بموقفه الشجاع، المعبر عنه بكل مسؤولية ووضوح، كان بلاغ وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في مستوى الرد المناسب على الأسئلة والإشكالات التي طرحها ويطرحها التوجه الراغب في استقلال إقليم كتالونيا عن المملكة الإسبانية، عبر استفتاء يرمي لهذا الغرض. ففيما كانت الأنظار تتركز على ما ستكون عليه ردود أفعال المجتمع الدولي، لم يتأخر المغرب في الإعلان عن موقفه الصريح الذي أكد على أن "المملكة المغربية الوفية كعادتها لاحترام مبادئ القانون الدولي، تعبر عن رفضها للمسلسل أحادي الجانب لاستقلال كتالونيا، وتشبثها بسيادة مملكة إسبانيا ووحدتها الوطنية والترابية". ولم يفت الرد المغربي، سواء في بيان وزارة الخارجية أو في غيره من التصريحات الرسمية، التنبيه إلى ما ينطوي عليه "المشروع الكتالاني" من عواقب ومخاطر، حيث أضاف بأن "المسلسل أحادي الجانب، غير المسؤول والذي لا يتوفر على مقومات الاستمرار، المعلن عنه، يحمل في طياته عدم الاستقرار والتفرقة، ليس فقط داخل إسبانيا، ولكن في جوارها الأوروبي ". ومعلوم أن الأسئلة التي طرحها موضوع" الاستفتاء" المشار إليه، وما خلفه من تفاعلات سياسية في الداخل الإسباني، هي أسئلة جوهرية وعلى درجة كبيرة من الخطورة، لأنها ترتبط بموضوع احترام سيادة الدول ووحدتها الوطنية والترابية، وتطرح مجددا مسألة المعايير السليمة والشاملة لمبدأ "تقرير المصير"، ومدى مسؤولية المجتمع الدولي تجاه عواقب ومحاولات النزعات الانفصالية، خصوصا في أوضاع دولية وإقليمية يتعاظم فيها حجم الصعاب والقلاقل، بل والكوارث، التي يمكن أن تنجم عن كل ما من شأنه أن يشجع على التفتيت والتجزئة على حساب المشروعية وأمن الدول واستقرارها. وبطبيعة الحال، فإن المملكة الإسبانية، وعندما رفضت الاستفتاء في إقليم كتالونيا، كانت لها كل الحجج والمستندات القانونية والدستورية والقضائية لتبرير هذا الرفض. فزيادة على أحكام القضاء الدستوري والقوانين الداخلية الإسبانية والأوروبية، والقوانين الدولية، هناك أيضا معطيات المشهد السياسي والمؤسساتي في إسبانيا، وكلها عناصر وقرائن ليست إلى جانب الاستقلال أو الانفصال. وأن يكون للمغرب موقفه المبدئي المتناغم مع القانون والشرعية، فهو لا يخفي أنه، من جهته، يواجه محاولة أخرى، شبيهة بما يراد لكتالونيا، وتستهدف وحدته الترابية وأقاليمه الجنوبية المسترجعة، حيث تسعى جماعة انفصالية إلى زرع كيان وهمي عن طريق الابتزاز والترهيب. ومن المفارقات الرهيبة أن تتواصل محاولات الجماعة الانفصالية، التي تستهدف الأقاليم الصحراوية المغربية، والحال أن المغرب بدوره له كل الأدلة والمصوغات القانونية والتاريخية التي تفند مطامع الانفصال وأطروحة محركيه. فمن قرار محكمة العدل الدولية إلى روابط الانتماء والبيعة، إلى الأعراف والقوانين الدولية، ومن قرارات المنتظم الأممي إلى الواقع على الأرض، حيث ساكنة الأقاليم الجنوبية تمارس حياتها اليومية، وتدبر شؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بصورة طبيعية وفي إطار من التلاحم التام مع باقي جهات المملكة. وباستحضار تسلسل الأحداث لابد أن يستوقفنا تزامن أجواء القلق التي خلقها "الاستفتاء الكتالوني" مع المناقشات التي كانت تجري داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، بخصوص النزاع المصطنع حول الأقاليم الصحراوية المغربية، حيث أجمعت جل مداخلات الخبراء الدوليين، أمام اللجنة الرابعة الأممية، على اعتبار مقترح الحكم الذاتي، الذي تقدم به المغرب منذ 2007، هو الحل الأنسب لتجاوز هذا النزاع المفتعل، وتخطي القوالب الجامدة التي تعود إلى مرحلة الحرب الباردة، وأزمنة أنظمة الانقلابات العسكرية. الأكثر من ذلك، أكدت هذه المداخلات على أن مشروع الحكم الذاتي يعد بمثابة المشروع العادل والمرن والمتبصر، وذلك على اعتبار أن المقترح يندرج في إطار بناء مجتمع حداثي وديمقراطي يقوم على الحريات الفردية والجماعية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن زاوية التطلع لتحمل الجميع لمسؤولياته، يكون من الطبيعي ترقب المزيد من ردود الفعل اتجاه الأعمال والمشاريع الانفصالية، وربما أن "حالة كتالونيا" تطرح أيضا سؤال مسؤولية المجتمع الدولي "وبخاصة مكوناته الفاعلة والديمقراطية" المفروض أن له دوره الأساسي في التصدي لكل الظواهر والممارسات الماسة بسيادة الدول وبوحدتها، وكل التداعيات الناجمة عن تهور وعبث بعض الجماعات الانفصالية التي لا تأبه بالأعراف والقوانين الدولية وبأمن الشعوب ووحدة بلدانها. وفي هذا الباب، وبخصوص ما ينتظر من المنتظم الدولي، يبدو أن المواقف المعبر عنها، على المستويين الإقليمي والدولي، تعكس وجود إرادة واضحة، لدى مختلف الأطراف الدولية، إفريقيا وعربيا ودوليا، وهذا ما لوحظ، أيضا خلال مداخلات الدول العربية والإفريقية في مناقشات اللجنة الرابعة للجمعية العامة الأممية، حيث عبرت دول عربية وإفريقية عديدة عن دعمها لموقف المغرب ومقترحه الإيجابي المتمثل في مشروع الحكم الذاتي لإنهاء النزاع المفتعل حول الصحراء. أما على الصعيد الدولي فقد كانت ردود الفعل الرافضة للمساس بالوحدة الترابية لإسبانيا، كافية للتأكد من أن التوجه الجديد للمجتمع الدولي واضح في رفضه لكل المحاولات والدعوات الرامية إلى تمزيق وحدة الدول، ولعل أسطع مثال هو الموقف الصارم والحاسم للاتحاد الأوروبي الذي رفض رفضا قاطعا إقحامه في أي نقاش أو "حوار" في موضوع إقليم كتالونيا. وفي المنطقة المغاربية، كان من اللافت، أن هذا الاتجاه الدولي الصاعد قد عرى في نفس الآن التناقضات الصارخة والفجة في مواقف بعض الأطراف التي ماتزال تدافع عبثا عن الأطروحة الانفصالية لجماعة البوليساريو، ومنها بالذات هذه الأخيرة وحاضنتها الجزائر، إذ وجدت الدبلوماسية الجزائرية نفسها في ورطة سياسية لما لاحظت كل الأوساط السياسية والدبلوماسية أنها لم تبد أي شكل من "المساندة" لمبدأ تقرير المصير في قضية كتالونيا، بخلاف ما هو معروف عليها من "كرم وسخاء" اتجاه حالة البوليساريو، حيث هي حريصة دائما وأينما وجدت على خوض معارك "دونكيشوتية" من أجل "نصرة المبدأ"، كما أن جماعة البوليساريو نفسها قد وضعت نفسها "خارج التغطية"، وبهذا السلوك، الغارق في التناقض والانتهازية والكيل بمكيالين، يكون حريا بالجزائر أن تستفيق من أحلام الأزمنة الغابرة، وأن تعيد ترتيب أوراقها وفق حقائق العصر التي دفعت المجتمع الدولي إلى رفض الانسياق مع الفوضى والمشاريع العبثية، وإلى التصدي لمختلف أشكال العنف ومخاطر الانفصال والتمزقات التي تتهدد سلامة الشعوب وأمن واستقرار الدول. وإذا كانت القراءات والتحاليل الإعلامية ترى بأن المواقف الدولية المعبر عنها في قضية الإقليم الإسباني، تفيد ضمنيا الطرح المغربي في قضية الصحراء وتدعم موقفه، فإن ذلك هو الأمر الطبيعي والمنسجم مع الحقائق الواقعية، ومع القوانين الدولية، ومع عناصر الملف، ومنها: * أن الصحراء المغربية هي إقليم مغربي أصيل، تماما كما هو إقليم كتالونيا بالنسبة للمملكة الإسبانية التي ترفض انفصاله أو المساس بإسبانيته. * أن كل النقاشات والمحاولات التي عرفها ملف الصحراء داخل أروقة الأممالمتحدة، بعد كل هذه السنوات لم يكن هناك طرح لفكرة الانفصال، بل إن مجلس الأمن، ومنذ سنة 2008، تبنى توصية تقول بالحرف إن "استقلال الصحراء الغربية ليس خيارا واقعيا ولا يمكن تحقيقه". * أن المغرب لما يطرح مقترح الحكم الذاتي يتقدم بصيغة تسوية لا تقف إيجابياتها عند إنهاء النزاع المفتعل، بل إنه بهذا المقترح يساهم أيضا في إعانة المجتمع الدولي على الحد من مخاطر اهتزاز الأمن والاستقرار في كل مناطق المعمور. وإذا كان من المعروف أن المغرب لا يكتفي بالتعبير عن المواقف، فإن "نازلة" كتالونيا في أوروبا، واستمرار سلوكات الاستهتار في منطقتنا المغاربية الإفريقية، أمران يدعوان المجتمع الدولي، الحريص على احترام المشروعية، إلى بلورة المواقف وترجمتها إلى أفعال.