1-تمهيد لا يسع المتأمل في مسيرات الحضارات المشعة عبر تاريخ الإنسانية - ومن ضمنها الحضارة العربية الإسلامية - سوى تثمين الدور الحيوي الذي أدته الترجمة في التنمية الثقافية التي تعد عصب التنمية الاجتماعية الشاملة ، بفعل كونها شرطا للتنمية الاقتصادية بقدر ماهي مشروطة بها . وفي هذا السياق ، يتضح حاليا أن انقسام العالم إلى بلدان متقدمة وأخرى «نامية « طامحة إلى الخروج من إسار التخلف ، يرتبط أشد الارتباط بطبيعة الصلة التي ربطت وتربط هذه البلدان بالترجمة بصفتها ممارسة ومعرفة . فليس من قبيل الصدفة ، أن يعلن هنري ميشونيك بكل اطمئنان بأن أوروبا والترجمة تملكان نفس التاريخ ، بل وأن يتمادى في اطمئنانه إلى درجة اعتبار الأهمية القصوى الممنوحة للترجمة في العصر الحديث ميزة خاصة بالغرب .(1) وإذا كان واقع بعض الحضارات الشرقية، وعلى رأسها اليابان،يزعزع هذا الاطمئنان،فإن الحرج كل الحرج يكمن أثناء استحضار الحضارة العربية الإسلامية الحديثة ، التي لا يجد أهلها مهربا من تغذية اطمئنان ميشونيك إلا في الماضي العتيد . إن عدم قدرة البلدان العربية الإسلامية ، على كسب رهان الانخراط الفاعل في الحضارة الحديثة بصفتها نموذجا للتقدم والتنمية - رغم الحراك الذي عرفه الحقل الثقافي العربي تعميما بفعل التلاقح ،المفروض أولا والضروري ثانيا ، مع ثقافات البلدان المتقدمة منذ القرن التاسع عشرتحديدا ? يشير إلى أن «المشروع النهضوي» العربي لم يرتكز على أرضية صلبة أساسها التفكير المؤسساتي الممنهج والبعيد الأفق في العلاقة بين الثقافة والتنمية وصلاتهما الوثيقة بالترجمة . ومساهمة منا في التفكير المستقبلي الجاد في هذا النوع من العلاقة ، نرتئي تسليط الضوء على المشهد الترجمي المغربي بعد الاستقلال ?ممثلا في الترجمات النقدية والأدبية - من زاوية المقابلة بين مسؤولية المؤسسة ، والإنجاز الفعلي للفرد . إلا أن حتمية العلاقة بين الحاضر والماضي والمستقبل تفرض علينا، بداية ، توسيع أفق الترجمة ليشمل مختلف المجالات ،بهدف القيام بربط تاريخي (2) بين أهم محطات حلقات الترجمة الثلاث في المغرب ، حيث يبدو أن «تاريخ الترجمة في المغرب يمكن أن يقسم إلى ثلاث مراحل : أولاها غير واضحة المعالم وتختفي بدايتها في ظلام التاريخ ، وتمتد إلى بداية عصر الاستعمار الفرنسي ، وثانيها تضم 44 سنة ، هي فترة الاستعمار ، وثالثها تمتد منذ الاستقلال إلى أكثر من نصف قرن « . (3) 2- من المؤسسة إلى الفرد 2-1المؤسسة المخزنية قبل الحماية :إن النبش في تاريخ الترجمة بالمغرب ? على صعوبته لعدم توفر المعطيات الكافية - يكشف عن وجود تراجمة في بلاطات الملوك المغاربة وعن ارتباط عملية الترجمة بحاجيات المخزن الآنية على مستوى الدفاع عن الثغور والعلاقات الديبلوماسية والتجارية بالدول : فإذا استثنينا تركيز بعض السلاطين المغاربة على ترجمة نصوص في الفلك والحساب ، إضافة إلى نصوص لها علاقة بالسلاح نستنتج بأن المغرب لم يعرف نشاطا ترجميا ذا أهمية قصوى . وفي هذا الإطار،لا يمكن اعتبار إيعاز السلطان الموحدي يوسف الأول لابن رشد بترجمة مؤلفات أرسطو الفلسفية ، أو ترجمة كتب علمية في عهد أبي الحسن المريني وابنه أبي عنان ، مظهرا من مظاهر تشكل حركة ترجمية في المغرب. لأن مبادرات هؤلاء السلاطين، تظل معزولة وغير مؤثرة في سياق نفعي تداولي بالأساس (4) ، و هو نفسه السياق الذي أحاط بما دعاه محمد المنوني بالظاهرة التعريبية في العصر السعدي ، الذي كان فيه المترجم تعميما « وسيطا دبلوماسيا ومحررا لطلبات الطبجية ? المدفعية والمدافعين عن الثغور « (5) ، فلم يكن بالإمكان أن يثمر المؤثر الخامس، الذي يظن محمد المنوني أنه كان من بين المؤثرات وراء نشوء هذه الظاهرة ،ويتجلى في محاولة الإفادة من حركة الانبعاث بأوربا وتقديم إسهام مغربي في نهضتنا . (6) والحال أن المغرب في القرون الحرجة 14/15/16 (وإلى حدود القرن 17) - وهي قرون النهضة الأوروبية ونجاحها - كان لا يزال ممتلئا بفكرة عظمته مع استمرار الزمن الامبراطوري بشكل من الأشكال ، فضاعت بذلك فرصة الإفادة من جيرة الآخر المتفوق . ومع استشعار الخطر ، أملى الهاجس الأمني سياسة العزلة والانعزال مع الاحتفاظ بوهم القوة ، إلى أن ظهرت الحقيقة سافرة بعد معركتي إسلي وتطوان فولدت الرغبة في الإصلاح والتعلم الحاجة الماسة إلى الترجمة والمترجمين. وهكذا سيهتم محمد الرابع بالترجمة ، وكذلك سيفعل ابنه الحسن الأول ، فتكون نتيجة هذا الاهتمام الملكي : - إنشاء مدرسة الألسن الحسنية بطنجة. - إرسال البعثات إلى الشرق وأوربا (فرنسا ، ايطاليا ، اسبانيا ) لتعلم اللغات واكتساب الخبرة في المجال العسكري بشكل خاص . ويرد سعيد حجي في ثلاثينيات القرن العشرين فشل هذه البعثات في النهوض بالمغرب إلى جمود الوسط إذ ذاك ،حيث « كان أصلب من أن يتأثر بواسطة تلك البعثات ،فظلت مهجورة ونسيت بعد قليل من رجوعها «. (7) وتجدر الإشارة، في هذا السياق ، إلى أن الترجمة بصفتها ممارسة حيوية لا تثمر إلا ضمن بنية حية متفاعلة العناصر . فإذا كان مما لا شك فيه أن الترجمة ضرورة حتمية للنمو المجتمعي والاقتصادي ، فإن هذه المسلمة لا يجب أن تنسينا العلائق المتفاعلة / المتشابكة بين الترجمة والاقتصاد والسياسة والفكروالمجتمع ، مما يفسر نجاح مجهودات ترجمية في مجتمع معين وفشلها في مجتمع آخر. 2-2 المؤسسة الاستعمارية: نقف عند المستعمر الفرنسي ، تحديدا ، بصفته مؤسسة محكمة التنظيم ذات أهداف واستراتيجية واضحة ، يترجمها السعي الحثيث إلى فرنسة المغاربة و تحديث البنيات وفق النموذج الفرنسي . ومن تجليات خدمة هذا المشروع الاستعماري بواسطة الترجمة (8) : أ- توفير مكتب للترجمة تابع للمقيم العام بالمغرب الغرض منه «إيجاد نواة تواصل بين اللهجات المحلية عامية وامازيغية وفرنسية واللغة العربية والفرنسية «. - إنشاء المدرسة العليا للترجمة سنة 1912، ذات الهدف السياسي الاجتماعي المحض غايته تخريج وسطاء شرعيين يقومون بوظيفة الوساطة بين الحاكم الفرنسي والأهالي في المدن والقرى . - تكريس الازدواجية اللغوية في التعليم لصالح الفرنسية ،مع إصدار معاجم ثنائية اللغة . إلا أن بعض المشاريع الاستعمارية ، ونخص بها إنشاء جريدة بالعربية اسمها «السعادة» (1903) ، ساهمت في خلق حركية داخل المشهد الثقافي المغربي، بتركيزها على ترجمة النصوص الأدبية إلى العربية في سياق تحديثي ، إذا نحن نظرنا اليها من زاوية استبدال الرفض التام بتوظيف المشروع الاستعماري لصالح الثقافة المغربية . ولكي نقف على الدور الكبير الذي أدته الترجمة ? رغم نقائصه - في التنمية الثقافية ابتداء من عهد الحماية ، يكفي فقط أن نقارن بين إنتاج المغاربة الأدبي والفكري بعد حرب تطوان التي سعى بعدها المثقفون المغاربة إلى الدعوة إلى النهوض والإصلاح - حيث ظلت المضامين الإصلاحية حبيسة الأشكال والأنواع التقليدية الموروثة (المقامة، الرسالة ، الرحلة...)- وبين الانتاجات المغربية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين . (9) إن المثير للانتباه في هذه الجريدة الممثلة للمؤسسة الاستعمارية والمعارضة بشدة من قبل الحركة الوطنية ، والتي كانت تعتمد في بدايتها على ترجمات محررين عرب ومغاربيين ، أنها لعبت دور المحفز سواء بالنسبة للأقلام المغربية التي استقطبتها لتنشر فيها مثل الحجوي والقباج وبوجندار ، أم بالنسبة للأقلام الرافضة التي سعت إلى إيجاد بديل وفق تصور مختلف للمثاقفة لا يشدد على النموذج الفرنسي في سبيل إرساء دعائم كتابة مغربية حديثة تسندها الترجمات . وقد تبلور هذا البديل في الثلاثينيات من القرن العشرين ، مع الجيل المخضرم الذي يمثله تخصيصا عبد الكبير الفاسي وأحمد بناني . 3.2 الجمعية المغربية للترجمة والنشر:في ثلاثينيات القرن العشرين ، أصبحنا أمام ثلاث فئات من المثقفين تعميما : فئة معربة ،وفئة مفرنسة ، وفئة تشكل الاستثناء بسعيها إلى « تطوير الازدواجية في الاتجاه القومي بل وربطها بالنزعة الوطنية والدينية «. (10) وتمثل ثلاثينيات القرن العشرين علامة فارقة في تاريخ الثقافة المغربية الحديثة ، ففيها اغتنى المشهد الثقافي الوطني بإنشاء جرائد و مجلات وطنية ، كما تبلور مشروع إنشاء جمعية مغربية للترجمة والتأليف بالموازاة مع تشعب النقاشات حول الترجمة وإشكالاتها . ويمثل إنشاء جمعية وطنية للترجمة حدثا ذا أهمية قصوى في تاريخ الترجمة بالمغرب ، حيث يترجم الوعي الوطني بضرورة مأسسة الترجمة .إلا أن هذا المشروع الطامح إلى تنظيم عملية الترجمة ، ظل رهين «المبادرات الشخصية في غياب تام للمؤسسات (على المستوى الوطني ) ، حيث تختزل إصدارات الجمعية في الأعمال الشخصية لعبد الكبير الفاسي وأحمد بناني .وهما أهم أعضائها وأنشطها إنتاجا وإبداعا وترجمة، خلال فترة طويلة سابقة ولاحقة على إنشاء الجمعية «.(11) و الجدير بالذكر، أن ما يجمع بين المبادرات الوطنية وجريدة السعادة - مع اختلاف الأهداف والمنطلقات بين الوطنيين وجريدة يدعمها المستعمر - هو التوجه نحو ترجمة الإبداع . وهو نفس التوجه الذي سيظل طاغيا في سنوات الأربعينيات وبدايات الخمسينيات إلى حدود الحصول على الاستقلال ، بالموازاة مع خطاب عن الترجمة يندرج ضمن الخطاب الإصلاحي النهضوي التحديثي الذي سينخرط فيه مثقفون مغاربة (مزدوجو اللغة / طليعيون) يزاوجون بين العملين الثقافي والسياسي ، من قبيل عبد الله إبراهيم وعلال الفاسي و سعيد حجي . ومع تنوع وتعدد النصوص المترجمة المنشورة في المجلات والجرائد الوطنية خلال هذه الحقبة، يمكن اعتبارالتفكير في ترجمة كتب إبداعية خطوة إيجابية في مسار الترجمة بالمغرب الحديث، لأنه لا يؤكد فقط على أهمية التلاقح الثقافي عبر الترجمة ،وإنما يحيل على بداية اكتساب المترجم الفرد لثقة أكبر في أدواته ولغته. الهوامش : 1- Henri Meschonnic , Les grandes traductions européennes,leurs rôles , leurs limites.Problématique de la traduction , in : Précis de littérature européenne (Revue) , P. U.F , Paris , 1998, pp .221/222 2- يقتصر الربط التاريخي على المغرب الإسلامي كما يحيل على ذلك العنوان ،إلا أن البحث في تاريخ الترجمة بالمغرب يستوجب الغوص بعيدا في تاريخ المغرب قبل الفتح الإسلامي . وتتجلى صعوبة البحث في هذا المجال ، في أن تاريخ المغرب الذي يتأسس على موضوعية المؤرخين لم ير النور بعد . 3- عبد الله العميد ، أوضاع الترجمة في المغرب (في سبيل إقرار الخطة الوطنية للترجمة) ، دار بالماريس ، الرباط ، ط1، 2012، ص 11 4-نفسه ، ص12 5- سعيد علوش ، خطاب الترجمة الأدبية من الازدواجية إلى المثاقفة ،مطبعة بابل ، الرباط ، 1990، ص10 6 ? انظر في هذا الصدد : محمد المنوني ، مظاهر يقظة المغرب الحديث ، دار الأمنية ، الرباط ، 1973 7- س. علوش ، م. س. ، ص244/245 8- نفسه ، ص59 9- يرى كراتشوفسكي في الأدب العربي المكتوب خلال القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين في كل من المغرب والجزائر والجزيرة العربية واليمن، نموذجا من أدب القرون الوسطى . لذا فإنه لا يدخله في دراساته حول الأدب الحديث . ( عبد الرحيم المعطاوي ، الترجمة الأدبية بين الخيار الشخصي والمهني ، ضمن : الترجمة في المغرب (أية وضعية ؟ وأية استراتيجية ؟ ) ، منشورات وزارة الثقافة ، 2003 ،ص 220 ) 10- س. علوش ، م . س. ، ص 236 / 240 11- نفسه ، ص 238 / 239