معطيات الصراع من نافل القول إن العالم انتقل، منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين الماضي، من عصر التوازن الإيديولوجي إلى حقبة الهيمنة الإيديولوجية لمركزٍ ثقافيّ واحد هو الغرب الأمريكي. غير أن ذلك ليس يعني أن هذه الهيمنة ألغت وجود إيديولوجيات أخرى غير الإيديولوجيا الليبرالية في العالم وإن حدَّتْ من قدرتها على المنافسة. بل لنا أن نقول إن تلك الهيمنة لم تتوقف عن إنتاج أو استثارة نقائضها، وليس ما يسميه الخطاب الأمريكي اليوم بثقافة الكراهية (كراهية النموذج الليبرالي الغربي في صورته الكولونيالية الجديدة) إلاّ واحداً من تلك النقائض التي تستثيرها الهيمنة حتى وإن بدتْ دفاعية سلبية وانكفائية أحياناً (كما في حالة مجتمعات العالميْن العربي والإسلامي) أو شَعْبَوِيَّة راديكالية مُفْتَقِرة إلى الاتِّساق والمنظومية (كما في حالة مجتمعات أمريكا اللاتينية). على أن من مفارقات تلك الهيمنة أنها أطلقت حالاً من الاعتراض الثقافي حتى داخل الغرب الليبرالي نفسه (كما في حالة بعض دول أوروبا) وعودة متزايدة إلى التشديد على القوميِّ في الثقافة والسياسة والهوية (موضوعة «الاستثناء الثقافي» في فرنسا وهزيمة مشروع الدستور الأوروبي في الاستفتاءات الشعبية). وهي جميعُها تشهد بالعُسْر الذي تعانيه عملية الهيمنة الإيديولوجية أمام اعتراضٍ وممانعةٍ متزايديْن على الرغم من موضعية وحدود تأثيراتهما. لكن مشكلة الهيمنة ليست في مَن يقاومها، وإنما فيها هي نفسُها. إذْ أفصحت عمّا يفضحُ تَهَافُتَهاَ وضَعْفَها الأخلاقيّ قياساً بما كانت تقدّمُه الإيديولوجيا الليبرالية عن نفسها في عصرها الأوروبي السابق. فالخطاب الإيديولوجي الإعلامي اليوم يَعْرض أسوأ صيغة لليبرالية في عهدها الرجعي المتوحّش كَنَهَمٍ لا محدود لنهب الثروات وخوض الحروب الظالمة من أجلها، وكتلاعُبٍ لا أخلاقي بمبادئ الحرية والديمقراطية، وكازدواجية صارخة في معايير التعامل مع حقوق الشعوب والأمم غير الغربية، وكدعوة موتورة لإحلال العنف والقوة في العلاقات الدولية تحت عنوان المقاربة الاستباقية للأخطار، وكجنوحٍ متزايد لإسقاط مبدأ الاختلاف والاعتراف بالآخر وباختلافه بذريعة كونية القيم الغربية أو مرجعيتها الأَوْحَدية على الصعيد الكوني. وهذه جميعُها تمثل انقلاباً شاملاً على القيم التي بشرت بها الليبرالية، منذ ما يزيد عن ثلاثمائة عام، وأتت تُتَرْجِمُها في ثوراتها الفكرية والسياسية منذ عصر الأنوار والثورة الفرنسية والدستور الأمريكي حتى اليوم. وإذا كان من فضيلة لثورة الإعلام والاتصال اليوم، ففي أنها إذْ حملتْ هذه القيم «الليبرالية» الجديدة إلى كل الأصقاع -في سياق محاولة فرض هيمنتها كقيم- فقد فضحت محتواها الرجعي الكولونيالي على نطاق عالميّ، ووفّرت بيئة مناسبة لنموّ إيديولوجيات مضادة كانت في حالة تراجعٍ وانكفاء، ولتَوْسِعَةِ نطاق المعترضين على هذه الليبرالية المتوحشة حتى داخل الغرب نفسِه. وإذا أضفنا إلى ذلك كلِّه انفضاح طرائق الخطاب الإعلاميّ الجديد المتوسِّل بأساليب الانحياز السافر وعدم النزاهة وممارسة الكذب والتمويه وتزييف الحقائق وتسطيح الوعي... إلخ، اجتمعت الأسباب كافة للاعتقاد بأن حقبة الهيمنة الإيديولوجية الأوحدية توشك على الدخول في طور انحسارٍ بعد مَدٍّ مديد لتفتح الباب أمام توازنات جديدة في الحقل الإيديولوجي شبيهة بتلك التي تتبيَّنُ اليوم تباشيرُها في الاقتصاد والسياسة والاستراتيجيا. ونحن نزعم بأن الهزيمة الأخلاقية للفكرة الليبرالية الجديدة الوحشية - في صيغتها المحافِظة الجديدة-، والفقر المدقع لمحتواها الإيديولوجي، ستتحوَّل سريعاً إلى رافعةٍ لنهوضٍ إيديولوجي جديد لأفكار السلام والتعايش والاشتراكية والحرية والعدالة وللنزعات الإنسانوية والبيئوية ولقيم التسامح والحوار. أي لكل الأفكار والقيم التي دمّرتها الليبرالية الوحشية في لحظة انقلابها الرجعي على ميراث الليبرالية. ومن يتابع اليوم ما يُكْتَب نقداً للهيمنة الإيديولوجية - الإعلامية ودفاعاً عن القيم الكبرى التي تدمِّرها، يلاحظ ارتفاعاً محسوساً في صوت الاعتراض وجهْراً شديد الوضوح بما كان مسكوتاً عنه قبل سنوات، وتزايداً ملموساً لجمهور المؤمنين بالأفكار البديلة من تلك التي تضخُّها آلة الإعلام الإيديولوجية الغربية. لكن المسألة ليست في أن بديلاً ثقافيّاً وإيديولوجيا لم تتبيَّن قسماتُه على نحوٍ واضح وصريح يخرُج به من هلاميته لينتظم في صورةٍ نسقية، لأن ذلك ليس ممتنعاً أو عسير التحقق لوجود ميراث تاريخي يبنى عليه، المشكلة في كيفية خروج هذا البديل إلى حقل المنافسة لإحداث التغيير الإيديولوجي المطلوب وليس لانتظار تناقضات الهيمنة الإيديولوجية وتَسَاقُط دعاواها ثم إقامة الحجة عليها من نفسها. وهنا نحن أمام سؤال الكيفية: أي أمام مسألة أدوات الصراع الإيديولوجي. الأدوات حين انطلقت حركة العولمة وأفصحت عن معطياتها الجديدة النوعية في مجال الإعلام والاتصال قبل قرابة العشرين عاماً، كان انقلابٌ جديد في موازين القوة في العلم والتِّقَانة قد فرضَ نفسَه وأحكامَهُ على الصعيد الكوني وأطلق نتائجَه في حقل صراع الأفكار والرموز والقيم انتصاراً لفريق -هو الغرب- واندحاراً لآخر قاومه لثلاثة أرباع القرن قبل أن يَكْبُو. كان الغربُ نفسُه هو مَن صَنَع تلك الثورة التِّقانية الجديدة، وهو من وظَّفها في مجال الإعلام والاتصال. ولذلك كان يملك أن يحتكرها لفترة من الزمن. غير أن منطق الرأسمالية -وهو الربح- كثيراً ما ارتدَّ عليها هي نفسها. فالرأسمال إذ يستثمر ويُنْتِج لا تكتمل دورتُه إلا بتسويق بضاعته لتحقيق الربح. هكذا كان أمرُهُ منذ عصر البارود والبخار حتى عصر الذرَّة والسلاح النووي: استثمر في جديد الفُتوحات العلمية، وأقام صناعةً وأنتج. ولقد احتكر منتوجه لفترة من الزمن: احتكر البواخر والبارود والسكة الحديد والكهرباء والطائرة والمذياع والتلفاز... إلخ، ثم ما لبث أن باع المنتوج، وباع حقوق الإنتاج لغيره، وصولاً إلى بيع التِّقانة نفسها. وذلك بالضبط ما حصل اليوم مع الثورة التقانية في مجال الإعلام والاتصال. لم تكن هي إلاّ سنوات قليلة على إنتاج واحتكار الحاسوب والإعلام الفضائي الرقمي والشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، حتى باتت هذه السلعة في حوزة شعوب أخرى خارج الغرب، وباتت تِقْنِيَّتها تحت تصرُّف خبرائها وأطرها ومستهلكيها من المواطنين. وسريعاً أصبح في وُسْع أي بلدٍ فقير، أو أية شركة اتصالٍ أو إعلام أو مجموعة استثمارية في ذلك البلد الفقير، أن يَمتلك قناة تلفزية فضائية ما إنْ يمتلك قدرةً شرائية على استئجار البثّ عبر قمرٍ صناعيّ. مثلما بات في وسع أي مواطن من سكان الضواحي الفقيرة ومدن الصفيح أن ينخرط في شبكة المعلومات الدولية فيصبح على اتصال بمصادر المعلومات في العالم. ولقد وَضَعَ هذا تحت تصرف الأفكار والإيديولوجيات المناهضة لليبرالية العولمية المتأمركة فرصاً مذهلة لدخول ساحة المنافسة الإيديولوجية من بوَّابة الإعلام الفضائي وشبكات الاتصال الدولية، فسقط بذلك الكثيرُ من الاحتكار الغربي -والأمريكي- لهذه الأدوات الخطيرة في صناعة الرأي العام. بل لقد عاينَّا كيف أصبح في وسع قنوات فضائية من العالم الثالث أن تحقق قدراً هائلا من الفُشُوِّ والذيوع وسط عشرات الملايين من الناس في منطقتها وفي العالم، وأن تحظى بالكثير من الصدقية المهنية، وأن تتأهَّل لخوض منافسةٍ ندّية لِكُبْرى المحطات الفضائية الإعلامية في العالم. نتأدّى من ذلك إلى القول إنّ في مُكْن قوى التحرر والتقدم والممانعة في العالم - وفي داخل الغرب نفسِه- أن تخوض اليوم معركة ثقافية وإيديولوجية ناجحة ضد الهيمنة الإيديولوجية الأمريكية باستعمال الأدوات نفسِها. وهي، في ما نقدِّر، معركة مزدوجة الأهداف والساحات: معركة في الداخل القوميّ لكل المجتمعات المتضررة من تلك الهيمنة من أجل إشباع الحاجات الثقافية والفكرية والجمالية لتلك المجتمعات وإضعاف نفوذ آلة الإعلام الغربية الموجَّهة إليها وإفقادها قدرتها على النفاذ والنفوذ واحتكار المشاهَدة. وهي معركة غير مضمونة النتائج إلا بتطوير الأداء الإعلامي السمعيّ - البصري إلى مستوى الأداء العالمي، وإبداع برامج قادرة على احتكار الانتباه أو على شدّه، وقادرة على إشباع الحاجات الثقافية والجمالية للناس وعلى تقديم خدمة إعلامية راقية على صعيد الخبر والتعليق والتحليل والتقرير المصوَّر وبما تلتغي به الحاجة إلى البحث عنها في القنوات الأجنبية. وهي معركة في الخارج، أي داخل الغرب نفسه، من أجل مخاطبة رأيه العام بلغته، وتبديد الصُّور النمطية التي كرَّسَتْها في مخياله الجمعي حملات الدسّ والتزييف الإيديولوجية التي قامت بها وسائل الإعلام المرتبطة بمراكز النفوذ والقرار في الغرب. ولكن من عساها تكون القوى التي تستطيع خوض الصراع الإديولوجي علےالصعيد العالمي في وجه الإيديولوجيا الكولونيالية الجديدة واستراتيجياتها للهيمنة كونيّاً؟ القُوَى في حقبة الحرب الباردة، كانت المعركة الإيديولوجية بين نظامين ومعسكرين (الرأسمالي والاشتراكي) وبين إيديولوجيتين سياسيتين: البرجوازية والماركسية. اليوم ليس هناك معسكر اشتراكي، وليست هناك إيديولوجيا سياسية شاملة في مقابل الليبرالية، أو قل إنها موجودة بوصفها إيديولوجيا لمقاومة الهيمنة لا لبناء أجوبة عن إعضالات التنمية والنظام السياسي وقضايا الاجتماع المدني. ومع ذلك كلِّه، فإن ملامحَ اصطفافٍ جديد للقوى على الصعيد العالمي بدأت تتبيّن في السنوات السابقة من هذا القرن على نحوٍ يوحي بأننا مقبلون على استقطابٍ إيديولوجي وسياسي جديد على قاعدة ميلاد «قطب» أو ائتلاف عريض من القوى المختلفة المتضررة من العولمة والعولمة الإيديولوجية لليبرالية الوحشية الراهنة في طبعتها الأمريكية المحافظة السائدة. وقد يكون من الضروري التأكيد على أنه ليس واضحاً تماماً نوع الإيديولوجيا السياسية التي ستخرج من مخاض التحولات الجديدة في العالم كمقابل لإيديولوجيا العولمة الليبرالية، وكنتيجة لذلك الاصطفاف الجديد للقوى المناهضة للعولمة الأمريكية. لكنها -بكل تأكيد- ستترجم المشتَرَكات والجوامع القائمة بين القوى العالمية -دولاً وشعوباً وحركاتٍ- المناهِضة للهيمنة. لسنا نبالغ حين نتحدث عن قوى عالمية ذاتِ وزن في مسرح الصراع الإيديولوجي في المرحلة القادمة. ذلك أنها ذات خبرة تاريخية عريقة في مواجهة الرأسمالية والإمپريالية وثقافتها، وذات قاعدة سكانية كبيرة في العالم، وهي تحرز انتصارات حقيقية وإنْ ببطء في إيقاعها، ثم إن ما لَحِقَها من ضررٍ بالغٍ من انفلات الليبرالية الوحشية من كل عقال يدفعها نحو تنظيم ممانعتها وتطويرها بما في ذلك على الجبهة الإيديولوجية. إن صمود الصين، وعودة الفكرة الاشتراكية إلى السلطة في ستٍّ من دول أمريكا اللاتينية، واستمرار فكرة التحرر الوطني والقومي في العالم في مواجهة الاستعمار والهيمنة والصهيونية، وميلاد -ثم تنامي- حركة مناهضة العولمة في الغرب (ابتداءً) وفي مجمل العالم، وعودة العافية الاقتصادية والسياسية إلى روسيا... وتمسُّك العديد من دول العالم الثالث باستقلالية قرارها الوطني.. كلّها حقائق تشي بوجود قسمٍ من العالم ممتنِع عن هيمنة الفكرة الليبرالية العولمية وقادرٍ على صدِّ غاراتها الإيديولوجية من أجل إعادة ضَخِّ توازُنٍ انْهَارَ في العلاقات بين الدول والأمم والأفكار والقيم.