تابعتُ بالصدفة، منذ أيام، برنامجا حواريا بإحدى الإذاعات، حاول ضيوفه تحليل تحولات العالم ما بعد كورونا، جل مداخلاتهم لم تخرج عن نطاق ثقافة العناوين التي أبانت عن نقص كبير في مواكبة الأبحاث والإصدارات التي تنتج في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتحاليل المواكبة لجائحة كورونا من طرف مثقفين وباحثين كبار في العالم؛ فردد ضيوفه الجامعيون في ثوان محدودة اسم فوكوياما وعنوانه الشهير نهاية التاريخ، دون أن يستطيعوا تقديم عرض ولو موجز للمفهوم وسياقه ومنطلقاته في تحليلهم لعالم بعد كورونا، وهم يجهلون أن العنوان الذي رددوه يعود إلى سنة 1992 أي إلى حوالي 28 سنة، وأن فوكوياما نفسه انقلب على أطروحته وصححها منذ 2002 بصدور كتابه "ما بعد نهاية الإنسان"، وفي 2006 بإصدار كتابه "أمريكا في مفترق الطرق"، إضافة إلى كتاباته وحواراته الإعلامية التي نشرت شهورا قليلة قبل اجتياح وباء كورونا للعالم وتفاقم الأوضاع الاجتماعية في أمريكا. إن الفكرة الأساسية التي بنى عليها فوكوياما Francis Fukuyama أطروحته في كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" هي أنه بعد مختلف مراحل التحول والانتقال التي عرفها تاريخ المجتمعات وأنماط الإنتاج والأنظمة الاقتصادية، وبعد نهاية مرحلة الحرب الباردة والقطبية السياسية والاقتصادية بسقوط جدار برلين، فالتاريخ سيتوقف عند النموذج الليبرالي واقتصاد السوق المحرر لكل مقدورات وفرص الإنتاج والمعمم للديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان وفق النموذج الأمريكي. لكن فوكوياما عاد في بداية الألفية الثالثة لنقد أطروحته حول نهاية التاريخ والتوقف عند تطورات الأوضاع في العالم، خاصة بعد أحداث 11 شتنبر 2001 التي نزعت عن النموذج الأمريكي هيبته وكشفت هشاشة اختياراته الاقتصادية في النمو، وتراجع ديمقراطيته المصابة بعطب نتيجة سطوة المال والإعلام ولوبيات السوق، وحجم الفوارق الاجتماعية وضعف الدخل الفردي وانتشار البطالة في صفوف شرائح واسعة من الأمريكيين؛ ثم خلال تحليله ونقده سنة 2019 لاكتساح النماذج الشعبوية للحياة الاجتماعية والسياسية في أوروبا وأمريكا، وتصاعد المجموعات الهوياتية الصغرى والخطابات اليمينية المحافظة في دول عديدة، وتقوية الأنظمة الشمولية خاصة في الصين، واستشراء الفساد وضعف الحكامة في العديد من الدول السائرة في طريق النمو، مما يتأكد معه استحالة تحقيق التوافق الكامل حول اقتصاد السوق ووقوف التاريخ عند النموذج الليبرالي الأمريكي. كما توقف فوكوياما في السنوت الأخيرة عند تطورات البحوث العلمية والبيوتقنية، والصراع بين القرار السياسي وعمل شركات المختبرات، وتأثيرها على الفكر الاقتصادي ونمط الإنتاج وعلى الوضع الديمقراطي في المستقبل، مؤكدا أن التاريخ لم يكتمل بعد؛ بل الأرجح أن نهاية الكائن البشري والحياة الطبيعية وشيكة بالإعداد لما بعد البشري post-humain، وأن الديمقراطيات وحقوق الإنسان مهددة، والأوضاع الاجتماعية مفتوحة على الفوضى والصراعات في المستقبل. فقد أثار الانتباه إلى أن الخطر المقبل والمحدق بالديمقراطية وبالكائن البشري هو البيوتقنيات biotechnologie Laالتي تسعى إلى تغيير وتعويض الطبيعة البشرية، والتي ستقضي على فرص العدل والمساواة بين البشر وحقوق الإنسان؛ فالتقدم في البحوث البيوتقنية والاستفادة من المنتوجات والتحضيرات التي ستقدمها المختبرات والشركات سيحسم في تحديد مستقبل البشرية وحياة الأفراد والمجتمعات، وواقع الديمقراطية وحقوق الإنسان، أكثر من إشكال توفير الغذاء والتعليم في المستقبل، مما سيؤدي إلى نشوب صراعات دموية بين الشعوب في المستقبل، كما نبه إلى ذلك. فوكوياما تحدث عن أربعة مجالات بيوتقنية ستكون لها نتائج وخيمة على الحياة السياسية والاجتماعية ومستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان: أولها التحضير لتغيير التركيبات الجينية والتحكم الجيني في السلوك البشري بشكل صناعي بعد أن كان ذلك يتم عبر الثقافة؛ والثاني يهم البحث "النوروصيدلي" الذي يسعى إلى إنتاج أقراص وأدوية تمكن من التحكم في السلوك والتركيبة النورولوجية والفعل الفيزيولوجي؛ الثالث يهم البحث المخبري الذي يسعى إلى إنتاج مواد للتأثير في مدى الحياة والأعمار، مما ستكون له نتائج وخيمة على السير الطبيعي للحياة واختلاف الأعمار وتعاقب الأجيال وعلى التوازن الاجتماعي. أما الرابع فيهم التحضير لمنتوجات وأدوية للتأثير في جودة الإنجاب وتعديل الخصائص الجينية حسب الطلب والإمكانيات المادية، مما ستنتج عنه التفاوتات الجنسية وصراعات قاتلة في المستقبل. لا شك في أن العالم مفتوح على العديد من الاحتمالات في المستقبل، وأن جائحة كورونا والأحداث التي تعرفها أمريكا ستكون لها تداعيات كبرى على الاقتصاد العالمي وعلى النموذج الليبرالي وعلى الأوضاع السياسية والاجتماعية؛ وهو ما يتطلب، خاصة بالنسبة إلى الدول التي تتلمس مستقبلها وطريق تنميتها واستقرارها في عالم متحول وسوق شرسة، مثل المغرب، العمل على خلق التوازن بين قانون السوق ومصلحة الدول والشعوب وسيادتها الوطنية، وبين العولمة الاقتصادية والكرامة الاجتماعية، وبين سلطة المال ودور الدولة وحماية حقوق الإنسان، وبين البحث العلمي المخبري وحاجيات الكائن الإنساني في احترام لطبيعته البشرية، ورد الاعتبار إلى الثقافة والسياسة النبيلة، ثم كما يقول فوكوياما، رد الاعتبار إلى القرار السياسي وسلطة الدول والشعوب في مراقبة حرية السوق وحاجياتها من البحث البيوتقني وتجارته التي ستكون معولمة وكاسحة في المستقبل.