إن الصحراء الممتدة جنوب المغرب والمعروفة باسم الساقية الحمراء ووادي الذهب لم يعرف عنها عبر التاريخ سوى أنها جزء من كيان الدولة المغربية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصلها عن الأراضي المغربية، فهي مغربية بحكم الجغرافيا والتاريخ، ويعد ارتباطها بالمملكة المغربية ارتباطا أزليا، وحقيقة مطلقة لا تقبل أي تشكيك، على اعتبار أنها مكون من مكونات الأمة المغربية ورافد من روافدها التاريخية. وتستمد مغربية الصحراء مشروعتها من اعتبارات متعددة، إذ لم يعد خفيا على أحد اليوم أو حتى محل جدال حق المغرب الشرعي والقانوني والتاريخي وكذا الجغرافي على كافة مناطقه الصحراوية. وتكتسي قضية الصحراء أهمية بالغة في أجندة المغرب باعتبارها القضية الأولى التي تستأثر باهتمام كافة الفعاليات السياسية والديبلوماسية والحقوقية داخل المملكة، مند انسحاب المستعمر الإسباني من الأقاليم الجنوبية وبزوغ مسألة استكمال الوحدة الترابية. ويعتبر ملف الصحراء المغربية من الملفات التي عمرت لسنين طويلة داخل أجهزة الأممالمتحدة دون أية تسوية نهائية رغم الجهود المضاعفة للمغرب والمبادرات الجادة التي قدمها في عهده الجديد لحل هذا النزاع المفتعل. وقد عرف هذا الملف الذي يعد من أقدم النزاعات الحدودية في القارة الإفريقية مسلسلا طويلا يتراوح بين الجمود في بعض الأحيان والحركية في أحيان أخرى. حيث تساهم المطامع الخارجية في تحريكه وتأجيجه، فلم يعد خافيا على أحد اليوم الدور الذي يلعبه النظام الجزائري في افتعال هذا النزاع وإذكائه، من خلال الدفع بالعناصر الانفصالية إلى إثارة الشغب والقيام بأعمال فوضوية، ولعل آخرها، أعمال الشغب الأخيرة التي شهدها معبر الكركرات الدولي. هذه الأحداث الأخيرة ساهمت بشكل مباشر في إعادة النقاش حول هذا النزاع المفتعل، كما شكلت فرصة مهمة للديبلوماسية المغربية لكسب المزيد من النقط في مسار إيجاد حل نهائي لهذا النزاع، حيث تعاملت معها باستراتيجية هادئة وببعد نظر قادها إلى تحقيق انتصارات سابقة من نوعيها، في مقابل استمرار فشل المساعي الانفصالية المدعومة من طرف الجزائر. إن هذه الأحداث الأخيرة التي عرفتها قضية الوحدة الترابية تجعلنا نتساءل عن سياق هذه التحركات الانفصالية وعن دور الأجندة الجزائرية في تمويلها والدفع بها نحو الواجهة؟ وتجعلنا نتساءل أيضا عن كيفية تعامل الديبلوماسية المغربية مع هذه المستجدات وكيف استطاعت حشد واستقطاب المزيد من الدعم الدولي للموقف المغربي؟ كما تقودنا للوقوف عند مضامين مقترح الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب كحل نهائي لحل هذا المشكل المفتعل؟ سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال ثلاث نقط أساسية: النقطة الأولى: المطامع الجزائرية ودعم أطروحة الانفصال النقطة الثانية: الديبلوماسية المغربية الهادئة ودورها في كسب المزيد من الدعم الدولي والإقليمي النقطة الثالثة: قراءة في مضمون الحكم الذاتي كحل نهائي لقضية الصحراء المغربية 1- المطامع الجزائرية ودعم أطروحة الانفصال إن سعي الأنظمة الجزائرية المتعاقبة على الحكم إلى إقامة دويلة قزمية في الصحراء المغربية له أهداف استراتيجية بعيدة المدى سياسيا واقتصاديا، فهي تسعى إلى إيجاد منفد نحو المحيط الأطلس عبر الصحراء المغربية كما تسعى كلما سنحت لها الفرصة إلى إضعاف وتقزيم مكانة المغرب داخل القارة ومنعه من الامتداد إلى عمقه الإفريقي، حيث ظلت هذه الأنظمة المتعاقبة تطمح إلى لعب الدوري الريادي والقيادي لوحدها في منطقة شمال إفريقيا، وقد زادت مخاوفها بفعل الدينامية الكبيرة التي تعرفها السياسة الخارجية المغربية أخيرا بفعل العودة القوية إلى أحضان الاتحاد الإفريقي وتدشين علاقات جديدة مع معظم دول القارة. هذه الدينامية الأخيرة للمغرب لم تكن مستساغة لدى النظام الحاكم بالجزائر مما جعله يبحث عن كل الفرص لعرقلة هذا التوجه الجديد للمملكة المغربية، ولهذه الاعتبارات اتخذت من قضية الصحراء المغربية ذريعة ووسيلة لعرقلة مصالح المغرب وتحركاته الإفريقية، حيث تحاول كلما أتيحت لها الفرصة تأجيج الأوضاع والدفع بالمليشيات الانفصالية إلى إثارة الشغب بمنطقة الصحراء المغربية. وقد أظهرت أحداث الكركرات الأخيرة انتفاشا سرطانيا للنزوع الانفصالي الذي تغذيه جنرالات الجزائر، حيث وصلت الجرأة بالعناصر الانفصالية إلى توقيف حركة المرور بمعبر الكركرات الدولي وتخربيه بل والقيام بأفعال استفزازية تجاه عناصر القوات المسلحة الملكية. هذه الحركات الانفصالية لا يمكن الحديث عن بمعزل الجنرالات الجزائرية ومطامعها الخارجية حيث تسعى كلما سنحت لها الفرصة إلى تكريس مزيدا من العداء للمغرب وتصريف أزماتها الداخلية الكثيرة نحو الخارج. فالقراءة التاريخية لملف الصحراء المغربية توضح بشكل ملموس دور الجزائر وجنرالاتها في افتعال هذا النزاع، وجعلتنا نستشف عداءها التاريخي للوحدة الترابية وللمصالح المغربية، إذ لم يعد خافيا على أحد اليوم الدور الذي لعبته وتلعبه الأنظمة الجزائرية المتعاقبة في افتعال هذا النزاع وإذكائه بداية، ثم الاستمرار في تغذيته وتأجيجه وتقديم كل الجرعات السامة لاستمراره وتوسيع دائرته. هذا الموقف الجزائري المعادي للمصالح المغربية ولوحدته الترابية تصاعدت حدته أخيرا بالتزامن مع الانتصارات الكبيرة للديبلوماسية المغربية، من خلال الاستمرار في احتضان العناصر الانفصالية وتجيشها بشكل غير مسبوق، والقيام بحملات إعلامية واسعة النطاق في الإعلام الرسمي ضد المغرب ومواقفه الأخيرة، بالإضافة إلى شيطنة بعض الدول الإفريقية وحملها على العداء للمغرب. بل بلغت بهم الجرأة إلى استغلال المؤسسات الدينية ورجال الدين لتمرير خطاب العداء للمغرب والترويج للأطروحة الانفصالية، في سياسة واضحة المعالم لتصريف أزماتها الداخلية والتخفيف من تداعياتها الاقتصادية والسياسية الخانقة التي تعرفها مؤخرا. 2- الديبلوماسية الهادئة للمغرب ودورها في كسب المزيد من الدعم الدولي والإقليمي إن طرح الديبلوماسية المغربية بفضل القيادة السامية لجلالة الملك المبنية على الواقعية والمرونة والهدوء، ساهمت بشكل كبير في الانتصارات الأخيرة التي عرفها قضية الوحدة الترابية، حيث أن التحرك الملكي وحملته الديبلوماسية التي قادها عبر أجهزة وزارة الخارجية أعطت نتائج غير مسبوقة لقضية الوحدة الترابية على المستويين الإقليمي والدولي من خلال مجموعة من المكتسبات أهمها: العودة التاريخية للمملكة المغربية لأحضان الوحدة الإفريقية وكسب ترحيب كبير من قبل معظم الدول الاتحاد. الاعتراف التاريخي للولايات المتحدةالأمريكية كقوة سياسية بمغربية الصحراء وبجدية مقترح الحكم الذاتي. قيام عشرات الدول بسحب وتجميد اعترافها بالكيان الوهمي خصوصا الدول الإفريقية وبعض دول أمريكا اللاتينية. تزايد اعتراف الدول والاتحادات بمغربية الصحراء وتزايد التأييد الإقليمي والدولي بالمبادرة المغربية للحكم الذاتي. قيام العديد من الدول العربية والأجنبية بفتح قنصليات في الأقاليم الجنوبية للملكة. كسب المغرب لرهان التنمية والعدالة المجالية في المناطق الصحراوية، من خلال تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان والحريات العامة. ترحيب المغرب بالمواطنين والأسرى العائدين من مخيمات تندوف واحتضانهم. إن هذه الانتصارات الأخيرة للديبلوماسية المغربية، وما تعيشه دولة الوهم من صرعات داخلية شكل انتكاسة كبيرة للمشروع الانفصالي الذي تدعمه الجزائر بكافة الوسائل والطرق، حيث ظهرت مجموعة من البوادر التي تحي بنهاية أطروحة الانفصال بدأ بالأزمة الداخلية في مخيمات تندوف، وظهور تيارات معارضة داخل الجبهة ترفض النهج التي تسير عليها القيادة الحالية، وعودة العديد من الأفراد إلى أحضان الوطن، وتنامي الوعي داخل الجزائر بلا جدوى سياسة العداء للمغرب حيث ظهرت العديد من الأصوات المعارضة لسياسات القيادات الحاكمة في دعمه لكيان وهمي مقابل تجويع الشعب الجزائري وتعميق أزماته. 3- قراءة في الحكم الذاتي كخيار استراتيجي لقضية الوحدة الترابية يعرف الحكم الذاتي في إطار القانون الدولي العام بأنه "صيغة قانونية لمفهوم سياسي يتضمن نوعا من الاستقلال الذاتي للأقاليم المعنية، لأنها أصبحت من الوجهتين السياسية والاقتصادية جديرة بتسييرها نفسها بنفسها"، ويعرف أيضا بأنه "نظام ينشأ بواسطة دولية، سواء كانت معاهدة دولية تعقد بين دولتين بشأن إقليم خاضع لسيطرتها أو عن طريق اتفاقيات تبرمها منظمة الأممالمتحدة مع الدول الأعضاء القائمة بإدارة الأقاليم الخاضعة لها". ويقصد بالحكم الذاتي الداخلي بأنه "نظام سياسي يرتكز على قواعد القانون الدستوري، أي أنه نظام لا مركزي مبني على أساس الاعتراف لإقليم مميز قوميا أو عرقيا داخل الدولة بنوع من لاستقلال الذاتي في إدارة وتسيير شؤونه تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية". ويعتبر المقترح المغربي للحكم الذاتي مستلهما من مقترحات الأممالمتحدة المتقدمة ومن الأحكام الدستورية المعمول بها في الدول القريبة من المغرب جغرافيا وثقافيا، كما يعد مقترحا استراتيجيا يستند في صياغته إلى الضوابط والمعايير الدولية والعالمية. إن مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب يشكل أحد أهم أشكال التعبير السياسي القومي الذي يمكن بواسطته تنمية التراث الحضاري والثقافي والاقتصادي والسياسي داخل الأقاليم المعنية. وقد حظي هذا المقترح الذي تقدم به المغرب سنة 2007 بإعجاب وتأييد العديد من المتتبعين لملف الصحراء المغربية، باعتباره مقترحا فعليا وعمليا في مسار تسوية هذا النزاع المفتعل، كما حظي باهتمام ودعم مجموعة من الفعاليات الديبلوماسية والسياسية داخل أجهزة الأممالمتحدة وداخل المؤسسات السياسية للدول التابعة لمجلس الأمن، على غرار تأييده من قبل دبلوماسيين وأعضاء بالكونغريس الأمريكي، بالإضافة إلى الاعتراف الصريح والتاريخي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمغربية الصحراء وبجدية الحكم الذاتي الذي اعتبره الحل الأمثل لقضية الصحراء. كما حظي أيضا بتأييد ومساندة العشرات من الدول في مختلف قارات العالم، وبدعم مختلف الأوساط السياسية والفكرية والهيئات الفاعلة في المنتظم الدولي التي تعتبره من أفضل الحلول لجميع الأطراف المعنية بهذا النزاع. ويتركب مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب من ثلاثة محاور رئيسية تتضمن 35 نقطة، خصص المحور الأول منه إلى إبراز مدى التزام المغرب بالعمل على إيجاد حل سياسي ناجع لطي هذا الملف من خلال عشر مواد، بينما المحور الثاني الذي خصص له 16 مادة فقد تم تخصيصه للحديث عن العناصر الأساسية لمقترح الحكم الذاتي، أما المحور الثالث فقد خصصت له 9 مواد، مخصصة للتطرق لمسار الموافقة على هذا المقترح ومستلزمات تفعيل مقتضياته. ويتأسس مقترح الحكم الذاتي على إقامة جهوية ذات طابع خاص بالمناطق الجنوبية، بمقتضاها يتم منح سكان هذه الأقاليم صلاحيات واختصاصات واسعة في الميادين التشريعية والتنفيذية والقضائية لتدبير شؤونهم المحلية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المنطقة وضرورة احترام السيادة الوطنية والوحدة الترابية للمملكة. ويعد أيضا آلية ديمقراطية من شأنه إتاحة الفرصة لسكان الأقاليم المعنية عن طريق مجلس تشريعي جهوي وجهاز تنفيذي وقضاء محلي لممارسة صلاحيات مهمة وواسعة في العديد من المجالات على غرار الإدارة المحلية، الميزانية، الصحة والتعليم، الشغل، الثقافة، والاقتصاد ومجال الاستثمار والصناعة والتجارة، بالإضافة إلى السياحة والفلاحة وغيرها من المجالات بشرط الحفاظ على مقومات السيادة الوطنية واحترام ثوابت المملكة ولا سيما العلم والنشيد الوطني والعملة، والمقتضيات الدستورية والدينية للملك بصفته أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشعائر الدينية والحريات الفردية والجماعية، وكذا الامتثال لمظاهر السيادة الخارجية من أمن ودفاع خارجي ووحدة التراب الوطني والعلاقات الديبلوماسية الخارجية. إن المغرب بتقديمه لمقترح الحكم الذاتي كتصور نهائي لقضية الصحراء يكون قد تصرف وتعهد بالتفاوض بحسن نية وبكل روح صادقة من أجل إيجاد حل سياسي نهائي مرض لجميع الأطراف المعنية، مفوتا بذلك الفرصة على أعداء الوحدة الترابية والأطماع الجزائرية التي تسعى كلما سنحت لها الفرصة في تأجيج الوضع وتغدية هذا النزاع المفتعل خدمة لمصالحها ولأجندتها السياسية. ومن شأن هذا المقترح أيضا أن يخلق جو الاستقرار بالمنطقة وأن يضع حدا للمنظمات الإرهابية التي تنشط في شمال إفريقيا والصحراء الكبرى، كما سيساهم بشكل كبير في إعادة هيكلة الاتحاد المغاربي والدفع به نحو الاتحادات القوية. من خلال ما سبق يمكن القول بأن المغرب بفضل القيادة الرشيدة لجلالة الملك والديبلوماسية الهادئة لوزارة الخارجية استطاع تدعيم طرحه الديبلوماسي في ملف الوحدة الترابية، من خلال كسب مواقف العديد من الدول الكبرى على غرار موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية الأخير وكذا العديد من الدول في مختلف قارات العالم، وبالموازاة مع هذه الانتصارات الخارجية استطاع المغرب أيضا كسب رهان التنمية والعدالة المجالية بأقاليمه الجنوبية، من خلال العديد من المشاريع التنموية والاقتصادية والبنيات التحية التي جعلت من منطقة الصحراء المغربية حاضرة متجددة.