يعتبر موضوع حوار الحضارات أو الثقافات موضوعا جدليا شائكاً ومستعصيا عن التحديد. وأكثر من ذلك موضوعا حساسا، إذ لازالت الخطوط العريضة لمرجعية الحوار لم تتحدد بعد. فرغم الجهود الكثيفة والمحاولات المتعددة للفاعلين ذوي النوايا الحسنة، حيث ظهرت في الآونة الأخيرة أدبيات جديدة وكثيرة تتركز اهتماماتها في بحث مشكلات الحوار بين الأديان، كما عقدت مؤتمرات وندوات باشتراك ممثلي ديانات مختلفة. إلا أننا نجد من جهة أخرى المتعصبين والمتطرفين الذين ينسفون كل محاولات الحوار والتواصل هاته، لنصبح وجها لوجه أما الصِّدام والنزاع. تظهر إذن العلاقة بين الحضارات كعملة ذات وجهين وجه الصراع ووجه الحوار، وكلما ساد الغبار والعتمة على أحد الوجهين إلاّ وازداد الوجه الآخر بريقا ولمعاناً. وسنروم من خلال هذه الدراسة بسط إحدى النظريات الشهيرة في الصِّدام وهي نظرية الأمريكي اليهودي صامويل هنتغتون، وسنحاول انتقادها من منظور بنيوي وتاريخي. لنبين مدى أفولها وهشاشتها، وأن شهرتها لم تكن سوى سحابة عابرة وتعبيرا عن حلم البيت الأبيض في إعادة ترتيب العالم. وأن الحوار عبر التاريخ ظل هو الأصل في حين أن الصدام ظل يشكل حلقات عابرة تعبر عن حُلم مرضى جنون العظمة، أو الذين لديهم رُهَاب و (فوبيا) الآخر. 2) نظرية صِدامْ الحضارات لصامويل هنتغتون: في سنة 1996 أصدر الباحِث الأمريكي صامويل فيليبس هنتغتون، الذي كان متخصصا في الدراسات الإستراتيجية بجامعة هارفارد، كتابا بعنوان: » صدام الحضارات وإعادة ترتيب النظام العالمي». ويُعتبر الكتاب بحثا موسعا لمقال سبق أن نُشِر لنفس الكاتب بنفس العنوان. وكلاهما ( المقال والكتاب)أثار جذلا واسعا في الأوساط السياسية الأمريكية، وتتلخص الأطروحة المحورية التي جاء بها الكتاب لحظتئذٍ: في أن الصراع المستقبلي لن يكون بين الدول ولا بين الإيديولوجيات ، ولن يكون كذلك صراعا اقتصاديا بقدر ما سيكون صراعا بين الثقافات والحضارات، وقد قسم صامويل العالم إلى ثمانية أقطاب حضارية كبرى هي: الحضارة الغربية، الحضارة الصينية الكونفوشية، الحضارة الإسلامية ، الحضارة السلاڤية(روسيا، أوكرانيا...)،الحضارة اليابانية، الحضارة الهندوسية ثم حضارة أمريكا اللاتينية، والحضارة الأفريقية وإن كانت هذه الأخيرة لا تحضى بنفس القوة التي تحضى بها الحضارات الأخرى في نظره. وقد ذهب إلى أن الصراع قد يصل حد الصدام في المستقبل، صامويل المعروف بخوفه المرضي من كل ما هو أجنبي ، فقد سبق له أن كتب مقالات كثيرة تتحدث عن تزايد الكوبيين في مدينة ميامي، وتراجع اللغة الإنجليزية بها بشكل ينذر بانقراضها. خطوة بعد خطوة يختزل صامويل الصراع الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، حيث أن الأمثلة و الاستشهادات كلها مقتطفة من الصراع بين الحضارتين. وفي اعتقاده هنالك أسباب كثيرة تدعوا لذلك فالإسلام كديانة تدعوا لصهر الآخر وتذويبه، وأكثر من ذلك إلى نبده وقتاله. وهي ديانة لا تقبل الحداثة التي ينبني عليها المشروع الغربي، ثم إن معظم الصراعات في العالم هي صراعات بين المسلمين وغيرهم أو صراعات بين المسلمين أنفسهم.فمثلا من بين تسعة وخمسين صداما في العالم هنالك 28 صداما تخص المسلمين:( البوسنة والهرسك، الشيشان،القضية الفلسطينية،حالة الوضع الغير مستقر في جنوب إفريقيا بصفة عامة). بعض الإحصائيات التي اعتمدها صامويل هي إحصائيات أقرب للخرافات التي رامت وتروم إلصاق الإرهاب بالإسلام دفعة واحدة. ويكفينا لدحضها ما أورده مكتب يوربول لسنة 2009 فحسب هذا المكتب فإن% 99 من الأعمال الإرهابية في أوربا كان يقف وراءها أشخاص غير مسلمين.وحتى الإحصائيات التي تعتبر بمثابة حقائق رياضية ثابتة، ثم تطويعها ولي عنقها من أجل خدمة أهداف وغايات مضمرة مسبقاً، فالنزاعات الآنية بين المسلمين وغيرهم أو بين المسلمين أنفسهم، هي وليدة تراكمات تاريخية وإيديولوجية بقيت كإرث حتمي ناتج عن المد الاستعماري للقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ومن الجَلي أن سياسة : » فرِّق تسُد»التي درَجت الدول الاستعمارية على نهجها، هي التي فرقت معظم البلدان في الشرق والغرب الإسلامي وفي شمال إفريقيا وجنوبها. وما برحت هذه البلدان أن تنال استقلالها وتعي ذاتها حتى وقعت ضحية الحرب الباردة التي استغلت الفروق الإثنوغرافية و الأنثربولوجية لجلب الأتباع والموالين .(في السودان مثلا نجد روايات سانت آدم موور قد تحدثت عن هذا الصراع ووصفته بدقة). ثم إن التوزيع المَجالي للمسلمين الذي يجعلهم متواجدون في جميع أنحاء المعمور.. وأحيانا كأقليات مهضومة الحقوق هو عامل يمكن أن يأخذ نصيبه من الأهمية في تأجيج الصراع بين المسلمين وغيرهم. لم يكتف صامويل عند هذا الحد بل ذهب أبعد من ذلك، فرغم أن كتابه جاء في حقيقة الأمر كرد جدلي و انتقادي على كتاب " نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لفرانسيس فوكوياما. ورغم أن الرؤى ووجهات النظر التي اتفقا عليها هذان المفكران تعتبر من الندرة بمكان، فإنهما اتفقا على أن الصراع بين الغرب والإسلام هو في جوهره صراع بين الحداثة والتقليد، وكلاهما نبَّه من الخطر الذي تشكله الحركات الإسلامية الأصولية على الغرب. ففي نظرهما الغرب قادر على نشر ثقافة ديمقراطية حداثية في العالم على المدى البعيد ، لكن شريطة ألاّ يتم اغتياله على المدى القريب. ليست هذه الثنائية حديثة ولا هي من إبداع هذان المفكران بل هي انبعاث لموقف غربي من الإسلام ينتمي للقوالب الأوربية القرووسطية التي كانت تصف الإسلام بأنه دين العنف، وأن المسلمين معادين للعقل والعقلانية، ولذا فإنه لا فائدة من محاولة تنويرهم. لقد كان لوثر من الأوائل الذين صاغوا موقفا كليا من الإسلام واستعمله كأداة سلبية وصِفَة قدحية في جداله مع الكاثوليكية حيث يقول: »البابا ولإسلام يشكلان من حيث الجوهر العدوين اللدودين للمسيح وللكنيسة المقدسة،ولكن إذا كان الإسلام يمثل جسد المسيح الدجال فإن البابا هو رأسه « .[ الاقتباس من المسيحية والإسلام، أليكسي جورافسكي ص:98 ]. وفيما بعد أصبحت الموضة بين المذاهب المسيحية هي أن يتهم كل واحد منها المذاهب الأخرى بالإسلامية. وفي أوربا القرن الثامن عشر لبس الإسلام حلةً إيديولوجية جديدة حيث أصبح يستعمل من طرف المفكرين أنصار نظرية التقدم في مجادلاتهم ضد القوى المحافظة التقليدية. لقد وجدت فئة الأنتلجنسيا في نقدها للإسلام تعبيرا عن نزعتها المعادية للإكليروس ولسلطات المَلكية المطلقة حيث عمموا فكرة رجعية الإسلام وعدائيته للتطور الاجتماعي والثقافي وهي الفكرة التي أضحت شائعة إلى أبعد الحدود إبّان القرن التاسع عشر.ويذكر(أليكسي جورافسكي) أنه تحت تأثير هذه التخيلات الذهنية اندفع في النصف الأول من نفس القرن عدد هائل من الرحالة الأوربيين إلى البلدان الشرقية لكنهم أصيبوا بصدمة نفسية قوية من جراء شعورهم بخيبة الأمل.ماذا فعل إذن صامويل وفوكوياما في هذا الصدد غير محاولتهما اليائسة لبعث نزعة عدوانية رَجُوعَة نائمة في التراث الغربي؟. هذا الخوف المرَضي من الإسلام ( إسلامو فوبيا)، يحاول عالم المستقبليات المهدي المنجرة أن يجد له بعض التفسيرات في كتابه : (الإهانة) ففي نظره ترجع أسباب الرُّهاب الغربي من الإسلام إلى سرعة انتشاره وإلى التزايد الذيمغرافي السريع للمسلمين إذ من المحتمل أن تصل نسبتهم إلى 40% في نهاية هذا القرن وهذا بطبيعة الحال بالإضافة إلى الجهل بثقافة الآخر وغياب التواصل الثقافي. ويذكر المهدي المنجرة أن العالم الإسلامي هو الذي تعرض لعدد أكبر من المهانات الداخلية والخارجية، والتي قضت على أزيد من عشرة ملايين شخص في العقد الأخير من القرن العشرين. إن العلاقة بين الشرق والغرب هي علاقة هيمنة الغرب بواسطة اقتصاد ميغا إمبريالي عملاق، يوازيه إعلام مهيمن وموجه يحاول أن يجعل من الثقافة الغربية ثقافة كونية مطلقة والنتيجة حسب المهدي المنجرة : »هي أنه لم تعد لدينا شرعية دولية فأمريكا تقول إن قرارها ودفاعها عن شعبها هو الشرعية». وفيما يخص الدور الديماغوجي للإعلام وحول هذه النقطة بالضبط يتساءل المهدي المنجرة لماذا يتم توظيف مصطلح إسلامي: » « Islamiste ولماذا لا يمكننا أن نقول:catholiciste أو judaist إن الأمر حسبه مقصود وذلك لكي يصير ممكنا للغرب الإدِّعاء بأن لا خلاف لهم مع المسلمين بل مع الإسلاميين. 3)نظرية صدام الحضارات بين التنبؤ والتبني: السؤال الذي نود مناقشته هنا هوّ إلى أيِّ حدٍّ يمكن اعتبار حرب الخليج الثانية وحرب أفغانستان ومجموع حروب أمريكا على الإرهاب، تحققا فعليا لنظرية صامويل هنتغتون؟. لم يكن صامويل هنتغتون سباقا لصياغة وبلورة مفهوم: » صدام الحضارات« بمعناه الحديث، بل ظل المهدي المنجرة دائما في كتاباته وحواراته يِؤكد ويكرر أنه كان سبّاقا لذلك لكن بصيغة:" الحرب الحضارية "وهي التسمية التي أطلقها على حرب الخليج، والمنجرة يقول عن نفسه : »أنا وقائي وصامويل ذرائعي يرى أن الخطر القادم سيأتي من العالم غير اليهودي المسيحي «. ويمكننا القول إن الإرهاصات الأولية عن مفهوم الصدام الحضاري كانت متواجدة عند نخبة من المثقفين الغربيين وحتى عند رجال السياسة . ففي غشت 1990قال جورج بوش الأب في تصريح له: »لا يمكننا أن نسمح لأي كان أن يمس بقيمنا ونوعية حياتنا «. والحضارة بطبيعة الحال ليست سوى نمط من العيش والقيم. وقد كان صامويل وفرانسيس فوكوياما ضمن لائحة المفكرين الذين وقعوا على وثيقة رفعت للبيت الأبيض، الوثيقة التي دعت بوش الأب إلى ضرورة التدخل في العراق. وإن كانا فيما بعد قد عبرا عن استيائهما من طبيعة هذا التدخل.وبالنظر إلى عنوان الكتاب: » صدام الحضارات وإعادة ترتيب النظام العالمي « فإنه يمكننا القول إن الكتاب جاء كتعبير عن رغبة البيت الأبيض وإرادته في إعادة تشكيل العالم وفق المقاس الغربي(أمرَكَة العالم) خاصة بعد انهيار الإتحاد السوڤياتي، وبالنظر إلى شهرة الكاتبين فإن أفكارهما كانت بمثابة المادة المعرفية والإيديولوجية التي يمكنها أن تقنع الشعب الأمريكي بجدوى وضرورة التدخل في العالم. لذا رأى الكثير من النقاد في هذه الكتابات إطارا تسويغيا لشرْعنة العدوان الغربي على المسلمين والصين. لقد كانت أحداث الحادي عشر من شتنبر المأساوية الدراماتيكية بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس حيث رأى فيها الكثير من المناصرين بدايةً لتحقق نبوءة صامويل، وكتب هذا الكاتب نفسه لحظتئذٍ مقالات كثيرة حاول من خلالها إثبات وتأكيد بداية تحقق تلك التنبؤات. غير أن ما يحيط حول هذه الأحداث وحيثياتها من إبهام وغموض ، يجعلها بعيدة عن أن تكون دليلا على صِدام حضاري. لقد قُرئت أحداث الحادي عشر ألآلاف القراءات معظمها سارت في فلك الصدام الحضاري وإدانة الإسلام غير أنه هنالك قراءات كثيرة اتسمت بالموضوعية والحياد وإن كانت لم تجد الآذان الصاغية، نذكر من بينها قراءة المفكر البريطاني طارق علي الذي أشار إلى أن مناطق عديدة غير مسلمة احتفلت بضرب أمريكا ليلة الحادي عشر. لقد حاول هذا الكاتب أن يتخطى التبرير التبسيطي الاختزالي القائل: »إنهم يكرهوننا لأنهم يحسدوننا على حرياتنا وثرواتنا». لقد أدى انتصار الرأسمالية في نظره إلى جعل العالم المتقدم خزانا للثروات والمُدَبِّر الرئيسي لقوة عسكرية لا تخضع لأية مراقبة . أما العالم الثالث فإنه محكوم من طرف نخب تابعة وخنوعة. هذا الانغلاق نتجت عنه عواقب وخيمة حيث يتم تذكير المجردين من القوة بضعفهم باستمرار . فتزداد حدة الغضب واليأس والشعور بالإحباط، هكذا يبدأ الأكثر منهم يأسا في البحث عن بدائل تغير رتابته اليومية ولا غرابة في أن يلجأ للعنف. وليس صحيحا أن جل هذا العنف موجه ضد أمريكا فالمتعصبون في الدين غالبا ما يعنفون إخوانهم عندما يروا أنهم أقل تديُّنا منهم. وفي نظرنا لا يجوز لأي كان القول بأن كل المسلمون سروا بضرب الولاياتالمتحدةالأمريكية، فعلى سبيل المثال وبعيدا حتى عن التصريحات الرسمية فإن شعور الغالبية العظمى من الشباب المغاربة ، الذين يعتقدون أن الضربات كانت من صنيع أسامة، كان مزدوجا فهم معجبون ببن لادن فقط كبطل سينمائي استطاع أن يخترق أقوى جهاز استخباراتي في العالم وأن يحقق المعجزة وهم من جهة أخرى مستاءين من استهدافه للأبرياء ومن كونه جنا على الجالية الإسلامية التي أصبحت متضايقة بسبب الإعلام والإجراءات الإدارية الغربيةالجديدة الممارسة حيالها، الشباب المغاربة الذين كانوا يحلمون بالهجرة إلى الجنة الأوربية أو الغربية بصفة عامة، رأوا إذن في أسامة بن لادن نذير شؤم قلّص من فرص نجاح هجرتهم. بعد ذلك شرعت أمريكا في عد العدة والعتاد لغزو أفغانستان ثم العراق.. وفي الوقت التي كانت فيه جيوش حلف الشمال الأطلسي تتدارس خرائط أفغانستان، صرح المُلاّ عمر تصريحات كثيرة تنم عن استعداده لهزم ثالث إمبراطورية في تاريخ الحروب الأفغانية محاولا إضفاء طابع ديني على هذه الحرب. وقد ولد سقوط أفغانستان والعراق فيما بعد انطباعا إيجابيا بالنسبة للغرب، انطباع بالنجاح النسبي وأن الأمور تسير كيفما خطط إليها وقد سارعت بل هرعت بعض الدول التي كانت تعرف بالدول المارقة أو محور الشر كَلِيبيا إلى تغيير سياستها حُيال أمريكا.غير أن الإيرانيين مثلا كانوا أول من وعى اللعبة وفهم أن أمريكا غارقة في المستنقع العراقي. إن الدرس الذي يمكن استخلاصه من حربي أمريكا على أفغانستان والعراق هو أنه من السهل الإطاحة بالأنظمة وهزمها لكن من الصعب هزم المقاومة المحلية ومن المستحيل بناء أنظمة موالية بتلك السرعة التي كان يعتقد الغرب أنها ستتم بها. وفي سعيهما لإضفاء الصبغة الدينية على حربيهما اهتدى بوش الابن إلى مقولة عالم الأخيار وعالم الأشرار وأكد أن من ليس معه فهو بالضرورة ضده، وقسم كذلك بن لادن العالم إلى عالم الكفار وعالم الإيمان إلاّ أن هذه التقسيمات لم تصمد كثيرا فسرعان ما تبين أنها وهم عابر.إن الإعلام الغربي وهو يضخم من خطر الأصوليين أهدى لهم من حيث يشعر أو لا يشعر أفواجا من اليائسين والمحبطين والمتمردين على ظلم واستبداد حكام الدول النامية، هؤلاء الذين يمكنهم أن يجدوا في التنظيمات الأصولية سبيلاً لدخول التاريخ من بابه الواسع. إن الإرهاب عدا إذن صورة من الصور الثورية للقرن الواحد والعشرين حيث أن الإعلام الرأسمالي بكل إمكانيته وتقنياته قضى على كل أشكال الفكر الثوري الكلاسيكي. 3) التفاعل التاريخي بين الحضارات عبر الحِقب والعصور لم يترك الفرصة لأرباب التفسير الأحادي لتبرير الحروب بالاختلافات الحضارية: لم تنشأ الحضارات معزولة عن بعضها البعض بل كانت هنالك تفاعلات وتبادلات ثقافية ودينية وسياسية. فكل حضارة إذن هي مسلسل تاريخي معقد من التأثير والتأثر والأخذ والإدماج لمكونات الحضارات الأخرى حسب الظروف التاريخية والغايات. وسنقتصر هنا على التطرق بإيجاز للعلاقات التاريخية بين المسيحية والإسلام من جهة، وبين المسيحية والبوذية من جهة ثانية، من خلال قراءة موجزة في كتابين أرَّخا لهاتين العلاقتين أولهما كتاب: "المسيحية والإسلام" للكاتب الروسي السابق الذكر أليكسي جورافسكي وثانيهما :كتاب "التنوير الآتي من الشرق" ل جي .جي كلارك. لنتبيَّن كيف استفادت المسيحية من الشرق في تطوير حضارتها وهويتها. رغم أن العلاقة بين المسيحية والإسلام كانت في القرون الوسطية علاقة تنافسية حيث رأت المسيحية في هذا الأخير خصم قوي يجب التغلب عليه، إلاّ أنها رأت كذلك أنه يجب الاستفادة منه وقد شمل تأثير الإسلام في المسيحية مختلف مناحي الحياة من الاقتصاد إلى الآداب مرورا بالعلوم والفلسفة والدين .. ففي ميدان التاريخ الاقتصادي تناقش اليوم قضية تأثير الفتح العربي الإسلامي في ما بين القرنين السابع والثامن عشر في نشوء الإقطاعية الأوربية فيما يصطلح عليه بأطروحة (pirenne) وفي الآداب مثلا يجري الحديث عن مدى تأثير الأدبيات الإسلامية في إبداعات الشاعر الإيطالي الكبير( دانتي ). كما عكف فلاسفة أوربيين على ترجمة متون ابن رشد الفلسفية وشروحاته لأرسطو بالإضافة إلى كتب الفارابي وابن سينا سواء في الطب أو الفلسفة. وفي القرن الثامن عشر احتلت الصين في نظر الغرب موضوع الفتنة والسحر حيث احتل كونفوشيوس في نظر الكثير من المفكرين من أمثال فولتير مكانة تقارب العبادة . ثم تحول الاهتمام في( العصر الرومانسي) صوب الهند حيث تزامن ذلك مع قيام الصين بغلق أبوابها في وجه الإرساليات المسيحية. كما تزامن مع بداية تنامي الشعور القومي لدى الأوربيين نتيجة الثورة الفرنسية. كذلك رأى الرومانسيون في الهند صورة البحث عن الطفولة والشوق إلى ما رأوا أن أوربا قد افتقدته وهو وحدة البشرية والواحدية مع الطبيعة وتوحيد الدين والفلسفة والفن. وهو ما يلخصه البعض بالظمأ الميتافزيقي ، حيث ظهرت مقولة روحانية الهند كمقابل لمادية الغرب. إن ترجمة "الأوبانيشاد" قد أسهمت كثيرا في فهم الغربيين للفكر الهندي. ولم يعد التأثير مقتصرا على المستشرقين الذين جابوا الهند بل تخطاهم ليشمل حتى الفلاسفة من أمثال شلينغ وفيشته وهيجل فضلا على شوبنهاور وشلاير ماخر..ومن خلالهم إلى الشعراء ك: جوته وشيلر ونوفاليس... وقد شكل القرن التاسع عشر كذلك بداية انبعاث هوس الغربيين بالصين من جديد مما وفر للباحثين فرص الإطلاع على جُل تراثيات الشرق والإلمام بها. غير أن بداية القرن العشرين شكلت منعطفا حاسما في تأثر الأوربيين والأمريكيين بالأفكار الشرقية التي بدت منسجمة مع العلم التجريبي. وقد شمل هذا التأثير مجالات عديدة ابتداءً مما اشتهر من تأثير واضح لعقيدة "الزن" في لسلوك الوجودي وأجيال الهيبنز . وفي مجال علم النفس عرَض جي.جي.كلارك لاهتمامات مجموعة من الباحثين المتخصصين ومحاولاتهم الحثيثة للاستفادة من الأفكار الهندية والبوذية والطاوية، ومن عدة ممارسات كاليوغا والتأمل الشرقي. والذين ذهبوا إلى أن "الساتوري" أو "الإستنارة" مثلها مثل العلاج النفسي الغربي تواجه ُبصفة مباشرة الظرف الوجودي، وذلك لأن كليهما تطرح سؤالاً واحدا:"من أنا؟". وثمة نقط التقاء كثيرة بين مدرسة علم النفس الإنساني ( الغربية) والشرق من بينها الرغبة في التعالي عن ثنائية (الجسد / العقل) . ويِؤكد المفكر الجشطليتي (كلوديوا نارنجو) مدى التأثير القوي للتأمل البوذي (مذهب الزن) على التوجيه الراهن للعلاج النفسي المعاصر. وفيما يخص استفادة العلم الحديث من الأفكار الشرقية يورد الكاتب شهادات وأدلة كثيرة تلقي الضوء على الدور الإيجابي الذي لعبته البوذية في تطور العلم الحديث. فالموقف البوذي على حدِّ تعبير كريسمايس همبفري:»إزاء جميع الظواهر والتعاليم كان دائما موقف العلم في العصر الحديث. فلندع جميع الأمور تبحث موضوعيا، من دون انحياز ومن دون مسلمات مفترضة. وأن نختبر كل شيء ، لأن ذلك كان هو رأي الذي ألزم به بوذا أتباعه»[الاقتباس من التنوير الآتي الشرق ص:260]. إن البوذية لم تدخل في صراع مع العِلم كما هو الشأن بالنسبة للمسيحية الكنيسية، وهذا ما يفسر السبب الذي جعل مفكرين غربيين كثيرين يتشبثون بها كعقيدة دينية. بل أكثر من ذلك يرى (هيزنبرغ ) أن انفتاح الفيزياء الحديثة على الشرق يمكن أن يساعد إلى حدٍّ ما في التوفيق بين التقاليد القديمة والاتجاهات الحديثة للفكر. مثال ذلك أن الإسهامات العظيمة لليابانيين في مجال الفيزياء النظرية منذ الحرب العالمية الثانية، ربما يكون مؤشراً على علاقة بعينها بين الأفكار الفلسفية في تراث الشرق الأقصى والجوهر الفلسفي لنظرية الكوانطا عن الواقع. 4)خلاصة ليس بوسعنا هنا سرد جميع الشهادات والوقائع التي تتعلق بمكامن التأثير والإفادة في جميع الميادين ولا حتى في الميدان الواحد، بل هدَفْنا بإيجاز إلى تبيان أن ثنائية الشرق والغرب أصبحت متجاوزة من وجهة نظر حضارية اللَّهم إذا نظرنا إلى الحدود الجغرافية، مما حدا بالبعض إلى القول بأن الاستشراق في طريقه للموت إن لم يستطع تجديد آلياته وموضوعاته ويتخلص من نزعة المحورية الأوربية التي ظلت مسيطرة عليه لقرونٍ طويلة. ومن جهة أخرى فإن مسلسل المُثَاقَفَة التاريخي بين الحضارات والبنائية الحالية للحضارة العالمية تُقوِّضان أية شرعنة لحروب المستقبل على أسس الاختلافات الحضارية. ------------------------------------------------------------------------ ببليوغرافيا بالعربية - التنوير الآتي من الشرق، تأليف جي . جي.كلارك ترجمة شوقي جلال. عالم المعرفة دسمبر2007. - الإسلام والمسيحية ، أليكسي جورافسكي، ترجمة خلف محمد الجراد. عالم المعرفة نوفمبر1996 - الإهانة في عهد الميغا إمبريالية، المهدي المنجرة مطبعة النجاح الجديدةالدارالبيضاء. - En français - La fin d'histoire et le dernier homme .françis fukuyama. Flamarion - Le choc de civilisation. Samuel huntington . broche . - Face d'ange dans le dédale ;Adam saint-moore ;fleuve noir(roman)