لا يختلف اثنان على أن الحَجر الصحي المفروض على أكثر من مليار شخص عبر العالم بسبب جائحة فيروس كورونا ليس أمراً هيناً، لأنه إجراء غير مألوف واستثنائي وغير مسبوق وله آثار نفسية على الجميع. ولا ينجح العديد من الناس، سواءٌ في المغرب أو عبر العالم، في التعامل بشكل إيجابي مع هذا الظرف الاستثنائي، وهو ما يؤدي بهم إلى القلق والتوتر والضجر، ولذلك يُوصي علماء النفس بضرورة إيلاء هذا الجانب الأهمية اللازمة. حول هذا الموضوع، وجَّهنا بعض الأسئلة إلى الدكتور عبدالقادر أزداد، أستاذ جامعي رئيس قسم علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بمدينة الدارالبيضاء، للحديث عن تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد على الفرد والمجتمع وكيفية التعامل مع الحَجر الصحي. ويَعتبر أزداد، في هذا الحوار مع هسبريس، أن خوف الناس من هذا الوَباء أمر طبيعي وحتمي، لكن أشار إلى أن الحَجر الصحي يمثل فُرصة للعودة إلى الذات والتصالح معها، سواء بالنسبة للفرد أو الأسرة، وترتيب كثير من الأمور والعودة إلى تنظيم الحياة والمهام بصورة تُعيد الدفء إلى العلاقات الأسرية. كيف تُفسرون الخوف المبالغ فيه الذي رافق تفشي فيروس كورونا المستجد في المغرب؟ من الطبيعي جداً أن يخاف الناس أفراداً وجماعات، نظراً للطريقة التي يُقدم بها هذا الوباء إعلامياً وسرعة انتشاره، وكونه غير مرئي، عبارة عن فيروس ميكروسكوبي يُصيب الخلية وينتقل عبر اللمس أو الرذاذ. وإذا نظرنا إلى أنفسنا كمجتمع عاداته اليومية تقوم على التحية بالمصافحة والتقبيل والعناق المبالغ فيه أحياناً، وعندما يتم في لحظة واحدة منع هذا السلوك لكونه مؤذيا لا شك أنه أمر يفرز خوفاً جماعياً وليس فقط فردياً. إذن فالتخوفات هي في نظري طبيعية وحتمية؛ هذا إذا أضفنا لها البنية النفسية السابقة عن ظهور كورونا، التي تتميز في غالب الأحيان بالهشاشة نتيجة الضغوطات الناتجة عن إحباطات مختلفة ناجِمة عن عُنف المعيش. كأنِّي بالإنسان في العَصر الحالي حائز على استعدادات قَبْلية تُدخله في نوبات الخوف الحاد والمرضي لأتفه الأسباب، فبالأحرى في مثل هذه الظروف التي يسقط فيها ضحايا يومياً بالآلاف في كل البقاع. ما هو دور علم النفس في مثل هذه الظروف؟ علم النفس له دور أسَاسي في كل مَناحي الحياة وحيثما وُجد الإنسان وفي كل الظروف، وإن كان في مؤسساتنا العلمية والبحثية لم يُعط الأهمية التي يستحقها؛ فالفرد في المجتمع المعاصر لم يعد فقط في حاجة إلى الملبس والمأكل والتوالد والعمل والتسوق وممارسة الرياضة.. بل أصبح في حاجة مُلحة إلى تجويد أساليب الحياة ومظاهرها بالاعتماد على معايير الصحة النفسية بمفهومها الحديث. أما في ما يتعلق بدور علم النفس في مثل هذه المناسبات فهو ضروري وأساسي، أثناء وبعد الوباء الذي نتمنى أن يرحل سريعاً؛ فإذا كانت الأمراض والأوبئة تنتهي بمُجرد ما يُشفَى منها المصاب، فإن الأعطاب التي تخلفها في البنية النفسية للفرد لن تنتهي بسهولة وقد تستمر مدى الحياة. غير أن ما يجب الانتباه إليه هو الإقبال منقطع النظير في السنوات الأخيرة على العلاج النفسي والاستشارة النفسية ومن يُسمون الأخصائيين النفسيين وأشباههم؛ والمذهل في الأمر أن هذه المهنة غير مُقننة من طرف القانون ولا يؤطرها أي نظام أساسي وتُمارَس في محلات أشبه ما تكون بالشعوذة، في ظروف لا تمت للعلم وأخلاقيات العُلماء بصلة..فكيف تُفسر أن حاصلاً على إجازة في علم النفس مدتها ثلاث سنوات، أو ماستر نظري من كليات الآداب أو حتى الدكتوراه من نفس الكليات، ولم يسبق له أن تلقى تكويناً خاصاً في علم النفس العيادي وتقنيات وأخلاقيات المقابلة الإكلينيكية في مؤسسات مُعتَرف بها، تتوفر على تكوينات دقيقة وصارمة، وتداريب مكثفة مسلحة بأطر مهنية تهم ترسانة من الأخلاقيات، أو من يخضع لتكوينات سريعة نهاية الأسبوع في أماكن مغلقة عبارة عن سوق سوداء وبتكاليف باهظة، أن يُمارس مهنة لا تقل شأناً عن مهن الطب، تتضمن التعامل مع أسرار الإنسان وحميميته وكرامته وصحته النفسية. أعتقد أن من مهام الجهات المسؤولة التدخل للحد من هذه الممارسات المشينة، التي تستغل هذا الإقبال وتتلاعب بمصير العباد. كما أنصح المغاربة بضرورة التحلي باليقظة تُجاه صحتهم النفسية، لأنها مهددة بمثل هؤلاء، فكما يحرص الإنسان على اختيار ملبسه ومأكله الجيد، فعليه أن يكون يقظاً وشديد الحرص على اختيار من يضع أسرار حياته النفسية بين أياديهم، وخاصة في هذه الفترة الدقيقة التي كثر فيها هؤلاء الذين يستغلون توفر وسائل التواصل الاجتماعي للمتاجرة وتحقيق أهداف مادية، ولو في ظل هذه الظروف الصعبة.. إنهم تُجار الأزمات والمآسي بامتياز.. باستثناء الأطباء النفسانيين وبعض الأخصائيين الذي تلقوا تكوينات ذات مصداقية علمية، في الغالب خارج البلاد في مؤسسات معترف بها. يمكن أن نجزم أننا في المغرب في أمس الحاجة إلى تنظيم هذه المهنة، وإخراجها من اللبس والعتمة التي تعتريها، درءاً لكل ما من شأنه أن يُهدد صحة المغاربة وأمنهم النفسي، لاسيما في مثل هذه الظروف التي نمر منها الآن. كأستاذ جامعي كيف تنظر إلى التعليم عن بُعد؟ بالمناسبة أحيي عالياً جميع رجال التعليم، في مختلف الأسلاك، على حضورهم الفعلي في ضمان استمرارية التدريس، رغم إغلاق المؤسسات التعليمية. وأريد أن أتحدث عن المؤسسة التي أنتمي إليها، وهي كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدارالبيضاء، فقد استطاعت رغم الإكراهات رفع تحد كبير في زمن قياسي وبفعل تضحيات جِسام وتعبئة شاملة لمختلف مكونات الجامعة ليل نهار بقيادة السيدة الرئيسة، ما مكن من تحقيق نسبة تقارب مائة بالمائة من الدروس التي يتوصل به الطلبة عبر الفضاء الرقمي للعمل، وعبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي الممكنة؛ بل إن كلية الآداب عين الشق وبفعل سرعة بداهة عميدها وأطرها البيداغوجية والإدارية والتقنية استطاعت فور إغلاق الكلية الإسراع بوضع الدروس والمحاضرات على المنصة الرقمية، والمساهمة في تسجيل محاضرات تذاع على إحدى القنوات التلفزية الوطنية في عدة تخصصات: كالأدب الإسباني، وعلم النفس واللغة الأمازيغية؛ كما تعمل حالياً على إنتاج فيدوهات توعوية وموائد مستديرة علمية عن بُعد للمساهمة في التحسيس بخطورة هذا الوباء. أما كيف أنظر إلى التعليم عن بُعد في ظل حالة الطوارئ الصحية فأعتقد أنه يبقى البديل الأوحد حفاظاً على سلامة الجميع؛ ماعدا ذلك يجب أن يخضع للتقييم المناسب، ولا بد من وضع مسألة الإنصاف وتكافؤ الفرص بين الطلبة والتلاميذ لأنه ثمة تفاوتات طبيعية بين المتعلمين عُموماً في القدرات الفردية، وفي المستويات الاجتماعية، وفي ما يتعلق بالحصول على أدوات العمل التقنية والإلكترونية، فأحياناً نصطدم بإكراهات قوية في المناطق النائية، وتلك التي لا تصلها التغطية بشبكات الهاتف والأنترنيت. ولهذا لا يجب أن يُلغى نهائياً دور التعليم الحضوري. شخصياً أُفضل التدريس الحضوري والتفاعل المباشر مع طلبتي، إلا في الظروف الصعبة كالتي نعيشها هذه الأيام. ما هي تداعيات هذا الوباء على الفرد والمجتمع؟ في حَقيقة الأمر أعتقد أنه من السابق لأوانه الحديث عن التداعيات، نحن في بداية الحَجر الصحي، والأمر يحتاج إلى دراسة تُساهم فيها كثير من التخصصات العلمية، سواء علم النفس أو علم الاجتماع والأنثربولوجيا وغيرها، حتى نستطيع أن نستنتج خُلاصات علمية. ولكن رغم ذلك فإن مرحلة ما بعد كورونا سيكون لها ما بعدها، إذ ستتغير كثير من التمثلات وكثير من الأشياء على مُستوى الفرد والأسرة والمجتمع ومُؤسسات الدولة. ولا شك أننا سَوف نستخلص كثيراً من العِبر والدروس البليغة، وسوف نُعيد ترتيب الأولويات لنكون على أُهْبة تدبير المخاطر في المستقبل، وسيتحدد المهم والأقل أهميةً في حياة الفرد والأسر والمجتمع والدولة. ومن الصُّدف الإيجابية أن تَزامن وباء كُورونا مع محاولة المغرب صِياغة نموذج تنموي جديد؛ ولا شك أن هذا الوباء سيُساعد على تِبيان السبيل للنموذج التنموي المرتَقب الذي سيَصلح للمغاربة في المستقبل. هل تعتقدون أن الحَجر الصحي سيُغير نمَط عيش الفرد والمجتمع؟ يُمكن التأكيد أن الحَجر الصحي قرارٌ جرِّيء وصائِب اتخذته السلطات. وفي مثل هذه الظروف يجب أن يَنصُت الجميع للمُتخصص. فعلاً، قد غَيَّر الحَجر الصحي كثيراً في نَمط عيش الأسر المغربية، ففي وقت كان أغلب أفرادها يقضون جُلَّ أوقاتهم خارج البيت، سواء في العمل أو الدراسة أو التنقلات، أصبحنا في لحظةٍ وجيزةٍ داخل فضاءات مُغلقة نُعيد اكتشاف الذات والأسرة. كما تغير الشيء الكثير في سلوكنا الغذائي.. عُدنا إلى ما كَان عليه المغاربة قبل ثلاثة أو أربعة عقود، وهذا ما يَقتضي من الناحية النفسية تغيير أنماط التفكير التي سوف تُساعد على التكيف الإيجابي، وهي الكفيلة بمساعدة الأفراد والأسر على تجاوز هذه الوضعية. غير أن الوضعية تختلف حسب المناطق والإمكانيات، فالفئات الهشة وتلك التي تُعاني من الأمراض المختلفة، والتي تقطن الأحياء الهامشية والسكن غير اللائق، وكذا المناطق النائية والجبلية غير المرتبطة بشبكات الهاتف والأنترنيت وكل ما تتطلبه الحياة، تَتضاعف مُعاناتها في هذه المناسبات. ولا شك أن تَضامن المغاربة على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وكذا الدعم الذي سيُقدم لهذه الفئات بإمكانه التخفيف من حجم هذه المعاناة. طول الحَجر الصحي يجعل الفرد يشعُر بالملل والقلق، ما الذي يتوجب عمله في نظركم لتجاوز هذا الأمر؟ في نَظري فترة الحجر الصحي لا ينبغي على الإنسان أن يعيشها في جو مأساوي، بل العكس هُناك أمور إيجابية كثيرة يجب أن نتفاعل معها، أولها فُرصة العودة إلى الذات والتصالح معها، سواء بالنسبة للفرد أو الأسرة، فالبيت هو الاستثمار الأغلى في حياة الأسر وقد يكون مدى الحياة، وفي المعاش الاعتيادي غالباً ما يُستغل للنوم فقط، وهذه فرصة لترتيب كثير من الأمور والعودة إلى تنظيم الحياة والمهام بصورة تعيد الدفء إلى العلاقات الأسرية، وتحيي كثيراً من القيم التي كَادت أن تندثر، وتُعيد النظر في السلوك والنظام الغذائيين والتفكير في المسائل ذات الأولوية للأسر والعناية بها، وإعادة اكتشاف هذه العلاقات وتطويرها من جديد. والإنسان بطبعه له القُدرة على التكيف كآلية معرفية ذهنية من أجل تجاوز الملل، لأن ثمة أشياء في البيت أهم بكثير مما هو موجُود خارجه، فقط يجب تنظيم الوقت والمهام وتغيير أنماط التفكير لاستيعاب الواقع الجديد ولخلق نوع من المتعة في العيش، من خلال ابتداع أساليب تتفاعل إيجابياً مع هذا السياق غير المألوف. ما هي الدروس المستخلصة بعد جائحة فيروس كورونا سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع والدولة؟ إن الظروف الصعبة التي تمرُّ منها الأمم والقُدرة على تَجاوُزها هي المرآة الحقيقية لمؤشر تطور المجتمعات، وتكشف عن حقائق بناء مَصير الشعوب والخيارات السليمة في تدبير شؤونها، فخلال عقود خلت بالغت كثيرٌ من الدول في الانخراط في اقتصاد السوق والليبرالية المتوحشة والإفراط في بيع قطاعات إستراتيجية للخواص الأجانب، والريع والفساد وكذا الاستثمار المفرط في بعض القطاعات غير المتحكم في مصادرها، كالسياحة والترفيه والرياضة والإعلام والنقل الجوي والبري والمهرجانات الفنية والمراكز التجارية المحتضنة لما تسمى الماركات العالمية بميزانيات فرعونية، على حساب القطاعات الاجتماعية الأساسية كالتعليم والصحة والسكن والتجارة والفلاحة والصناعة المحلية والعدالة المجالية التي هُمشت، بمعنى أن كثيراً من الخيارات لم تكن في المسار الملائم، وهذه فرصة كبيرة لإنجاز تقييمات جيدة على مختلف الأصعدة. وأتمنى أن يرحل وباء كورونا سريعاً وأن نستخلص الدروس والعبر المهمة، والتي ستُعيد ترتيب الأمور وتضع مسار الأمم على السكة الصحيحة؛ وقد تُجبر كل الأطراف على التسريع في بناء عقد اجتماعي جديد مُتوافَق حوله، أملته الضرورة والواقع.