحركي «إدريس النجار»، فكان جوابه أكثرَ دهاء: «تشير هذه الجبال إلى الطبيعة الخلابة التي تزخر بها بلادنا».. جواب انخرط بعدَه الجميع في الضحك. والبشير الزين هذا هو أحد قدماء جيش التحرير الوطني في منطقة الجنوب. التحق بالقوات المسلحة الملكية، حيث أصبح رقيبا أول. هرب إلى الجزائر سنة 1963، واعتقِل في مدريد في يناير 1970، قبل أن يرحل إلى دمشق، وعند عودته إلى المغرب، مع «محمود» سنة 1973، كان ضمن الناجين القليلين من الاعتقالات التي طالت رفاقه، ويقطن اليوم في الرباط، وكان يعد أحدَ أبرز الوجوه الثورية الشابة، التي تلقت تكوينا عسكريا على مستوى عالٍ من الدقة. يشير لنا احمد بويقبا، أحد المشاركين في انتفاضة 1973 المسلحة ضد نظام الحسن الثاني، بيده اليمنى إلى منطقة معينة بين الأشجار، ويقول بافتخار: «هنا كنا نجلس رفقة إبراهيم التزنيتي، الملقب ب»عبد الله النمري»، ومحمد أمدة معنا، تحت هذه الأشجار ظلا مختبئين مدة سنتين قبل اندلاع انتفاضة 1973».. مصدر افتخار بويقبا هو أن محمد أمدة هذا، الذي يتحدث عنه، هو من مواليد خنيفرة، عنصر سابق في القوات المساعدة. تدرّبَ في سوريا قبل أن يعود سنة 1969. اختبأ في الرباط حتى سنة 1971، واستقر في جبال خنيفرة في بيت عائلة. نجا من الاعتقالات التي طالت ثوار انتفاضة مارس 1973 وهرب إلى الجزائر، رفقة أحمد بويقبا وآخرين، حيث توفى سنة 1980. أما عبد الله النمري، أو إبراهيم التزنيتي، فهو أهمّ وجوه جيش التحرير الوطني في منطقة الجنوب. أصبح خلال سنوات المنفى في سوريا والجزائر عضوا نشيطا في القيادة العليا لجيش التحرير في المنفى. عاد سرا إلى المغرب سنة 1971 ومات في معركة يوم 8 ماي 1973. غيرَ بعيد عن هن هذه المنطقة، توجهنا بالسيارة إلى منزل لا يبعد إلا ببضعة كيلومترات. سلكنا طريقا غيرَ معبدة لنصل إلى منزل ما زالت أسواره شاهدة على مواجهات عنيفة. أمام منزل أمهروق أمزيان، وقف نجله، علي أمزيان. يعود بذاكرة التاريخ إلى سنة 1973، حينما اقتحم العسكر منطقة «عزيز أولحسن»، التي تقطنها عائلة أمزيان. يشير علي أمزيان بيديه إلى آثار اقتحام شاحنة تابعة للقوات المسلحة الملكية لمنزل والده، من أجل إدخال الرعب في نفوس قاطنيه.. وبعد أن فشلت عناصر الجيش في العثور على أمزيان، يقول ابنه الصغير، «قاموا بمصادرة كل أملاك العائلة من مواش وحلي ذهبية».. لا مصالحة مع النظام كان هذا الاقتحام شاهدا على انتهاكات عرفتها المنطقة بعد اندلاع الانتفاضة المسلحة للسكان. لا يمكن إلا أن تتساءل أمامها قائلا: كيف يمكن للمرء أن يفكر دون أن ينتابه الرعب في أن هذه المناطق الخلابة، التي تبهر السياح، كانت مسرحَ مأساة سالت فيها دماء ودموع كثيرة؟.. إن مرور الزمن، الذي لا ينفتح على الذكرى، يكشف حقيقة لم تتغير. إنه شاهدٌ صامت على مأساة وقعت هنا. في بعض الأماكن تظهر آثار القتال على حيطان بعض المنازل. وتبدو معنويات الناجين الذين أُلتقي بهم داخل هذه المنازل سالمة. فقد عُذبوا وحُرموا من حريتهم وانتزِعت منهم ممتلكاتهم، ولكنهم يتبنون أعمالهم الماضية بفخر ويمدحون الشّهداء الذين اختفوا مدحا كثيرا. شهدت العملية العسكرية، التي قادها الكولونيل أرزاز، في المنطقة اعتقال عائلة أمهروق أمزيان بأكملها، بمن فيهم زوجته محايطو وأبناؤها والجَد، الذي كان يقطن بمعيتهم، وكان مصابا بالشلل.. قاموا بتعصيب أعينهم قبل أن يقلوهم على متن شاحنة إلى الثكنة العسكرية في خنيفرة، حيث تعرضوا لمختلف أشكال التعذيب، من «الطيارة» و«الشيفون» والتعذيب اللفظي، عبر سبهم بالكلمات النابية لمدة 6 أشهر.. ما اضطر الوالد أمهروق، الذي كان مختبئا، إلى تسليم نفسه بمحض إرادته، وفضّل عدم الهروب إلى الجزائر رفقة رفيقيه محمد أمدة وأحمد بويقبا، حتى يتم الإفراج عن أفراد عائلته.. يكشف علي أمزيان، أيضا، أن الوالد، ومن معه، طُلِب منهم عدم الإتيان على ذكر أي شخص من القيادة السياسية لحزب، ونفي أي علاقة لهم بالموضوع أثناء المحاكمة، وهو ما استجاب له رفاق محمد بنونة.. قضت المحكمة العسكرية في حق أمزيان ب20 سنة سجنا نافذة، قضى منها 7 سنوات، قبل أن يصدُر في حقه عفو ملكيّ، بعد أن فقد إحدى عينه جراء التعذيب الذي تعرّض له، إضافة إلى إصابته بمرض عضال، بقي ملازما معه إلى حين تاريخ وفاته سنة 1989 في الرباط جراء نوبة قلبية. يثير علي أمزيان الانتباه، في تصريحه ل«المساء»، إلى أنّ «عائلته لم تستفد من جبر الضرر الفرديّ كاملا، بعد رفض كل من هيأة التحكيم المستقلة، التي أنشأها الحسن الثاني وأوكل إلى إدريس الضحاك رئاستَها، وهيأة الإنصاف والمصالحة تعويضَ العائلة عن الممتلكات التي ضاعت منها، و«الغريب أنّ المجلس الوطني لحقوق الإنسان أخبرنا أنّ هذا الملف قد تم طيه بشكل نهائي»، يضيف علي أمزيان. يتذكر أمزيان محمد أوكرران، شقيق أمهروق أمزيان، بكثير من الحرقة والحزن على ما تعرضت له المنطقة من إبادة بعد الانتفاضة، التي فشلت في مساعيها. اعتقل محمد أوكرران 3 سنوات، رغم أنْ لا علاقة له بالتنظيم المسلح ولا بالأحداث.. وألقي به في المعتقل السري «الكوربيس»، قرب مطار النواصر، حيث تعرّضَ لمختلف أشكال التعذيب، قبل أن تبرّئه المحكمة في ما بعد: «لن نسامحهم إلا أمام الله.. مع هادشي اللي داور لينا»، يصرخ محمد أوكرران بأعلى صوته في حديثه مع «المساء».. يجد موقف الأخير سنده في العديد من المخلفات السلبية والإنسانية، التي ما زالت جاثمة على الأنفاس. يعاني العديد من سكان المنطقة إلى اليوم من أمراض عدة جراء التعذيب والانتهاكات التي شهدتها المنطقة، تعذيب لم يستثنِ لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ.. مصطفى أمزيان، أحد أبناء المشاركين في الانتفاضة، يعاني، إلى اليوم، من اضطرابات نفسية خطيرة، تجعله غيرَ قادر على الكلام إلا لماما.. «لقد عذبوا عائلاتنا.. تكرْفصُو عليهومْ.. وقامت قوات الأمن باعتقالهم وتعذيبهم، وخصوصا أفراد قبيلة «آيت خويا»، الذين كان يتم اعتقالهم وتعذيبهم بغضّ النظر عن مشاركتهم من عدمها في الانتفاضة المسلحة، ويكفي فقط أنهم علّقوا زوجة أمدة من شعرها على شجرة، وقاموا بقَنبَلة منزلي واستولوا على الشياه التي كنا نملكها وذبحوها من أجل تأمين غذائهم دون وجه حق»، يقول أحمد بويقبا غاضبا، مضيفا: «حتى الاستعمار لم يكن يعتقل العائلات والأبناء ويُعذبهم، بل يتوجه مباشرة إلى المسلحين». ليخلص بويقبا جازما: «لن نتصالح، ثم مع من سنتصالح؟ هل تريدوننا أن نسمح في حقوقنا المشروعة ونعلن تصالحنا مع الدولة؟.. ما غاديش نْتّصالحو حْتى نْموتو». بداية الحكاية.. مخيم الزبداني بالعودة إلى قبل 1973 وما تلاها، وبالضبط يوم الجمعة، 29 يناير 1969، داهمت الشرطة شارع سانشو دافيلا في مدريد، واقتحمت بيت سعيد بونعيلات، أحد أبرز الأطر الثورية في التنظيم المسلح، ووضعت الأصفاد في يديه. واحتجزت الشرطة الاسبانية كمية كبيرة من المال وعدة وثائق وجوازات سفر مزورة.. ولكنّ ما تم احتجازه بدا «قليلا» مقارنة مع «الغنيمة» التي كانت منتظرة. أخضعت الشرطة المنزل للمراقبة، ولم يذهب صبرُها هباء، إذ عند بداية المساء، وصل أحمد بنجلون إلى الشارع. فوجئ بنجلون وطوق فلم يُبد أي مقاومة، وخلال الحملة اعتقلت الشرطة الإسبانية أربعة أطر ثورية أخرى كانت تنتظر الأوامر في فندق في ضاحية مدريد: الشاب عبد الله المالكي والنجار ومحمد أونجدي وسي إبراهيم.. ولأن المالكي ورفاقه يحملون جوازات سفر سورية فسرعان ما تم اعتقالهم، إذ لما علمت سوريا باعتقالهم طالبت بأن يسلم الطلبة السوريون الذين اعتقلوا خطأ إلى السفارة السورية ليُطلق سراحهم، ويتوجهوا مباشرة إلى سوريا، حيث تلقوا تدريبات عسكرية هناك. لتبدأ مغامرة جديدة في مسار هؤلاء الشبان، خاضوا غمارها بنبل.. فكانت نقطة انطلاق بعضهم من مدريد ومحطة العبور في سوريا. ينقل لنا كتاب «أبطال بلا مجد»، أبرز عمل ميداني سرد قصة انتفاضة 1973، لمؤلفه المهدي بنونة، نجل محمد بنونة (محمود) حكاية على لسان واحد من «الثوار»، وهو الفرشي، الذي كان كذلك ضمن المسافرين مع الفرقة التي توجهت إلى سوريا وبالضبط إلى مخيم الزبداني: «بعد أن أمضينا أسبوعا في دمشق، تم اقتيادنا إلى معسكر الزبداني يوم 15 مارس 1969. كان معسكرا خصصه السوريون للفلسطينيين من منظمة الصاعقة»، يقول الفرشي. أما عبد الله المالكي، عامل التواصل الشباب وصغير مجموعته، فما زال يتذكر هذه التفاصيل. كان يتقاسم خيمة مع 7 من رفاقه عندما أخرجته قبضة حديدية من نومه.. وبصوت قويّ أمره محمود هو وأصدقاؤه باللجوء إلى الخنادق المحفورة على جنبات المعسكر. وبعد تشابك قصير، وجد المالكي نفسه مرميا على بطنه وأنفه في التراب المبتلّ في قعر الخندق مليء بمياه الأمطار الغزيرة، التي تهاطلت في اليوم السابق. ولما استعاد رشده وصله من بعيد دويّ الأسلحة وصوت مطاردة جوية: كان الإسرائليون يهاجمون معسكر الفدائيين الفلسطينيين المجاور.. يشرح المهدي بنونة أسباب اللجوء إلى هذا النوع من التداريب القاسية في كتابه قائلا: «كان هذا التمهيد مقدّمة تدريب يليق بالقوات التي تشكلها النخبة، يُسيّره ضابط مدرّس سوري يركز، على وجه الخصوص، على التمارين التي تجري في أقسى الظروف». وإضافة إلى «التكوين العملي كان هناك تكوين نظري لتحسين معارف أطر المستقبل الشابة ومعلوماتهم. يعدد هذا التكوين أدوات الكفاح السري من الكتابة بالحبر السري إلى الاتصالات السلكية واللاسلكية، مرورا بالترميز والخرائط»، يضيف بنونة. كان السوريون يزودون «الثوار» بأسلحة من صنع روسي أو تشيكسلوفاكي. ولكنْ سرعان ما وسع التنظيم لائحة مزوديه كي يصبح هو كذلك يملك نوع الأسلحة نفسه الذي في حوزة القوات المسلحة الملكية، وخاصة البنادق الرشاشة فرنسية الصنع «ماط 49». أمام العدد المتزايد من الثوار المغاربة الوافدين على المخيم وضع السوريون تحت تصرف التنظيم معسكرَ «عين البيضا» على بعد 15 كيلومترا شرق دمشق، حيث تدرّبوا قبل العودة مجددا إلى المغرب لتنفيذ مخططهم بتغيير النظام عبر السلاح.. صهر الملك يؤوي الثوار ساعة الصفر انطلقت. ثلاث سنوات من التداريب العسكرية الشاقة. الثوار الشباب باتوا إذن، على استعداد تام لتنفيذ ثورتهم المسلحة، كما حلموا بها، رغم أنّ الرياح لا تأتي دائما بما تشتهيه السفن. «نحن لم نحمل السلاح في وجه الحسن الثاني لوحده، بل حملنا السلاح ضد الظلم، في تلك الأيام الغابرة، يمكن المقدم أو الشرطي لوحده أن يعتديّ عليك دون وجه حق»، يقول أحمد بويقبا. «كيف تمكنتم من إدخال السلاح إلى المغرب؟ تسأل «المساء»، ليجيب بويقبا: «تم تهريب السلاح من الخارج إلينا عبر الحدود مع الجزائر». هنا يتدخل إبراهيم أوشلح ليصرّح لنا بأنه هو من تكفل بتهريب السلاح إلى الثوار المغاربة عبر الحدود الجزائرية، قادما من ليبيا. قد يحدث أن يزعزع رجال مجرى التاريخ ويحركوه. تحذوهم روح الكرامة وكذا الإحساس بالواجب الذي يجب القيام به، فيجابهون قوى أكبر من قوتهم. عبد الله المالكي واحد من هؤلاء. كانت هيأته الجسمانية تدل على أن الرجل قد حنّكته سنوات من المتاعب والصعاب تجاوزها بفضل قوة قناعاته وحدها. كانت نظرته الوقورة توحي بأنه من الزّهاد الناسكين. كان هادئا هدوءا داخليا لا يعرفه إلا أولئك الذين تعاهدوا على أن يهبوا حياتهم لتحقيق مثل أعلى، حتى وإنْ لم تسعفه الأحداث، فإنه كان يتابع، دون هوادة، الطريق التي سطرها لنفسه إيمانه بعدالة القضية التي يدافع عنها. ولأنهم لم يعودوا يملكون سوى الثورة ليقاوموا حظهم العاثر، فإنهم اختاروا حملَ السلاح. عبد الله المالكي هذا ليس سوى حفيد سيدي حمو، واحد من أبرز رجالات المقاومة ضد الاستعمار. تكَوّن في الجزائر ثم في سوريا واعتقِل في مدريد سنة 1970، قبل أن يرحل إلى دمشق. عاد إلى المغرب رفقة «محمود» سنة 1973، حيث التحق بالأطر الثورية في تنغير، وهو من بين الناجين القليلين، وهو اليوم يعيش في الدارالبيضاء. يقول، في حديث مع «المساء»: «كانت الثورة شعبية، وكان واجبنا نحنُ أن نؤديّ دورَنا حتى آخر لحظة». بدأت مجموعات الثوار تدخل إلى المغرب عبر الحدود الجزائرية. من أوائل الملتحقين ب«جبهة القتال» بالمغرب، كان هناك النمري وسيدي حمو ومحمد أمدة، الذين كلفوا بإعادة تنظيم الشبكات السرية وإعدادها لاستقبال الأوامر بشنّ القتال. وأما من سهّل مهمة دخولهم إلى المغرب فليس سوى أمحزون، الملقب بأولحاج موحى، وهو من أعيان مدينة خنيفرة، ويتحدر من سلالة الملاكين المحليين، وأصبح بفضل قرابة الزواج صهرا للملك الحسن الثاني. على الرغم من ذلك، كان الممول الرئيسي للنمري منذ تسريبه إلى المغرب، اعتقل يوم 4 مارس، ثم حكم عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم في القنيطرة، يوم فاتح نونبر 1973. حلم أجهِض في المهد بعد انصرام 40 سنة على مرور هؤلاء الثوار من هذه الربوع الأطلسية، وجدتني أقتفي مسارهم ثانية. كنت أجهل ما الذي سوف اكتشفه، فاستسلمتُ لمفاجآت مظهر المنطقة البسيط. ما زال البؤس والكآبة هما نفساهما بدون شك، كما كانا في السابق. ومع ذلك فإن استقبالهم، مَهما كان حارا، لا يمكن أن يُخفيّ الحقيقة المرعبة. إن مثلهم الأعلى قد ضاع وسط رجّة عالم تصنعه واقعية سياسية لها نبرة الاعتراف بالعجز.. إنها أرواح متقززة تنظر نظرة مرعوبة إلى أعداء الأمس وهم يتبادلون أحاديثَ «ملساء»، منافقة، بالذات مع أولئك الذين كانوا يناشدونهم قديما خوضَ الكفاح المسلح. في المقابل، لا ينفي هؤلاء أنهم يتحملون جزءا من مسؤولية فشل انتفاضتهم المسلحة. يقول إبراهيم أوشلح ل»المساء»: «لم تكن الثورة المسلحة معزولة عن الجماهير، كان ضعفنا نابعا ربما من انتمائنا إلى صفوف «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»، الذي كان يضمّ أناسا لم تكن لهم رغبة في إسقاط النظام»، مضيفا: «كنا مخطئين ولم نقدّر جيدا الأرضية الاجتماعية والإيديولجية التي يستند إليها النظام السياسي، مع العلم أنه لم يستطع اختراقنا ولم تكن أجهزته تعلم عن أماكن وجودنا ولا مناطق تدريبنا شيئا». هل كانت القيادة السياسية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية تساند التنظيم المسلح؟ يجيب أوشلح جازما: «كان الحزب يدعم الثورة، وكانت القيادة السياسية بأكملها واعية بأن الحزب يملك جناحا مسلحا». ويضيف أوشلح: «كنا نطلق على الجناح السري اسم «العمل الجدي»، وهو الذي قرر في اختيار قيادة «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، خلال المؤتمرين ال12 وال13، إذ إنّ كلا من محمد الخصاصي، الذي انتخب رئيسا للمنظمة الطلابية في المؤتمر ال12، والطيب بناني بعد المؤتمر ال13 كانا محسوبَين على جناح الفقيه البصري. على المستوى الميدانيّ وقعت أخطاء جسيمة، أبرزها إعطاء أوامر للثوار في بعض المناطق للهجوم والتحرك دون مناطق أخرى.. هنا يقول عبد الله المالكي: «لا يمكن أن يعطي محمود (الاسم الحركي لمحمد بنونة) الأوامر بالهجوم في مناطق معينة دون أخرى».. ويتابع المالكي بحرقة: «لم يكن من الأجدر بنا أن نترك محمود وسليمان العلوي لوحدهما دون احتياط ومن دون سند عسكريّ لهما، خصوصا بعد أن صدرت الأوامر للبشير الزين بأنْ يغادر إلى منطقة ثانية، وهذا كان سببا في اغتيال محمود وسليمان العلوي في موقعة أملاغو، حيث وقع الاشتباك يوم 5 مارس 1973». أما أحمد بويقبا فيثير الانتباه إلى أنّ الثوار انقطع بهم الاتصال مع القيادة، وهي المهمة التي كان يؤمّنها الناصري، أحد أبرز العناصر الثورية المتدرّبة. مَهْما كانت الأسباب، وباختصار شديد، فقد فشلت الثورة المسلحة في المغرب. الأقل حظا بين «الثوار» ألقي عليهم القبض، وكان مصيرَهم أحكام عديدة بالإعدام وسنوات من الحبس النافذ، أما المحظوظون فقد تمكنوا من الهروب خارج البلاد. أحمد بويقبا واحد من هؤلاء. يحكي ل»المساء» قصة هروبه، التي تشبه فيلما سينمائيا غيرَ مكتمل.. «توجهنا، رفقة أحمد ومحمد أمزيان، إلى الحدود الجزائرية على أقدامنا ونحن نحمل السلاح، حيث مكثتُ رفقتهم سنتين هناك، قبل أن أتوجه إلى ليبيا، التي بقيتُ فيها إلى حدود سنة 1994، تاريخ إصدار العفو على المعتقلين السياسيين والمنفيين من طرف الحسن الثاني، بعد أن أحسّ بضغط دولي حينها». كانت تلك بداية مرحلة والانتقال إلى أخرى في تاريخ المغرب المعاصر، انتقال لم يُضمّد كل جراحات الماضي، التي ما زالت لم تندمل... «محمود».. مهندس التنظيم المسلح
عند الحديث عن محمود تبتلّ أعين كل من التقيناهم من «الثوار» وتختنق أصواتهم، فيصبح لمأساتهم المخبّأة فجأة وجه: إنه وجه إطار سياسي، كان إضافة إلى هذا مهندسا ينتظره مستقبل زاهر. «مهندس تقاسم معهم حياتهم إلى درجة أنه وهب حياته خدمة لتحريرهم.. إنهم في حدادٍ على شجاع نبيل»، هكذا ردّدوا في حديثهم إلى «المساء» عن مهندس ثورتهم والرجل الثاني في التنظيم بعد الفقيه البصري.. لا تزال صورة الشاب محمود، المتشبع بالثقافة الألمانية، تسكن، ملفوفة بالدم، في صدورهم، لكنها تتلاشى يوما بعد يوم..وسط شساعة الجبل كان محمود يتدرب على موته. وهو النهاية الحتمية لملحمة مأساوية. إنه عمل يدعو إلى كفاح يستمر حتى انمحاء الذات نفسِها. قُدِّر له أن يموت شابا وعمره لم يتجاوز 35 سنة، في معركة شرسة مع الجيش المغربي، في منطقة أملاغو سنة 1973. فضل محمود، إذن، خيار السلاح للقضاء على سيادة الرّعب الذي يدين له النظام، والذي كان محمد أوفقير وأحمد الدليمي وإدريس البصري رجاله الذين يثيرون الرعب، والناجعين الفعّالين في الآن نفسه. من دون شك، اختار محمود هذا الاختيار بصدق وإخلاص. ولد في الرباط سنة 1938، من أسرة متواضعة. نشأ متأثرا بالنضال الوطني لأخيه الأكبر، الذي عمل في مشروع بناء طريق الوحدة، الذي أشرف عليه المهدي بنبركة خلال صيف 1957 بمشاركة إثنى عشر ألفا من المتطوعين الشباب. حصل محمود على شهادة الباكلوريا من ثانوية مولاي يوسف في الرباط. في أيام الاستعمار شارك في العديد من المظاهرات ضد السلطان بن عرفة، الذي نصّبه الفرنسيون بديلا للسلطان محمد الخامس. وفي بداية مراهقته، اجتذبته لعبة الكبار، فانجرف الشاب محمود مع الحماس العارم. ولمّا بلغ السابعة عشرة من عمره، شهد رجوع محمد الخامس منتصرا إلى الرباط.. ولكنْ وفي تلك الأيام التي تلت الاستقلال، كانت الأوضاع غير مستقرة. كان الجيل الجديد من الحاصلين على الشواهد يفيض أملا، فعزم على أن يتدارك قرونا من التأخر في بضع سنوات على أقصى تقدير، وهي المهمة التي تعبأ لها في ذلك الحين عدد من السباب الموهوبين وتحمسوا لها. وهكذا فليس من قبيل الصدفة أن يتخصص محمود في العلوم، وهو التخصص الذي أملته أولوية وضرورة تجاوز العوائق التقنية التي تقف في طريق بلوغ التنمية في اقرب الآجال. انضمّ محمود إلى هذه النخبة الجديدة الصاعدة، التي ستصطدم مع من كانت تصفهم ب«الإقطاعيين المُتشبّثين بامتيازاتهم».. لم يكن محمود ورفاقه، إذن، يحتاجون إلى وقت طويل ليعرفوا أن معوقات التنمية هي كذلك، وعلى وجه الخصوص، معوقات سياسية، لذلك قرّروا الاصطفاف مع المهدي بنبركة حين قرّر ما يعرف ب»الجناح التقدمي» الانشقاقَ عن حزب «الاستقلال» سنة 1958، خصوصا أنّ محمد بنونة، الملقب ب«محمود»، لا يرتبط بحزب «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» ارتباطا إيديولوجيا فحسب، فالمهدي بن بركة هو زوج ابنة خالته، غيثة بناني، فهو يزورهم، كما هو شأن العديد من الشباب الآخرين، في بيت العائلة في شارع تمارة. فتحولت القرابة العائلية إلى ترابط فكريّ.. سرعان ما سافر «محمود»، بفضل منحة من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إلى ألمانياالشرقية ليتلقى تكوين مهندس في الإلكترونيك. وحين عاد إلى المغرب رفض العديد من الاقتراحات لشغل وظيفة حكومية، وفضّل التفرغ للعمل السياسي والنضال وسط العمال والفلاحين، إذ إنه انتبه إلى أن العمل الملموس على أرض الواقع يجعله يحسّ بأنه يساهم في تنمية بلاده مساهمة فعلية.. انخرط في العمل الثوري والنضالي، كما كان يراه صالحا من منظوره، وتلقى تكوينات عسكرية، قبل أن يقرر العودة إلى المغرب.
25 يونيو1975.. محاكمة «الثوار»
قُدِّم للمحاكمة 149 متهما، من بينهم قادة الانتفاضة ومسؤولو الحزب، أمام محكمة القنيطرة. كان هناك دهكون والعديد من رفاقه، ومنهم المهتدي والجدايني، جنبا إلى جنب. كان هناك، كذلك، زهاء عشرة من أطر حرب العصابات، الذين عادوا مع «محمود». لقد اعتقلوا والسلاح في أيديهم، فلم يكونوا واهمين في ما يخصّ المصير الذي ينتظرهم.. إلى جانبهم تكدس قادة الخلايا السرية في الأطلس وأطر الحزب، على رأسهم عمر بنجلون ومحمد اليازغي. وأما عبد الرحيم بوعبيد فقد كان مطلوبا للمثول أمام المحكمة بصفته شاهدا، «لا شك أن هذا العمل كان مناورة ناجحة من مناورات القضاء في المغرب، ما دامت هذه المناورة ستمنع عبد الرحيم بوعبيد من أن يترافع وأن يحقق النصر نفسَه الذي حققه في مراكش ثلاث سنوات قبل ذلك.. كانت السلطة تنتظر منه أن يأخذ مسافته ويبتعد عن الثوار»، يشرح المهدي بنونة في كتابه «أبطال بلا مجد». نُطِق بالحكم في يوم الخميس 30 غشت 1973. حكم على 16 شخصا حضوريا منهم بالإعدام، و 15 آخرين بالمؤبد، أما الباقون فحكم عليهم بعدة عقود من الحبس، وبُرّئ البعض، لكن وباستثناء المعتقلين المحكوم عليهم بالإعدام، أعيدت محاكمة الباقين بأكملهم، بمن فيهم أولئك الذين برّأتهم المحكمة.. نفذ حكم الإعدام في حق عمر دهكون يوم الخميس، فاتح نونبر 1973، مع 14 رفيقا من رفاقه، كان يوجد في صف واحد إلى جانبه لحظة تنفيذ حكم الإعدام اثنان من رجاله الجدايني ويوسف مصطفى، إضافة إلى حسين أبت زايد (قائد خلية تنغير) واحديدو (قائد خلية إميلشيل) وموحى أولحاج، قائد خلية خنيفرة، فضلا على تسعة من رجال محمود المقربين، وهم دحمان سعيد والناصيري وبوزيان والعثماني وآيت عمي وباعمراني والجزار وصبري وفريكس.. انتهت المحاكمة الثانية يوم 18 يناير 1974 بالنطق بستة أحكام جديدة بالإعدام، وفي المجموع كان هناك 84 حكما بالإعدام غيابيا وحضوريا، في حين أطلق سراح سبعة محامين، منهم عمر بنجلون ومحمد اليازغي، صباح يوم 27 غشت 1974، في التاريخ الذي أعدم فيه سبعة ثوار داخل السجن العسكري في القنيطرة.