أطباء بالقطاع العام يضربون ل3 أيام مطالبين الوزارة بفتح باب الحوار    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    نُبْلُ ياسر عرفات والقضية الفلسطينية    المغرب يحتل المركز الثاني في كأس أمم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية بين المغرب والاتحاد الأوروبي    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    ذكر وأنثى فقط.. ترامب يتعهد بوقف جنون التحول الجنسي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    أسرة المدرسة العليا للتربية والتكوين بجامعة ابن طفيل تستنكر "المس بالأعراض" الذي يتعرض له بعض أطر المؤسسة    الإيليزي يستعد للإعلان عن الحكومة الجديدة    الكرملين ينفي صحة تقارير إعلامية تركية عن حياة الأسد وزوجته بموسكو    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استراتيجية الرَّدع
العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة والاستقرار الدولي
نشر في العلم يوم 11 - 07 - 2008

في أتون الظروف العصيبة التي يمر بها العراق الجريح، لم تخبُ إبداعية الإنسان العراقي، ولم تتوقف عن العطاء. فمن أحدث ما أصدرته الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب للدكتور سوسن العساف هو في أصله أطروحة علمية بعنوان «استراتيجية الردع، العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة والاستقرار الدولي» ويتألف من 464 صفحة من القطع الكبير. وقد قسمته صاحبته إلى خمسة فصول: الأول عن «الردع: دراسة في المفهوم»، والثاني عن «استراتيجية الردع بعد انتهاء الحرب الباردة»، والثالث عن «العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة للقرن الحادي والعشرين»، والرابع عن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: المضمون - الآليات - النتائج - الآثار»، والخامس عن «استراتيجية الردع الأمريكية واستقرار النظام الدولي الجديد: رؤية مستقبلية». وكل فصل من هذه الفصول يحتوي على محاور تفصيلية وفق منهجية حددتها المؤلفة بقولها: «فرضت طبيعة الموضوع ذات الصلة الوثيقة بجوانب التحليل النظري البحت وتطبيقاته العملية في العلاقات الدولية اعتمادا مباشرا على المنهج التحليلي التاريخي والنظمي كأساس متين لعرض مشكلة البحث ومناقشتها والبرهنة عليها في ترابط منهجي بين المنطلقات
والافتراضات النظرية وأسانيدها وبين دلالاتها على الصعيد العملي» (ص 20).
كما توصلت الباحثة إلى استنتاجات حاولت أن تصب في خدمة المسيرة البحثية العلمية للإفادة القصوى، في خضم الظروف والمتغيرات الدولية الجديدة، وأثرها في الإصرار الأمريكي على قيادة العالم المعاصر، وما العراقُ إلا جزءٌ أساسي منه، من غير أن ننسى أن الهيمنة المزمعة تستدعي المقاومة حتما، ومن جميع الأطراف الدولية حتى العودة لنظام دولي جديد متوازن ومتكامل يسند بعضه بعضا وصولا إلى استقراره (ص 23).
وأما إشكالية هذه الدراسة فتكمن في أن استراتيجية الردع الحالية عملت على إلغاء أو تضييق الحدود الفاصلة بين الدفاع والهجوم، فلا يمكن الآن التمييز في سلوك القوة العظمى المهيمنة بين دفاعها (إذا ما كان هجوما) وهجومها (إذا ما كان دفاعا). وهذا ما يسبب إشكالية ليس على المستوى السياسي في التعاطي مع هذا السلوك دوليا فحسب، بل إشكالية حتى على المستوى النظري الذي يتطلب البحث والتطبيق، وعلى المستوى العملي في تحديد المستوى المطلوب من الردع أيضا، واختيار الأدوات والأساليب المناسبة لتحقيقه، والتي تصب في معادلة التوازن بين الانتشار العالمي وتكلفته عن طريق القيام بضربة استباقية، وهي تظرية تستمد أساسها الفكري من مبدأ الهجوم هو خير وسيلة للدفاع لاستباق الفعل العدائي الرامي إلى زعزعة هيكل القوة في النظام العالمي لتحاشي فكرة الانتظار، بل الأخذ بالمبادرة وتوجيه الفعل الوقائي بمجرد الإحساس بوجود خطر ينتظر وقوعه مستقبلا، وهو ما يجعل من الاستقرار في النظام الدولي، سواء في المدى المنظور أو المتوسط، شيئا بعيد المنال. مفهوم الردع:
تحدد المؤلفة المعنى البسيط للردع في العلوم العسكرية والاستراتيجية، بأنه محاولة طرفٍ ما منع طرف آخر من الإتيان بفعل يرى الطرف الأول أنه ضارٌّ به، أو يجده ضروريا لمنع الطرف الآخر من أن يفكر بالقيام بعمل ما، أو الإتيان بتصرف أو سلوك معيّن يمكن أن يشكل تهديدا لمصالحه أو لأهدافه أو لموقعه أو لمكانته، وغير ذلك... وقد حاولت الباحثة من خلال الأقسام الثلاثة في الفصل الأول إدراك مفهوم الردع بشيء من التفصيل، مع مقارنته مع المفاهيم والمصطلحات الأخرى التي تصب كلها في الجانب الاستراتيجي العسكري، ثم التطرق لشروط الردع وأشكاله ومستوياته، ومناقشة استراتيجيات الردع الأمريكي في الحرب الباردة، وخلصت إلى أن الردع يرتكز على أساسين: الأول نفسي (يرتكن للعقل) والثاني عسكري (يرتكن للقدرة وقابلية الانتقام). ويقوم الردع على أربعة مظاهر تكمن في:
1- الردع بالعقاب: بتهديد الخصم بعقاب قاسٍ إذا ما أقدم على إجراءات يعارضها الطرف الذي ينوي الردع.
2- الردع بالحرمان: بحرمان الخصم من استخدام قوته المتاحة، أي إقناعه بأن الذي عزم على ردعه مُحصَّنٌ لدرجة تجعله يقتنع بأن ما يمكن أن يقدم عليه لا يحقق المكاسب التي توازي خسائره.
3- الردع بالمكافأة: بإغراء الخصم بأنه إذا ما أحجم عن اتخاذ إجراءات غير مرغوب فيها فإنه سيتم تقديم مكافأة له.
4- الردع بالتطمين: أي تطمين الأطراف الأخرى وإقناعها بالنوايا السلمية ما يعمل على تخفيف مخاطر استفزاز الآخرين وحملهم على عدم استخدام العنف دفاعا عن النفس، من دون أن يعني ذلك التخلي عن استخدام الوسائل الأخرى.
وأوضحت الباحثة أن الردع يبقى مفهوما قاصرا عن تحقيق المقاصد التي تهدف إلى تحقيقها الدول أو أي كيان آخر، ما لم يتم اعتماد آلية لوضعه موضع التنفيذ والإفادة، ويتم ذلك من خلال اعتماده كاستراتيجية، وبالتالي فاستراتيجية الردع هي الآلية التي توضع فيها وسائل الردع موضع التطبيق، أي توظيف ممكنات الردع على المجابهة Confrontation في المستوى العملياتي، وقد فرقت المؤلفة بين ا لردع وبعض المفاهيم الأخرى (الأزمة والحرب والإرهاب)، وبينت شروط الردع وأشكاله ومستوياته. فشروطه الأساسية هي القدرات والمصداقية والعقلانية والمعلوماتية وخبرة الردع. وأما مستوياته فهي: الردع التقليدي، والردع فوق التقليدي والردع النووي. وأما أشكال الردع من حيث عدد الأطر اف الداخلة فيه فهي: الردع المتعدد الأطراف، والردع الثنائي الجانب، والردع الأحادي الجانب، وعن هذا الشكل تقول الدكتورة سوسن العساف: «وعليه فإننا وجدنا أن الردع الأحادي الجانب استراتيجية أمريكية تناسقت وتناغمت لتحقيقها جملة مسائل، ولعل في مقدمتها الردع النووي الذي لم يعد يشكل الوسيلة الوحيدة للقوة الرادعة الأحادية الجانب، بل إن الولايات المتحدة قد بدلت استراتيجيتها
العالمية والكونية كي تتلاءم مع الواقع الجديد، ولجأت بذلك إلى وسائل وأساليب عديدة» (ص 73) أهمها: الانتفاح المتقدم ويعني تمركز قوات متوازنة للولايات المتحدة في نقاط بؤرية تشتمل على قوات برية وبحرية وجوية قادرة على الفعل في المكان أو الاتجاه المحدد، ثم القدرة على الإنزال بحرا بقوات متوازنة فاعلة في أماكن ومناطق تبعد كثيرا عن الولايات المتحدة الأمريكية، ثم التقدم التكنولوجي وتوظيفه وأخيرا اعتبار الاستباق وسيلة مهمة من وسائل الصراع. وتطرقت الباحثة - بعد ذلك - لاستراتيجيات الردع الأمريكي في الحرب الباردة بالشكل النظري، مع إيراد بعض الأمثلة التاريخية لكل استراتيجية، من أجل إيضاح طبيعة تطور الفكر الاستراتيجي الأمريكي وفق هذه الأسس:
1- استراتيجية الحصر والاحتواء.
2- استراتيجية الرد الشامل (الانتقام).
3- استراتيجية الحرب المحدودة.
4- استراتيجية الرد المرن (الردع التدريجي).
5- استراتيجية مبادرة الدفاع الاستراتيجي (حرب النجوم).
- استراتيجية الردع بعد انتهاء الحرب الباردة:
لخّصت المؤلفة المتغيرات الدولية في بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم في انحلال الاتحاد السوفياتي وتفككه، وزيادة دول النادي النووي (تعدد القوى أو الأطراف النووية)، والثورة في قضايا الشؤون العسكرية والتكنولوجية. وعلى الرغم من عمق هذه المتغيرات وسعتها إلا أن تأثيرها المباشر وتداعياتها كانت في استراتيجية الردع، والتحولات الحاصلة عليه بإدراك جديد لمضمونه وآليات جديدة حوّلت مفهوم الردع من الهجوم إلى الدفاع وفق أسس النظام الدولي ومرتكزاته، وسلوك الولايات المتحدة الأمريكية فيه. ولتفصيل القول في كل هذا، قدمت الباحثة تعريفا لمفهوم المتغيرات الدولية باعتبارها مخرجات وانعكاسات للتفاعلات السياسية المغذية للنظام الدولي، من قبل فواعله الأساسية (الدول وغير الدول)، والتي بدورها تحدد أنموذج النظام الدولي.
وركزت على متغيرين رئيسيين هما: تعدد القوى النووية، حيث قدمت نبذة عن أهم القوى النووية الأساسية في النظام الدولي وقدراتها النووية، وما مدى تأثير ذلك في السياسة الأمريكية واستراتيجيتها القريبة والمستقبلية،(2) الثورة في التكنولوجية العسكرية حيث يمثل التطور العلمي والتقني عنصرا مهما في تحديد مستوى القدرات الوطنية ومستقبلها، وقد أدى الاتساع المتزايد لإنجازات التكنولوجيا وتعدد استخداماتها إلى تأثيرات كبيرة في هيكلية النظام الدولي وقيمه، وفي سيادة الدولة وعملية صنع القرار لديها. وظهرت المؤشرات الأولى لدخول تحولات مهمة في الفكر والعمل الاستراتيجي العسكري الأمريكي عقب حرب الخليج الثانية مباشرة، وتحصر التحليلات العسكرية الأمريكية مكونات الثورة في الشؤون العسكرية ضمن أربعة مجالات متشابكة ومعقدة هي: الدقة المتناهية في التصويب، حرب المعلومات، المناورة المتفوقة، التفوق في قراءة فضاء المعركة. تقول المؤلفة: «وعليه يمكننا القول إن الثورة في التكنولوجيا العسكرية باتت تُعدُّ من أهم المتغيرات الدولية الجديدة لتواصل سيادة الولايات المتحدة في ظل مسألة تعدد الأقطاب في العالم، فهي حقيقية واقعية في حدها
الأدنى المتصاعد، وأن الذي يجب إدراكه من فهم استراتيجية تعدد الأقطاب، في المرحلة اللاحقة، أنها لا تعني فقط وجود أقطاب أخرى في العالم إلى جانب الولايات المتحدة، ولا تعني فقط أنها عملية ديناميكية معقدة أو بالغة التعقيد، ولكنها تعني كذلك أنها تأتي على حساب الاستراتيجية والمكانة والمصالح الأمريكية. فبعدما كان الصراع بين القوى الصاعدة في العالم والقوى المهيمنة صراع وجود في العالم الثالث والهيمنة عليه، اختلف الوضع بظهور قوة الصين وتصاعد القوة الأوروبية التدريجي وبروز الهند وباكستان وكوريا الشمالية وإيران، إذ بات الصراع أساسا في مواجهة النفوذ والهيمنة والقوة الأمريكية، وهذا ما يدعو الأخيرة لأن تجعل من الثورة في الشؤون العسكرية (ثورة التكنولوجيا) مقدمة للألفية القادمة، ليستمر النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في تفوقها وهيمنتها على العالم في المجالات كافة»! (ص 138). وترى المؤلفة أن الردع وماهية رسالته يقصد به أن يفعل بين قوتين نوويتين موازيتين ومتوازيتين، وبهذا ستكون رسالة الردع واضحة مفهومة ومدرَكة، ولكن الإشكال يبدأ عندما تظهر قوة ثالثة تؤثر بالقطع في حالة التوازن بين
القوّتين الأساسيتين، وسيعمل كلٌّ منهما باتجاه كسب هذه القوة إلى جانبه أو الحد من تأثيراتها السلبية في الأقل، وزيادة تأثيراته السلبية في الطرف المقابل، وستعمل هذه القوة النووية الثالثة التي تُعدُّ واهنة بالقياس إلى القوتين الكبريين لتوظيف خيارها النووي بهدف الوصول لربح استراتيجي يتعلق بقدراتها ولصالحها على الساحة العالمية. وتؤكد المؤلفة أن الكيان الصهيوني لا يربط قدراته النووية واحتفاظه برادِعِه النووي بسعي أطراف أخرى في المنطقة لامتلاكه، وإنما بواقع سياسي تسعى لفرضه من خلال رادعها النووي. وما هو أكثر من ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن الضغط على إسرائيل لإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل كما أرادت الأقطار ا لعربية ذلك من خلال أعمال مؤتمر مراجعة معاهدة منع الانتشار عام 1996 قد يضر بعملية السلام ذاتها، وبذلك فإن أثر القوة النووية لإسرائيل واضح في امتلاكها لطرفي المعادلة (التقليدية) و(النووية) في الشرق الأوسط، فهي تتمتع بتغاضي الولايات المتحدة الأمريكية عن نشاطاتها النووية التي أدى الطرف الأول دورا بارزا في خلقها وعدم السماح بمناقشة موضوع السلاح النوري لدى إسرائيل ولا حتى
محاولة استخدام المساعدات السخية للتأثير فيها لكي تنضم لمعاهدة منع انتشاره ثانيا، ومن ناحية أخرى تحويل القنبلة النووية الإسرائيلية التي ترغب الولايات المتحدة الأمريكية بالإبقاء عليها من دون استخدامها أو الإعلان عنها إلى أداة بارعة بيد إسرائيل لضمان أن الولايات المتحدة سوف تحافظ على التزامها بضرورة تفوق إسرائيل في القدرات التقليدية على مجموعة من الخصوم الإقليميين، واستنتجت الدكتورة سوسن العساف أن بروز قوى نووية أخرى على الساحة سيدفع الأطراف النووية الأساسية لاحتواء الخيار النووي الطارئ وتقليل آثاره السلبية كلها بالنسبة إليه، ومحاولة توجيه هذه الآثار السلبية للطرف المقابل. ثم تطرقت إلى التحولات الحاصلة في استراتيجية الردع بعد الحرب الباردة (الردع من الدفاع إلى الهجوم)، وحللت ثلاثة أنواع من الافتراضات بهذا الخصوص: افتراضات زوال الردع بزوال القطبية الثنائية، وافتراضات استمرار الردع في ظل القطبية الأحادية، وافتراضات استمراره في ظل قطبية متعددة بقيادة الولايات المتحدة. وختمت هذا التحليل بقولها: «ومن كل ما تقدم نرى أن السياسة النووية الأمريكية الجديدة تقوم على أساس الردع، حيث أكدت عدم مصداقية
تآكل نظرية الردع، بل جعلت منها آلية جديدة أسهمت في التطور الجديد للاستراتيجية الأمريكية الجديدة، بحيث جعلت نظرية الردع تقوم على أساس امتلاك قدرات هجومية ودفاعية متنوعة كافية لعدول أي قوى مناوئة للتفكير في مهاجمة الولايات المتحدة، وليس بالاعتماد على السلاح النووي وحده وإنما اللجوء إليه كحل أخير. ولكن احتمالية استخدامه موجودة في مواقف معينة بشكل فعلي، أما حالة التلويح به والتهديد فهي قائمة لا محالة، ولاسيما أن المبررات والتبريرات الأمريكية لسياستها وأفعالها حيال العالم تعتمد بشكل كبير على هذا الأمر» (ص 156 - 157).
العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة للقرن الحادي والعشرين
تؤكد المؤلفة في بداية الفصل الثالث عن «العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة للقرن الحادي والعشرين» أنه ليس من دولة في العالم تؤدي فيها ا لمؤسسة العسكرية دورا بارزا في عملية صنع السياسة الخارجية مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن السبب الرئيسي، خصوصا في ذلك، هو طبيعة الدور الذي تمتعت به الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كإحدى القوتين العظميين في العالم آنذاك، والمسؤولة عن مواجهة القوى العظمى الأخرى في كل مكان من العالم، فضلا عن مواصلة سباق التسلح بينهما لإحراز التفوق فيه. فكان للمؤسسة العسكرية الأمريكية الدور البارز في هذا المجال، واستمر ذلك حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز الاستراتيجية الأمريكية العالمية لترسيخ القطبية الأحادية للقوة المهيمنة. ثم ازداد دور المؤسسة العسكرية في القرار السياسي الخارجي مع أحداث 11 سبتمبر 2001، وكل ما سبق يعتمد على العقيدة العسكرية وكل المتغيرات التي تطرأ عليها والتي ينبثق منها الفكر العسكري الأمريكي، وتصب في الاستراتيجية العسكرية لتحقيق أهداف الولايات المتحدة. وعليه فقد تطرقت المؤلفة إلى مناقشة ماهية العقيدة العسكرية أولا، والقدرات
العسكرية الأمريكية ثانيا، ومعالجة أسس العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة باستراتيجيتها الجديدة (الآليات والميكانيزمات) وتطبيقاتها العملية. ولاحظت الباحثة أن أحداث 11 سبتمبر أدت إلى حدوث متغيرين أساسيين في هذه العقيدة أولهما الثورة في التكنولوجيا العسكرية وإدخال التطورات التقنية (التكنولوجية) في الاستراتيجية العسكرية من أجل التركيز في إصابة الأهداف بأقل الكلف والخسائر وبأعلى النتائج والأهداف. وثانيها إدخال استراتيجيتي الضربة الوقائية والضربة الاستباقية من جديد في الاستراتيجية العسكرية لتحقيق أهدافها أولا، ولتكون جاهزة للعمل عسكريا بالتعاون مع دول أخرى ثانيا. ويعتبر العديد من المحللين الاستراتيجيين والعسكريين أن العقيدة العسكرية الأمريكية الحالية وفق التعريف السابق ستبتعد عن استراتيجية عمرها أكثر من نصف قرن من السياستيْن الدفاعية والخارجية الأمريكية والقائمة على «الردع والاحتواء» وستقترب أو ستتبنى، وتبنت بالفعل، استراتيجية التدخل الدفاعي والهجوم الوقائي، وإن كانتا استراتيجيتين ردعيتيْ المضمون، استباقيتيْ الآليات والميكانيزمات. ويقوم دور القوة العسكرية الأمريكية بشكل عام على حماية وتعزيز
القيم والمصالح الخاصة بالولايات المتحدة وجميع حلفائها واقعيا، وفي أي مكان من العالم. وقد يستوجب هذا الدور في بعض الأحيان خوض الحروب إلا أنه في أغلب الأحوال قد يشتمل على منع وقوع الحروب، وسواء أكان على الولايات المتحدة أن تنشر ضمانات الأمن وتعزّزها في ما وراء البحار أم تبقى متورطة في المناطق الساخنة مثل الشرق الأوسط، أم تفرض النظام في أماكن غير مستقرة مثل كوسوفو، أم تستجيب للأزمات الإنسانية، فإن الهدف النهائي هو تحقيق وتعزيز المصالح العامة والقيم التابعة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. وتشير الباحثة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، حاولت أن تكون المستفيد الأكبر من النظام العالمي الذي ساعدت على إنشائه منذ حرب الخليج الثانية والتحالف ضد العراق. حيث بدأت تتحسس طبيعة الواقع الدولي الذي تسعى لبقاء انفرادها فيه والتحكم بشؤونه وقيادته نحو الفوضى واللااستقرار لتحقيق استراتيجيتها القائمة على التوسع والانتشار وتحقيق المصالح بأقل ما يمكن من التكاليف، أو أن تجعل التكاليف مساوية - إن لم تكن أقل - للمنافع المتحققة في هذا الجانب. ومن جهة أخرى تبتغي الولايات المتحدة
الاطمئنان على مستقبل قدراتها التنافسية مع الخصوم الواعدين سواء من أوروبا أو آسيا لضمان حماية أوضاعها ومكانتها الدولية من دون منغصات، أو لتفادي أن تقع في قبضة الآخرين. «ولعل ما يؤكد ذلك فضلا عن تحقيق أهدافها وتطلعاتها.
تقريران حول مستقبل الاستراتيجية الأمريكية
الاستراتيجية الآنفة الذكر، أن هنالك تقريريْن سريين أمريكيين حول الاستراتيجية الأمريكية ومستقبلها على المدى المتوسط والبعيد، الأول تحت عنوان «السيناريوهات السبعة القاتلة» المقدم من وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) للرئيس بل كلينتون في عام 1992 - 1993 والمتضمن خطة عسكرية مفصلة لما بعد الحرب الباردة والمواجهات المحتملة التي قد تُفرض على الولايات المتحدة الأمريكية لتخوضها السنوات العشر القادمة»(...) «أما التقرير الثاني ذو الفقرة الافتتاحية «تكامل اليابان وألمانيا في نظام أمني تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وخلق منطقة سلام ديمقراطية»، فقد أكد استعداد البنتاغون لاستخدام قواته المسلحة لمنع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، مجسِّداً حقيقة انتشار الأسلحة النووية الذي قد يُغري ألمانيا واليابان وغيرها من الدول الصناعية بالحصول على مثل هذه الأسلحة لردع أعدائها الإقليميين، ما قد يؤدي إلى تنافس كوني مع الولايات المتحدة الأمريكية ونشوء أزمة مصالح قومية وتهديدات عسكرية» (ص 172 / 173).
وتشير المؤلفة إلى أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين أكدت عزم واشنطن على بناء نظام حربي جديد يوافق عقيدتها وأهدافها الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين - وقد تزعم هذا الأمر الرئيس جورج بوش (الابن) حينما أعلن عزمه على إقامة منظومة دفاعية مستقبلية تعتمد على التكنولوجيا الجديدة. ويرتكز هذا النظام الجديد على مقومات عدة أهمّها: الارتكاز على قوة اقتصادية هائلة قادرة على الموارد التي تحتاج إليها نظم التسليح التكنولوجية المتطورة، وذلك بالسيطرة على مصادر الطاقة والثروة الطبيعية في العالم، وتأمين طرق المواصلات الدولية والمناطق ذات الأهمية ا لحيوية.
- تقسيم العالم إلى دول صديقة موالية لها الحق في الرعاية وتوفير الحماية، ودول أخرى غير موالية عليها أن تقبل ما يُفرض عليها، فضلا عن تدعيم ومساندة قوى إقليمية تابعة أو موالية تمثل عنصر ردعٍ إقليمي لصالح القوة العظمى الوحيدة.
- نشر ثقافة العولمة في الاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة في ظل ظروف غير ملائمة لمعظم الدول النامية، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف الروح الوطنية والقومية لديها، ويقلل من الانتماء الوطني الذي يخلق الدافع لدى الشعوب، ويُعد أهم عناصر القوة الاستراتيجية للدولة.
- عدم السماح بقيادة قوى منافسة، سواء أكانت قوة دولة أم قوة تحالف لدول عدة، وبالتالي وضع حدود للقوة التي يمكن أن تمتلكها دولة أو دول عدة متحالفة، وبخاصة في مجال الأسلحة غير التقليدية (أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البالستية) حتى لو استدعى الأمر استدراج تلك القوة إلى معارك غير متكافئة وتدميرها. وختمت المؤلفة حديثها عن القدرات العسكرية الأمريكية بقراءة الموازنة العامة للولايات المتحدة الأمريكية ل2006، وبمقارنة بين العقيدة العسكرية الأمريكية في الحرب الباردة وما بعدها حيث أكدت أن المتغير في الاستراتيجية هو الأساليب والوسائل المتبعة للوصول إلى الهدف وفق ترتيب الأولويات والأفضليات بناء على التطورات الحاصلة في الساحة الدولية.
فكيف كان أثر العقيدة العسكرية الجديدة في السلوك السياسي الخارجي الأمريكي؟
وما مضمون وآليات ونتائج وآثار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؟
وما هو أثر استراتيجية الردع الأمريكية في استقرار النظام الدولي الجديد؟
تلك هي الأسئلة الرئيسية التي سنقدم - بتركيز - أجوبة الدكتورة سوسن العساف عليها في الحلقة القادمة.
الصديق بوعلام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.