فرضية الدور الإيدولوجي والثقافي في انهيار المعسكر الشرقي عوَّضتْ هذه الحرب الإيديولوجية عن المواجهة العسكرية بين المعسكرين، ولعل ذلك كان في جملة وظائفها الثانوية أو الجانبية. وكما كان التوازن قائما على صعيد القدرات الإستراتيجية والنووية بينهما، كذلك كان التوازن الإيديولوجي قائماً بينهما. وكما مَنَعَ التوازن الأول نشوب حربٍ مدمّرة بين المعسكريْن، كذلك منع الثاني من تحقيق أي من الفريقين انتصاراً حاسماً في المنازلة الإيديولوجية على الآخر. ولقد كان هذا التوازن في نسبة القوى الإيديولوجية حصيلة الأوضاع التي كانت عليها أدوات ووسائل التوزيع الإيديولوجي أكثر ممّا ترجمتْ نسبة القوى -أو ميزان القوى- بين الإيديولوجيتين، فلربّما كانت الفكرة الاشتراكية أدعى إلى الإغراء في الغرب وخاصة حينما «تأمَّمت» في إطار الشيوعية الأوربية ولم تعد سوفييتية أو مُسَفّيَتَة. غير أن الأدوات- أدوات توزيع ونشر الخطابات الإيديولوجية- كانت هي نفسُها ومُتَاحَة للفريقين: الكتاب والمجلة والإذاعات الموجّهة من الجانبين، وبعضٌ قليل من البث التلفزي للتخوم أو للمناطق التي تقع - من الجانبين- في مدار الإرسال التلفزي. تلك كانت سمات طَوْرٍ من الصراع الإيديولوجي بين فكرتيْن ومعسكريْن طيلة معظم حقبة الحرب الباردة وإلى حدود النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين الماضي. بعد هذا التاريخ، سيتغيّر مشهد ذلك الصراع لأن المعطيات ستتغيّر، ولأن أدوات التوزيع الإيديولوجي نفسها ستتغيَّر. سَنَلِجُ منذ ذلك الحين عصر الثورة التِّقانية الجديدة: تِقَانَة المعلومات والإعلام الفضائي، وعصر العولمة ولقد أطلقهما الغرب ابتداءً في معترك المواجهة مع الاتحاد السوفييتي قبل أن يذهب «إلى رحمة الله»، بل هو قضى نَحْبَه بتأثير ذلك عليه. يتصل انهيار الاتحاد السوفييتي، في وجهٍ من وجوهه، بالأثر الحاسم للصراع الإيديولوجي الذي نشب بين منظومته والمنظومة الرأسمالية العالمية، وللتطورات التي طرأت على ميزان القوى فيه بفعل نجاح المعسكر الغربي في تجديد وسائل المواجهة الإيديولوجية وأدواتها في مقابل قصورٍ سوفييتي في إعادة تأهيل منظومته الإيديولوجية ومجاراة الغرب في تطوير وتجديد الوسائل. ولقد كتب كثيرون عن ذلك الانهيار متجاهلين الأثر الذي كان للعامل الإيديولوجي فيه، منصرفين- كليّة تقريباً- إلى البحث في أثر العوامل الاقتصادية والسياسية في ذلك الذي جرى وأفضى إلى زوال الاتحاد السوفييتي. وهو اختيار في التحليل مشدود إلى فكرة تقليدية ومبسَّطة عن الإديولوجيا قوامُها تبعيَّتُها للعوامل المادية أو اتصال فاعليتها وتأثيراتها بفاعلية العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية وتأثيراتها. ولقد كنا دعونا، منذ سنوات عديدة، إلى ما أسميناهُ بالتحليل الثقافي لانهيار المنظومة «الاشتراكية» في ذروة الاحتفال الجماعيّ بأمر العوامل غير الثقافية (وغير الإيديولوجية) في تفسير ذلك الانهيار. وقصدنا بالدعوة حاجتنا إلى الانتباه إلى مفعول الضغط الإيديولوجي في وعي من وَقَعَ عليهم وهزَّ ثقتهم بنموذج الحياة لديهم بحسبانه لا يقل وطأةً عن مفعول هزيمة الجيوش في الحروب أو شعور المجتمع والشعب بثقل تلك الهزيمة نفسياًّ. وكانت الفرضية الضًّمْنيّة التي حَكَمَتْ قراءاتنا للحدث- وما تزال كذلك- هي أن شرعيةَ أيًّ نظامٍ سياسيّ أو اجتماعي-اقتصادي تتوقف، في جانب كبير منها، على وجودِ قدرٍ كبير من الرضا الاجتماعي (الشعبي) به وليس على القبول الاضطراريّ به تحت وطأة السيطرة السياسية لطبقةٍ في السلطة. وقد استفدنا من كتابات غرامشي وألتوسير وپولانتزاس (4) درساً في معنى الهيمنة وفي وظيفة الأجهزة الإيديولوجية للدولة في تحقيق تلك الهيمنة، وفي القيام مقام الأجهزة القمعية في إنتاج وإعادة إنتاج علاقات السيطرة / الخضوع من دون إحداث عنفٍ في مَن يقع عليهم فعلُ الإخضاع. أمّا حين يَعْجز نظامٌ عن أن يستحصل لنفسه شرعيةَ البقاء-لِخَلَلٍ في هذه الوظيفة التي تنهض بها الممارسة الإيديولوجية- يَدبُّ الشرخ في شرعيته أمام مواطنيه، وقد يقودُه ذلك إلى الانهيار. ولقد انهار الاتحاد السوفييتي لهذا السبب. غير أنه سيكون علينا أن نفهم هذا الانهيار بمعنًى مختلف عن الذي يُفيده القول السابق بأن الشرخ في شرعية النظام يردّ إلى الوهن في أدائه الإيديولوجي. فالاتحاد السوفييتي لم يكن عشية سقوطه قد عانى من عطل بنيويٍّ أو حادّ في اشتغال نظامه الإيديولوجي الداخلي. فقد كانت المؤسسات والأجهزة الإيديولوجية للدولة (المدرسة، الصحافة، إعلام الدولة والحزب، العائلة المتشبعة بالقيم الاشتراكية، مؤسسات التعبئة والتثقيف في الحزب الشيوعي...) تشتغل بانتظام وبعضها بكفاءة. لكن نقطة ضعف الدولة (والمجتمع) كانت عدم القدرة على حماية الأمن الثقافي والسيادة الإيديولوجية للبلد أمام اختراقٍ إيديولوجي غربيّ حادّ بدأت موجاتُه الجديدة في التدفق على نحوٍ نوعي منذ نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين الماضي لِتَجْرف الدفاعات الإيديولوجية التقليدية السوفييتية. وكان الإعلام السمعي-البصري تلك الأداة التي حصل بها الاختراق بعد إذْ دَخَل طوْرَ ثورةٍ تِقَانية حوَّلته إلى مادةٍ قابلة للاستخدام من الفضاء. من النافل القول إن التفسير الاقتصادي أو السياسي أو الاستراتيجي لانهيار الاتحاد السوفييتي لن يُلْقِيَ بالاً إلى مثل هذا التحليل الثقافي الذي يشدّد على حقيقة الأدوار التي كانت للهجوم الإيديولوجي- الثقافي الغربي في تفكيك الاتحاد السوفييتي وبلدان شرق أوربا، أو - على الأقل - في تفسيخ العلاقات الداخلية فيها ورفع درجة النقمة الاجتماعية من النموذج «الاشتراكي» في السياسة والاقتصاد... وفي الحياة. غير أن الذي لا يستطيع ذلك التفسير أن يتجاهله هو أن الاتحاد السوفييتي لم يسقط بحربٍ خارجية ولا بثورة سياسية داخلية ولاَ وصلت به أوضاعُهُ الاقتصادية المتهالكة إلى مجاعات تطلق انتفاضات شعبية (دعْكَ من أن انهياره الاقتصادي بدأ مع سياسة «الإصلاح» الغورباتشوفية وليس قبل ذلك). أي أنه لا يوجد مبرِّر لاستبعاد فرضية الدور الإيديولوجي والثقافي في ذلك الذي حصل. قامت المحطات والقنوات الإعلامية الغربية الموجَّهة إلى الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية بما لم تَقْوَ على القيام به جيوش حلف شمال الأطلسي والمخابرات الأمريكية والحصار الاقتصادي. لقد دخلت برامجُها ونشراتها الإخبارية وتحقيقاتُها المُعَدَّة بعناية وأفلامها الوثائقية وموجات الغناء الغربية والأفلام السينمائية، وما تحمله هذه جميعُها من مضامين، إلى كل بيت مُخاطِبَةً شعوراً عامّاً بالحرمان: الحرمان من الحريات الفردية، والحرمان من الروح الاستهلاكية، والحرمان من إشباع المطالب الغرائزية. كانت الرسائل الإيديولوجية الغربية المحمولة على صهوة الإعلام تخاطبُ مجتمعاً مختلفاً في منظومة القيم، لكنه يعاني من عدم إشباعِ كثيرٍ من الحاجات البيولوجية والنفسية العادية في مجتمعات الغرب. وقد أتقنت مخاطبةَ غرائز الناس فيه من خلال بثّ روح الاستهلاك فيهم والتَّفَنُّن في بيان جاذبية وإغراء السلع الاستهلاكية المختلفة: من المأكل والملبس إلى المُقْتَنَيَات الصناعية والإلكترونية وسواها. وكم كان مثيرا مشهد طوابير الشباب المصفوفة أمام محلاّت بيع الوجبات الخفيفة الأمريكية (الرديئة بامتياز) في موسكو وغيرها. والأكثر إثارة أسعارها العالية التي لا تتحملها القدرة الشرائية للمواطنين! ماذا يمكن أن يكون ذلك إن لم يكن نجاحاً في اختراق النسيج الاجتماعي إيديولوجيا - بواسطة أدواته الإعلامية الجديدة- وفي ممارسة التأثير الحاسم في القيم والأذواق على نحوٍ يضع الناس أمام خصومةٍ يومية مع نمط الحياة الأصليّ الذي هُمْ فيه؟ ماذا يمكن أن يعني (ذلك) إن لم يكن يعني أنه بقدر ما كانت فكرة الحياة الليبرالية تنمو في وجدان المجتمع، بمقدار ما كان هذا الأخير يفقد ثقته بنموذج الحياة «الاشتراكية» ومَا ومَن يَرْمُزُ لها؟ ماذا نقرأُ فيه سوى أن سلطان الاشتراكية في النفوس بدأ يتداعى أمام إغراء وجاذبية «المثال» الاجتماعي والحياتي الذي يقدّمه الغرب؟ وسريعا تحوَّل «الإصلاح» الغورباتشوفي من مطلب سياسيّ حملتْهُ نخبةٌ «إصلاحية» في الحزب والدولة وحظيَ باستقبال شعبيّ عارم، إلى حائلٍ جديد دون الانتقال الكامل إلى ضفاف الليبرالية و-بالتالي- إلى هدفٍ ينبغي الانقضاض عليه من قِبَل القوى الاجتماعية والاقتصادية والشعبية التي كانت مأخوذة بمثالٍ ليبرالي غربي لم تَعِشْهُ أو تتذوَّقُه في وطنها كي تستطيب مذاقَهُ فيزيدُ طلبُها عليه، وإنما أتاها من فوق: بإسقاطٍ مظليّ من الأقمار الصناعية معلَّباً في الصُّوَرِ، المتدفقة من غير انقطاع! لا نبغي القول إن العامل الإيديولوجي كان العاملَ الرئيسَ في إسقاط النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي ونظائره في أوروبا الشرقية، أو أن هذا النظام كان قادراً على الاستمرار والبقاء على قيد الحياة على الأسس ذاتها التي تهشَّمتْ؛ وإنما نَرُومُ القولَ إن هزيمتَه في المعركة الإيديولوجية العالمية - في عصر الثورة العلمية والتِّقانية الجديدة- قادتْه إلى حالٍ من الانكشاف، وأفقدتْه قوته المعنوية ومرجعية نموذجه الاشتراكي أمام الشعب، وفتَحَتِ الباب أمام جرعةٍ عالية من الاعتراض المجتمعي عليه كانت للتحريض الإعلاميّ الخارجي يدٌ في الكثير من فصوله ووقائعه.