الصديق بوعلام في أتون الظروف العصيبة التي يمر بها العراق الجريح لم تَخْبُ إبداعية الإنسان العراقي، ولم تتوقف عن العطاء. فمن أحدث ما أصدرته الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب للدكتورة سوسن العساف هو في أصله أطروحة علمية بعنوان «استراتيجية الردع. العقيدة العسكرية الأمريكيةالجديدة والاستقرار الدولي» ويتألف من 464 صفحة من القطع الكبير، وقد قسمته صاحبته إلى خمسة فصول: الأول عن «الردع: دراسة في المفهوم» والثاني عن «استراتيجية الردع بعد انتهاء الحرب الباردة» والثالث عن «العقيدة العسكرية الأمريكيةالجديدة للقرن الحادي والعشرين»، والرابع عن «الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة: المضمون - الآليات - النتائج - الآثار»، والخامس عن «استراتيجية الردع الأمريكية واستقرار النظام الدولي الجديد: رؤية مستقبلية». وكل فصل من هذه الفصول يحتوي على محاور تفصيلية وفق منهجية حددتها المؤلفة بقولها: «فرضت طبيعة الموضوع ذات الصلة الوثيقة بجوانب التحليل النظري البحت وتطبيقاته العملية في العلاقات الدولية اعتمادا مباشرا على المنهج التحليلي التاريخي والنظمي كأساس متين لعرض مشكلة البحث ومناقشتها والبرهنة عليها في ترابط منهجي بين المنطلقات والافتراضات النظرية وأسانيدها وبين دلالاتها على الصعيد العلمي» (ص 20). كما توصلت الباحثة إلى استنتاجات حاولت أن تصب في خدمة المسيرة البحثية العلمية للإفادة القصوى في خضم الظروف والمتغيرات الدولية الجديدة، وأثرها في الإصرار الأمريكي على قيادة العالم ا لمعاصر، وما العراقُ إلا جزءٌ أساسي منه، من غير أن ننسى أن الهيمنة المزمعة تستدعي المقاومة حتما، ومن جميع الأطراف الدولية حتى العودة لنظام دولي جديد متوازن ومتكامل يسند بعضه بعضا وصولا إلى استقراره (ص 23). وأما إشكالية هذه الدراسة فتكمن في أن استراتيجية الرّدع الحالية عملت على إلغاء أو تضييق الفاصلة بين الدفاع والهجوم. فلا يمكن الآن التمييز في سلوك القوة العظمى المهيمنة بين دفاعها (إذا ما كان هجوما) وهجومها (إذا ما كان دفاعا) وهذا ما يسبب إشكالية ليس على المستوى السياسي في التعاطي مع هذا السلوك دوليا فحسب، بل إشكالية حتى على المستوى النظري الذي يتطلب البحث والتطبيق، وعلى المستوى العملي في تحديد المستوى المطلوب من الردع أيضا، واختيار الأدوات والأساليب المناسبة لتحقيقه، والتي تصب في معادلة التوازن بين الانتشار العالمي وتكلفته عن طريق القيام بضربة استباقية، وهي نظرية تستمد أساسها الفكري من مبدأ الهجوم وهو خير وسيلة للدفاع لاستباق الفعل العدائي الرامي إلى زعزعة هيكل القوة في النظام العالمي لتحاشي فكرة الانتظار بل الأخذ بالمبادرة وتوجيه الفعل الوقائي بمجرد الإحساس بوجود خطر ينتظر وقوعه مستقبلا. وهو ما يجعل من الاستقرار في النظام الدولي، سواء في المدى المنظور أو المتوسط، شيئا بعيد المنال الحرب الاستباقية جريمة حرب تلاحظ المؤلفة أن تفجيرات 11 سبتمبر خلفت العديد من التداعيات، ومنها انهيار مفهوم الأمن القومي الأمريكي القائم على الردع النووي والصاروخي وأسلحة الدمار الشامل، إذ أظهرت أحداث 11 سبتمبر أن أفرادا قلائل يمكن أن يلحقوا خسائر فادحة بأمن أكبر دول العالم اقتصادا، وأقواها سلاحا، وأكثرها تنظيما وامتلاكا لمعدات ومنظومات الاتصالات والمعلومات التقنية المتطورة، وكذلك اضمحلال أسطورة أجهزة السلطة الفدرالية والمخابرات الأمريكية، الذراع القومي ا لذي تلوح به الإدارة الأمريكية بوجه الدول الأخرى لأغراضها ومصالحها الخاصة، فعلى الرغم من جسامة هذه الأجهزة، وامتلاكها أفضل المعدات والمعلومات تطورا، وتجنيدها لآلاف الوكلاء داخل الولاياتالمتحدة وخارجها فإنها أخفقت كلها في تحديد منفذي هجمات 11 سبتمبر، هذا بالإضافة إلى العودة إلى التحالفات الدولية، حيث دعت الولاياتالمتحدة لإقامة تحالف دولي، ويشمل هذا التحالف معظم دول العالم الممثلة في حلف شمال الأطلسي ودول الشرق الأوسط وعددا من الدول الأخرى في عموم العالم، وعدم تقيّد الولاياتالمتحدة بالقواعد والمعايير السائدة في المجتمع الدولي، وهو ما جعلها تدّعي لنفسها حق وضع القواعد والمعايير التي ترى أنها يجب أن تسود في المجتمع العالمي والعربي والإسلامي بشكل خاص، وكشفت هذه الأحداث أيضا عن الهوة الواسعة بين المبادئ التي تنادي بها الولاياتالمتحدة بشأن النظام الدولي الجديد بما يمثله من سيادة روح الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعاون الدولي لحل المشكلات الدولية بصورة سلمية، وبين ممارسات واقعية تقوم على تقييد الحريات وتجاوز حقوق الإنسان وتجاهل حقوق الأقليات من المواطنين والمقيمين. فقد جرى التحقيق مع آلاف الأشخاص، أغلبهم من العرب والمسلمين، وتزايدت اللهجة الأمريكية المعادية للإسلام ومواجهته من خلال خطابها الأخلاقي الذي تملي بواسطته على شعوب العالم تعريفها لمفهوم الشر ومفهوم الخير، وتحدد من هي الدول والقوى الصالحة والأخرى الطالحة، كما أدى هذا ا لوضع إلى تعزيز التطرف اليميني للحزب الجمهوري الحاكم في الولاياتالمتحدة، تحت ما بات يُعرف ب«حزب الإمبراطورية الأمريكية»، فأحداث 11 سبتمبر أفقدت واشنطن قدرتها الردعية بشكل فاضح، فأصبح لزاما عليها استعادة الصورة الردعية الفاعلة وبشكل سريع (ص 196)، وبناء على هذا ترى المولفة أنّ مفهوم العقيدة العسكرية الأمريكيةالجديدة بتبنّي استراتيجية الضربة الاستباقية قد احتل قسماً كبيراً من الخطاب السياسي والاستراتيجي الأمريكي ولا يزال. لكن عقيدة بوش متعارضة مع ميثاق الأممالمتحدة الذي يحظر التهديد بالقوة أو استخدامها ضد الوحدة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأيّ دولة من ناحية، ومتناقضة من ناحية أخرى مع استنتاجات محاكمات نوربرغ التي عدّت الحرب الاستباقية جريمة حرب، وتؤكد المؤلفة أنّ الفهم الأمريكي للحرب الاستباقية يُعدّ مرتكزاً جديدا لمفهوم الاستباق في العلم العسكري، كونه يعتمد على نوايا مبكرة تراها الولاياتالمتحدة على أنها عدائية، بمعنى أنها مبنية على الفهم الأمريكي لنوايا الطرف الآخر حتى لو كان هذا الفهم قائما على دلائل غير مؤكدة. وأما نعوم تشومسكي فيرى أن من شروط هذه الاستراتيجية الحرب الكونية أو العالمية الحديثة عبر استراتيجية الأمن القومي الأمريكي مركزة في قضيتين أساسيتين هما الأنموذج الأفغاني، والأنموذج العراقي. وقد استعرضت المؤلفة بهذا الصدد تطورات التدخل الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق. واستخلصت النتائج الاستراتيجية للضربة الاستباقية الأمريكية لهما، ومن هذه النتائج الدوافع السياسية ومدى قدرتها على الإقناع، واعتماد الولاياتالمتحدة لأغراض معروفة على بعض المعارضين واللاجئين العراقيين في دفع الأمور والعلاقات مع العراق باتجاه الاستباق، وسوء تقدير الكلفة الحقيقية لعملية غزو العراق، وتراجع صورة الولاياتالمتحدة على الصعيد الدولي، وفي العالم العربي والإسلامي خصوصا ، نتيجة الدمار والخراب وتدمير مرتكزات الدولة، وعدم إحكام السيطرة على الأموال المصروفة في العراق سواء أكانت عراقية أم أمريكية (الفساد المالي)، فهذه النتائج على المستوى السياسي ، وأما على المستوى الاستراتيجي فمن النتائج تأثير التخطيط الاستراتيجي للولايات المتحدة في استعداد قواتها المسلحة، وعدم الخبرة في إدارة المناطق المحتلة، وعدم كفاية القوّة المتاحة لضمان الأمن بعد احتلال العراق، وسوء تقدير قوة المقاومة العراقية والأفغانية. وعلى المستوى العسكري اتضح فشل الاستخبارات والاعتماد الفائق على الأسلحة الذكية، وأهمية تنسيق العمل المشترك في ظل الانفراد في اتخاذ القرارات بعيداً عن احترام أو تطبيق وتسيير الشؤون الادارية للبلد المحتل، وأهمية السرعة والحسم في المكان، فعلى الرغم من التفوق العسكري الأمريكي في الحرب النظامية وسقوط جلّ المدن العراقية في القبضة الأمريكية فإنه لم تكن هنالك قوات أمريكية كافية لبسط سيطرة فعلية برية. وهو ما أتاح ومنذ وقت مبكر المجال للمقاومة العراقية أن تعيد تنظيم نفسها وتقوم بهجمات بشكل جعلها تملك المبادرة حتى هذه اللحظة. والنتيجة الأخيرة من احتلال أفغانستان والعراق هي عدم نجاح عميلة بناء الدولة وإعادة الإعمار. وأما على مستوى السياسة الخارجية الأمريكية فقد باتت الحرب على ما يسمى بالإرهاب مقدمة وتبريراً لسياسة خارجية توسعية ربما تستهدف إعادة رسم خريطة العالم الاستراتيجية. إن ضعف أفغانستان والعراق جعلهما البلدين المناسبين لاختيار «عقيدة بوش». فالهدف النهائي للإدارة الأمريكية وللمحافظين الجدد على المدى القريب والمتوسط والبعيد هو التفوّق الأمريكي المطلق في عالم جديد وحيد القطب. فغزو العراق لن يمكنهم من تنظيم خريطة ما بعد الحرب العالمية الأولى للمنطقة وحدها، بل سيمكنهم من تنظيم خريطة ما بعد الحرب العالمية الثانية أيضا. إنّ بنية العلاقات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية سوف يتم تفكيكها ما دام المحافظون الجُدد في السلطة» (ص 222) . استراتيجية الضربة الوقائية بعد ذلك، حللت الباحثة مفهوم استراتيجية الضربة الوقائية وتأثيرها في السياسة الكونية الأمريكية والفكرة الأساسية التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية مفادها أن على الولاياتالمتحدة السعي الحثيث لإجهاض التطوّرات والقوى المنذرة بالخطر قبل أن تصبح بحاجة الى علاجات حاسمة. ولهذه الضربة قاعدتان: الأولى المباغتة من دون انتظار الأدلة أو الوقائع، والثانية: إذا أرادت الضربات الوقائية أن تكون فاعلة، فإنها يجب أن توجهها قبل نشوب الأزمة المعنية حتى تدمر أيّ مخزون نووي تكتيكي تقليدي والحيلولة دون استخدامه. الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة تناولت المؤلفة في الفصل الرابع الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة للقرن الحادي والعشرين، محاولة وبرؤية نظرية إدراك مضمون هذه الاستراتيجية من خلال القسم الأول الذي يتحدث عن الاتجاهات والسمات العالمية وأثر الهيمنة فيها، مركزاً الآليات الثلاثية (الحرب على ما يسمى بالإرهاب، والحرب اللامتماثلة، والتدخل) أما القسم الثاني فيتناول مغزى الدور الأمريكي للقرن الجديد بعقيدة عسكرية جديدة، والتي عكس نتائجها وآثارها، كما يتطرق القسمان الثالث والرابع الى العلاقات الدولية والإقليمية للولايات المتحدةالأمريكية في النظام الدولي. وعليه ترى المؤلفة أن سمات الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة ستكون ذات آليات بمجملها قائمة على القوة العسكرية، وفي مقدمها قيادة الحروب الاستباقية والحروب غير المتوازنة أو اللامتماثلة، وهو ما ستعتمد عليه في القرن الحادي والعشرين (ص 242) ، وبذلك ستكون هذه الاتجاهات والسمات العالمية مرتكزة على وجوب استمرار الولاياتالمتحدة في الحصول على تأييد المجتمع الدولي، ولكن لن تتردد في التصرف وحدها وبانفرادية متوقعة عبر ممارسة حقها في الدفاع عن الذات استباقيا، مع الاعتماد على نظريات صارمة، لعل أهمها نظرية تفوق الأمة والتي تعتمد في تطبيقها مبدأ القوة والتفوق العسكري واعتبار كل من يعارضها أو يقف إلى جانب عدوها يجب التخلص منه أو على الأقل إضعافه وصولا إلى مشروعها الكوني في الهيمنة وفرض الإرادة والسيطرة العالمية مع الاحتفاظ باستمرار القطبية الأحادية للولايات المتحدةالأمريكية في النظام الدولي الجديد. وفي هذا السياق أبرزت المؤلفة عوامل القوة والدفع للدور الأمريكي في القرن الحادي والعشرين بالإضافة الى عوامل الوهن والكوابح، ومن ذلك ازدياد مشاكل تفاقم وسوء الوضع الاقتصادي الأمريكي الخطير على الصعيد الدولي. كما تحدثت عن العالمية الأمريكية، حيث أخذت تطفح على سطح النظام الدولي الراهن مناقشات حتمية القيادة العالمية الأمريكية عبر أدوات لإبراز التفوق الدائم بامتلاكها عناصر القوة والقدرة والموازنة بين الانتشار الواسع والفعل الاستباقي والوقائي لتحقيق سيطرتها وتفوقها العالمي، ولمنع بروز أي قوى أخرى تحاول مناقشتها والتصدي لمواجهتها سواء بمفردها أو من خلال التحالفات المضادة، لقطع الطريق على الولاياتالمتحدةالأمريكية لتصل الى الانفرادية والتميز بقوة عظمى مهيمنة ووحيدة، ونتيجة ذلك بناء نظام دولي جديد قائم على قطبيتها الأحادية أو أحادية متعددة الأقطاب. ويقوم تحقيق العالمية الأمريكية على دعامتين أساسيتين هما السيطرة والتفوق الأمريكي الدائم، والموازنة بين الانتشار والاستباق حيث يتلازم مبدأ الانتشار في العقيدة العسكرية الأمريكيةالجديدة مع ضرورات تبني استراتيجية الضربة الاستباقية. فالحاجة إلى توسيع الانتشار وتثبيته مرتبطة تماما بتوجيه ضربات استباقية للأطراف غير المنسجة مع إرادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورؤيتها العالمية الإمبريالية. ثم انتقلت المؤلفة للحديث عن أثر الضربة الاستباقية في العلاقات الدولية بالمستويات الإقليمية (في العلاقات الأمريكية الإيرانية والعلاقات الأمريكية السورية، والعلاقات الأمريكية الكورية الشمالية) كما تناولت بالتحيل أثر استراتيجية الردع الجديدة في علاقات القوة العالمية (في العلاقات الأمريكية الروسية، والعلاقات الأمريكية الأوروبية، والعلاقات الأمريكية الصنينية). استراتيجية الردع الأمريكية واستقرار النظام الدولي الجديد استهلت الباحثة حديثها عن هذا الموضوع بالإشارة الى أن إحدى المشاكل الرئيسية التي يواجهها المفكرون اليوم في حقل السياسة الدولية، قياسا بالمستجدات الدولية نفسها، هي مشكلة المعرفة الحقيقية لطبيعة المسار البنيوي الذي يتم اعتماده في تكوينات البنية الأساسية والمستقبلية للنظام الدولي الجديد. ومن ثم يتطلب البحث في هذا الموضوع تحليلا عميقا ارتأت المؤلفة أن تبدأه بدراسة ثنائية الاستقرار اللا استقرار وأنماط النظام الدولي، حيث استنتجت أن هذا النظام لايقترن وجوده بحالة الثبات والاستقرار، لأنه موجود حتى في حالات عدم الاستقرار ولاشك أن سمة الفوضى وليس سمة النظام هي البارزة عمليا على أرض الواقع في السياسة الدولية القائمة. وإن أكثر العوامل زعزعة للاستقرار هو اتجاه قوى الدول الأعضاء في النظام الدولي الى التغيير بمعدلات مختلفة نتيجة للتطورات السياسية والاقتصادية والتقنية، وعندها يؤدي النمو التبايني في قوة الدول المتعددة في النظام الى إعادة توزيع جوهري للقوة فيه ويحصل عدم الاستقرار عندما يطرأ أي تغيير نوعي على صورة توزيع القوة داخل النظام، أو على نمط تفاعلاته، أو في بيئته أو نتيجة لتضافر بعض هذه المتغيرات أو كلها مجتمعة. لقد بينت الأحداث اللاحقة للتدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق عدم قدرة الولاياتالمتحدةالأمريكية على فرض الاستقرار بقواها الذاتية، بل إنها ساعدت عند تدخلها على إطلاق حالة عدم الاستقرار. ولذلك قررت المؤلفة أن حالة الاستقرار لم تتحقق بوجود القطبية الأحادية. وخلصت من تحليلها لوضع النظام الدولي الى أن بنية وهيكلة هذا النظام تقوم على أساس التفاعلات السياسية المغذية له من قبل فواعله الأساسية (سواء أكانت دولا أم سواها) لينتج آثارا وانعكاسات كمخرجات تكون إما لصالح النظام أو ضده، والتي هي سبب استقراره من عدمه، وهو ما يطلق عليه «المتغيرات الدولية» التي تحدد أنموذج النظام الدولي. وعليه فرؤية السياسة الأمريكية مبنية على الرغبة في تغيير النظام الدولي من أجل ترسيخ القطبية الأحادية انطلاقا من أحداث 11 شتنبر 2001 فالتغيير المتصور الذي يمكن أن يحدثه في النظام الدولي هو تغيير في قواعد العلاقات الدولية وإدارتها، مع تحوير أو تجديد في أنظمة بعض الدول أو الوحدات التي تشكل عضوية النظام الدولي على النحو الذي يكرس نظام القطبية الأحادية للولايات المتحدةالأمريكية وسيطرتها عليه ونشر «مبدأ الحرية» بالمفهوم والمنظور الأمريكيين (ص 372). ويؤكد تشومسكي من خلال تمعّنه في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، أنها خالية من أيّ ذكر للقانون الدولي أو لميثاق الأممالمتحدة،.. حيث تسود القوة وتمارسها الولاياتالمتحدة بالشكل الذي تراه مناسباً. وتعلق الباحثة على هذا بأنه سينعكش على النظام الدولي واستقراره. كونه يعيش تحت مظلة القطبية الأحادية. وستغيره الولاياتالمتحدة وفق إرادتها ومصالحها، ولن يصيب هذا النظام الاستقرار في ظل نمطية وهيكلية هذا الشكل من النظام الدولي في ظل حقيقة أساسية تجسد أطروحة أن الهيمنة تستدعي المقاومة. وعليه فإن مشروعية التدخل من أجل تغيير وحدات النظام الدولي ليست بالضرورة متوافقة مع المبادئ والقواعد القانونية الدولية التي ينص عليها ميثاق الأممالمتحدة أو الاتفاقات أو الأعراف الدولية، ولكن المهم هو أن يُحدث هذا التدخل تغييرا وأن يؤثر هذا التغيير في النظام الدولي. إنّ أخطر ما في فساد الرؤية التي استند إليها الغزو الأمريكي للعراق تمثّلت في إسقاط قواعد إدارة العلاقات الدولية المتعارف عليها كافة، من أجل القيام بالغزو. فقد حاولت الولاياتالمتحدة استصدار قرار من مجلس الأمن يضفي الشرعية على الاحتلال، لكن أغلبية الدول الأعضاء (11 دولة من مجموع 15 عضوا) رفضت تأييد مشروع القرار، في حين أهدرت واشنطن قواعد وقيم عدم التدخل في الشؤون الداخلية وعدم استخدام القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، وعدم الاعتداء على السيادة الوطنية. بل إن بعض رموز المحافظين الجُدد قد طرحوا فكرة «سقوط عصر السيادة الوطنية»، وكأنما أرادوا أن يبلّغوا العالم بأن السيادة قد تحققت للولايات المتحدةالأمريكية دون سواها وأنها تمارسها نيابة عن جميع شعوب العالم ودولة، حتى إن كان ذلك بقصد الإضرار بهذه الشعوب والدول. (ص. 374 375). وهذا يؤكد أنّ السلوك السياسي الخارجي الأمريكي المستقبلي في النظام الدولي الجديد عدواني، وسيستخدم الخيار العسكري في المقام الأول.وسيترك أثره في نهاية المطاف في حالة عدم الاستقرار، وفي الصعوبة العالية في تحقيق استقرار النظام الدولي الجديد. وهذه هي الخلاصة الخطيرة التي انتهت إليها الباحثة: أنّ الحروب كلها التي خاضتها الولاياتالمتحدة، وشتى الحروب التي ستخوضها مستقبلا، وبمختلف العقائد العسكرية، وبالتحولات التي ستشهدها الاستراتيجية العسكرية الأمريكية تشترك كلها بأسس ومرتكزات قيادتها، والتي تقوم على أنها لن تعرف الحدود، ولن ترتبط بروادع أو قيود أخلاقية، أو بشرعية دولية مادامت هذه الشرعية وضعها لايرتبط بتقدم مادّي في الإمكانيات الاقتصادية والسياسية. وستسعى إلى كل ما يحقق فرضية الهيمنة والاحتفاظ بالقوة الوحيدة مع انخفاض مستوى القيم الروحية والأخلاقية. وستحمل هذه الحروب في طياتها الكثير من الدمار والإساءة لحرمات الشعوب، وكثيرا من الانتهاكات، وعدم التقيد بأيّ أعراف أو قوانين سماوية أو وضعية. وستحل الفوضى واللااستقرار في النظام الدولي، مادام التقدم العسكري الأمريكي سيسير بمعزل عن تأثير القيم الروحية. وسوف تتكرس الهيمنة على حساب الحضارة الإنسانية ذاتها، وستكون القرية الكونية التي بشرت بها الرأسمالية الجديدة عبر الهيمنة وفرض الإرادة والوجود بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية بقوة السلاح قرية جديدة لدفنِ الحضارة. ولن تكون هناك أيّ قدسية للسيادة، ولن تستمر التحالفات الأمنية الكبرى (حلف شمال الأطلسي تحديدا) بالاحتفاظ بدورها، لأن القوة الأعظم كونياً ستظل تستخدم قوّتها العسكرية المحصنة سواء بموافقة الأممالمتحدة أم بعدمها، وستظل الولاياتالمتحدةالأمريكية تلجأ إلى شرعنة إجراءاتها من خلال تشكيل تآلفات عسكرية فضفاضة لتنفيذ عملية محدودة تُحل بعدها هذه التآلفات والتحالفات مستخدمة قوتها العسكرية المحصّنة متى استدعت ذلك الضرورة