تحضر الترجمة بقوة في الكثير من مظاهر الحياة اليومية، بدءا من الأوراق والبيانات المصاحبة للأدوية إلى تلك التي تُبيِّن كيفية استعمال الآلات المنزلية والأخبار الصحافية أو التلفزيونية والسينما والمسرح والروايات والنصوص القانونية والتقنية أو الدينية والترجمة الفورية في المؤتمرات وكتب الأطفال... إلخ. يعتبر هذا الحضور الطاغي، في حد ذاته، دليلا على مجتمع مفتوح على رياح العولمة الثقافية واللغوية وتتناسل داخله التبادلات الدولية في مختلف الميادين. لقد أصبحت الترجمة في العصر الحديث ضرورة حاسمة للانفتاح والتطور الذي يمكن لمجتمع ما أن يعيشه في مختلف المجالات التقنية والعلمية والاجتماعية والثقافية، بل أصبحت العنصرَ الحاسم في تحقيق «مجتمع المعرفة»، الذي يستطيع، عبر امتلاك لغات عديدة، تحقيق التنمية، الثقافية والحضارية والعلمية، عن طريق الاطّلاع على ما ينتجه الآخرون. لم تعد الترجمة مجردَ مسألة أسلوبية ولغوية، بل صارت مسألة حضارية وثقافية، بدونها لا يمكن الانفتاح على الآخر ولا معرفته، بقصد التعايش معه. الترجمة كدافع للحضارة لم تكن الكثير من النماذج الحضارية المتقدمة ممكنة بدون الترجمة، لاعتبارات ترتبط أصلا بمتطلبات التطور الحضاري، إذ كلما بلغ هذا الأخير أوجَه، كلما زادت عوامل الانفتاح اللغوي والثقافي على الآخر، المتعدد، وعلى ثقافته، لأن الحضارات المتطورة جدا لا تترجم نصوص ومعارف حضارات أخرى إلا من موقع قوة. لقد كتب غوته، الأديب الألماني في إحدى رسائله الموجهة إلى كارلايل، سنة 8281، قائلا بصدد الترجمة: «مهما قلنا عن عدم اكتمال عملية الترجمة، فإن هذا النشاط يظل، على الأقل، إحدى المهمات الأساسية والأكثر جدارة بالاحترام في سوق التبادل الدولي»... لقد حصل الوعي، منذ البداية، أن الترجمة مسألة لا تتعلق فقط بأذواق وقدرات ورغبات فردية، لأن لها دورا هاما وحاسما في التبادلات الثقافية الكونية وفي جعل المجتمعات والحضارات مُساوِقة لزمنها وفي إغناء أنماط الوجود الاجتماعية، التي تحدد طرق عيشها. تظهر أهمية الترجمة، مثلا، في العالم الحديث من خلال الإحصائيات التي وضعتها منطقة «اليونسكو»، حيث أنتج العالم سنة 2891، على سبيل المثال لا الحصر، مائة وخمسين مليون صفحة مترجمة، مستعملا في ذلك مائة وخمسة وسبعين مترجما محترفا، وتوافق كل ذلك مع رقم أعمال بلغ ثلاثة مليارات. يمكن التذكير، أيضا، بالدور الذي تلعبه الترجمة في السياسة الفرنسية للنشر، عند كل دخولٍ ثقافيٍّ وأدبي. تشير إحصائيات سنة 0991، مثلا، إلى أن عدد الأنواع الأدبية واللغات المترجمة قد بلغ أربعة عشر ألفا، من ضمنها أربعة آلاف كتاب مترجمة، أي نحو ثلث الإنتاج الأدبي والثقافي لتلك السنة. تشير هذه الإحصائيات لوحدها إلى الأهمية القصوى التي تكتسيها الترجمة في حقل التداول الفرنسي، حيث إنها صارت، مع الوقت، إحدى دعائم سياسية النشر التي تؤكد انفتاح الثقافة الفرنسية على مختلف ثقافات العالم، خصوصا مع وجود مترجمين محترفين وميزانيات خاصة بالترجمة، ولولا ذلك لما اطّلع الكثير من القراء المغاربيين على الأدب العالمي، لأن كم المترجَم منه عربيا محدود جدا ولا يرقى، في جودته الترجمية، إلى مستوى الترجمات الفرنسية. الترجمة كنشاط إنساني قديم بالرغم من أن الترجمة نشاط ضارب جدا في القدم، فإنه لا يتم الوعي دائما بأهميتها وثقلها، بل إن دور المترجم، كعامل حاسم في التطور الأدبي، كثيرا ما يتم تجاهله ونسيانه، وهو ما يشير إلى هنري ميشونيك قائلا: «تندغم الترجمة في العمل المتواصل الذي يسهم في تغيير الأشكال الأدبية في مجتمع ما، لكن الإيديولوجيا السائدة وتدريس الأدب أخفيا -ومازالا يخفيان- أهمية الترجمة. تصفحوا الكتب المدرية وسترون ذلك»... إن أغلب هذا «الإخفاء» لدور الترجمة مرتبط بجهل الماضي وعدم معرفة تاريخ الترجمة ودورها الحاسم، بشكل غير مباشر، في تطور ثقافات الشعوب، ويكفي التذكير هنا بأن أوربا، منذ الإمبراطورية الرومانية وحتى الاتحاد الأوربي، ما كان لها أن تصير معولَمة، ثقافيا وحضاريا وتقنيا، وأن تفرض نفسها على الساحة الأممية بدون الترجمة. إن شعوبا وحضارات لا تولي الترجمة الأهمية الجديرة بها داخل منظومة السياسة الثقافية الخاصة بها تظل بمثابة شعوب ميّتة وثقافات جامدة خارج دائرة الإنتاج المعرفي الدولي المتسارع. هناك، بصدد الترجمة، عنصران اثنان إذن: الترجمة كممارسة، كما تطورت وتم إدراكها ووصفها، ثم التنظير لهذه الممارسة وإنتاج علمها الذي يسمى «علم الترجمة». من الضروري، هنا، أن تكون نظرية الترجمة بناء علميا لموضوعها وتفكيرا إشكاليا فيها وفي تاريخها، الذي يحضر بشكل متفاوت النسب والأهمية داخل الإنتاجات النظرية المعاصرة. يكفي القول هنا إن هذا التاريخ غائب في كتب تنظيرية هامة، مثل كتاب دانيكا سيليسكوفيتس «المترجم في المؤتمرات الدولية» أو كتاب موريس بيرنيي «الأسس السوسيو لسانية للترجمة» أو كتاب جان دوليسْل «تحليل الخطاب كمنهج للترجمة» أو كتب جورج مونان وغيرهم. أما البعض الآخر من منظّري الترجمة، فقد اقتصروا فقط على تخصيص فصل أو فصلين من كتبهم لتاريخها، مثل أوجين نيدا في كتابه بالإنجليزية «نحو علم الترجمة»، الذي خصص الفصل الثاني لهذا التاريخ «تقليد الترجمة في العالم الغربي»، ونفس الشيء ينطبق على فيدوروف في كتابه «مدخل إلى نظرية الترجمة» وغيرهما. أما الكتاب الوحيد في هذا السياق، الذي نهض على الإحالات التاريخية لدراسة مسألة الترجمة، فهو كتاب جورج مونان «الخائنات الجميلات»، الذي اعتمد على دراسة الظاهرة التاريخية ليبرهن على القابلية للترجمة، معنى هذا أن الترجمة لم تظل دوما مجرد ممارسة لغوية وثقافية، بل انبرى العديد من الدارسين إلى إنتاج نظرية هذه الممارسة وتاريخها، ولم تكتف مؤلفات هؤلاء بالتنظير، بل انصبّتْ، أيضا، على دراسة حِقب محددة داخل بلد ما، عرفت فيها الترجمة ازدهارا وتطورا كبيريْن، ومن ضمنها كتاب «بعد بابل» للباحث والمؤلف الإنجليزي جورج شتايْنر، الذي قام فيه بتقسيم تاريخ الترجمة إلى أربعة حقب كبرى. لكن هذا التحقيب يظل، في نهاية المطاف، مجردَ اقتراح شخصي، لم يبلور شتاينر براهين وأدلة على رجحانه، إذ غلبت عليه المقاربة الهيرومينوطيقية، التي كثيرا ما استَهْوتْ هذا الأخير، حين تصدى لدراسة ثمانية قرون من التاريخ الغربي للترجمة، في إطار كتلة متجانسة، سيعقبها قرن من الممارسة الهيرومينوطيقية، ثم حقبتان قصيرتان لا تدوم كل منهما أكثر من أربعين سنة. علاقة الثقافة العربية بالترجمة أما في ما يخص علاقة الثقافة العربية بالترجمة فقد تجسّدت، على الخصوص، في القرن التاسع الهجري، الذي عرف بروز عصر ذهبيّ ارتبط بحركة في الترجمة. قبل ذلك، كانت هناك ترجمات من طرف المدارس السريانية، في القرن السابع، لنصوص في الطب والفلسفة اليونانية من طرف مترجمين مسيحيين عرب. برزت الترجمة في الإمبراطورية العربية لأسباب سياسية ترتبط بضرورة إدارة الدولة الجديدة وفرض الوحدة على مختلف الشعوب والأقليات وتعويض اليونانية باللغة العربية في الوثائق الرسمية. لقد ارتبطت الترجمة، إذن، بسياسة التعريب التي لم تنتشر، بعد انتهاء «الغزو» العربي، في كل المناطق بشكل منتظم. عرف العصر العباسي، تحديدا، تطورا لترجمة لمؤلفات فلسفية وعلمية، وهنا لا بد من الإشارة إلى الدور الرئيسي الذي لعبته المكتبات العمومية والخاصة، وخصوصا «بيت الحكمة» في بغداد، إذ انطلاقا من هذه المؤسسة، برزت مدرسة للترجمة ذات هوية عربية، وكان إسحاق بن حنين، الذي كان في آن طبيبا، فيلسوفا ولغويا ومترجما، أحدَ أهمّ المترجمين في ذلك العصر، وقد كان ينتمي إلى قبيلة عربية مسيحية ودرس اليونانية في الإمبراطورية البيزنطية، قبل أن يشغل منصب مترجم في «بيت الحكمة». هنا بالذات في «بيت الحكمة»، ترجم كتب الطب وصار المسؤولَ عن أعمال الترجمة وطبيبَ الخليفة في نفس الوقت. قام ابن حنين بالعديد من الأسفار، بحثا عن مخطوطات يمكن ترجمتها، وقد كان الخلفاء العباسيون آنذاك حريصين على سياسة التبادل الثقافي هذه. لقد قلنا أعلاه إن الثقافات لا تضطلع بمهمة ترجمة معارف الآخرين إلا انطلاقا من موقع حضاري، وقد كانت مدرسة الترجمة المرتبطة بمكتبة بغداد، حينها، مركزا للإنتاج أكثر مما كانت مركزا للتكوين، واهتمت بتخصص المترجمين، حيث يترجم كل واحد منهم في مجال تخصصه بالذات، مع توزيع المهام بشكل دقيق ومنظَّم، خصوصا بصدد نسخ الكتب المترجمة وتجليدها. كان المترجمون، حينها، شبيهين، في تنظيمهم، بطائفة متميزة، فقد انتمى أغلبهم إلى الطائفة المسيحية التي أتقنت، إضافة إلى اللغة العربية، العديدَ من اللغات، كالسريانية واليونانية، لغتي المخطوطات الأصلية، كما كانت مهنة الترجمة حينها متوارثَة بين الآباء والأبناء. لقد كان للمترجمين في مدرسة بغداد وضع اعتباري متميز، إذ كانوا يتقاضون أجرة شهرية مقدارها 005 دينار، إضافة إلى العديد من الامتيازات. وقد اتصفت ترجمات إسحاق بن حُنين بالوضوح التام، لأنها كانت تنجز بهمٍّ تربويّ محض، بحكم أنها كانت موجَّهة لطلاب العلم. إذا كان ذاك هو وضع الترجمة عند العرب قديما، فإن وضعها الراهن في الثقافة العربية يعرف نوعا من الفوضى والانحسار وسوء الاختيار. منذ بداية القرن العشرين، والعرب يحاولون الترجمة عن الثقافة العالمية، دون نجاح كبير، لاعتبارات متعددة. لقد غابت الترجمة كمؤسسة وغابت، أيضا، عن برامج التكوين الجامعي. ينضاف إلى هذا عنصر خطير جدا هو الجمود الذي طال اللغةَ العربية وعدم قدرتها على فرض نفسها على الساحة الثقافية الدولية، باعتبارها لغة ناقلة للمعرفة. إن ارتباط العربية بالإطارات والمرجعيات اللاهوتية والتأويلات الثبوتية لها وعدمَ قدرتها، في كثير من الأحيان، على الانفتاح على مستجَدّات المعرفة الكونية، من فلسفة وعلوم إنسانية وعلوم تقنية دقيقة... إلخ. جعلها غيرَ قادرة على الاضطلاع بمهمة الترجمة. ليس في هذا أدنى تحقير لهذه اللغة، من حيث هي وسيلة تعبير، ولكن اللغة في العمق تترجم، دوما، الوضع الاعتباري الثقافي والحضاري للناطقين بها ولمستعمليها. تفترض الترجمة تطويع اللغة، لتقلي معرفة الآخر ونقل معرفتنا إليه، لكن واقع الحال يقول إن الثوابت والمرجعيات المتعالية والميتافيزيقية التي تسكن العربية، بالإضافة إلى التأخر التاريخي المركَّب، الذي تعانيه إزاء لغات أخرى وثقافات مغايرة، يجعل أمر الترجمة صعبا، ما لم كن مستحيلا. لا يرتبط هذا المأزق بإمكانية الترجمة في حد ذاتها، بل بالعوائق والإكراهات التي تطال الثقافةَ واللغة عند العرب. يكفي التذكير، هنا، بإحصائيات تقول إن كل ما ترجمه العرب، طيلة عقد من الزمن، تترجمه دولة أوربية محدودة السكان، كاليونان، في سنة واحدة!... ثم إن لغة محدودة الانتشار عالميا، كاللغة العبرية، والتي لا يتكلمها إلا بضعة ملايين، تتم ترجمة كَمّ وافر من الكتب إليها سنويا. عدا مشروع الترجمة المصري والإماراتي، لا نجد مشاريع منظَّمة وذات أفق محدد للترجمة، علما أن هذين المشروعين يعرفان الكثير من الأعطاب والحواجز والإكراهات، بدءا بارتباطها بمؤسستين رسميتين تابعتين للدولة، التي تتحكم في اختيار ما ينبغي ترجمته وما يجب رفضه، بناء على معطيات سياسية وإيديولوجية رسمية، أولا وأخيرا، وصولا إلى القيمة العلمية للكتب المترجَمة، عبر اقتطاع فقرات وأجزاء منها، بدعوى أنها لا تتلاءم والثقافةَ الدينية للمجتمع أو أنها صادمة للقيم والأخلاق أو «غير منسجمة» مع السياسة الرسمية... وهو ما يمارسه الكثير من «المترجِمين» العرب، الذين يمارسون، في الحقيقة، دور «الرقيب» لا دور المترجم.
الترجمة كوعاء لممارسة العنف بين اللغات لا يمكن للترجمة أن تتم بدون تعريض اللغة لعنف اللغة الأجنبية المترجَم عنها، خصوصا حين تتم الترجمة من لغة مغايرة في سياقاتها التأويلية ومعجمها وتركيبها اللساني والنحوي للغة الترجمة. هنا بالذات، يقول والتر بنيامين إن مهمة المترجم هي أن يترك بذرة اللغة تنضج على مهل. ليست الترجمة مسألة بسيطة أبدا، لأنها ترتبط بمناطق فكرية ووجودية وبممارسات جماعية وذاتية، لأنها هجرة للنصوص من لغة إلى أخرى، تماما كما هي هجرة للذوات والجماعات من مناطق وجودية وفكرية إلى مناطق أخرى مغايرة. وحين يهاجر النص، يفقد لسانه... لقد أنجزت الحداثة الكولونيالية الغربية تقسيما للعلوم الإنسانية منحت الترجمة موقعا داخله، لأن هذه الحداثة انبنت بالذات على صراع طبقي لا نهائي بين جماعات بشرية وقوميات، يوازيه صراع لغوي بين أقنومات وسنَن لسانية متنوعة، كل واحدة تروم أخذ حصتها داخل «السوق» اللغوية والثقافية الدولية، عبر التنافس. تتموقع الترجمة ،هنا، في نقطة الربط بين ما هو داخلي خاص بجماعة بشرية محددة وما هو خارجي يربطها بجماعات ثقافية وبشرية أخرى، انطلاقا من المبادئ المتناقضة التي تتحكم في مسألة السيادة الوطنية، من جهة، وفي السوق، من جهة أخرى. يبرز، هنا، منطق السيادة داخل بنية محددة للمعرفة، لأن هذا المنطق متعلق بشرعيتها. نرى كيف أن ميتافيزيقا الترجمة، في بعدها المحايث، تجمع بين مناطق جيو -سياسية في العالم وبين التقسيمات الانتظامية الخاصة ببناء المعرفة، لأن المتون القابلة للترجمة ترتبط، عموما، بتصورات وبتمثلات لعلاقة الذات بالآخر لا تُعبِّر عن نفسها بواسطة التخيل واللغة فقط، بل أيضا عبر إطارات معرفية تكون واعية أو لا واعية، وهذا، بالتحديد، ما يجعل الترجمةَ ممارسةً اجتماعية كفيلة بمد الجسور مع الآخر وبالحد من اللغة والعلاقة الصدامية معه، لأنه -بكل بساطة- ممكنٌ تاريخيٌّ... إن السياسة الحيوية للترجمة تتجسد هنا، بالضبط، في العلاقة الدينامية مع «الآخر»، الذي لا يُنظَر إليه كاستثناء أو كممانعة، ومع الذات، التي لا ينبغي تمثُّلها انطلاقا من مركزية لاهوتية ميتافيزيقية، كذات مكتفية بنفسها وهويتها المغلقة. إن مهمة المترجم، هنا، والوضع الاعتباري للغة أساسيان لتجاوز النظر إلى الترجمة كمجرد تقنية أو كتجسيد للهيمنة العالمية...