منذ هبوب رياح كورونا علينا ونحن نستشعر حالات الخوف والحزن والاكتئاب والأمراض النفسية التي من شأنها أن تفتك بنا حقا، وأن تلحق بنا من الضرر والتحطيم النفسي أكثر مما قد تلحقه بنا كورونا، وعند معاينتنا لآرائنا وتصوراتنا تجاه الأشياء نجد أن الخلل الذي يجب معالجته راجع إلى افتقادنا القدرة على تصور جمالية الأشياء، إذ لا شيء يعدل الآن حصول حالة السعادة بداخلنا وانتشار عبقها بين جدران بيوتنا. إننا اليوم في زمن كورونا، أشد ما نكون بحاجة إلى إعادة تصور السعادة إزاء تداعياتها ومخلفاتها في حياتنا التي طالما ألفناها، في حاجة لارتداء نظارة جديدة تجلي لنا بوضوح حقيقة السعادة، وطرح النظارة القديمة المضببة للأشياء والمفقدة لحقيقتها الكاملة وقيمتها السامية. وهذا المقال محاولة لمساءلة أنفسنا حول ما إذا كنا نتصور السعادة بطريقة صحية كي نتذوقها ونعيشها على حقيقتها، أم أننا نُعرّفها بتلك اللحظات النادرة التي نحصل فيها على ما نريد، أو تلك التي نجد فيها متعة أو لذة حسية زائلة فحسب. أسئلة عالقة إذن تطرق أذهاننا تترى حول إشكالية تصور السعادة في خضم منعطف كورونا؛ فماذا نعني بإعادة تصور حالة السعادة؟ وما صور السعادة التي منحتها لنا كورونا بالرغم من استحضار جانب الضرر فيها؟ حول مفهوم "التصور" و"السعادة": يستعمل مفهوم "التصور" في اللغة العربية كمقابل لمفهوم "التمثل"، ويعني التصور من خلال الفعل اللاتيني « Repraesentare » استحضار أو جعل الشيء حاضرا (Rendre présent) ، أو كما يعرفه موسكوفيشي (Moscovici, 1975) بقوله: تصور الشيء هو إعادة إحضاره مرة ثانية إلى مجال الوعي، وإعادة إصداره وبنائه رغم غيابه عن المجال البصري ".إذن هو فعل عقلي ينطلق من التفكير في تمثل شيء سبق وأن ترسخ في الوعي، وإعادة الشعور به بالرغم من غيابه المادي. والسعادة مطلب البشر كلهم، ولا يختلف أيا كان مع نفسه في هذا المطلب وفي ضرورة امتلاكه، بل إن الإنسان يظل يحس بالرضى النفسي في حياته ما دام يتمرغ في صور السعادة، وما إن تُرفع عنه هذه الحالة حتى يحس بالضجر ويُعلن السخط على ذاته وعلى مجتمعه. وإذا كان تصور قيمة السعادة لدى الإنسان يقتضي إعادة إحضارها إلى مجال وعيه، فإن صعوبة هذه العملية تتجلى في كون السعادة حالة نفسية لا يحكمها المجال البصري أو الحسي بل ما يحددها هو الشعور والإحساس بها. إن كون السعادة حالة نفسية هو ما يضفي عليها التعقيد ويجعلها عزيزة المنال من جهة لدى البعض، وما يفسر – أيضا - أنها مطلب سهل التحقيق من جهة ثانية لدى البعض الآخر إن هو أعاد تصورها. ولتبسيط المسألة أكثر لا بد لنا من قياس هذه الحالة عند الإنسان الفقير مثلا؛ الذي قد يجد السعادة في حياته البسيطة التي ربما قد لا تعتبر حياة بالنسبة لمن يمتلك من كل خيرات الحياة نصيبا وافرا، ومن يظل سابحا بين صنوف المتعة والملذات. فالخلل إذن قد يعود إلى أصول التفكير لدى الإنسان إزاء تصوره للسعادة لا بقدر الملذات الذي قد يظن أنها المطلب لتحقيق حالة الرضى المثالية تلك. لقد آن الأوان لمراجعتنا لأصول التفكير، والاستفادة من التجارب والمعطيات الجديدة في تعديل العديد من وجهات النظر التي تمسكنا بها، بناء على ظنون وأوهام، أو بناء على قراءات ناقصة لواقع الحياة. "ارتور شوبنهاور" (1860م) من أشهر فلاسفة الألمان، ومن أشهر الفلاسفة في التاريخ، له أسلوب نافذ حاد ومقنع في تفسير وتصور السعادة والشقاء. يقول " نحن نُحس بالألم إذ أصابنا.. ولا نحس بالخلو من الألم بعد فترة قصيرة من زواله". فنحن نحس بحالات الضر والحزن والهم إذا حلت بنا.. ولا نحس بالصفاء والعافية والفرح بعد مضي تلك الحالات بقليل.. كما نشعر بالرغبة وبالجوع والعطش، ولكن ما أن نعمل على إشباع تلك الرغبة إلا وتصير مثل تلك القطع من الحلوى التي نتذوق طعمها في الفم ثم لا يكون لها وجود بالنسبة للإحساس بعدما تُبتلع، ونحن نعاني أشد الألم إذا خلت حياتنا من الملاذ والمسرات، فنأسف على ذلك بوضوح ومضاضة، أما زوال الألم فعلى العكس من ذلك لا نحس به إلا برهة يسيرة ويصير الأمر لدينا عادياً وباعثاً على الملل. إعادة تصور السعادة من رحم كورونا: قبل معالجة هذا الموضوع لابد من استحضار المرجعية التي تحكمنا باعتبارنا أولا جزءا من المنظومة الإنسانية العالمية، ولكوننا داخل دائرة الدين الإسلامي المحدد لفلسفة وجودنا ثانيا، هذا الأخير يخبرنا في غير ما مرة أن كثيرا من الحالات والوقائع التي قد نظن أنها حالات يأس وضر وألم قد تكون في صالحنا، أو تكون مرحلة من مراحل إعادة صناعة تفكيرنا، ويتضح ذلك من قاعدة "وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، فنحتاج إلى إعادة التفكير في تصور الأشياء حتى نبلغ مرحلة استجلاء الخير الكثير من رحم الشيء المكروه، وباستحضار هذا، نستحضر معه أيضا أهمية التجارب التي يمر منها الإنسان في حياته ودورها في إعادة صناعة الإنسان، وأنها مهما كانت مريرة أو مؤذية للفرد في آنيتها إلا أنه لا ينكر الناجي منها بعد أفولها أنها شكلت محطة مهمة في حياته قد يُحصّل من خلالها ما لم يحصله في حالات الرخاء والهناء وراحة البال. ولكي نضع إطارا وحدودا لتناولنا لهذا الموضوع، سأقتصر في استجلاء ملامح السعادة من رحم كورونا من خلال ثلاثة مجالات: مجال الذات، ومجال الأسرة، ثم مجال المجتمع. داخل مجال الذات: يوصي الكثير من الخبراء في تطوير الذات وعلماء النفس أن فترة العزلة والخلوة من أنسب الفترات لمراجعة الذات، واتخاذ القرارات الصائبة، ومعالجة المشاكل وحل الأزمات... وهذا كنز ثمين يمتلكه اليوم كل إنسان في هذا العالم، وهدية مجانية من كورونا لم يكن يحلم بها أي إنسان في حياته أمام كثرة الأشغال والالتزام بالعمل خارج البيت، ففترة الحجر الصحي محطة مناسبة لإعادة صناعة الذات؛ إذ يلفي الفرد نفسه في هذه الفترة إزاء مخاطبة ذاته، ومحادثتها حديث الفرد لنده، ويخاطبها مخاطبة المربي للناشئة، كما تمكنه حالة العزلة تلك من القدرة على اتخاذ القرارات التي قد يكون الحسم فيها مستعصيا فيما دونها من الفترات. ولعل ما يساعد في صناعة هذا المناخ المناسب لهذه المراجعات سُكون الفرد وتحليه بالهدوء النفسي والطمأنينة الداخلية، بعيدا عن الاحتكاك بمحيطه الاجتماعي، ومُبعدا عن كل ما قد يعكر صفو حالته الذهنية. في هذا المجال أيضا يمكن استحضار منافع الحجر الصحي على الذات، والتي لا يمكن حصرها؛ منها: إعادة النظر في تصورنا للحياة ولجدوى وجودنا، ومراجعة أحلامنا وأهدافنا المستقبلية، وتقييم علاقاتنا مع الآخرين ومدى صحيتها على نفوسنا، وفي استثمار الوقت الغني الذي يوفره لنا الحجر في القراءة والبحث وإتقان لغات الآخر، وتعلم أشياء جديدة عنا، والتخلي عن بعض العادات السلبية فينا. إن الأهم في هذه المرحلة هو المصالحة مع ذواتنا وأن نعرف من نحن وماذا نريد وإلى أين المنتهى وكيف السبيل إليه. ومن هنا تبدأ الذات في شق طريقها نحو صناعة السعادة، وضمان الرضى الذاتي. داخل مجال الأسرة: تتميز الأسرة داخل الحجر الصحي باجتماع مختلف مكوناتها بين أربعة جدران، ولعل هذا الاجتماع ما كان يحول دونه شرط الحداد وخرط القتاد. فكانت فترة الحجر الصحي مناسبة للجلوس على مائدة المودة والرحمة بين الزوجين، لتعميقها وتطويرها، وللصلح بين المتنازعين من الأزواج ووضع نقطة نظام وعقد هدنة بينهما، وفرصة لبذل الأبناء مزيدا من صور البر تجاه أمهاتهم وآبائهم. هي محطة تربوية بامتياز؛ من خلالها يتعرف المربون على ميولات أطفالهم، ويراقبوا سلوكاتهم وتصرفاتهم قصد تقييمها ثم تقويمها. إن الناظر في حياة الأسر ومسؤولياتها والتزاماتها العملية قبل فترة الحجر الصحي يجد أن مكونات الأسرة كانت تعيش أشبه ما يكون بالآلات والروبوتات، فمعظم الأسر تتعطش إلى مجرد بصيص من السعادة وراحة البال بسبب تفرقهم وابتعادهم عن بعضهم طيلة اليوم، فمؤسسة الأسرة هي المؤسسة المضطلعة بالدرجة الأولى لتوليد السعادة لدى أفرادها، كما أن المناخ الأسري يساعد بنسبة كبيرة على ضمان الأمن النفسي وتحقيقه. داخل مجال المجتمع: يظل الإنسان منتميا إلى مجتمعه، سواء أثناء احتكاكه وتواصله معه في الواقع الحقيقي أو الافتراضي، فهو جزء منه، ولبنة من لبناته، ذلك أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي مجبول على الاجتماع والمخالطة والتواصل، والظاهر أنه وإن حرم من التنقل الجسدي إلا أن روحه تظل ملتئمة بروح مجتمعه عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. وهنا تجدر الإشارة إلى سلبيات هذه الوسائل قبل الحديث عن مزاياها وإيجابياتها. إن الفرد المنتمي للأسرة والمتواجد في حضنها طيلة فترة الحجر الصحي لا يعني أنه منفصل عن مجتمعه، فإن كان وجوده المادي ثابت معها، فوجوده الروحي أيضا متحقق وسط مجتمعه وبين انتماءاته واختياراته في الحياة، فتجد بين أفراد الأسرة من ينتمي لتيارات مخالفة لتيارات باقي أفراد الأسرة، وإيديولوجيات غير إيديولوجياتها واختيارات شخصية أخرى خاصة به. إن المتأمل في تحرك المجتمعات العالمية وجهودها في التصدي للوباء والحد منه ليقف عند الشرخ الواضح في القيم المجتمعية، وقد أسهمت كورونا في فضح فقر معظم تلك المجتمعات لقيم المحبة والتكافل وصناعة المشترك الإنساني، كما أسهمت في كشف المحجوب المتمثل في منطلقات الرأسمالية المتوحشة، والقائمة على قاعدة "نفسي نفسي" أو المتحولة بلغة المجتمعات إلى "مجتمعي مجتمعي" تجاهلا عن قصد باقي المجتمعات، وتركها تحتضر أمام العالم. لقد ساعدت كورونا على تزكية طرح "صراع الحضارات" الذي أكده هنتغتون منذ زمن، كما كشفت كورونا في المقابل حقيقة مجتمعنا المغربي الذي ضحى بمكونه الاقتصادي على حساب المكون البشري، وجعل من الرأسمال البشري محط الرعاية والاهتمام، ويظهر ذلك جليا في قيم التضامن والتكافل الاجتماعي التي انخرطت فيها مختلف مكونات المجتمع المغربي، بدءا من ملك البلاد ورجال الأمن والسلطات والأطباء والممرضين ورجال التعليم والمخترعين ورجال الأعمال... وما هذه الصور التضامنية المبهجة كلها إلا حسنة من حسنات كورونا ونتيجة اختبارها لدول العالم. إنه من غير المقبول بعد منعطف كورونا أن نقبل بوجود فئات هشة، وطبقات متشردة، وتعليم ضعيف يفتقر لأدنى مقومات التربية والتعليم الحديثة، ونظام صحي لا يرقى إلى الاستجابة لاحتياجات المرضى. إن تشديد مجتمعنا على ضرورة الالتزام بقواعد النظافة والتعقيم والوقاية من الوباء، ينبغي التشديد معه أيضا –بعد إعادة تصورنا للسعادة، وبعد مرور هذه الأزمة- على غسل قلوبنا من الأوبئة اللاأخلاقية المضرة بتماسك مكونات المجتمع، وتعقيمها من الحقد والغضب والحسد والكراهية... فتعقيم الجوهر أولى من تعقيم المادة، إذ إن حقيقة الإنسان تتجلى في ذلك القبس النوراني الذي يسري بداخل الإنسان سير الدم في العروق، ويتدفق بداخله تدفق الماء في النبات، وكذلك بالنسبة لحقيقة المجتمعات التي تتجلى في روح تلك المجتمعات لا في نصيبها من امتلاك العمران وحصص الثروة العالمية. خلاصة القول؛ بالنظر إلى كورونا بمنظار إعادة صناعة تصورنا للسعادة نقف حقيقةً على دورها الريادي في تشخيص حالة المجتمعات وأدائها، وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وبعد مرور الأزمة سنقف مذهولين متخشعين ومتأملين في إخبار الخالق لنا: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"، ألا إن كل الخير في كورونا، ولكن أكثرهم لا يعقلون! *متخصص في الفكر الإسلامي المعاصر وقضايا المجتمع. كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط