يمثل هذا البحث محاولة للكشف عن منهج مالك بن أنس في العمل السياسي. تعرض فيه الدكتور أحمد العوضي الأستاذ المشارك بقسم الفقه وأصوله في جامعة مؤتة بالأردن، لمنهج الإمام مالك في سلوكه السياسي وخطابه السياسي مع السلطة الحاكمة، ثم أوضح منهجه في المشاركة السياسية ومنهجه في موقفه من المعارضة المسلحة (الخروج المسلح). وأوردنا في الحلقتين الأولى والثانية مبحث خطابه وسلوكه السياسيين مع السلطة الحاكمة. وفي هذه نتمم الحديث عن دواعي مشاركته السياسية، و تبيان موقفه من الخروج على السلطة السياسية. ثوابت منهج الإمام مالك السياسي من كل ما سبق يتبين أن مالكا ما كان يجد حرجا في المشاركة السياسية، لكن ينبغي أن لا نطلق نسبة ذلك إليه، ذلك أنني لا أظن أنه كان سيقدم على المشاركة السياسية لو لم يعلم أنه سيتمكن من ممارسة منهجه الإصلاحي، وأن ما سيترتب على المشاركة من المصالح أعظم مما سيترتب عليها من المفاسد وهو في ذلك يغفل ما تستجلبه مشاركته من مفسدة إيذاء شريحة من الناس لسمعته، باتهامهم إياه أنه من علماء السلاطين أو علماء الدنيا، وذلك ما قد وقع فعلا من قبل، فقد قال له بعض تلاميذه في شأن دخوله على الخلفاء: إن الناس يستكثرون أنك تدخل على الأمراء فقال: إن ذلك بالحمل على نفسي، وذلك أنه ربما استشير من لا ينبغي(26)، فهو يعد مصلحته الخاصة ملغاة في جانب مصلحة الدين والأمة، فيرضى بالدخول على الأمراء لئلا يستفرد بهم الفساق وأهل الفساد. إذ مصير احتكار الفساق وأهل الفساد للشورى، أن يحتكروا الوظائف العليا في الدولة، فينخر الفساد مؤسساتها. كذلك مما يمكن أن أفسر به عدم تردد مالك في قبول المشاركة السياسية هو خصال الخير التي ألفاها في أبي جعفر، ومنها: خصلة العلم، فورد أن مالكا قال في شأن مقابلته لأبي جعفر: ثم فاتحني خ يقصد أبا جعفر خ فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس، ثم فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه، وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظا لما روى(27)، لقد جمع أبو جعفر بين الإمامتين: إمامة العلم وإمامة الحكم. وكان لا يجهل ذلك من نفسه، فقد قال لمالك في مقابلته له بمنى: لم يبق في الناس أفقه مني ومنك(28)، وفي رواية: يا أبا عبد الله، ذهب الناس فلم يبق غيري وغيرك(29)، ويؤكد ذلك مناظرات دارت بينه وبين مالك في المسجد النبوي(30). ولعل خصال الخير في أبي جعفر حرضت مالكا على قبول المشاركة السياسية، كما حرضه على ذلك خوفه من أن يحتكر الفساق وأهل الفساد الوظائف العامة والعليا في الدولة، فيتأصل الظلم ويتجذر الفساد، واطمئنانه إلى أن صلاحياته في تحقيق الإصلاح ستكون واسعة. وأرى أن تلك الضوابط كانت تمثل عند مالك ثوابت في منهجه السياسي، كان بناء عليها يحدد موقفه من المشاركة السياسية رفضا أو قبولا. الخروج على السلطة السياسية كان محمد النفس الزكية أفضل آل البيت في زمانه حتى بلغ من فضله وإمامته أن عقد الهاشميون ومنهم العباسيون البيعة له للخروج على الأمويين لكن العباسيين خرجوا على الأمويين قبله، فاستولى أبو العباس السفاح على السلطة، ثم جعل الخلافة من بعده لأخيه أبي جعفر. وخشي العباسيون حركة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، فجعلوها أولى أولوياتهم السياسية، فجهد أبو العباس لاعتقاله وأخيه، لكنه فشل ومات قبل أن يتحقق له اعتقالهما. وتابع أبو جعفر سياسة أبي العباس لاعتقال محمد وأخيه والقضاء على حركتهما، فلم يفلح؛ فقبض على أبيهما عبد الله فلم يزل يؤذيه ويبالغ في أذاه حتى استفز محمدا، فأعلن الخروج في المدينة فقال أبو جعفر: استخرجت الثعلب من جحره(31). وكان مالك إذا قال أهل المدينة: إن في أعناقنا بيعة للمنصور قال لهم: بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين(32)، فأسرعوا إلى محمد. ولم يتخلف منهم عن الخروج معه سوى القليل(33). وذكر(34) أن أحد الطالبيين شكى إليه ما لحقهم من أذى واضطهاد، فقال مالك: اصبر حتى يأتي تأويل هذه الآية: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (35)، وقد استفتاه الرشيد عن حكم قتال من خرجوا على السلطان، فأجابه مالك: إن كان خروجهم عن ظلم من السلطان فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا عصى الطاعة فقتالهم حلال(36). لكن كيف نوفق بين مضمون هذه الروايات التي قد يفهم بعض الناس منها ميل مالك إلى تأييد الخروج على أبي جعفر وبين أن مالكا لم يشارك في الخروج؟. والجواب: أن مالكا كان يحدث بحديث المستكره إذا سئل عنه من باب نشر العلم وليس تحريضا على الخروج، وكان إذا سئل عن حكم نقض البيعة لأبي جعفر أجاب بعدم الإثم في ذلك لأنها أخذت منهم بالإكراه فهو في ذلك يبلغ علما ولا يؤيد خروجا ولا يميل إليه. ولعله كان يرى مفسدة الخروج راجحة على مصلحته فلم يخرج ولم يؤيد الخارجين، فلا يكون ثمة مناقضة بين تحديثة وإفتائه من جهة وعدم تأييده الخروج من جهة أخرى. الواقع يؤكد اجتهاد مالك وقد حصل ما رآه مالك وذلك أنه لما خرج محمد حاصر جيش أبي جعفر المدينة وأحكم الحصار عليها، فخطب محمد في أتباعه وأنصاره، فقال: يا أيها الناس، إن هذا الرجل يقصد عيسى بن موسى قائد جيش أبي حعفر قد قرب منكم في عدد وعده، وقد حللتكم من بيعتي، فمن أحب المقام فليقم، ومن أحب الانصراف فلينصرف فتسللوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة بعد أن كان عدد من خرجوا معه أول الأمر يقارب مائة ألف(37) من أهل المدينة وما حولها. وقد أكد الواقع اجتهاد مالك فقد فشل الخروج وقضي على الخارجين، وقتل محمد النفس الزكية وأذل أهل المدينة، فكان ذلك دليلا على سعة أفقه، وبعد نظره، واستحضاره لمآلات الأفعال وعواقب الأمور وهو يجتهد في ضوء ثوابت منهجه السياسي ليحدد مواقفه العملية. وإن مما يدل على أنه كان يرى طاعة أئمة الجور للضرورة، وعدم الخروج لرجحان مفسدة الخروج على مصلحته ما ذكر في المدونة الكبرى: قال مالك: لا أرى بأسا أن يقاتل الروم مع هؤلاء الولاة. قال ابن القاسم وكان فيما بلغني عنه ولم أسمع منه أنه كان يكره قبل ذلك جهاد الروم مع هؤلاء الولاة حتى لما صنعت الروم ما صنعت قال: لا بأس بجهادهم. وقال ابن القاسم: وأما أنا فقد ادركته وهو يقول: لا بأس بجهادهم مع هؤلاء الولاة... لوترك هذا لكان ضررا على أهل الإسلام(38). فهو يكره ظلم الولاة لكنه لا يرى الخروج عليهم، ولعل كرهه للجهاد تحت رايتهم كان أول الأمرين منه، ثم بعد ذلك رأى رجحان مصلحة الإسلام والأمة في القتال تحت رايتهم، وهذا ما ذكره فقهاء المالكية فذكروا أنه يقاتل العدو مع كل بر وفاجر(39)، وعللوا ذلك بأن في ترك الجهاد معهم ضرر على المسلمين(40). وذكر اللخمي حجة مالك في كرهه القتال تحت راية ولاة الجور، فقال: وروي عن مالك: لا يجب الخروج معهم لكيلا يعينهم على ما يقصدون من الدماء(41). فرجحان المفسدة في الخروج في نظره هو مستنده في عدم الخروج على أئمة الجور والاكتفاء يبذل النصيحة لهم، واعتماد منهج الإصلاح معهم، والله أعلم. منهج الإصلاح من خلال المشاركة السياسية وقد، أحسن مالك في أنه لم يتجاوز دائرة النشاط السياسي الفكري الإصلاحي، ولم يؤيد الخروج المسلح، ذلك أن الدولة تعتمد الإسلام دستورا، والشريعة الإسلامية مصدرا وحيدا للتشريع، وإن كانت سلطة الحكم تسيء تطبيق التشريع . كذلك، فإن الفئة التي تستهدف الخروج المسلح والاستيلاء على السلطة بالقوة المادية، قد تصبح أشد تمسكا بالسلطة متى تمكنت منها، وأكثر ظلما للشعب، فحري بمن يفتي بالخروج المسلح أن يضع في الحسبان هل سيلتزم الخارجون بالعدل بعد توليهم السلطة، وهل سيجعلون من الشعار مبدأ وواقعا تعيشه الأمة في حياتها، أو أنهم سيخلفون السلطة السابقة في الظلم وتعطيل سلطة الأمة. هذا، وإن النظر إلى الواقع والمستقبل معا عند إرادة الفتوى بمشروعية الخروج المسلح يجعل المجتهد أكثر تهيبا وأشد تهربا من الفتوى بذلك. لقد تجنب مالك الخروج وكان منهجه هو هجر كل نشاط سياسي معاد للسلطة السياسية واعتماد منهج الإصلاح من خلال المشاركة السياسية، أي قبول تسلم وظائف عامة وعليا في الدولة. وفي نظر الباحث إن هجر مالك لمسلك الخروج المسلح إلى مسلك الإصلاح بالمشاركة السياسية كان نتيجة للأحداث السياسية في المجتمع آنذاك فقد أحدثت أضرارا بالغة بالأمة والدولة وبالدين والدعوة، فمن تلك الأضرار: تشديد الرقابة على الأمة بوجه عام وعلى العلماء بوجه خاص فأصبحت السلطة الحاكمة ترصد نشاطات العلماء وأصحاب الفكر، وتصنفهم إلى محايدين، وموالين، وأعداء. كذلك، أحكمت السلطة الحاكمة قبضتها على الحكم، ولم تتورع في قمع مخالفيها، بل أصبح الحصار الفكري للمخالفين والتضييق عليهم، ومواجهتهم بالاعتقال والحبس أو الإعدام أبرز النشاطات الأمنية الداخلية، لذلك لعل مالكا ما كان له بد من هجر منهج معاداة السلطة الحاكمة، إلى اعتماد منهج المشاركة السياسية وسيلة للإصلاح، ولعله أدرك أن مصلحة الدين والأمة تقتضي ذلك، والمصلحة أصل من أصوله. موقفه من الجانب السياسي في طلب تأليف الموطأ أولا: فكرة تأليف الموطأ لدى مالك وعنايته الفائقة به كان اتجاه العلماء إلى تدوين الحديث وأقوال الصحابة والتابعين موجودا قبل مالك، قال البخاري: فأول مع جمع من ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حده إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام، فصنف مالك الموطأ، وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم(42). فالموطأ يعد أول كتاب ألف في الجمع بين الحديث والفقه، ففتح مالك به الباب للمؤلفين في ذلك فولجوه بعده، وسلكوا طريقه، وقد امتاز مالك فيه عمن سبقوه، بانتقاء القوي من الأحاديث، كما امتاز بترتيب الكتب ووضع التراجم وحسن السياق في التأليف وترتيب التصنيف مما لم يسبقه أحد إليه، مع ما قرنه الله به من التوفيق، وحسن نية مالك في التأليف، ولذلك اشتهر الموطأ وانتشر(43). وذكر ابن عبد البر أن مالكا قال :كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، وكتب إلى ابن حزم أن يجمع السنن ويكتب إليه، فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث إليه(44). فمالك كان مسبوقا إلى أصل فكرة الموطأ، لكنه سبق من سواه في منهجه فيه، حتى شهد العلماء للموطأ بما لم يشهدوا به لغيره من الموطآت، فقد كان مالك من أشد الناس تركا لشذوذ العلم، وأشدهم انتقادا للرجال، وأقلهم تكلفا، وأتقنهم حفظا، ولذلك صار إماما (45)، فظهر ذلك في كتابه الموطأ. وقد أدرك مالك حكمة عمر بن عبد لعزيز في تكليفه أبا عمرو بن حزم بتدوين علم المدينة، وهي خوفه على السنة النبوية أن تضيع، والخوف من دروس العلم، فتعزز لدى مالك وهو إمام المدينة من غير منازع الباعث على تأليف الموطأ. وكان مالك يرى أن الحديث هو حديث الحجاز، فقال: إذا جاوز الحديث الحرمين ضعف نخاعه(46)، فعزم على جمعه، خوف ضياعه. وقد استفاضت شهرة مالك بإعظام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة اتباعه، وتثبته فيما يروي عن النبي وحرصه على معرفة أقوال الصحابة والتابعين، ومما جاء في ذلك(47). قال مالك :إن هذا العلم يعني الحديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يحدث: قال فلان قال رسول الله، عند هذه الأساطين وأشار إلى أعمدة مسجد رسوله الله فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو أتمن على بيت مال لكان أمينا، لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وفي لفظ: ولم أترك الحديث عنهم لأنهم لم يكونوا ثقات فيما حملوا، إلا أنهم حملوا شيئا لم يعقلوه. وقال الشافعي : كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله. وبهذا التثبت والعناية جاء الموطأ جم النفع، قال عبد الرحمن بن مهدي والشافعي، ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من موطأ مالك بن أنس(48) وقال الشافعي:ما كتاب بعد كتاب الله أكثر صوابا من كتاب مالك(49). (يتبع) الحواشي والتعليقات: (26)عياض، ترتيب المدارك، ج,1 ص,192 وابن عبد البر، الانتفاء، ص.41 (27)محمد أبو زهرة، مالك، حياته، عصره، آراؤه، فقهه، ط,2 القاهرة، 1952م، ص .65 (28)عياض، ترتيب المدارك، ج,1 ص ,192 وابن عبد البر، الانتفاء، ص ,41 وابن فرحون، الديباج المذهب، ص .25 (29)المنذري، الترغيب والترهيب، ج,1 ص.14 (30)المناقب، ص .42 (31) عياض، ترتيب المدارك، ج,1 ص .211 (32) أبو جعفر الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج,7 ص .564 (33) المصدر السابق، ج,7 ص ,564 وابن كثير، البداية النهاية، ج,10 ص .84 (34) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج,7 ص.559 (35) الصفهاني، مقاتل الطالبيين، بيروت، د.ت، ص .395 (36) سورة القصص، الآية رقم (5). (37) ابن حجر العسقلاني، رفع الإصر عن قضاة مصر، القاهرة، 1957م، ص .169 (38) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج,7 ص.586582 (39) مالك بن أنس، المدونة الكبرى، ومعها مقدمات ابن رشد، ج,1 ص ,369 دار الفكر، 1406ه. (40) القيرواني، أبو زيد، الرسالة في فقه الإمام مالك، ص ,60 دار الكتب العلمية، بيروت، 19981418ه. (41) الأبي الأزهري، صالح، التمر الداني، شرح رسالة أبي زيد القيرواني، ص ,413 المكتبة الثقافية، ص .128 (42) القرافي، شهاب الدين، الذخيرة، ج,3 ص ,404 تحقيق محمد أبو خبزة، دار الغرب الإسلامي، ط1994 ,1م. (43) مقدمة فتح الباري، ص ,4 دار إحياء التراث العربي، بيروت. (44) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج,1 ص ,259 دار الكتب العلمية، بيروت، 1410ه. (45) ابن عبد البر، التمهيد، ج,1 ص ,86 والزواوي، مناقب مالك، ص .16 (46) ابن عبد البر، التمهيد، ج,1 ص,86 والزواوي، مناقب مالك، ص .33 (47) ابن عبد البر، التمهيد، ج,1 ص .80 (48) المصدر السابق، ج,1 ص .67 ,63 (49) ترتيب المدارك، ج,1 ص .191 د. الدكتور أحمد العوضي أستاذ الفقه وأصوله جامعة مؤتة الأردن