الحجر الصحي والوعي بالحقائق الخاطئة من المؤكد كما كتب باحثون ومتخصصون أن مفاهيم كثيرة تتغير في زمن كورونا هذا الذي نعيشه. يبدو لي في هذا السياق أن الأهم هو فرصة إعادة اكتشاف أشياء كثيرة بالتساؤل وقبله بالاندهاش كما سبق وفعل الفيلسوف سقراط. يكون الأمر أكثر فائدة للفرد وللأسرة وللمجتمع، بل وحتى للدولة، بالرجوع إلى تاريخ الفلسفة العامة، والابستمولوجيا خاصة، وثوراتها على الكثير مما شكّل حقائق دامغة لقرون طويلة، ليتبين من بعد أنها كانت أوهاما وأخطاء عرقلت التطور. نقترح في هذه المقالة تأملا أوليا في مفهومين-حقيقتين هما المرأة والبيت. غالبا ما كان هذان المفهومان ضحية لثقل بديهيات وموروثات شكَّلت عقيدة لا تتزحزح. فهل سنتوقف عن "ترويض الشرسة" (The Taming of the Shrew)، كما قال شكسبير؟ والواقع أن كل الثورات التحديثية والحديثة التي عرفتها أكثر البلدان تطورا من المنظور الاجتماعي والتربوي والثقافي والقيمي، (مثل الدنمارك وفنلندا والسويد وكوريا الجنوبية وسنغافورة ونيوزيلندا...)، اعتمدت أساسا إعادة النظر في هذين المفهومين – مع مفاهيم أخرى – في ثوراتها الهادئة ضد، ليس الأمية المُركبة فقط، بل وضد دونية المرأة وتحقيرها، وهو ما يشُلُّ قدراتها الإنتاجية والإبداعية، حارما المجتمع التقليدي المتخلف ثقافيا واجتماعيا من نصف ذكائه وطاقاته وقدراته التي تمثلها المرأة، ومُكرِّسا التصورات التي تعرقل أي تكافؤ في الفرص بينها وبين الرجل في المجتمع، على قاعدة الاستحقاق والحرية في الولوج إلى التجربة. انطلاقا مما سبق، وباعتبار الحجر الصحي طاقة ودافعا قويا للفرد وللمجتمع وللدولة للتفكير في البديهيات واليقينيات القاتلة -كما هو معروف فلسفيا – ما الشروط التي تدفع إلى إعادة النظر في البيت المغربي والمرأة ضمنه في الذهنية السائدة؟ البيت فضاء الأُلفَة المَنسِية: يستفيق "السّيد" عادة ويخرج من البيت، بعد طقس الغسل ورش العطر وتسوية ربطة العنق وابتسامة مرفقة بسحنة الإنسان المهم والمسؤول. بين المقهى والهاتف والمكتب، ربما المطعم أيضا، والأصدقاء ذكوريا حتى النخاع مساءً، تسكن ذهنه بديهية لا يرقى إليها الشك: إن البيت في مكانه بألف خير ينتظر في أمان وكل شيء فيه جاهز ومُيَسَّر. يتكرر هذا الحال يوميا ليصبح، مع الوقت، بديهية تقضي تماما عل إمكانية أي وعي، من السيد والأولاد والمجتمع، بالفرق الشاسع بين بيتٍ يسكنه من يخدمه صباح مساء، ولو كان يشتغل خارجه أيضا، وبين من لا يحرك ملعقة فيه ويستفيد من خدمة من يشتغل، مثله، خارجه. يكون البيت في هذه الحالة فضاء داخليا للدونية وللأنانية وللسلطة في اتجاه واحد. إنه بيت الموروث غير الخاضع للمساءلة: إنه الفضاء الواسع للراحة والمتعة والهناء للبعض، وفضاء العمل والسخرة وخدمة الآخرين للبعض الآخر. تلك هي وضعية المرأة في البيت، أُمًّا كانت أو أختا أو ابنة أو زوجة دون فارق، رغم ما يبدو عليه الأمر من حيث مشاعر المحبة والاحترام. إنها محبة واحترام لا يلغيان تفاوت المواقع بين عمادين للأسرة. إنه فضاء البيت الذي لا يتساءل ولا يعيد النظر في معنى المحبة ومعنى الاحترام. هل تمس فترة الحجر الصحي شيئا من هذه القناعات لدى الغائبين باستمرار عن البيت الذين هم اليوم "سُجناؤه" من الأزواج والأبناء يعيدون اكتشافه واكتشاف قيمة المرأة معه؟ المرأة شريكة الحياة المغبونة لا نتحدث هنا عن الاستثناءات حيث مستوى المعيشة يسمح بتوظيف الخادمة والطباخ والسائق وشراء كل غال ورخيص ولو باعتدال، فذلك يشبه مُسَكِّن الآلام الذي يُخفي الأساسي، أقصدُ الموقع الثاني والتابع للمرأة حتى في هذه المستويات من أصحاب الدخل المُرتفع، كلما تعلق الأمر بمواقف امتلاك السلطة والقرار والوجاهة الاجتماعية والسيادة. تاريخ طويل هو من الشكوى والاحتجاجات والنضالات والتحليلات والإجراءات والخطط والخطب لتصحيح أوضاع المرأة، في مجتمعاتنا التي يتفق الجميع اليوم على عدم استوائها. لا يلغي ما سبق التقدم الكبير، تشريعيا خاصة، في أوضاع المرأة منذ الاستقلال، لكن المشكل في تطبيق القوانين وتطويرها أكثر. من الصعب تغير الذهنيات عندما يكون التحديث مبتورا من الطاقة الهائلة للإعلام والتعليم والثقافة. ينبغي أن يكون ذلك بتنسيق ذكي مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتشريعية والتكنولوجية. تستيقظ "سيدة البيت" وتتجه بعد القيام بالضروري نظافة وعناية بالجسد، إلى خدمة الآخرين في مرحلة ستمتد طيلة اليوم -نهارا وليلا. المألوف الذي يُفرح السيد والآخرين هو أن تكون في الخدمة، طبخ وغسل وكيٌّ وترتيب وتنظيف ووقوف على كل شيء: أمي أين جواربي الخضراء؟ زوجتي أين قميصي الأزرق أرجو أنه مكوي بعناية؟ أبنتي هل هيأت لأخيك السندويتش لنزهته مع أصدقائه؟ أمي أموت جوعا هل...؟ ومن يخدم الأم إلا لماما أو إن كانت طريحة الفراش؟ الأم هنا أم الصغار والكبار، أم في دور ابنة أو زوجة أو جدة أو خادمة... وكثيرا ما تكون متقمصة، بالضرورة الاجتماعية، عدة أدوار مما ذكرناه دفعة واحدة. لو راجعنا في هذه الفرصة شيئا مما البيت عليه والمرأة فيه، لاكتشفنا أن هناك الكثير من الحقائق التي ليست من الحقيقة في شيء. إنه اللاتكافؤ والكثير من الأنانية وسلب الحقوق يكتسي لباس حقيقة هي في الواقع باطل. هل ستجد المرأة يوما صورتها، "Her Portrait" على حد تعبير Henry James، في ظل الفرصة غير المسبوقة للحجر الصحي؟ *كاتبة باحثة في الثقافة البصرية