يلازم الأكاديمي محمد الصغير جنجار بين الترجمة والنهضة، ويسلط الضوء، في محاضرة له استقبلها مبنى أكاديمية المملكة المغربية بالرباط، على زمنية القرن التاسع عشر الذي عرف حركة ترجمة واسعة من اللغات الأوروبية، في العالم، مسائلا مشاركة المغرب ونخبه في هذه الحركة، وتأخر بروز نشاط ترجمي منتظم في البلاد، دون أن يعني هذا، بالنسبة له، وجود مانع اليوم من "استئناف الورش التحديثي". جاء هذا في محاضرة نظمتها أكاديمية المملكة المغربية، الأربعاء، تفعيلا لأهداف الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة؛ وهي جهاز علمي من أجهزة الأكاديمية أنشئ بعد صدور قانونها الجديد في الجريدة الرسمية، وأنيطت به مهمة "تشجيع أعمال الترجمة بالمملكة وخارجها، بين اللغة العربية أو اللغة الأمازيغية واللغات العالمية الأخرى، والعمل على دعمها وتحفيزها وتوسيع نطاقها". محمد الصغير جنجار، أكاديمي متخصص في علم الاجتماع والأنثربولوجيا نائب مدير مؤسسة الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية، استحضر، في كلمته، مطابقة المترجم عبد الكبير الشرقاوي بين النهضة والترجمة، وكون النهضة "بحثا عن طرائق ترجمة الحضارة الغربية إلى الحضارة العربية". وينبه المحاضر إلى أن هذا لا يقتصر على الحركة النهضوية العربية، حيث كان هذا التلازم موجودا في الصينواليابان وتركيا العثمانية، وغيرها من الأمصار في القرن ال19′′، حين انطلقت ترجمة مجموعة من المعارف التقنية والعلمية والأدبية، في تعبير متجانس عن "التحدي الذي مثلته إليهم الحضارة الأوروبية". ويقدم الأكاديمي مثالا باليابان ومعهدها المنطلق قبل قرنين ل"البحث في أقوال البرابرة"، أي كل الأجانب عن اليابان، باستثناء الصينيين والكوريين، ليشمل بعد سنة 1860 كل اللغات الأوروبية بعدما كان حكرا على الهولندية، قبل أن يغير اسمه بعد سنتين ليصير معهدا للبحث في مؤلفات الغربيين، ثم في السنة الموالية معهدا لتنمية العلوم. ومثل هذا بالنسبة للمحاضر تعبيرا عن: إرادة النخب اليابانية في الانتقال بمجتمعها من حالة العزلة ورفض التواصل مع الآخر "البربري"، إلى تبني معارف وعلوم الغرب والمشاركة في تطويرها، ولو اقتضى الحال التضحية بالمعارف التي طوروها قبل الاتصال بأوروبا، مثل النسق الرياضي الذي طوروه لقرون بعدما رأوا عدم توافقه مع المنظور الرياضي الغربي؛ وهو ما طال حضارات أخرى أخذت، من الآخر، ودمرت، بعض تراثها، في الآن ذاته. وبما أن "الترجمة شكل من التثاقف، وعملية التثاقف سيرورة متواصلة، والاقتباس المتواصل من سنن الثقافات المتواصلة"، يتساءل الصغير جنجار: "لم الإلحاح على القرن التاسع عشر؟" خاصة مع استمرار الترجمة الواعية وغير الواعية، وإمكان تحديد حالات ذروة، لغة أو ثقافة، في الترجمة مثل "عصر التدوين" العربي بين القرن الثامن والعاشر، وفي زمن النهضة الأوروبية الأولى في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وترجمة التراث المدون باللغة العربية، من طب وفلك وفلسفة ورياضيات، في المناطق المتاخمة للإمبراطورية الإسلامية، والمناطق التي استرجعها المسيحيون بعد تراجع النفوذ الإسلامي، مثل جنوبإيطاليا وصقلية وطليطلة وجنوب إسبانيا. ثم يستدرك قائلا: "مع ذلك، تشكل الترجمة في القرن ال19 حالة خاصة في تاريخ البشرية، لعلنا لم ندرس بعد بشكل ممنهج وعلمي آثارها عربيا"؛ وهي حركة تثاقف كوني لم تخل منها أي منطقة في العالم؛ مع انتشار الطباعة، ووسائل التواصل وظهور الصحافة وانتشار المطبوعات وما عرفه العالم من ارتفاع في التعليم، أي في نسبة من يعرفون القراءة والكتابة. ويتطرق الأكاديمي لتأثير الترجمة في فكر النهضويين في العالم، الذين ينطلقون من وضعية الجمود التي تعرفها اللغة والثقافة، إما بالالتفات نحو الماضي أو النظر إلى ما ينتجه "الآخر الغريب"؛ وهما آليتان للذهاب أبعد من الحاضر المتأزم، لإبداع "طوبى المستقبل" (التصور المثالي لمدينة فاضلة أو مستقبل فاضل)، ف"كل النهضويين طوبايون"، وهذه وسيلتهم للدفع الذي يجعل الذات تشعر بالغربة لا أمام الآخر فحسب، بل أمام ذاتها كذلك، بتعبير الأكاديمي والمترجم عبد السلام بن عبد العالي، ولذلك "نحن مدينون لمترجمي القرن التاسع عشر، بكل النسق الثقافي واللغوي الذي نشأنا فيه، نحن أبناء القرن العشرين". هذا الدين يبدأ، وفق المتحدث، من "العربية التي نتحدثها اليوم، وتختلف جذريا وجوهريا عن العربية التي ورثها النهضويون في مطلع القرن التاسع عشر". ويقول الأكاديمي أننا "لم نضع حتى اليوم جردا دقيقا لما ترجم إلى العربية في القرن التاسع عشر"، في مختلف الفئات، ولا نعلم "الحجم الحقيقي للمترجمات من مقالات، في القرن التاسع عشر"، وبالتالي، يقول جنجار مستحضرا دراسة لعبد الكبير الشرقاوي "لا يزال القرن التاسع عشر، ثقافيا وأدبيا لا ترجميا فقط، قرنا مجهولا" رغم المجهودات المبذولة. ويتحدث جنجار عن "اضطرار" مترجمي القرن التاسع عشر إلى مساءلة معجم اللغة العربية، وبنياتها، وأساليبها، والتحرر من "موروث لغوي أثقلته قرون من العزلة والانقطاع عن التواصل مع اللغات التي شهدت تطورات علمية في القرون الماضية" انطلاقا من لغات أوروبية عرفت مستوى متقدما من التحديث والعلمنة وإثراء قاموسها العلمي، بعدما ظل الموروث (العربي) حبيس حقلي الأدب والدين، مغتربا عن خطابات الحياة الاجتماعية والفنون والإدارة والاقتصاد، والسجع، بلغة جمدها الإفراط في السجع والبديع والاستخدام المجاني لسيل من الألفاظ لا سلطان لها على الوقائع المادية والطبيعية أو الظواهر الاجتماعية. ويزيد الأكاديمي: "أفق مترجمي القرن التاسع عشر لم يكن مماثلا لأفق أسلافهم في العصر العباسي الذين انطلقوا من حاجيات حضارية لحضارة قوية، ينتقون من النصوص ما تم إدماجه بسرعة في المشروع الثقافي والحضاري لمجتمعهم (...) وصار الإنتاج العلمي في مجالات مثل الفلك والطب والرياضيات والعلوم الطبيعية (القرن ال11) متجاوزا ومتفوقا على الإنتاج المترجم، وتوقف العرب عن الترجمة (...) لأنهم لاحظوا أن ما ينتجون أحسن من المصدر". في حين "بدأت حركة الترجمة في القرن التاسع عشر في وضع ثقافي وعلمي مختلف تماما، وأمام إنتاج أوروبي هو ثمرة قطيعات علمية ومعرفية جذرية، وتحولات مجتمعية ودينية وفكرية وجمالية عميقة"، فأصيب المترجم بحيرة من كثرة وكثافة العرض الأوروبي، فترجم بمنظور موسوعي. ويسائل جنجار موقع المغاربة من هذه "النهضة الترجمية العربية"، ومشاركتهم في هذا "المشروع الفكري التحديثي"، قائلا إنه في بداية النشر والطباعة في لبنان ومصر، كانت التوجهات الأساسية مع بداية القرن التاسع عشر، موجهة للموسوعات والمعاجم والترجمات، وكتب إحياء التراث الديني واللغوي، في جهد للوصول إلى ينابيع الغرب العلمية، بمساعي الدولة في مصر، والإرساليات المسيحية في لبنان. انتظام الطباعة والنشر وظهور الصحافة والمثقف، وفق اقتباسات محمد الصغير جنجار، من مكونات "النهضة العربية" في القرن التاسع عشر، وبمثابة تعبير عن انبعاث تدريجي ل"قومية ثقافية"، ترمي إلى "بناء حداثة حضارية، وإحياء وسائل التعبير المحلية". بينما، يزيد جنجار، "لم يتبلور نشاط ترجمي منتظم في المغرب، إلا مع تشكل قطاع نشر حديث في ثمانينيات القرن العشرين، أي بعد حوالي أزيد من قرن بعد التجربة المشرقية"، وهو ما يرى فيه أن مسمى "النهضة العربية" انحصرت زمانيته في المركز، بلاد الشام ومصر، لا الأطراف، البلدان المغاربية والخليج، باستثناء تونس المرتبطة بالعثمانيين. ويستحضر الصغير جنجار ما بينه العروي في كتاب "الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية"، حول عوائق التحديث الثقافي للمغرب المتمثل أهمها في "عزلة البلاد، وانغلاق مجالها في وجه المؤثرات الثقافية الواردة من الخارج، والخطر الاستعماري الضاغط، خاصة بعدما وجد له أذرعا داخل المجتمع المغربي، بظاهرة المحميين"، مما ساهم في "تكريس الثقافة المحافظة، وانتصار ردود الفعل، والاختيارات التقليدانية في أوساط العلماء والنخبة المغربية بصفة عامة". بل، حتى عندما تقرر اعتماد تقنية الطباعة في سنة 1865، يضيف المتحدث: "تم اختيار تقنية عتيقة كانت متجاوزة آنذاك، نظرا لكون الطباعة السلكية والحروف المعدنية المتحركة، وجدت في كثير من البلدان بما في ذلك إفريقيا الشمالية"، والعناوين التي طبعت بها تنتمي إلى التراث الديني والأدبي المتداول في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما قبلهما، أي التراث التقليدي أو ما يندرج ضمن البرامج التعليمية للقرويين وغيرها من المؤسسات التعليمية. ويقابل جنجار بين اختيارات المشرق والمغرب في الطباعة: "إذا كانت الطباعة قد اتجهت في بلاد الشام ومصر نحو إحياء التراث وتحديث اللغة العربية والانفتاح على علوم العصر (...) فأسهمت بذلك في إرساء دعائم صناعة ثقافية جديدة وتحولات اجتماعية عميقة؛ أبرزها ظهور نخبة ثقافية جديدة، وخلق الإرهاصات الأولى لثقافة جماهيرية عبر الصحافة والمقررات المدرسية والمجلات. كانت وجهة المغرب مخالفة تماما، بحيث انحصرت وظيفة الطباعة، حتى العقود الأولى من القرن العشرين، كما يوضح ذلك المؤرخ المغربي جرمان عياش، في خدمة ثقافة تقليدية لم تكن في حاجة إلى الطباعة لتستمر، وكان يمكن لناسخي فاس إنتاج نفس العدد المنشور، ولم يكن لنا مشروع تحديثي بتاتا، لنستعمل هذه التقنية". ويتطرق المحاضر إلى مسلمة أن "الحماية أحدثت قطيعة مع المنظومة الثقافية التقليدية، وأطلقت دينامية تحديثية في كل المجالات بما في ذلك الطباعة والنشر"، ويقول: "الإنتاج العربي الصادر، خلال الحماية، لم يتزايد لا كميا ولا كيفيا بشكل لافت، بل حتى الثلاثينيات، ستظهر كتابات جيل جديد من العلماء المتميزين باطلاعهم على الإنتاجات الفكرية والأدبية للمشرق، مثل عبد السلام بنونة، محمد داود، محمد بن الحسن الحجوي، علال الفاسي، محمد المختار السوسي، عبد الله كنون"... ويستشهد الصغير جنجار بشهادة عن التأخر المغربي عن التحولات الثقافية في أوروبا والمشرق، قاله به الفقيه المغربي النهضوي الحجوي، في كتابه في "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي": "ظهور الطباعة نقل العلم من طور إلى طور (...) وتيسير ما كان عسيرا، إلا أنها وجدت الأمة في تأخر، والفقه في اضمحلال، والفكر في جمود، فكأننا لم نستفد منها شيئا". ويشرح جنجار أن سبب هذا هو "عدم ارتباط الطباعة بمشروع تربوي وثقافي تحديثي"، بل تسخيرها "لتكريس التقليد"، الشيء الذي نتج عنه: "غياب النشاط الترجمي في المشهد الثقافي المغربي، وظهور إرهاصات ازدواجية لغوية، كما هو حال منشورات طنجة في النصف الثاني من القرن ال19، وهو ما تأكد في ما بعد في شكل ظاهرة ثابتة". ويزيد جنجار: مجموع الترجمات إلى حدود 1980، لا يشكل إلا 1 في المائة من الترجمات الموجودة لدينا اليوم، و99 في المائة من ترجماتنا نشرت منذ ذلك التاريخ، و82 في المائة من هذه النسبة نشر في العقدين الأخيرين، أي في القرن الحادي والعشرين"؛ مما يدل على "مدى حداثة الفعل الترجمي بالمغرب، وطفولته". ويسترسل المحاضر شارحا "الإشكال" الذي حدث مع توسع الجامعة المغربية؛ فبعدما بدأ تدريس العلوم الإنسانية الحديثة، مع توفر نخب مزدوجة اللغة مفرنسة، أحيانا، كان "يظهر لنا أن تلقي العلوم لا يحتاج ترجمة". لكن، ابتداء من تحول المجتمع في الثمانينيات وتوسع التدريس وعدد الطلبة وارتفاع ديمغرافية الجامعة المغربية وتخرج أجيال جديدة، دخلنا ابتداء من السبعينيات في "مسار مزدوج: تضخم الديمغرافية الطلابية، وتعريب مواد الدراسات الإنسانية والاجتماعية، باستثناء القانون وتدبير المقاولات والمالية". ويزيد الأكاديمي موضحا معالم "الإشكال": "كان يجب أن يستند هذا التحول إلى أرشيف ترجمي، لنواصل تعليما بمعايير جيل الستينيات والسبعينيات، وهو ما لم يحصل، فكان ما كان (...) وظهر إنتاج محلي هووي تراثي لا يعير أهمية للمقاييس العالمية"، في مجال العلوم الإنسانية. ويؤكد محمد الصغير جنجار مدى عمق "أثر غياب الترجمة في مشهدنا الثقافي" ونتائجه الوخيمة على "العلوم الاجتماعية، منذ الثمانينيات، نظرا لعدم وجود استراتيجية ترجمية، تسهل الانتقال من تعليم كان بالفرنسية في الستينيات والسبعينيات نحو تعليم باللغة العربية في الجامعة". ويعدد المحاضر تساؤلات تطرح حول "مشروع وطني لمسألة الترجمة"، مثل: ماذا نترجم؟ ما الفلسفة الموجهة؟ ومن أي لغة؟ ولو أن الإنجليزية هي اللغة المحورية تظل مسألة الخبرة المعترف بها للمترجمين المغاربة من الفرنسية مطروحة مع الإسهامات العريضة للفرنسية في العلوم الاجتماعية. ثم ماذا بعد الترجمة؟ وكيف نهيئ مشهدنا الأكاديمي والثقافي للاستفادة منها؟ واختتم محمد الصغير جنجار محاضرته برسالة مفادها: "ولو حالت ملابسة التاريخ الحديث دون أن نلتحق، نحن المغاربة، بركب النهضة، في القرن ال19، ونشارك النهضويين تجربتهم في بدايات الورش الترجمي العربي، لا شيء يمنعنا اليوم من استئناف المشروع الفكري التحديثي ضمن أفق عالمي مفتوح".