” اللاّيقين : ذلك هو المبدأ الذي يحكم سير العالم من الآن فصاعدا“ بهذه المقولة المستعارة يستهل الباحث المغربي د. محمد السعدي كتابه القيّم حول " أطروحات لفهم العالم الجديد"، أو عالم الفراغ الإستراتيجي الموسوم بتفكك بنية التوازنات و سيادة نظام الأحادية القطبية (UNI-POLARITY (. تزامن صدور هذا الكتاب بالضبط مع أحداث 11 سبتمبر الأليمة و كأنّ الحدس "السياسي" لمؤلفنا و تقديره الموضوعي لمسار "اللانظام الدولي" الناشئ و "الفوضى العالمية" القائمة في عالم ما بعد الحرب الباردة (POST COLD WAR) قد تنبأ بما ستسفر عليه هذه الأخيرة من قلاقل و تصدعات هزّت، بشكل عميق، "إستقرار" الحياة الدولية. أقول هذا و أنا أستحضر ما قام به الأستاذ السعدي - في حينه- من إثارة علمية دقيقة و معالجة عميقة لأطروحات نظرية في حقل العلاقات الدولية الجديدة ( أطروحة نهاية التاريخ، صدام الحضارات و براديغم الفوضى و ما يصاحب ذلك من حديث 'النهايات'...) التي جاءت تدّعي القدرة التنظيرية في فهم النظام العالمي الجديد و تحليل بنية العلاقات الدولية المعاصرة. و بغض النظر عن الخلفية الإيديولوجية التي تتحرك في إطارها هذه البراديغمات الجديدة- و التي لا يخفى على أحد ميلها المطلق للرؤية الإستراتيجية الأمريكية- ، فإن صاحب الكتاب لا يتوانى، و منذ البداية، في إتهام هذه الأخيرة بالقصور المعرفي و النسبية المطلقة في القدرة على استيعاب تام للمعطيات الجديدة و الحقائق المتجددة الناجمة عن التطورات و المتغيرات الدولية الراهنة. I- أطروحة " نهاية التاريخ" The End of History / يرى الأستاذ السعدي أن فكرة "نهاية التاريخ" ليست فكرة حديثة، بقدر ما رافقت – على الدوام- تطورالفكر الإنساني على مرّ العصور. و ذلك لأن حلم بناء مجتمع متكامل و خال من التناقضات الإيديولوجية و الإجتماعية هو حلم بات حاضرا في أدبيات الكثير من الأنسقة الفكرية و المذاهب الفلسفية القديمة منها و الحديثة : ليس بدءا بفلاسفة الهند القديمة في إطار نظام الفئات المغلقة و ليس إنتهاءا بهيجل و ماركس وبعض أفكار المدارس و التيارات المعاصرة. و بعد التأكيد على قدم هذه الفكرة، يقول السعدي : ” يعتقد فوكوياما أنه بسقوط الأنظمة الفاشية و النازية ثم الأنظمة الشيوعية مع نهاية هذا القرن، يكون الصراع التاريخي بين اللبرالية و الإشتراكية قد انتهى بانتصار الفكر اللبرالي الذي أصبح يشكل الطور النهائي للصراعات الإيديولوجية في العالم. و بالتالي أصبح النموذج و المثال الأكثر جاذبية لكل الفضاءات السياسية، الإقتصادية و الإيديولوجية . و لهذا يعلن فوكوياما "نهاية التاريخ" مع الإنتصار الكوني و الشامل للديموقراطية الليبرالية عبر العالم باعتبار ذلك يشكل المعنى الأسمى للتاريخ“ (ص: 16). و ما دام أن التاريخ عند فوكوياما يمتاز بطابع الكونية، فإن صاحب النظرية جاء يبشّرنا بقدوم دولة عالمية منسجمة لن تعرف تناقضات كبرى و تحقق الإنسانية فيها شكلا مجتمعيا يستجيب لكل رغباتها الأساسية. كما يؤكد في نفس السياق على عدم حدوث أي تطور نوعي فيما يخص المبادئ و المؤسسات و القيم المتحكمة في المجتمعات الليبرالية الحالية. و يعتبر أن الأصوليات الدينية و التيارات القومية تحديان ثانويان للنظام الليبرالي. إلا أنه يركّز بالخصوص على الإسلام باعتباره أشد الأنظمة أوتوقراطية في التاريخ الحديث.الشئ الذي يجعل "الأصوليون الإسلاميون"- حسب المفكر طبعا- ينددون باستمرار بالنفوذ المتزايد للقيم الغربية. و بصدد الجذور الفلسفية لأطروحة "نهاية التاريخ" يرى الأستاذ السعدي أن فوكوياما شأنه في ذلك شأن باقي الخبراء في الأوساط الفكرية الغربية، يستحضر الكانطية الجديدة New- Kantism و الهيغيليانية الجديدةNew- Hégélianism للتنظير للثورة النيو-لبرالية بعد مرور قرنين على الثورة الفرنسية، بما يعنيه ذلك من استلهام لمفاهيم "الحرية الإنسانية" و " السلام العالمي الدائم"و" الرفاه الإقتصادي" و" الديموقراطية" و غيرها من المقولات التي تؤثث لبنية الفلسفة الغربية الحديثة. و في هذا العصر، عصر الإنسان الأخير، سيكون التفاعل الإقتصادي بين الدول هو محور العلاقات الدولية بين دول ما بعد التاريخية.. و نظرا لأهمية الإقتصاد سوف تفقد الأبعاد الإستراتيجية و العسكرية قيمتها في عالم ما بعد التاريخ...بينما العالم التاريخي فسيعرف صراعات دينية و قومية و إيديولوجية تحكمها سياسات القوة و السلاح بالدرجة الأولى. أما العلاقة بين العالمين التاريخي و ما بعد التاريخي فسيشهد تفاعلات صدامية ناجمة بالأساس عن البترول و الهجرة و التهديدات المحتملة للنظام العالمي و للدول الغربية بفعل الإنتشار الكبير للتكنولوجيا العسكرية. و بعد هذا السرد لأهم ما جاء في أطروحة فوكوياما ينتقل المؤلف إلى الكشف عن بعض الأساطير المؤسسة لهذه النظرية واصما إياها بتكريس المركزية الغربية و مصادرة حق الشعوب و الحضارات في الإختلاف و اختيار المصير.. يقول السعدي في هذا السياق : ” لنتذكر أن الثقافة الأمريكية ثقافة مرتبطة بالمكان و الجغرافيا و ليس التاريخ. فالولاياتالمتحدةالأمريكية لا تمتك حسا تاريخيا و لا ذاكرة تاريخية. لذلك من الصعب على الكثيرمن المفكرين إدراك معنى التاريخ الشامل للبشرية و جدلية الحضارات و دوريتها عبر التاريخ و إمكانية إنبعاثها لإعادة تشكيل فضاءاتها الثقافية بشكل مخالف للغرب“ (ص: 33). ليخلص في الأخير إلى أن ” نهاية التاريخ تعني الإنقياد وراء الإنسان ذو البعد الواحد و إلغاء"الآخر" في الحضارة الإنسانية..لكن ديكتاتورية الخيار الواحد لن يكون لها مستقبل في عالم تتعدد فيه الرؤى و الثقافات“ (ص:34). ІІ- أطروحة " صدام الحضارات" The Clash of Civilizaions/ جاء في كتاب د.السعدي ما يلي : ” إن أطروحة صدام الحضارات هي بمثابة صياغة جديدة و حديثة للعلاقات الدولية تطرح العامل الثقافي كمبدأ محرك للجيواستراتيجية العالمية و موازين القوى الجديدة“ (ص:45). و إذا كان هنتغتون يعتقد أن للحضارات طبيعة جوهرية تتحدد و تتكون من مجموعة من عناصر مشتركة ( اللغة ، التاريخ المؤسسات، الدين..) فإنه ينظر إلى الحضارة الغربية كحضارة فريدة تتمركز حول مجموعة من المكونات الموضوعية التي تتجلى في التراث التقليدي- الذي يشمل كلاّ من الفلسفة الإغريقية و العقلانية و القانون الروماني و اللاتينية و المسيحية- و اللغات الأوروبية و العلمانية و الفردانية و المؤسسات التمثيلية . و يعتقد المفكر الأمريكي أن الحضارة ستحل محلّ الدولة القومية في الهيمنة على مسار السياسة الدولية. هكذا سيصبح الإعتبار الثقافي و الإنبعاث الهوياتي مند بداية التسعينات هو العامل الحاسم – حسب هنتغتون- في تحديد التحالفات عوض العوامل الكلاسيكية الإقتصادية و الجغرافية. و بالنسبة للعوامل التي تعزز مدى حضور براديغم ' الصدام الحضاري' في تحديد طبيعة النزاعات القادمة فيلخصها الأستاذ السعدي فيما يلي: - الإختلافات بين الحضارات هي اختلافات حقيقية و أساسية. فالحضارة هي أقوى الهويات و التمايزات الحضارية هي أكثر حدة من التمايزات الأيديولوجية و السياسية. - إن كثافة التفاعلات و الإحتكاكات بين الحضارات المختلفة قرّب بعضها من بعض و هذا ما أدّى إلى تنامي الوعي الحضاري عبر إدراك الإختلافات العميقة بين مختلف العلاقات و الشعور بالإنتماء الحضاري المشترك داخل الحضارة الواحدة. - التحديث الإجتماعي، الإقتصادي و الثقافي الذي انتشر في العالم بأكمله منذ النصف الثاني من القرن العشرين خلق رغبة ملحة لدى الشعوب لتجديد ثقافاتها و تعبئة دياناتها قصد تأكيد استقلالها الثقافي عن الغرب. - صعود النزعة الإقليمية الإقتصادية على شكل كتل جهوية اقتصادية، و ثمة علاقة تفاعلية بين الإندماج الإقتصادي وواقع الإنسجام الثقافي... فالجهوية الإقتصادية الناجحة ستدعم الوعي الحضاري. - تنامي الشعور بالتمايز الثقافي و الحنين للعودة إلى الجذور الحضارية لدى الحضارات غير الغربية بعد اكتساح الغرب للفضاءات الثقافية الأخرى. - إن التمايزات و الإختلافات الثقافية هي غير قابلة للتغير و التحول و غير قابلة أيضا للتسويات عكس الإختلافات السياسية و الإيديولوجية و الإقتصادية. - الصدام الحضاري في شكله العنيف سيكون نتيجة للتراجع الديموغرافي للغرب مقابل الحيوية الديموغرافية المتزايدة في الجنوب خصوصا في العالم الإسلامي. و باختصار- يقول الباحث- فإن أهم النزاعات في المستقبل ستندلع على طول الحدود الثقافية الفاصلة بين الحضارات و البؤرة المركزية للصراع ستكون تتيجة للتفاعل بين الكبرياء الغربي و اللاتسامح الأسلامي و الرغبة في تأكيد الذات من جانب الصين. لكن هنتغتون يرى أن الحضارة الغربية حضارة فريدة و ليست كونية كما يفنّد الفكرة الخاطئة و الشائعة في الغرب، و التي مفادها أن العالم برمّته يسير نحو ثقافة عالمية شاملة و منسجمة بقيادة الغرب، و ذلك لأن التحديث الإقتصادي ليس هو هو التغريب الثقافي..لأن الدول غير الغربية لا يمكن أن تتخلى عن قيمها الخاصة لترتبط بالقيم و المؤسسات الغربية بالسهولة التي يتصورها البعض..( فمثلا، في مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان سنة 1993 ظهر تكتلان : تكتل الدول الأوروبية و الأمريكية الشمالية المدافع عن كونية حقوق الإنسان و إطلاقيتها و تجاوزها لكل الحدود الجغرافبة و الثقافية المختلفة و تكتل من حوالي 50 دولة غير غربية تطالب بنسبية حقوق الإنسان و ضرورة احترام الخصوصيات الثقافية و الهويات المحلية..). و في ظل هذا العالم المتعدد الحضارات، يقترح هنتغتون على الغرب الحفاظ عل تفوقه العسكري و عدم الإسترخاء و تعزيز الأندماج السياسي، الثقافي و الإقتصادي بين أوروبا و الولاياتالمتحدة و استقطاب شعوب باقي الحضارات للإندماج في الثقافة الغربية. و إذا كان الصراع بين الحضارات يتفاوت في حدته، فإن الصراع بين الحضارة الإسلامية و باقي الحضارات يتسم بالعنف و الدموية. و بخصوص الأهداف الإستراتيجية للأطروحة، يرى الباحث أن هذه الأخيرة جاءت لملأ الفراغ الإستراتيجي و الفكري قصد توجيه صانعي السياسة الإمبريالية في الإتجاه الذي يخدم المحافظة على القيادة الأمريكية للعالم و حماية مصالحها و الحيلولة دون صعود قوة هيمنية سياسية وعسكرية في أوروبا و آسيا. كما أن هذه الأطروحة- يضيف السعدي- هي محاولة لصياغة دور استراتيجي جديد للولايات المتحدة لفترة ما بعد الحرب الباردة، يلائم و يتوافق مع مصالحها القومية و يستجيب للمتغيرات الدولية الجذرية. و حسب الدكتورالسعدي دائما، فإن هاته الأطروحة تقدم أهم مجهود في الفكر الجيو-استراتيجي تمت صياغته بعد سياسة الإحتواء لجورج كينان عام 1947. ІІІ- براديغم " الفوضى" The Anarchy/ يقول ذ. السعدي :” حسب المدافعين عن أطروحة الفوضى، فإن النظام الدولي يفتقد شيئا فشيئا قدرته على حفظ النظام و إدارة علاقات القوة و إنتاج نموذج معياري له قدرة على فهم الأداء الفعلي للتفاعلات الدولية“ (ص: 75). و يسترشد الباحث ب" علم الإنتقالية" الذي يعتمد دعاته على مجموعة من المبادئ، من بينها كون الفوضى العالمية ليست سوى حالة غير طبيعية و أن النظام الدولي هو دائما نظام توازني قائم على "الضبط الذاتي" و قادر بالتالي على استيعاب و تجاوز الإضطرابات و الإختلالات التي تشهدها لعبة الأنسقة و الأنظمة المشكلة لهذا النظام. و في المقابل، يرى بعض المنظّرين، أن حالة الفوضى التي تطبع العالم اليوم حالة طبيعية، و ذلك ببساطة لأن الهجرات و الصراع و الحروب، أمست دائما حاضرة في العلاقات الدولية على مرّ تاريخ المجتمعات الإنسانية. بل و يذهب هذا البعض إلى القول بأن اللانظام الذي يتبدى للمتتبع هو نظام في حد ذاته وإن كانت معالمه و محدداته من طبيعة معقدة و مختلفة. و في هذا الإطار، يرى بيير هاسنر في مرحلة ما بعد الحرب الباردة بوادر أولية لرجوع قرون وسطى جديدة. ويتمظهر ذلك من خلال : سقوط مبدأ الشرعية و القانون و انهيار السلطات المركزية و سيادة القانون، التسلط و العنف. أضف إلى ذلك اهتزاز القيم و سيادة الرأسمالية المتوحشة، الفردانية، نبذ العنف، رفض الآخر و عودة النعرات القبلية و الإثنية (...). أما بالنسبة لجون كريستوف روفان فيتحدث في كتابه" الإمبراطررية و البرابرة الجدد"-1991- عن الإنقسامات الجديدة لعالم ما بعد الحرب الباردة، و يشبهها بالإنقسامات التي سادت العالم في العصر الروماني خلال القرن الثاني قبل الميلاد.بل و ثمّة من الأصوات ما يدعو إلى إعادة إستعمار جديد للعالم "الثالث".. مثل الخبير الأمريكي وليام بفاف و المؤرخ الإنجليزي بول جونسون الذي يدافع بحماس شديد وصراحة وقحة عن الإيديولوجية الإستعمارية و الإمبريالية الجديدة. الكتاب الذي بين أيديكم، أيها القراء الأعزاء، عبارة عن دراسة علمية قيّمة تستحق القراءة و المطالعة.. دراسة غنيّة و ثريّة بمعطيات أكاديمية مهمّة حول واقع العلاقات الدولية الجديدة في عالم يسود فيه و يحكم "رعاة البقر" الذين يتحكمون في مصائر الأمم و رقاب "البشر"، وذلك في إطار نظام عالمي أحادي القطبية رغم ما تعاكسه من "تحديات" آسيوية و منافسة أوروبية و "مشاكسات" أمريكا اللاتينية، و غيرها من القوى الإقليمية الصاعدة و الساعية نحو إعادة إحلال التوازنات المأمولة في الساحة الدولية.