رحل الباحث الامريكي صاحب نظرية صدام الحضارات «صموئيل هنتنغتون» في نهاية شهر ديسمبر2008 دون اهتمام اعلامي بغيابه.رغم ان نظريته شغلت الساحة الفكرية بالعالم خلال العقدين الاخيرين، بل إن مدرسته في السياسة الخارجية كان لها تأثير واضح على ادارة سياسة بوش الابن.وتعدد اتباعها مع تفجيرات الحادي عشر من شتنبر سنة2001 وقام الرئيس الامريكي السابق جورج بوش وزعيم القاعدة اسامة بن لادن بتسويق هذه النظرية من خلال سلوكاتهما ورؤيتهما معا للعالم وصبهما للزيت على النار في كل مناطق التوتر سواء بفلسطين، افغانستان ، العراق .ودعم هذا التوجه نائبيهما ديك تشيني وايمن الظواهري .كما ان سيطرة المحافظين الجدد على البيت الابيض وسيادة خطاب المواجهة بين الخير والشر بالولاياتالمتحدةالامريكية وخطاب العنف والجهاد بالشرق الاوسط ، كانت كلها عوامل جعلتنا نعتقد بصراع الحضارات بين الغرب المسيحي والشرق الاسلامي . كما ان قناة فوكس نيوز الاخبارية بالولاياتالمتحدةالامريكية والقناة الاخبارية الجزيرة القطرية لعبتا دورا هاما في نشر هذه الاطروحة السياسية، سواء بالولاياتالمتحدةالامريكية او بالبلدان العربية. كما أن زعيم الكيان الصهيوني ارييل شارون استغل هذه الوضعية المأساوية بالعالم ليزج بالقضية الفلسطينية في هذا المنحى ويغتال كل امال السلام والحوار بالمنطقة، مما جعل كل الجهود التي بذلت منذ اسلو تذهب ادراج الرياح.و جعل السلام هدفا بعيد المنال منذ المذبحة الاخيرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الأعزل بغزة.وموقف الاعلام الغربي والذي كان في غالبيته معاديا للفلسطينيين ومؤيدا للاحتلال والعدوان الإسرائيلي هو سلوك يكرس إيديولوجية صراع الحضارات بمعنى ان الصراع هو ثقافي بين الغرب المسيحي اليهودي والشرق المسلم. وقد برزت نظرية صدام الحضارات ل»صموئيل هنتنغتون» من خلال مقال كتبه عام 1993 حمل نفس العنوان بمجلة «فوريين افيرز» الشهيرة ، الذي وسعه في كتاب نشره عام 1996 بالولاياتالمتحدةالامريكية ،وترجم الى الفرنسية سنة 1997 . وهو رد على كتاب احد تلامذته فرانسيس فوكوياما ،الذي كتب سنوات قبل ذلك كتابا سماه «نهاية التاريخ والانسان الاخير»وملخص اطروحته هو انه بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي، فإن الامل الوحيد للانسانية هو الديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق وان التطور نحو الحداثة لا بديل عنه . لكن اطروحة هنيغتون تسير عكس ذلك وتتنبأ بصراع الحضارات وتعتبر هزيمة الاتحاد السوفييتي واندثاره وضعت حدا لجميع الخلافات الايديولوجية التي سادت العالم، لكنها لم تنه التاريخ. فالثقافة، وليس السياسة والاقتصاد، هي التي ستحكم العالم. وقد عدد ثماني ثقافات هي الغالبة في عالم اليوم والتي يمكن ان تدخل في صراعات بينها وهي الثقافة الغربية، الثقافة الكنفوشيوسية، الثقافة اليابانية، الثقافة الاسلامية، الثقافة الهندوسية، الثقافة السلافية الارثوذكسية، الثقافة الامريكية اللاتينية، وربما الافريقية (على اعتبارأنه لم يكن متأكدا من أن افريقيا هي فعلا في طور الحضارة .لكنه قبل موته شاهد انتخاب رئيس أسود هو باراك حسين اوباما وهو من أصول افريقية الذي يتبنى سياسة ستضع حدا لنظرية صراع الحضارات) بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ونهاية الحرب الباردة، أعلن «فرنسيس فوكوياما» أطروحته بشأن «نهاية التاريخ والانسان الاخير» التي عبرت عن اعتقاده في قيام عالم متناسق منذ ذلك الحدث يقوم على قاعدة الديمقراطية الغربية بمعناها الفكري والسياسي، مما يمثل نهاية للتاريخ كما كان، أي أن النقطة الاخيرة من نقاط التطور الايديولوجي للبشرية وتصميم الليبرالية الديمقراطية الغربية كشكل أخير من أشكال إدارة المجتمعات البشرية،وهو اعتقاد سائد لدى اغلب الغربيين الذين يحاولون تصدير شكل ديمقراطيتهم الى باقي العالم على أساس أنها تصلح لباقي الشعوب وأنها شأن كوني حسب أطروحة فوكو ياما. ردا على هذه الأطروحة، كتب «صموئيل هنتنغتون» نظريته «صدام الحضارات» وتمثل كل واحدة من هذه الثقافات، حسب أطروحة هنتنغتون، أنظمة قيم مختلفة يتجسد كل نظام منها في دين «يشكل على الأرجح القوة المركزية الدافعة والمحركة للشعوب» أما الخط الفاصل الرئيس بين هذه الثقافات ، فيمر بين «الغرب وبقية العالم»، لأن الغرب وحده يرفع «قيم» الفردية والليبرالية والدستور وحقوق الانسان من مساواة وحرية وسيادة القانون والديمقراطية، والاسواق الحرة» وتبعا لذلك، على صناع السياسة الخارجية في الغرب (المركز الحضاري الغربي، خاصة الولاياتالمتحدة) أن ينتبهوا الى هذه الحقيقة، وان يحددوا ويخططوا لسياستهم الخارجية وفقا لها بناء على الخط الفاصل، الذي ذكرته قبل قليل، إذا أرادوا استمرار السيادة الحضارية والسياسية للغرب في مواجهة الحضارات المنافسة- يقول هينغتون «وخصوصا الأكثر خطورة بينها، وهي الاسلام والكونفوشيوسية اللتان تشكلان عند اتحادهما خطرا على قلب الحضارة» طبعا صامويل هنغتون في اطروحته هذه لم يقل بنهاية الدولة الوطنية المركزية بل يعتبر انها ستستمر كفاعل اساسي على مستوى العلاقات الدولية ، لكن الصراعات المركزية والشاملة سوف تدور بين مجموعات تنتمي الى حضارات مختلفة وصراع الحضارات هو الذي سيطغى على الصراعات الدولية والخط الفاصل بين الحضارات سيكون هو خط التماس في المعارك المستقبلة يضيف هنيغتون.وهو يعتقد أن الحضارات تتحد حسب ديانتها الاصلية بمعنى المسيحية،الاسلام والبودية الى اخره. لقد أثارت أطروحة هنتنغتون موجة واسعة من البحوث والندوات والردود والتعليقات في مختلف أرجاء العالم بما في ذلك الوطن العربي، وهي زاخرة بالرفض والنقد وحتى التشكيك بالنوايا، وبالمقابل طرح مفهوم «الحوار بين الحضارات» تصديا لأفكار هنتنغتون بعد أن استشعرت أوساط واسعة في العالم خطورة ما يترتب عنها من نتائج على مستقبل العلاقات الدولية والبشرية عبر العالم. ان اطروحة هينغتون هي مبنية على ثقافة واحكام الكنيسة الكاثوليكية الكلاسيكية التي تنظر الى الاسلام وحضارته كمنافس وعدو منذ الحروب الصليبية حتى الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر.من هذا المنطلق، فإن هينغتون عكس افكار سائدة واحكام قيمة كانت موجودة، لكن هذه المرة حول الدولة الوطنية التي لها نموذج ثقافي. لكن احسن رد على هذه الاطروحة كان للمفكر الفلسطيني ادوارد سعيد الذي اجاب بمقال سماه «صراع الجهل» ونشرته اليومية الباريسية لوموند والذي فند فيه اطروحة صمويل هينيغتون « صراع الحضارات»وبين فيه كيف ان مختلف الشعوب والحضارات هي مرتبطة ببعضها البعض وكل واحدة تابعة للاخرى لتحقيق العديد من حاجياتها.حسب الراحل ادوارد سعيد. هذا بالاضافة إلى أن نظرية صدام الحضارات تعكس بصفة عامة نظرية المركزية الاوربية الكلاسيكية التي تعتبر الغرب وحضارته مركز العالم وبقية حضارت العالم هي هامش ليتطور عليه السير على طريق المركز، بل يطالب الغرب بمراقبة الحضارات التي تشكل خطرا عليه من اجل احتوائها والسيطرة عليها.لأن هينيغتون في كتابه صور الغرب على انه مسيج ومحاصر من طرف حضارات تكنّ له العداء وتريد القضاء عليه. وجاءت تفجيرات 11 من شتنبر 2001 لتجعله يتشبث بأطروحته أكثر خاصة انه في كتابه ،في الفصل الاخير ،يتصور «الاسلاميين» يحصلون على السلاح النووي. هذا الكتاب خلق نقاشا واسعا وترجم الى حوالي أربعين لغة ونظمت حوله مئات الندوات عبر العالم، خاصة باوربا والعالم العربي .وكان هدف هذه اللقاءات مناقشة هذه النظرية التي وجدت لها ارضية خصبة في العقدين الاخيرين في منطقتنا ،خصوصا بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي الذي كان يوفر الاستقرار للعديد من المناطق بالعالم .وهو الدور الذي اختفى مع نهايته.بل ان بؤر التوتر العديدة التي يعرفها العالم العربي والاسلامي ،لأسباب جيوستراتيجية واقتصادية وليست دينية ،لتوفره على ثلثي احتياط الطاقة العالمي زادت من تقوية احساس صراع الحضارات هذا. هكذا عرف العالم العديد من الندوات حول هذا المفهوم الجديد أهمها احتضنته قاعة اليونسكو بباريس ورعاه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك والذي كان من الغربيين القلائل الذين فندوا هذه النظرية من خلال مواقفهم السياسية، بل إنه كان له وعي كبير بمخاطر هذه النظرية ومنزلقاتها، خاصة أن نظرية صراع الحضارات هي شعبوية ومبنية على العواطف يمكنها ان تجر العالم الى حروب بدون نهاية. هكذا قال الرئيس الفرنسي لا للحرب على العراق وندد بهذا الاحتلال مما جعل الغرب لا يكون كله وراء جورج بورش وحروبه الرعناء بالمنطقة. كما انه ندد بالاحتلال الاسرائيلي لفلسطين بقوة وهي كلها مواقف نفتقدها اليوم .وقام برعاية العديد من الندوات للحوار بين الثقافات والبحث عن ما تقتسمه الحضارات فيما بينها .آخر الندوات التي حضرتها حول الموضوع اقرت بأن «التعارض ما بين الاسلام والغرب ليس وجيها، ويُكذبه التاريخ والجغرافيا، وعلى سبيل المثال يصعب تحديد أماكن جغرافية خاصة «بالاسلام» وأخرى خاصة «بالغرب»، وحتى على مستوى المفاهيم، مصطلح «الاسلام» و»الغرب» ليست نافعة في الاستعمال لتحديد الأمور: ألا يوجد عرب مسيحيون؟ ولماذا نتحدث عن الصرب، الكروات والمسلمين، في حين يوجد المسلمون بين مختلف هذه الإثنيات؟ الا يوجد صرب مسلمون وكروات مسلمون؟» «وحتى الإسلام نفسه، فهو متعدد حسب المدارس والبلدان التي يطبق بها، وعند اعتماد مقاربة محدودة لهذا التنوع الغني لا يمكننا فهم المنطقة وتنوعها ، «أوربا تعرفت على العالم الإسلامي فقط في القرن 19،وفي الوقت الذي كان فيه العالم العربي يمر من مرحلة صعبة في تاريخه تميزت بالركود والتخلف، في حين ان العالم الاسلامي عرف فترات كبرى للفكر والحضارة يجب إزالة الغبار عليها، والاسلام ساهم في تطوير الحضارة الغربية والعالمية من خلال اللغة العربية التي نقلت مجموعة من المفاهيم المهمة اليوم (الجبر، الكمياء ) من خلال أعمال الترجمة التي تمت خصوصا بالأندلس» هل الديانة الاسلامية تشكل عاملا للقطيعة؟ الثقافة الاسلامية تعترف بمكانة كبيرة لباقي الثقافات،والبحر المتوسط كان فضاء مفضلا للتبادل بين الثقافات لعدة قرون، وحسب العديد من المتدخلين، فإن أصل القطيعة التي يتم الإحساس بها او الحقيقة هي عدم معرفة الثقافات » في هذه الندوة ايضا تم التطرق الى الهجرة العالمية والهجرة بحوض البحر الابيض المتوسط ودورها في التقارب بين الشعوب،منذ عدة قرون أصبحت أوربا قوة اقتصادية، وتكرس هذا المنحى ببناء الاتحاد الاوربي، لكن في نفس الوقت شهدت تراجعا ديمغرافيا مستمرا، في حين ظلت الدول المتوسطية على هامش هذا النمو الاقتصادي العالمي، لكن في مجموعها ظلت بلدانا تعرف في أغلبها نموا ديمغرافيا مهما، لكن عدم التوازن الاقتصادي والديمغرافي يتم تعويضه بحركة هجروية من الجنوب نحو الشمال، شجعه القرب الجغرافي وتواجد تقاليد للتبادل بين المتوسط وأوربا» «وهذه الهجرة الاقتصادية تؤدي الى نوع من التوازن جزئي وله نتائج نسبية وهي تشبيب الساكنة الاوربية، وكذلك استفادة دول الجنوب من العائدات المادية عبر التحويلات» لكن هذا التطور يطرح بعض المشاكل، مرتبطة في نفس الوقت بتعدد الأصول والحالة الوسيطة للوضعية الحالية: من جهة استمرار الفقر وضعف التنمية يشجع الخطابات الدينية العنيفة لدى الشباب بدون عمل ورهن إشارة بعض المغامرين، ومن الجهة اخرى غياب الاندماج للمهاجرين في الاقتصاد، مما يخلق جوا من الشك وعدم الثقة وهو إحساس متبادل بين بلدان الاستقبال والبلدان الاصلية » العلاقة بين الضفتين توجد في مرحلة حساسة مع تطورات في اتجاه لا توازن كبير ونحن سواء في اتجاه تقارب سريع أو عزلة دائمة بين الضفتين. هذا الاختلاف بين الضفتين ينظر له كنوع من التكامل ما بين القوة الاقتصادية وبين القوة الديمغرافية وهو ما يشكل نوعا من التوازن بالنسبة للمستقبل، وهناك من يرى فيها بديلا للتطرف، مما سيؤدي الى مواجهة حتمية تساهم في «صدام الحضارات» وغير بعيد عن هذا النقاش الثقافي والسياسي الذي يتطلب تحليلا تاريخيا للعلاقات الأورومتوسطية، لابد من الاتجاه نحو المستقبل والشباب وإشراكه في هذا النقاش. وما زلت اتذكر ان ابير فيدرين وزير خارجية فرنسا السابق في الحكومة الاشتراكية لعب هو الاخر الى جانب جاك شيراك على دحض نظرية هنيغتون ولخص فيدرين نقاش منتدى باريس بالقول : أن نظرية صراع الحضارات ليس لها أي أساس صحيح، وان الاصطدام في العالم هو لأسباب أخرى غير الاسباب الحضارية والثقافية والنظرية الثانية هي أن صراع الحضارات غير ممكن، لأن الكل يصبو نحو الديمقراطية وحقوق الانسان، وأن التاريخ يعلمنا أن الحداثة ليست حكرا على الحضارة الغربية المسيحية،وهو طرح يقوي نظرية فرانسيس فوكوياما الذي يعتبر ان الديموقراطية والحداثة هي من سينتصر. طبعا مات الباحث الامريكي صاحب نظرية صدام الحضارات «صموئيل هنتنغتون»في نهاية شهر ديسمبر،دون اهتمام العالم بغيابه.رغم ان نظريته شغلت النقاش الفكري بالعالم خلال العقدين الأخيرين وفي فترة وجيزة بعد موته غادر جورج بوش البيت الأبيض وترك أمريكا غارقة في أزمة اقتصادية خطيرة لم يشهدها العالم منذ 1929 من القرن الماضي،كما ترك امريكا غارقة في العديد من الحروب بالعراق وافغانستان.و ترك امريكا كبلد مكروه في العالم العربي والاسلامي. كما ان الاسرائيليين استغلوا هذه الادارة وتساهلها لإطلاق رصاصة الرحمة على مسار السلام وتقتيل الفلسطينيين، مما ابعد امكانية السلام في الظروف الحالية مع الفلسطينيين والعرب.لقد ترك هينيغتون العالم في وضعية سوداء هي اقرب لصراع الحضارات وسيادة الكراهية وللاستقرار والتهديد بالعنف والارهاب بكل ارجاء العالم وخاصة بالشرق الاوسط بشكل لم يشهده العالم حتى اثناء الحرب الباردة . وصامويل هينيغتون قال بنفسه «الاحداث التي يعرفها العالم اليوم تقوي أطروحتي حول صراع الحضارات وأفضل ان يحدث العكس» لكن الامل جاء كذلك من الولاياتالمتحدةالامريكية بانتخاب براك حسين اوباما .لقد شاءت الصدف ان يقود الامل شاب من ثقافة مزدوجة: اسلامية من اب افريقي ومسيحية من ام اوربية.مما سيعيد الامل للحوار من جديد بدل الاصطدام وسيجعل نظرية صراع الحضارات تموت مع صاحبها الى الابد.