نظرات مقاصدية في أسئلة الفقه الساسي (3) لا سبيل إلى تحرير الشعوب من وطأة الاستفراد بالسلطة، وتمتيعها بحقوقها الشرعية الفطرية المسلوبة من قبل أنظمة التغلب العسكري والتوريث السلالي إلا بترسيخ قيم التداول السلمي على السلطة بالاختيار، وتنشئة الرأي العام على فقهها وتمثلها وممارستها عمليا، وإلا بقي واقع الحال على ما هو عليه إلى أن يشاء الله. وفيما يلي تفصيل هذه الجملة. إن تجربتنا في مجال التداول على السلطة إلى اليوم لم تكن موفقة ولا موافقة لقصد الشارع إلا في حدود فترة الحكومة النبوية والخلافة الراشدة؛ وذلك لما انبنت عليه ابتداء من مبادئ تكريمية؛ كالعدالة والحرية والمساواة والمشاورة الجماعية والمعارضة السلمية والصدق والأمانة والتفاني في خدمة المصالح العامة، والخوف والخشية من الله في القيام بالمسؤولية.1 إلا أن كل هذه المبادئ السامية قد ارتبطت بأصحابها وماتت بموتهم ولم تتكرر بعدهم إلا ناذرا كما في عهد عمر بن عبد العزيز، والعلة في ذلك أنها بقيت مرتبطة ب"مبدأ الصلاح الذاتي" ولم تنتقل إلى "قاعدة الترسيم والرسوخ المؤسساتي" المضبوط بقوانين ومواثيق دستورية مكتوبة ومتعارف عليها لتبقى متداولة تتوارثها الأجيال؛ ولذلك سرعان ما سهل الالتفاف عليها مع الانكسار التاريخي الذي أحدثه الانقلاب الأموي على الخلافة الراشدة لفائدة التغلب العسكري والتوريث العائلي للسلطة، ذلك الانقلاب الذي ما زالت آثاره المأساوية مستمرة بشكل يندى له جبين الأمة إلى اليوم على امتداد خريطة العالم الإسلامي. ولا أدل على ذلك مما تعرض له إنسان هذا العالم من انتهاكات جسيمة في حقوقه الخاصة والعامة على امتداد أربعة عشر قرنا. وما حدث بالأمس القريب على أرض الزيتونة وعلى أرض الكنانة وفي اليمن وليبيا وما يحدث بأرض الشام الجريحة وغيرها من دول التجزئة والاستفراد بالحكم إلا أمثلة صارخة.2 وعليه؛ فخير ما عندنا لحد الساعة في مجال التداول السلمي على السلطة؛ نموذج الإمامة النبوية والخلافة الراشدة؛ فمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من تولى رئاسة الحكم بالاختيار الحر والمبايعة الرضائية التي هي "عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار."3 ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ.﴾(ق:45) و﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ.﴾ (الغاشية:22) وذلك بحكم ما كان له من صلاحيات متعددة؛ منها أنه كان مبلغ رسالة بحكم النبوة، ورئيس دولة بحكم الإمامة4 كما قال ابن خلدون: "فصاحب الشرع متصرف في الأمرين، أما في الدين؛ فبمقتضى التكاليف الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها. وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري."5 وقد أفاض علماء السياسة الشرعية في رصد هذه التعددية في الاختصاصات النبوية؛ وأفردوها بالتأليف قديما وحديثا.6 والثابت أن الإمامة النبوية قد توجت بموجب ما تم بينه عليه السلام وبين جماهير المسلمين-رجالا ونساء- من مبايعة رضائية؛ كما هو المستفاد من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. ﴾ (الفتح:10) وقوله:﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.﴾ (الممتحنة:12)، وهو ما يفيد بأن التصرفات النبوية منها ما هو اصطفاء إلهي إلزامي محض؛ ما على الرسول فيه إلا البلاغ المبين، صُدِّقَ أم لم يصدق. ومنها ما هو سياسي مدني عام لا بد له فيه من دعم شعبي عام يمنحه صفة الإمامة السياسية، وهو ما تأتي لنبينا على أكمل وجه؛ فأصبح مؤيدا منصورا بقوة الجماهير المؤمنة؛ ﴿هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.﴾ (الأنفال:62) إذ لا يمكن لأي كان أن يقود قوما ولا أن يسوس شؤونهم العامة وهو غير مدعم بالرأي العام؛ على حد قول ابن تيمية: "لا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة. فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما ... فالإمامة مُلْك وسلطان، والمُلْك لا يصير مُلْكا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير مُلْكا بذلك."7 وعلى هذا النهج سارت ولاية الخلفاء الراشدين أيضا؛ فما تولى راشدي إلا باختيار أغلبية الحاضرين من المسلمين ساعة الترشيح وعند المبايعة العامة، دون ما معاتبة ولا ملاحقة ولا اتهام لمن أحجم عن مبايعة الصديق ومن جاء بعده من الخلفاء الراشدين، بخلع ربقة الإسلام من عنقه. وما ثبت أن راشديا توسل إلى الحكم بالعنف، ولا بشراء الذمم، ولا بتزوير النتائج ولا بغير ذلك من الوسائل غير المشروعة. وبهذا أصبح الاختيار الحر؛ هو الخيار الأصل الذي جاءت به الشريعة وشهد له إجماع أهل العلم؛ على حد تعبير الجويني: "فلم يبق إشكال في انعقاد الإجماع على الاختيار."8 وهو اختيار عبد القاهر البغدادي؛ إذ نص على "أن طريق ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل الاجتهاد منهم واختيارهم من يصلح لها."9 وإذا وضح أن خيار التداول على السلطة بالاختيار الرضائي بين الأمة ومن يتولى سياستها وتدبير شؤونها العامة من أهل الكفاءة العلمية والصلاح السلوكي والحنكة السياسية الميدانية؛ هو الأصل الذي قامت على أساسه كل السلطات السياسية الشرعية؛ فإن كل ما سوى هذا الخيار مما ابتليت به أمتنا من أنظمة عسكرية أو وراثية10 لا تقيم لإرادة الأمة ولا للتداول السلمي على السلطة وزنا؛ فهي من البدع السياسية11 التي لم يسلم بها أهل العلم إلا اضطرارا لضرورة المصلحة العامة.12 والسؤال هنا؛ هل التجربة النبوية والراشدية في مجال التداول على السلطة وتدبير الشأن العام ملزمة لنا اليوم ؟ أو أن الأمر متروك لاجتهادنا نقرر فيه ما نراه مناسبا لواقعنا ؟ من القواعد الشرعية المقررة أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واجب من الناحية المبدئية إلا أن أهل العلم لما استقرأوا التصرفات النبوية؛ فرقوا فيها بين ما كان يتصرف فيه بمقتضى التبليغ والفتوى، وما كان يتصرف فيه بمقتضى الإمامة السياسية، وما كان يتصرف فيه بمقتضى القضاء. فما كان من التصرف الأول؛ وهو جانب الأحكام الشرعية الثابتة المستمرة؛ مما له علاقة بمجمل أصول الاعتقاد وما يلحق بها من الشعائر التعبدية والقيم الأخلاقية وتنظيم العلاقات والمعاملات الاجتماعية المنصوص على حكمها؛ فهذه لا يسع المكلفين بها إلا الامتثال بقدر الإمكان. وما كان من التصرف الثاني؛ وهو جانب التدابير الدنيوية المتغيرة مما له علاقة بتنظيم الشأن السياسي العام وما يتطلبه من تشريعات جزئية وإجراءات عملية ووسائل تقنية؛ في هذا المجال المدني أو ذاك المجال العسكري؛ فهي اجتهادات مفوضة إلى السلطة المختصة في الدولة تقرر بشأنها ما تراه ملائماً بحسب المصلحة،13 ولكل جيل أن يبتدع ويبدع فيها ما هو أوفق لوضعه السياسي؛ لأن "الإمامة ليست من أركان الدين وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق"14 وأن "قصارى أمر الإمامة؛ أنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد."15 فمثلا ليس من المقاصد الشرعية الثابتة أن نتداول على السلطة بنفس الطريقة التي تداول بها جيل الصحابة، ولا بالطريقة التي يتداول بها الغرب اليوم؛ إذا استطعنا أن نبدع لأنفسنا طريقة أخرى في التداول هي أجدى وأنفع منهما في تدبير التداول السياسي؛ ذلك أن المهم في هذا الصدد أن نحافظ على المقاصد الأصلية من هذه المؤسسة أو تلك؛ وهي رعاية مصالح العباد وإشاعة قيم العدالة والحرية والكرامة والمساواة بين الناس بأي وسيلة؛ قديمة كانت أو حديثة. وهذا يعني أن الشريعة قد أحالت كل ما يتعلق بكيفية التناوب على السلطة وغيرها من الولايات العامة على أهل الاجتهاد، ولم تفرض في هذا المجال نمطا بعينه لا يتعدى؛ سواء النمط النبوي أو الراشدي أو أي نمط آخر؛ لأن ذلك كله من موارد الظنون وليس من القواطع اليقينية؛ كما هو المستفاد من قول الجويني: "وليست الإمامة من قواعد العقائد، بل هي ولاية تامة، وعبارة معظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة ... ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع خلية عن مدارك اليقين."16 وما دام أمر الولايات السياسية عموما على هذا النحو من الظنية؛ فمرجعها في الغالب الأعم إلى ما يقضي به النظر الاجتهادي من تقديرات واختيارات وتوافقات وتعاقدات بحسب الظروف والأحوال والاختيارات الممكنة وغير ذلك مما يقتضيه تطور الاجتماع البشري وتمليه مصالح الناس وحاجاتهم التي غالبا ما تندرج في باب التصرفات الولائية التي لا حد لها في الشرع، كما هو المستفاد من قول ابن تيمية: "عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع."17 ومن ثم فالباب فيها مفتوح ولا حجر على الإبداع في تفاصيلها؛ المهم أن يتحقق الغرض منها؛ وهو إقامة العدل وخدمة مصالح الناس على أحسن وجه ممكن؛ ومتى تحققت هذه المقاصد؛ فكل ما يوصل إليها فهو وسيلة مشروعة، وهو ما يفيد بأننا غير ملزمين اليوم بمجموع السوابق التاريخية في مجال التدبير السياسي بالإمامة؛ بل نحن مخيرون بين أن نستلهم منها ما كان موافقا لقصد الشارع ومحققا لمصالح أمتنا، أو نستفيد من التجارب الإنسانية الناجحة، أو نجتهد في إبداع ما يلائم أحوالنا ويستجيب لحاجياتنا في مجال التداول على السلطة. وبالمناسبة؛ ففي اعتقادي أن نمط التداول على السلطة المعمول به اليوم يحتاج إلى شيء من المراجعة والتعديل في اتجاه ما يخدم المصلحة العامة؛ إذ لا يعقل أن يترشح لرئاسة الدولة أو لعضوية البرلمان أو للجماعات المحلية من ليس أهلا لهذه المهام الصعبة، وليس من العدالة في شيء أن يتساوى العالم والأمي، والخبير ومن لا خبرة له، والمتمرس بالسياسة ومن لا دراية له بها، والصالح والطالح في اختيار من يصلح لعضوية البرلمان أو المؤسسات الجماعية. مع العلم أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا أدل على صحة هذا الملحظ من واقع حال الانتخابات اليوم في مختلف أقطار الدنيا، ولهذا لابد من معالجة هذا الخلل البين في تدبير الشأن العام. أعني لا بد من وضع شروط حد أدنى في كل من يشارك في العملية الانتخابية، ناخبا كان أو منتخبا لهذه الولاية العامة أو تلك. وضابط هذه الجملة؛ ما ذهب إليه الشاطبي في سياق كلامه عن "الفروض الكفائية" التي تتعلق بها المصالح الدنيوية؛ فهي من حق المؤهلين لها؛ كفاءة (الخبرة العلمية)، وصلاحا (الاستقامة السلوكية)؛ وليست لكل الناس. وهذا معنى قوله: "إن الطلب وارد على البعض، ولا على البعض كيف كان، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب، لا على الجميع عموما."18 أي أن الولاية هي بحسب نوعية كل ولاية عامة على حدة؛ لأن الولايات العامة؛ ليست على درجة واحدة في أهميتها وسهولة القيام بها، والنهوض بتدبير ما هي معدة له من المصالح العامة؛ بدءا من رئاسة الدولة إلى ما دونها من الولايات؛ وذلك بدليل "ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى؛ كالإمامة الكبرى أو الصغرى، فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس، وسائر الولايات بتلك المنزلة؛ إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها والغناء فيها... إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد؛ فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة، وكلاهما باطل شرعا."19 وهذا لا يعني إقصاء عامة الناس عن التكليف بالفروض الكفائية بالمرة؛ بل الجميع مطالبون بها؛ كل حسب استطاعته؛ إذ ما دام «القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم مطلوبون بسدها على الجملة؛ فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون إن لم يقدروا عليها؛ قادرون على إقامة القادرين؛ فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذًا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به.»20 وهذا ملحظ دقيق من أبي إسحاق. بل إنه جد متقدم وفي غاية من الأهمية؛ فهو دعوة صريحة إلى إشراك جميع أفراد الأمة في خدمة المصالح العامة عن طريق الفروض الكفائية، إما بشكل مباشر، وذلك واجب من كانوا أهلا لها وقد تعينت في حقهم؛ أن يتولوها. وإما بشكل غير مباشر؛ وذلك واجب من ليسوا أهلا لها؛ لكنهم قادرون على تقديم من هم أهل لها؛ إما بترشيحهم وتزكيتهم، أو بانتخابهم والتصويت عليهم، أو بغير ذلك مما يشهد لهم بالأحقية والأهلية، أحبوا أم كرهوا، ما دام ليس لهم مانع حقيقي من ولاية هذا المرفق العام، أو ذلك المنصب الحكومي. لأن ما يطلب من الشروط في التكاليف العينية؛ يطلب في الفروض الكفائية؛ وجامعها شرط القدرة؛ كما قال الشاطبي: "الولايات وأشباهها، من القضاء، والإمامة، والشهادة، والفتيا في النوازل، والعرافة والنقابة،21 والكتابة، والتعليم للعلوم وغيرها -من الوظائف العمومية-؛ راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها، وجامع الشروط في التكليف: القدرة على المكلف به، فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها، فالتكليف عام لا خاص."22 ولنا فيما نص عليه فقهاء السياسة الشرعية في باب ما يشترط في الناخبين والمنتخبين من شروط.23 ما يسعفنا بهذه المعالجة على أن نكيف ما قالوه بحسب ما ينسجم مع مستجدات عصرنا؛ كأن تضم "جمعية تأسيسية" ممثلين أكفاء عن جميع الأطياف السياسية والهيئات المدنية، ولا تقتصر على لون سياسي معين، فتحسم أولا في تحديد الخيارات الكبرى والثوابت المرجعية، وتتفق على أن السيادة للأمة أولا وأخيرا لا لفرد بعينه ولا لعائلة أو طائفة مخصوصة ولا لحزب دون غيره. ثم لتنظر بعد ذلك في تفاصيل برنامج حد أدنى متفق عليه كمرحلة انتقالية، ومن ضمن ما ينص عليه في ذلك البرنامج قائمة واضحة بما يشترط من شروط في الناخبين والمنتخبين، من كفاءة علمية وخبرة ميدانية واستقامة أخلاقية. وكل هذا لابد أن يعرض على أنظار الرأي العام في جو من الصراحة والوضوح والتوثيق الكتابي والإعلامي؛ ليكون الجميع على بينة من الأمر، وبذلك تتم تنشئة الشعب وتوعيته بما يهمه ويصلح أحواله؛ وبذلك أيضا يصبح على علم بمن يختاره ليمثله بكل شفافية ونزاهة في انتخابات عادية لا رشوة فيها ولا تزوير. وهكذا دواليك حتى تصبح العملية السياسية برمتها شيئا عاديا يقبل عليه الناس بكل تلقائية ليشاركوا في تولية من يخدم مصالحهم بقدر الإمكان وهم مطمئنون لما قاموا به. وبهذا تتقارب وجهات النظر المختلفة، وتقل عوامل الفرقة والصراع بين أبناء المجتمع الواحد. وكل هذا بقدر الإمكان؛ لأننا لسنا مطالبين بأكثر مما نستطيع في مجال الإصلاح العام متى صح القصد. وفي هذا السياق يتنزل قول ابن تيمية:"فمن ولى ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات؛ لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه فإن قوام الدين الكتاب الهادي والحديد الناصر."24 وهكذا؛ فما دامت الحاجة ماسة إلى السلطات العمومية، ولم تعد الأمة على قلب رجل واحد في مرجعيتها ومشاريعها الإصلاحية ووجهات نظرها في تدبير الشأن العام؛ بل أصبحت من التعدد العقدي والاختلاف الفكري والتقاطع السياسي ما يفرض على الجميع أن يتعايش مع الجميع، وأن يتحمل الجميع الجميع، وأن ينصت الكل للكل، وأن يتعاون البعض مع البعض على إصلاح ما يمكن إصلاحه من فساد أو استبداد، وأن يعرض كل برامجه على الأمة لتختار الأنسب لتدبير شؤونها، ومن فاز بالأغلبية تولى حزبه المسؤولية إما وحده، أو بمشاركة من يتوافق معه من باقي الأحزاب عملا بقاعدة تقاسم الولايات العامة لخدمة المصالح العامة، ومن لم يفز فدونه حق المعارضة البناءة، ومن أبى إلا التشويش والإخلال بالنظام العام والارتهان لهذه الجهة أو تلك ممن لا يرقبون في أمتنا إلاًّ ولا ذمة؛ فالقضاء العادل المستقل هو الفيصل في شأنه. وهذه هي القاعدة الكلية العامة الحاكمة في تدبير الشأن العام." لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما."25 ومتى لم تتيسر الأجواء السياسية الصحية، ووجد حملة المشروع الإسلامي أنفسهم في سياق مجتمعي سياسي مشوب بما يتنافى مع مقاصد الشارع من الولايات العامة، ولا يخدم مصالح الأمة؛ فما عليهم إلا أن يجتهدوا في إقامة العدل ورفع الظلم وتوسيع دائرة الخير وتضييق دائرة الشر جهد المستطاع. وولايتهم بهذا المعنى أفضل وأصلح للناس من ولاية من يريد الظلم ونشر الفساد في البلاد والعباد. وبقاؤهم في مواقعهم أولى من تركها؛ إذا لم يشتغلوا فيما هو أحسن مما هم فيه؛ لأن من ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه، ومصالح عباده. وأنجز فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتنب فيها ما يمكنه من المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه. فإن تولية الأبرار خير من تولية الفجار.26 وبهذا نخلص إلى أنه لا سبيل الى التعايش السلمي إلا بالتشارك السلمي في عملية التداول على السلطة؛ وهو ما آمل أن يفقهه جميع الفرقاء السياسيين في دول الربيع العربي خاصة ويجتهدوا في ترسيخه حتى يتحققوا بمقاصد الشريعة من التداول الراشد على الحكم؛ وهو ما لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع كما ينبغي إلا بالفصل الإيجابي بين السلطات. الهوامش: 1 ومثال هذا قول عمر رضي الله عنه: "والذي بعث محمدا بالهدى لو أن جملا سلك ضياعا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله آل الخطاب قال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم يعني بآل الخطاب نفسه ما يعني غيرها." عبد الحي الكتاني، نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدراية، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ط، و ت، 1/566. 2 للوقوف على عظم ما جره الاستبداد السياسي على الأمة من محن ؛ ينظر على سبيل المثال: أبو يعرب التميمي، كتاب المحن، تحقيق يحيى وهيب الجبوري، دار الغرب الإسلامي، ط3، 1427ه/2006. و إمام عبد الفتاح إمام، الطاغية: دراسة سياسية لصور من الاستبداد السياسي، كتاب عالم المعرفة، عدد 183، 1414ه/1993م. 3 الماوردي، الأحكام السلطانية، تحقيق سمير مصطفى رباب، المكتبة العصرية، بيروت، د. ط، 1422ه/2001م، ص 16. 4 قال القرافي: "الإمام: هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس." الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة. بيروت: دار البشائر الإسلامية. لبنان. ط2. 1995م، ص 105 5 المقدمة، 2/602. 6 ولعل أول من أثار الانتباه من القدماء إلى تنوع التصرفات النبوية بالفتيا والقضاء والإمامة السياسية. الإمام العز بن عبد السلام في كتابه: "قواعد الأحكام في إصلاح الأنام" 2/244. وتبعه في هذا الصنيع بشكل أدق وأوسع تلميذه الإمام القرافي، في كتابه:"الفروق"، 1/346- 350. وهو يميز بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وآله وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة. وكذلك في كتابه:"الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"، ص 99- 120. وهو يجيب عن السؤال الخامس والعشرين: ما الفرق بين تصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتيا والتبليغ، وبين تصرفه بالقضاء، وبين تصرفه بالإمامة؟ وممن خص الموضوع بالكتابة من المعاصرين الإمام ابن عاشور، في فصل: "انتصاب الشارع للتشريع" من كتابه: "مقاصد الشريعة الإسلامية." ص 150- 167 والأستاذ سعد الدين العثماني في كتابه: "تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالإمامة." منشورات جريدة الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، عدد 37، 2002م. وبهذا تسقط دعوى الشيخ علي عبد الرازق بتجريد التصرفات النبوية عن التدبير السياسي العام وحصرها في تبليغ الرسالة لا غير إذ قال:" إن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم، لم يقم بتأسيس مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها. ما كان إلا رسولا كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكا ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك." الإسلام وأصول الحكم، دراسة ووثائق، محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1972م، ص 154 7 ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، تحقيق، محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، ط1، د. ت، 1/364 8 الجويني، غياث الأمم، ص241 الإجماع المقصود هنا؛ هو إجماع أهل السنة، وعليه يحمل قول وهبة الزحيلي: "فإن جميع الفقهاء أجمعوا على أن الإمامة لا يصح أن تورث." وَهْبَة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، سوريَّة، دمشق، ط4، د. ت، 8/290. فكما هو معلوم؛ هناك من لا يعتد بالاختيار ويصر على القول بالنص والوصية، وهم الشيعة الإمامية؛ وفي هذا يقول محمد مهدي شمس الدين: "ذهب الشيعة الإمامية إلى أن الإمام المعصوم الظاهر هو رئيس الدولة الإسلامية وولي الأمر فيها، وأن يتعين بالنص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم." نظام الحكم والإدارة في الإسلام، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط4، 1415ه/1995م، ص 396. وقال الشيخ محمد المظفر: "نعتقد أن الإمامة كالنبوة، لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان رسوله، أو لسان الإمام المنصوب بالنص ... فليس للناس حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه؛ لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية ... يجب أن لا يعرف إلا بتعريف الله ولا يعين إلا بتعيينه." عقائد الإمامية، مؤسسة الإمام الحسين، بيروت، ط10، 1417ه/1997م، ص 96 9 عبد القاهر البغدادي، أصول الدين، استانبول، مطبعة الدولة، ط1، 1346ه/ 1926م، ص279. 10 قال ابن حزم: "وأما المرتبة؛ فما جاء قط في الديانة أنها تورث ... ولو جاز أن تورث المراتب؛ لكان من ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا ما إذا مات وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه ... فصح أنه رأي محدث فاسد لا وجه له للاشتغال به ... ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها." الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ط، و ت، 4/75، 76، 129. وهذا ما ذهب إليه القرافي أيضا؛ إذ عدها من قسم البدع المحرمة والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد الشريعة؛ فقال: "القسم الثاني: محرم وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة؛ كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد الشريعة؛ كتقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث وجعل المستند لذلك كون المنصب كان لأبيه وهو في نفسه ليس بأهل." الفروق، 4/353 وفي ذات المعنى؛ قال الشاطبي:" تقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بها بطريق التوريث هو من قبيل ما تقدم (أي من البدع المحرمة) فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين. وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الأب، وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب بطريق الوراثة أو غير ذلك، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف؛ بدعة بلا إشكال. زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم، وهو بدعة أو سبب البدعة." الاعتصام، 2/417 وهو ما قرره ابن خلدون أيضا بما نصه: «وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء؛ فليس من المقاصد الدينية؛ إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده، ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفا من العبث بالمناصب الدينية." المقدمة، 2/594. ولأخذ فكرة واضحة عن مسألة التداول على السلطة في تاريخنا وكيف تعامل معها الفقهاء؛ يمكن مراجعة: محمد محمد أمزيان، في الفقه السياسي: مقاربة تاريخية، فإنه فريد في بابه. 11 التحول من "الخلافة على منهاج النبوة" إلى "الملك العضوض" أو "الملك الجبري" كان "أول البدع في الإسلام وأبعدها أثرا على الأمة والملة." محمد بن المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة، د. ط، و ت، ص69. وذلك لحديث "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة." أحمد بن حنبل، المسند، شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2، 1420ه/ 1999م، 36/485. 12 قال العز بن عبد السلام: "تصحيح ولاية الفاسق مفسدة؛ لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية، لكنا صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق، لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة. ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ننفذه من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين. فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد؛ إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل. والذي أراه أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق مع عدم ولايتهم لضرورة الرعية." قواعد الأحكام، 1/145، 146. 13 سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد في علم الكلام، دار المعارف النعمانية، باكستان، د. ط، 1401ه/1981م، 2/295 14 المقدمة، 2/595. 15 المقدمة، 3/975. 16 غياث الأمم، ص 244، 253 17 مجموع الفتاوى، 28/ 68. 18 الموافقات، 1/278. 19 الموافقات، 1/279، 280. 20 الموافقات، 1/283، 284. 21 قال مشهور بن حسن آل سلمان: «النقابة والعرافة منصب دون الرئاسة، ويطلق على صاحبه «النقيب» و«العريف». ينظر: الهامش 7 في الموافقات، 2/305. 22 الموافقات، 2/411. 23 والناخبون هم ما كانوا يسمون قديما ب"أهل الحل والعقد" أو أهل الاجتهاد. والمنتخبون هم المرشحون للرئاسة. ولمعرفة ما كان يشترط فيهما مفصلا؛ يمكن مراجعة: عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، مؤسسة الرسالة، ط1، 1422ه/2001م، ص 107- 118. 24 مجموع الفتاوى، 28/396 25 مجموع الفتاوى، 20/48 26 مجموع الفتاوى، 28/48-61