بعدما تطرق الأستاذ بزا عبد النور إلى أن الفصل بين السياسة والدين نتاج للأفكار العلمانية الغربية يتابع في هذه الحلقة توضيح مفهوم السياسة في الإسلام وخصائصها بالمفهوم الشائع في الوقت الحاضر، باعتبارها لا تنحصر في المفهوم الدنيوي المادي الصرف بل تتعداه لتشمل ما أطلق عليه علماء المسلمين بالسياسة الشرعية بما هي تنظيم للشأن العام بما يوافق المقاصد الشرعية ويحقق المصالح الدنيوية والأخروية ويتطرق إلى أنواعها
مفهوم الإسلام جاء في كتاب "التعريفات" أن الإسلام هو "الخضوع والانقياد لله سبحانه وتعالى، وفق ما جاء به وأخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع والأحكام». (1) وبناء عليه، فالإسلام هو التنفيذ العملي والتطبيق الفعلي لمجموع القوانين الشرعية المتعلقة بمختلف أفعال البشر كما هو معلوم بالإجماع من تعريف الحكم الشرعي الذي هو «خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين» (2) ومن ثم فلا معنى لما نقرأه ونسمعه عن "الإسلام الإيماني القلبي" أو "الإسلام السياسي الاحتجاجي". فالإسلام كل لا يتجزأ ولا يتبعض، وكل تجزيئ أو تبعيض أو اختزال أو حصر للإسلام في هذا الشأن أو ذاك دون غيره، أو في هذا الجانب أو ذاك دون سواه، هو تحريف متعمد وتشويه مقصود لحقيقة شريعته التي لا تقبل بشيء غير حاكميتها العليا والشاملة لجميع الأفعال الإنسانية دونما استثناء أو نقص. وبهذا ننتهي إلى أن الإسلام الحق هو الامتثال الشامل العام لشرائعه على جميع المستويات وفي كل المجالات ظاهرا وباطنا مع الاستسلام والتسليم الطوعي المطلق لله رب العالمين. فهذا هو ما أجمع عليه علماؤنا قديما وحديثا من مفهوم الإسلام باختصار شديد. فإلى تحديد مفهوم السياسة. مفهوم السياسة السياسة في لسان العرب: «القيام على الشيء بما يصلحه.. والسياسة فعل السائس القائم بأمور الناس» (3) والسياسة في الفقه السياسي الإسلامي هي: «ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ولو لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي» (4) بمعنى، أن السياسة الشرعية ليست قاصرة على ما نصت عليه الشريعة فقط، وإنما هي شاملة لما لم تنص عليه وكل ما وافقها ولم يخالف منطوقها من اجتهادات العقل السياسي وإبداعاته في تدبير الشأن العام، وسياسة العمران البشري ورعاية المصالح العامة بهدف تحقيق سعادة الحياة الدنيا والآخرة، كما قال الإمام أبو الوفاء في كتاب "الكليات"، «السياسة هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وتدبير المعاش مع العموم على سنن العدل والاستقامة الإسلامية» (5) إن السياسة في التداول الإسلامي ليست محدودة في الجانب المادي الدنيوي الوضعي الصرف في حياة الإنسان. كما هو الشأن في السياسة اللائكية الوضعية عموما، وإنما هي معنية أشد العناية بتنظيم الحياة العامة ورعاية مختلف المصالح الإنسانية الضرورية والحاجية والتحسينية، بما يجعل سعادة الدنيا ونعيمها خادما ومحققا لسعادة الآخرة ونعيمها، وكل ذلك على قواعد العدالة الاجتماعية والتخلق الإسلامي. وعلى هذا الأساس ظل فهم الأمة وممارستها للسياسة حكاما ومحكومين إلى أن وقع الاحتكاك الثقافي بيننا وبين الغرب «فدخلت في معاجمنا وقوامسنا المعربة المضامين الغربية المتميزة لمصطلح "السياسة"... الأمر الذي أحدث ازدواجية في المفهوم والمضمون، رغم وحدة المصطلح، وهي مشكلة تواجه العقل المسلم في بحثه عن المضامين الإسلامية المتميزة في قواميس ومعاجم خلطت مضامين الغرب بمضامين الإسلام . فإذا كانت "السياسة" في العرف الإسلامي لا تقف عند استصلاح الخلق في العاجلة الدنيا وحدها... فإن "السياسة" في الحضارة الغربية ذات الطابع الوضعي، إنما تقف عند تدبير الإنسان لحياته الدنيا وحدها» (6) وبناء على هذه النظرة الدنيوية الدهرية، جاءت الدعوة إلى فصل الإسلام، لا عن الدولة والسياسة فحسب، وإنما فصلا له وإبعادا لمعاييره عن تدبير الحياة العامة في جميع مجالات المعرفة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقيم والتربية والتعليم والإعلام وكل ما يمت إلى الواقع الدنيوي من قريب أو بعيد. وجوهر الخلاف في مضمون السياسة الشرعية والسياسة الوضعية مرده بالأساس إلى الخلاف الجذري في تصور كل حضارة للإنسان. أخليفة هو عند الله تعالى، فتكون دنياه مجرد معبر مؤقت لآخرته، يسوس نظامها بشريعة الله، قياما بأمانة التكليف وميثاق الاستخلاف، على النحو الذي يجعل سياسته تلك سياسة شرعية. أم أن هذا الإنسان هو سيد الكون الذي يعلم ظاهرا من الحياة الدنيا، فتكون سياسته لها تحقيقا لمقاصده الدنيوية لا غير، حتى ليفصل شرع الله عن الاجتماع البشري كله وليس عن الدولة والسياسة فقط. وخلاصة القول: إذا كانت السياسة الوضعية هي البحث عن الصالح والمفيد للمجتمع الدنيوي، أو هي فن الممكن الدنيوي لا غير (7) فإن السياسة الشرعية هي التنظيم العام للشأن العام بما يوافق أحكام الشريعة ومقاصدها ويحقق مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة، وإن لم يرد بها نص شرعي ولا سبق إلى القول بها مجتهد.
أنواع السياسة إن تحديد أنواع السياسة وأقسامها ليست مسألة ثانوية، بل هي مسألة أساسية ذات أهمية بالغة في حياة الأمة، ولذلك استأثرت باهتمام فقهاء السياسة الشرعية فبادروا إلى تدقيق النظر فيها، حتى تكون الأمة على بصيرة منها فتطيع وتعين من كان عادلا فيها، وتعصي وتدافع من كان ظالما باسمها، إذ ما كل سياسة تحظى بالقبول والرضى في منطق الإسلام وأهله.
أنواع السياسة وفي هذا السياق يقول ابن القيم: «إن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها» (8) ولذلك فلا يجوز لأحد أن يقول: «إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عدلا فهي من الشرع» (9) وهذه مسألة مزلة أقدام ومظلة أفهام، ولذلك فهي جديرة باهتمام حملة الشريعة عامة، والعاملين منهم في الحقل الدعوي الإسلامي خاصة، والمنخرطين منهم في العمل السياسي بوجه أخص. ولقد زل فيها "فقهاء" فهموا من الشريعة أن العمل بالسياسة مناف لقواعدها، فجروا على الأمة وعلى الشريعة أضرارا كثيرة، وأغلقوا على أنفسهم وعلى المجتمع من حولهم أبوابا عظيمة من رحمة الإسلام، وأن أوهموا الرأي العام أن الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد. وضل فيها "حكام" لتقصيرهم وتقصير أولئك الفقهاء في معرفة حقيقة شرع الله، فأحدثوا قوانين سياسية لتنظيم العمران وسياسة الشأن العام، لكن ما لبث أكثرهم أن بالغوا فسنوا قوانين سياسية مناقضة لثوابت الإسلام ومقاصده، وهو ما آل إليه التخلي عن حاكمية الشريعة شيئا فشيئا حتى تم إقبارها بالمرة مع دخول "الحماية الفرنسية" إلى المغرب عام 2191، ومع نهاية "الخلافة العثمانية" على يد أتاتوك بالمشرق عام 4291 فاستفحلت المظالم السياسية والفوارق الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية والانحرافات الفكرية والمفاسد القيمية كما هو مشاهد. وكل هذا يتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى أولئك "العلماء" وهؤلاء "الرؤساء" الذين قصروا في معرفة حقيقة الشريعة وتهاونوا في الملاءمة والتطبيق بين الواقع وبينها، إذ «الواجب الشرعي شيء والواقع المعيش شيء، والفقيه عالما كان أو حاكما من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم... وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض... فالواجب اعتبار الأصلح فالأصلح، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل، فليس إلا الاصطبار، والقيام بأضعف مراتب الإنكار» 10 وبناء عليه، فكل التدابير والقرارات والنظم والإجراءات والوسائل المفضية إلى إقامة العدل وتحقيق المصالح الخاصة أو العامة الدنيوية أو الأخروية أو هما معا، فهي من مشمولات السياسة العادلة، أي من الشرع، إذ كل ما وافق الشرع ولم يخالفه فهو منه، وإن لم يتقدم له شاهد منه بالاعتبار، وكل ما خالف هذه القاعدة فهو من السياسة الظالمة المناقضة لمقاصد الشارع، ومعلوم أن "القصد المخالف لقصد الشارع باطل، والعمل المبني عليه مثله» 11. ومن الأمثلة المرافقة للسياسة العادلة، كتابة المصحف، وتولي أبي بكر لعمر، وتدوين الدواوين، وضرب السكة وبناء السجن، ونفي المخنتين وحلق رؤوسهم، وحرق اللوطيين وتأديب السحاقيات ومعاقبتهن، وغير ذلك كثير، ذكره الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين شاهدا على مشروعية العمل بالسياسة لمحض المصلحة العامة، ولم يتقدم فيه نص شرعي ولا نظير من سابقة تاريخية في عهد التشريع. ومن الأمثلة المعاصرة التي يمكن إدراجها في هذا السياق، كالنظم والتراتيب الإدارية الحديثة، وآليات التداول على السلطة وتنظيم الشورى، ومساطير الانتخاب،ومراقبة المسؤولين، وقوانين الحريات العامة، ومدونات الشغل، والضمان الاجتماعي وقانون الوظيفة العمومية وقوانين السياقة وتنظيم المرور، وهيآت القضاء، ووسائل إثبات الجرائم، كالبصمات وغير ذلك مما يقام به العدل بين الناس وتحفظ به مصالحهم الحيوية الحقيقية، وتدفع به عنهم المفاسد الواقعة أو المتوقعة، وإن لم يكن على مثال سابق، إذ متى «ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العدل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد» 12 ولا مقاصد لشرع الله غير رعاية مصالح عباده بإطلاق حتى يكونوا منعمين في دنياهم وآخرتهم بإطلاق كما هو معلوم بالاتفاق إذ «لا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية» 13.
الهوامش: 2 الإمام الجرجاني التعريفات طبعة القاهرة سنة 1938 3 كتب أصول الفقه بصفة عامة، باب الحكم. 4 ابن منظور، لسان العرب دار صادر بيروت ط 5 سنة 1412 ه/ 1992 6/108 5 ابن القيم إعلان الموقعين، تحقيق ي محمد محي الدين عبد الحميد دار الفكر بيروت بدون ط ولا ت 4/372 6 أبو البقاء، الكليات تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، طبعة دمشق سنة 1982م 7 محمد عمارة، المرجع السابق ص 13 14 8 أندريه هوريو القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، الأهلية للنشر والتوزيع بيروت سنة 1977.1/24 محمد عمارة، المرجع نفسه ص 16 9 ابن القيم الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق جميل غازي طبعة القاهرة سنة 7791 م ص 91 01 ابن القيم، إعلام الموقعين 4/373 11 ابن القيم، إعلام الموقعين 2/220 21 الشاطبي، الموافقات تحقيق عبد الله دراز دار الكتب العلمية بيروت ط 1 سنة 1411ه/1991م 162/2 173 31 ابن القيم إعلام الموقعين 4/373 41 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن بدون ط ولا ت 2/64