أعادت دعوة القس تيري جُونْزْ إلى حرق القرآن في ولاية فلوريدا إلى الأذهان مسألة صراع الحضارات، كما بلورها صامويل هنْتِنْغتُونْ في مقاله الشهير، والتي سماها إدوار سعيد «صراع الجهالات».. اشتهرت مقالة هنتنغتون، التي تضمنت طرحه ذاك، تماما كما اشتهرت مقالة فرانسيس فوكوياما حول «نهاية التاريخ»، خصوصا وأنهما معا كتبتا بعد انهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي. انبثق طرح هنتنغتون من ظرفية ما بعد نهاية الحرب الباردة، أي في سياق إعادة بلورة لخريطة العالم وعلاقات الدول والأنظمة داخله وتوزيع الأدوار في ما بينها. هذا الوضع الجيو استراتيجي المعقَّد هو بالذات ما أدى إلى الغموض في طبيعة التعامل معه (الطرح): هل نعتبره نبوءة تحققت بالفعل، خصوصا مع الحدث المؤسس المتمثل في أحداث 11 شتنبر 2001 وما تلا ذلك من حروب في العراق وأفغانستان ونزاعات دينية وإثنية وطائفية في مناطق أخرى من العالم؟ هل نعتبره مجرد تصور صِيغَ في إطار التحليل الجيو استراتيجي لطبيعة الصراعات ومآلها، من طرف خبير استراتيجي تماما، كفُوكُويََاما، همه الأساس وضع خبرته رهن إشارة الإدارة الأمريكية، لُيسهم، بشكل ما في صياغة سياستها الدولية الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة؟ هل نعتبر طرح هنتنغتون مجرد تصور «قيامي» لطبيعة الصراعات القادمة والعلاقات بين الدول والمجموعات البشرية؟ لو توقفنا قليلا عند مسألة تحقق «نبوءة» هنتنغتون أو عدم تحققها، لكان لزاما علينا القول إنها تمتح عناصرها من سرد سياسي قديم يعود إلى صراع الحروب الصليبية، ظل متجذرا في المتخيلات التاريخية للأطراف المتصارعة وتحول إلى إرث رمزي وسياسي على مدى قرون، سرعان ما تبرز عناصر ومكونات منه عند كل حدث أو انفجار صراع قوي وكارثي بين أطراف شديدة التعارض في مكوناتها الحضارية، والسياسية والثقافية، كما حدث بعد 11 شتنبر، حيث رأينا زعيم تنظيم القاعدة يتحدث عن الفسطاطين وجورج بوش الابن وعن «حرب صليبية» وما تلا ذلك من تشدد في الخطابات. القوة... محركة العلاقات الدولية إن هنتنغتون، بالرغم من إلحاحه في طرحه النظري على العامل الروحي لا يلغي أبدا الدور الذي تلعبه القوة. لقد شيّد تصوره أولا انطلاقا من منظور متفائل، حين أعلن في مقال سابق حول «صراع الحضارات» أن الولاياتالمتحدة لا تشهد انحطاطا بل تطورا وازدهارا متزايديْن، بسبب الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية كعنصرين جاذبين، لكنه سرعان ما تحول إلى منظور «متشائع»، حين رأى أن الاختلافات الاقتصادية والعسكرية بين البلدان الغربية والبلدان اللا غربية آخذة في الاضمحلال والزوال، وأن التفوق الكوني للحضارات الغربية غير مضمون على المدى البعيد. يرى هنتنغتون، تبعا لذلك، أن الحضارات الكونية لا يمكنها أن تتعمم ولا يمكن للعالم أن يعيش في سلام إلا إذا استمر الغرب، وعلى رأسه الولاياتالمتحدة، في ممارسة هيمنته على الأرض كلها. بالرغم من الجدل الذي أثير حول طرح هنتنغتون، فإنه يظل محللا واقعيا كلاسيكيا في تفسيره لأشكال الصراعات وطبيعتها، لأن الصراعات الثقافية والحضارية، كما صراعات القوى والمنافع، تظل شأنا متعلقا بالمجابهة التي لا تنهيها أي توافقات. تنهض الخصوصية النظرية لفكر هنتنغتون على التأكيد الدائم على الأهمية القصوى التي يكتسيها حفاظ الولاياتالمتحدة على تفوقها الدولي، لأن كل تساؤل حول هذا التفوق، يعتبر بالنسبة إليه تساؤلا حول مصلحة السلطة والمنافع على الأمن القومي حماية مصالح الدولة وإيجاد محيط دولي لممارستها. إن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم تحديات يلزم الاضطلاع بها على المستوى السياسي والاقتصادي. ليس هناك بالنسبة إلى هنتنغتون أدنى شك في أن الولاياتالمتحدة تشكل القوة الأساس للحفاظ على السلم الدولي والدفاع عن الحريات والديمقراطية واقتصاد السوق، لأن المصالح الأمريكية، من منظوره، هي في المقام الأخير مصالح الإنسانية بالذات، لذا فإنه لا يؤمن بإمكانية تلاقح الحضارات أو اتساع وانتشار فضاءات التعاون بين مختلف البلدان، لأن التعارض بين الولاياتالمتحدة والقوى الأخرى سيستمر، كما ستتزايد الصراعات بين الدول والجماعات القومية. التعارض بالنسبة إليه طبيعي، وكل نهاية حرب ما تضع الأسس لحروب ونزاعات قادمة. يذكرنا هذا بطرح العالم السياسي الألماني كَارل شْميتْ القائل إن العنصر السياسي الأساس هو إمكانية التمييز بين الصديق والعدو. إنها «سياسة الأقوى» التي يصير معها ممكنا وعاديا وطبيعيا أن يهيمن الأغنياء والأقوياء على الفقراء والضعفاء.. لقد صار، إذن، ضروريا بعد نهاية الحرب الباردة إيجاد أعداء جدد لتعويض العدو القديم: الاتحاد السوفياتي. لقد صيغت نظرية «صراع الحضارات» بالذات كتحذير للولايات المتحدة بوجوب مجابهة أعداء خطرين في المجال الروحي، السياسي، الاقتصادي والعسكري. خفايا وراء الطبيعة الدينية للصراعات السياسة الدولية صراع دائم من أجل السلطة، وفي هذا السياق، فإن وجهة النظر الواقعية، التي عبَّر عنها هنتنغتون، معروفة وشائعة منذ قرون عديدة، أيّا كانت التلوينات السياسية، الإيديولوجية، الحضارية والدينية التي تَلَبَّسَتْها. وقد صار طرح هنتنغتون العنوانَ البارز للصراعات التي انبثقت بعد نهاية الحرب الباردة وانتشر لدى جماعات بشرية وسياسية ذات مرجعيات إيديولوجية مختلفة عثرت فيه على ضالتّها لتبرير وضعها الاعتباري داخل العالم، وتفسير تعارُضاتها وحروبها وعملياتها العسكرية وأشكال العنف المختلفة التي تمارسها ضد أطراف تعتبرها أعداء. إن الإلحاح بالذات على الطابع الديني لصراع الحضارات أخفى ويُخفي سماته الأخرى السياسية والاقتصادية والعسكرية، خصوصا إذا ما اعتبرنا أن كل حضارة في ذاتها لا تكون بالضرورة متجانسة. كما أن مصالح الأطراف المكونة لها تختلف وتتمايز، بحكم أوضاعها الاعتبارية الجيو استراتيجية. خلف المرجعية الروحية أو الدينية لصراع الحضارات، إذن، تكمن تصورات تقليدية للسلطة وتصور ضيق للانتماء القومي ورؤية إيديولوجية مُحافظة. إن صامويل هنتنغتون جزء لا يتجزأ من فئة «الصقور» المرتبطين آنذاك بالإدارة الأمريكية والمدافعين عن خطها السياسي المتشدد، الذي عبَّر عنه آخرون إبان رئاسة بوش الابن، مثل كَارْلرُوُفْ، كما أن الكثيرين من معارضيه صنفوا أفكاره حول العلاقات الدولية ضمن ما أسموه «القومية الاقتصادية». يذهب كْرِيسْتُوفَر لاَيْنْ وروبير جَارْفِيسْ، وهما من أشد معارضي هنتنغتون، إلى أن الولاياتالمتحدة ليست مضطرة للدخول في رهانات قوة وتحديات عسكرية مع بلدان وأمم أخرى، للحفاظ على تفَوُّقِهَا ما دام التنافس الاقتصادي قد عوَّض المجابهة العسكرية. تتم المجابهة هنا بين تصور قومي ضيق (هنتنغتون) والتصور العبر قومي (معارضيه)، أي بين دعاة الواقعية التقليدية (هنتنغتون) والمدافعين عن الواقعية الجديدة المتمثلة في العولمة وتعدًّد الأقطاب. يوظف صامويل هنتنغتون مسألة صراع الحضارات كخطّ دفاع أخير عن تصور للسياسة كأمن قومي، كامتياز وكقوة وحفاظ على السيادة والتفوق. الملاحَظ أن التصور النظري عن «صراع الحضارات» لم يُثِرْ داخل الولاياتالمتحدة ولا البلدان الغربية الأخرى ردود فعل مهمة، لأنه بدا عاديا، لكنه على العكس أثار الكثير من السجالات والنقاشات داخل بلدان أخرى غير غربية، نظرا إلى اختلاف المكونات الثقافية والنفسية الجماعية وتباين الأفكار السياسية والمصالح والأوضاع الاعتبارية لهذه الدول. لم تصَُغْ إجابات حول هذه النظرية، بل كانت سببا رئيسا لدى العديد من الأوساط الأكاديمية، في التفكير مجددا في طبيعة السياسة الدولية والتساؤل عما إذا كانت صراعا بين الدول من أجل احتلال مناطق ومجالات حيوية أخرى أو الحصول على مصادر الطاقة، أم كانت صراعا بين مصالح اقتصادية متناقضة ومتنافسة، أو من أجل التفوق. إن العنصر الروحي أو الديني في فكرة «صراع الحضارات» ليس المكون الأساس بل مجرد مكون ضمن مكونات أخرى تحدد الدلالة السياسية العملية لهذه الفكرة ليس كنبوءة، بل كطرح جيو استراتيجي، أيَّا كانت قيمته النظرية أو خلفيته الإيديولوجية. من الدال هنا الإشارة إلى أن هذا الطرح أتى في سياق الازدهار الذي عرفتْه المؤسسات المختصة في التحليل والاستشارة الجيو استراتيجي في العالم الأنجلو ساكسون, ي وخصوصا في الولاياتالمتحدة، وهي المؤسسات المسماة «hink tank». يمكن ربط الأدوار التي يلعبها المحللون الإستراتيجيون، مثل فُوكُوياما، ضمن هذه المؤسسات، بتقليد قديم أسسه ماكيافيلي في كتابه «الأمير»، الذي ضمن مجموعة من وصاياه «الأمير»، والنظر إلى طموح هنتنغتون في أن يكون بدوره مستشار الأمير الذي هو الإدارة الأمريكية هنا. يمكن، أيضا، اختزال تحليله لصراع الحضارات في ثلاث نقط: 1 ستكون الحضارة العنصر الأساس المميَّز في التقسيم السياسي لعامل الغد، أي ما بعد نهاية الحرب الباردة. 2 ستظهر صراعات ونزاعات بين الدول الغربية واللاَّ غربية. 3 يجب على الحكومات الغربية اتخاذ كل إجراءات الحيطة والحذر إزاء العالم الإسلامي ومراقبة إمكانية تحالفه مع العالم الكُونْفُوشيوسِي (الصين)، علما أن الاقتراح الثاني يعتبر الأساس الحاسم بالنسبة إلى هنتنغتون. إنَّ ما طَرَحُه هذا الأخير ليس خريطة طريق تلتزم بها السياسة الدبلوماسية لكنه يتضمن أجوبة أساسا كان الوحيد الذي صاغها, بوضوح، بالرغم من الانتقادات العديدة لنظريته، أجوية عن أسئلة مثل: ما هي البنية المستقبلية للعلاقات الدولية؟ ما هي نوعية الفاعلين السياسيين فيها؟ كيف ستكون علاقاتهم؟ وفي أي المناطق ستنفجر الصراعات الرئيسية؟ مؤكدا أن هناك جانبا استقباليا عمليا في هذا الطرح، يتغيّى الوقوف عند طبيعة الفوضى القادمة وتحليلها. انهيار الاتحاد السوفياتي وفكر «الفوضى الخلاقة» بعد انهيار جدار برلين وبروز مخاطر وأشكال عنف جديدة، تم الحديث من طرف الإدارة الأمريكية عن «تنظيم الفوضى أو إدارتها»، كما تم الحديث من طرف فاعلين آخرين عن «استراتيجية لنشر التوحش»، كما يلزم التذكير أيضا بأحد شعارات الثورة الثقافية الصينية القائل «هناك فوضى عامة، إذن فالوضع جيد».. إن صامويل هنتنغتون ليس فيلسوفا من طينة هيغل ولم يؤسس نسقا منتظما ولكنه مجرد محلل استراتيجي، يقرأ الأحداث الراهنة بحس استباقي متفاوت القيمة. وانطلاقا من هذا, فإن استشرافه المستقبلي لأفق الصراعات انبنى على معطيات موضوعية (مثل عودة الدين كعنصر محدد للصراع على الساحة الدولية/ ظهور فاعلين يتبنونه كإيديولوجيا معركة/ واقع العولمة الذي سيزيد من تبعية دول وجماعات قومية لدول أخرى... إلخ. قادته إلى القول إن الاندماج المتزايد بين هذه الأطراف سيؤدي حتما إلى شعور الحضارة الغربية -كما يدافع عنها هنتنغتون وأتباعه- بصدمة عنيفة. حدة هذا الشعور بالذات وعنفه البالغ، ستقود الغرب إلى التعبير عن رغبة عارمة في اتخاذ إجراءات، وقد يكون من ضمنها اللجوء إلى القوة العسكرية، لمقاومة النزوع الجارف إلى عولمة تُلغي التمايزات كلها. لا ينشغل هنتنغتون بالديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان ومسألة السيادة، لأن كل همه منْصَبٌّ على التحالف الظاهر أو الخفيّ بين البلدان النامية ضد الغرب، مثل الصين وأندونيسيا وإيران وماليزيا وغيرها، لأنها تروم مقاومة الضغط السياسي للغرب، بنِسَب متفاوتة. إن حديث هنتنغتون عن التحدي المطروح على الدول الغربية من طرف الدول غير الغربية، غير مجانب للصواب، لكن معرفة هل سيفضي ذلك إلى صراع حضارات، كما أنبأ بذلك، يظل معلقا إلى حين، تماما كما سيظل صعبا التأكيد على أن النزاعات والصراعات الكائنة الآن في العالم هي أقل حدة ومستوى من الصراع بين الغرب والدول اللاّغربية. رغم كل السجالات والتجاذبات التي أفرزتها نظرية «صراع الحضارات»، فإن هنتنغتون لا يُعتبر الناطق الرسمي باسم الإدارة الأمريكية أو إن «صراع الحضارات» قد صار عقيدتها الاستراتيجية الجديدة.إن نظريته تحليل وقراءة لأزمنة الانتقال إلى ما يعد الحرب الباردة وتجسيد عملي لهذه الأزمة، لأن هنتنغتون صاغها كمحلل استراتيجي يميني محافظ ومدافع عن المصالح الضيقة للولايات المتحدة، وإنها تعبير عن حالة عامة تقول بحتمية الصدام وتترجم خيارا سياسيا واضح المعالم. إن الحضارة بالنسبة إليه، هي الحضارة المسيحية البيضاء، وكل منافس لها «عدو» محتمَل.. كما أن العالم الوحيد الذي يستشرفه، يتنبأ به أو يتخيله، هو العالم المليء بالصراعات.. قد يكون هنتنغتون، كما في الأساطير الإغريقية «كَاسانْدَرا»، التي تتنبأ وتقول الحقيقة، دون أن يصدقها أحد، أو «أوديب»، الذي تحققت نبوءته بشكل ذاتي، عبر مسار مسطَّر سلفا. لقد قلنا آنفا إنه ليس فيلسوفا، لأن الفلاسفة والمفكرين الكبار لا يربطون فكرهم بأرض أو وطن أو حضارة ما، بل يصيرون كونيين، بينما ظل هنتغتون مرتبطا بحضارة واحدة ومدافعا عنها، ومع ذلك فمن الضروري قراءته وتحليله، إذ لا خلاص للجَهَلة!..