في أعقاب انهيار «المعسكر الاشتراكي» وحل الاتحاد السوفييتي، ازدهر خطاب ظفراوي في مجتمعات الغرب الرأسمالي، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية على وجه التحديد، دارت موضوعاته «النظرية» حول كونية القيم الليبرالية في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، ووحدة العالم –بعد انقسامه- في نظام جديد يعيد تأسيس العلاقات فيه على مقتضى المنافسة وتبادل المنافع بعد إذ كان الصراع سمة تلك العلاقات الأوحد أو الأظهر. وفي امتداد ذلك كله، كرت سبحة النصوص التبشيرية ب«العهد الجديد»: عهد انتصار «اقتصاد السوق» على الاقتصاد الموجه، وانتصار الديمقراطية على الكلاّنية (التوتاليتارية)، وانتصار فكرة الفرد على فكرة الجماعة (الطبقة، الأمة...)، وانتصار فكرة المجال التجاري الدولي الحر والمفتوح على فكرة الحدود القومية والاستقلال الاقتصادي، ثم انتصار فكرة أولوية «القانون الدولي» على فكرة القانون الوطني وحرمة السيادة الوطنية، وفكرة «الأمن العالمي» على فكرة الأمن القومي... إلخ. ثم لم تلبث هذه الأفكار أن خرجت من بين جدران مراكز الدراسات الاستراتيجية ومعاهد البحث –ومعظمها مرتبط بوزارات الخارجية أو الدفاع أو الاستخبارات – ومن بين جدران بعض الجامعات الغربية إلى الصحافة والإعلام، لتنتقل سريعا من أفكار نخبة إلى أفكار «جماهيرية»! من المفارقات أن آخر رئيس سوفييتي (ميخائيل غورباتشوف) كان في عداد من قدموا مساهمتهم مبكرا في إنتاج مفردات سياسية ومفاهيم جديدة تقدم الإيحاء بأن عالما جديدا سيخرج من جوف حقبة الصراع الدولي والاستقطاب السياسي والإيديولوجي، وسيكون الاستقرار والسلم والشراكة في المنافع وفي القرار من سماته الرئيسية. ولقد كان مفهوم «توازن المصالح» من بين أهم ما كان في الترسانة المفاهيمية ل«البيريسترويكا» الغورباتشوفية جذبا للانتباه في الغرب (جنبا إلى جنب مع مفهوم «إعادة البناء» الذي تحول إلى اسم حركي مستعار للهدم والتدمير!). فقد عنى التوازن –أو الدعوة إليه- طيا لصفحة الصراع على المصالح مع المعسكر الإمبريالي، مثلما عنى أن يكون توازنا للمصالح تخليا عن هدف –أو عن طلب – توازن القوى. وهكذا قدم غورباتشوف مساهمة ثمينة في تضليل قسم كبير من العالم من خلال إعادته إنتاج الصورة النمطية عينها التي قدمها الغرب عن قيمه السياسية والاقتصادية أمام ممانعة سوفييتية وصينية وعالمثالثية مديدة! سيشهد الخطاب الظفراوي الغربي انعطافته الكبرى على صعيد صياغته النظرية مع فرنسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ». ومع أن موضوعات الكتاب وما ذهب إليه من استنتاجات تبدو عادية في السيرة الذاتية للفكر البرجوازي المعاصر (انتصار الليبرالية على الفاشية والنازية أولا ثم على الشيوعية ثانيا، وانتصار الرأسمالية واقتصاد السوق، وسقوط أية فكرة كبرى تحرّك التاريخ بعد ظفر الليبرالية). ومع أن الكتاب بدا، في أجزاء كثيرة منه، تسجيليا استعراضيا يدوّن يوميات ووقائع سقوط الأنظمة غير الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وجنوب أوربا (إسبانيا، البرتغال واليونان) وشرق أوربا وجنوب شرق آسيا، ووقائع صعود النخب الليبرالية إلى السلطة...، إلا أنه صيغ بقدر هائل من التأصيل النظري والفلسفي للموضوعات التي كان بصدد الدفاع عنها على نحو افتقر إليه الفكر الغربي الرسمي منذ ريمون أرون في فرنسا قبل عقود. لكن الأهم في أطروحة فوكوياما حول «نهاية التاريخ» -وربما بسبب تماسكها النظري- أنها أوحت بفتح مسلسل للتفكير في «نهايات» أخرى جديدة يهمنا منها -هنا- تلك الأزعومة التي راجت عن «نهاية الإيديولوجيا». تحدث الاستراتيجيون طويلا عن حدث انهيار «المعسكر الاشتراكي» والاتحاد السوفياتي من زاوية أنه يؤذن بانتهاء ظاهرة الصراع العسكري والإيديولوجي في العالم –الذي انقسم سابقا إلى شرق وغرب- ليفتح الباب أمام أنواع جديدة من الصراعات: الاقتصادية، التّقانيّة والعلمية، الصراع على احتكار المعلومات.. إلخ. ولقد أغرى الحديث عن زوال الصراع بين معسكرين بافتراض مفاده أن ظاهرة الإيديولوجيا ستؤول -هي نفسها- إلى زوال. فإذا كانت الإيديولوجيا تعبيرا عن نظام اجتماعي –اقتصادي، فإن زوال هذا النظام يستتبع زوال الإيديولوجيا التي تؤسس له أو تترجم مصالحه. وما دام النظام الاشتراكي –تقول هذه «الأطروحة»- قد تداعى وآل إلى زوال، فإن الإيديولوجيا الماركسية، الناطقة باسمه، مآلها إلى النهاية بالتَّبعَة. ثم لم تلبث «الأطروحة» أن عمّمت «استنتاجاتها» لتصدر نعيها لكل إيديولوجيا. ولقد وصفنا «أطروحة» «نهاية الإيديولوجيا» -في كتاب لنا صدر في التسعينيات- بأنها هي الأخرى أطروحة إيديولوجية، منتقدين ما سميناه إيديولوجيا «نهاية الإيديولوجيا». ولم نلتفت في هذا النقد إلى وجه إيديولوجي واحد من هذه «الأطروحة» هو صمتها عن وجود أو بقاء إيديولوجيا أخرى لم تنته –بافتراض أن غيرها انتهى- هي الإيديولوجيا الليبرالية (الأمر الذي ينسف دعواها)، وإنما انصرفنا أيضا إلى بيان تهافت هذه الأزعومة من الزاوية النظرية الفلسفية، مشدّدين على حقيقة التلازم بين الوجود الإنساني وبين الإيديولوجيا بما هي نمط من أنماط التعبير عن ذلك الوجود، وبما هي إفصاح عن التدفق اللامتناهي للأفكار والقيم الكبرى حتى في تعبيرها الطوبوي، ثم بما هي ترجمة لتنازع المصالح الذي لا يمكن أن يزول في أي مجتمع أو عالم، فكيف إذا كان المجتمع والعالم محكوميْن بالنظام الرأسمالي وعلاقة الاستغلال الوحشي، التي تترك خلفها الملايين من المحرومين والمهمشين، كما هي حالها اليوم ومنذ مئات السنين! ولأن حبل الإيديولوجيا الليبرالية قصير، فلم ننتظر طويلا حتى انقطع مدى مزاعمه؛ فما هي غير أشهر على ازدهار أزعومة «نهاية الإيديولوجيا» حتى كان صمويل هنتنغتون يعيد الحديث في الموضوع إلى مساره فيؤكد، من خلال دراسته الشهيرة عن «صدام الحضارات»، على أن الصراعات القادمة ستكون ثقافية ودينية وحضارية، أي إيديولوجية.