مدخل عام لتحصين المال العام من الاعتداءات المحتملة للموظف العمومي، اعتمدت مختلف التشريعات الجنائية مبدأ تشديد العقاب كمحدد حاسم للجزاء المفروض على هذه الفئة من المواطنين، وذلك بالنظر لوضعها الاعتباري كمؤتمنة من طرف المجتمع على المال العام يُفترض فيها التشبع بقيم الثقة والنزاهة والمسؤولية. كما انصرفت هذه التشريعات نحو التوسيع الحثيث لمفهوم الموظف العمومي ليستوعب الفئات الوافدة التي قد يستجلبها المرفق العمومي لمواجهة احتياجاته النوعية المتزايدة والمتغيرة؛ حيث يعتبر المفهوم الجنائي للموظف العمومي إطارا مرجعيا يمتلك مجموعة من المقومات التي توفر فرصا موضوعية لتقميص صفة "الموظف العمومي" لسائر المعنيين الذين قد تربطهم بالمرافق العامة صلات محددة. وإذا كانت هذه المقومات هي التي تميز المفهوم الجنائي للموظف العمومي عن المفهوم الإداري المعتمد لهذه الفئة، والذي يُعتبَر مُتجاوَزا على مستوى الحماية الجنائية للمال العام لانحصار نطاقه في فئات معدودة من الموظفين، فإن ما يجدر التنبيه إليه أن نجاعة مقومات المفهوم الجنائي للموظف العمومي تظل، بالرغم من أهميتها، رهينة بالتجاوب الموضوعي لمكونات قضائنا مع مقاصدها ورهاناتها، من خلال التصريف القضائي الأمثل لقدرتها على إثبات الصفة المذكورة لسائر الفئات المستحِقة، بلوغا نحو محاكمتها بما يتناسب مع وضعها الاعتباري وفقا لمقتضيات القانون. ورغم أن هذا المطلب ظل خيارا حيويا لتثبيت منظور قضائي وجيه للمفهوم الجنائي للموظف العمومي كفيل بإحكام إحدى الحلقات الأساسية لحماية المال العام، إلا أن ما يلاحظ هو تذبذب القضاء أحيانا إزاء هذه المسألة بين اعتماد معايير إثبات الصفة في نوازل محددة وعدم الاعتراف بها في نوازل أخرى؛ الأمر الذي بدا واضحا في قرار قضائي حديث لمحكمة النقض1 اعتبر اختصاص النظر في جريمة الاختلاس التي طالت "حساب الودائع والأداءات" التابع لمجلس هيئة المحامين بالقنيطرة منعقدا للمحكمة الابتدائية بدل قسم جرائم الأموال، نافيا بذلك صفة الموظف العمومي عن مختلسي هذا الحساب، مع ما يترتب عن ذلك من نزوع نحو التخفيف بدل تشديد الجزاء في هذه النازلة. اعتبارا للتأثيرات السلبية المحتملة لهذا القرار على مكتسبات المفهوم الجنائي للموظف العمومي، تبدو مساءلته مطلبا حتميا لاستبيان حدود وجاهته في حماية الأموال العامة والخاصة، الأمر الذي سنباشره انطلاقا من عرض مضمون قرارات المحكمة الابتدائية وقسم جرائم الأموال ومحكمة النقض في نازلة اختلاس "حساب الودائع والأداءات" التابع لهيئة المحامين بالقنيطرة، وصولا إلى بسط ومناقشة قرار محكمة النقض الذي حسم في هذه النازلة. وقبل ذلك، يجدر التذكير بأن التشريع الجنائي عمد إلى التوسع في تحديد مفهوم الموظف العمومي، اقتناعا منه بأن هذا الأخير لا يمكن اعتباره كالأشخاص العاديين، بل كشخص في وضع اعتباري يحتم عليه أن يتقيد بمجموعة من الالتزامات الخاصة.2 ولذلك فإن المشرع المغربي رغبة منه في إضفاء الشرعية الجنائية على المفهوم الموسع لصفة "موظف" أتى بتعريف يخالف تماما التحديد الضيق الذي وردت به ذات الصفة في القانون الإداري،3 بل إن بعض الفقه ذهب إلى القول بأن المشرع جاء بمفهوم موسع يستطيع القاضي الزجري من خلاله أن يُلبس صفة موظف عمومي لأغلبية أو لكل من يمارس عملا تابعا في المؤسسات الخاصة التي من الممكن تكييف نشاطها بأنه نشاط ذو نفع عام.4 بعدما اتضح لنا هذا الأمر، ننتقل لاستظهار تعامل قرارات المحكمة الابتدائية وقسم جرائم الأموال ومحكمة النقض مع هذا المفهوم في نازلة اختلاس "حساب الودائع والأداءات" التابع لهيئة المحامين بالقنيطرة. أولا- قرارات المحكمة الابتدائية وقسم جرائم الأموال ومحكمة النقض في قضية اختلاس "حساب الودائع والأداءات" التابع لهيئة المحامين بالقنيطرة تعود فصول القضية إلى سنة 2015 حين اهتزّ الجسم القضائي على وقع ما وصف بأكبر عملية فساد تطال مؤسسة "حساب الودائع والأداءات" بالمغرب منذ إنشائها. فقد وقف مجلس هيئة المحامين بالقنيطرة صدفة على فضيحة اختلاس مبالغ مالية كبيرة، قاربت مليار سنتيم، من حساب ودائع وأداءات المحامين المسجلين بجدول الهيئة. وقد اتضح فيما بعد، أنها سحبت بطرق غير قانونية وفي ظروف مشبوهة، من طرف محامٍ ينتمي إلى الهيئة نفسها ويزاول مهنة المحاماة بمدينة سوق أربعاء الغرب. وتبين أن هذا المحامي عمد إلى استخلاص تلك المبالغ غير المستحقة بتواطؤ مع مستخدم يعمل بإدارة حساب ودائع هيئة المحامين بالقنيطرة؛ حيث تم سحب الأموال في مناسبات متفرقة على شكل دفعات. وبعد إلقاء القبض على هذا الأخير، أحيل على المحكمة الابتدائية؛ حيث توبِع بتهمة المشاركة في التزوير في شيكات بنكية، واستعمال شيكات بنكية مزورة، والسرقة، وهي أفعال تعتبر، بعيدا عن افتراض صفة الموظف العمومي في الجاني، جنحا تدخل ضمن اختصاص المحكمة الابتدائية. I- المحكمة الابتدائية بالقنيطرة والحكم بعدم الاختصاص اعتبرت المحكمة الابتدائية5 بالقنيطرة بتاريخ 10/11/2016 أن تقديم المشتبه فيه أمام المحكمة المذكورة بتهمة المشاركة في التزوير في شيكات بنكية، واستعمال شيكات بنكية مزورة، والسرقة، وهي الأفعال التي تعتبر جنحا في نظر المشرع ولا تتجاوز عقوبتها الحبس لمدة خمس سنوات،6 أن الأمر يتجاوز الجنح المذكورة لأنه يتعلق بجناية الاختلاس المرتكبة من طرف "موظف عمومي". وقضت لأجل ذلك بعدم الاختصاص النوعي في النظر في القضية وإحالتها على غرفة جنايات الأموال (قسم الجرائم المالية) بمحكمة الاستئناف المختصة. واعتمدت المحكمة في تكييفها لهذه القضية على اعتبار هيئة المحامين، فيما يتعلق بحساب الودائع، مشمولة بنطاق "المصالح ذات النفع العام" المنصوص عليها ضمن شروط اكتساب صفة الموظف العمومي في الفصل 224 من القانون الجنائي؛ مبرزة أن أهم محددات "المصلحة ذات النفع العام" تتمثل في مدى عموم نفعية الخدمة المقدمة من طرف هذه الهيئة، ومستندة في ذلك إلى المفهوم الذي اعتمدته اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد المصادق عليها من طرف المغرب للموظف العمومي، باعتباره يشمل الشخص الذي يؤدي وظيفة عمومية أو خدمة عمومية. على هذا الأساس، تأكد للمحكمة الابتدائية، من خلال استظهار طبيعة الخدمة المقدمة من طرف هيئات المحامين، خصوصا في الشق المتعلق بتدبير حساب الودائع والأداءات، أن إرادة المشرع من إحداث هذا الحساب قد اتجهت نحو ائتمان هيئات المحامين، كأشخاص معنوية، على مختلف ودائع المحامين وموكليهم، اعتبارا للثقة المرتبطة برسالة القائمين عليها من المحامين المنتخبين؛ مما يجعل المنفعة العامة التي يكتسيها هذا الحساب واضحة في "الحفاظ على حقوق الطرفين؛ الزبناء "المتقاضين" من جهة، والمحامين من جهة أخرى". وتبين للمحكمة، بالنظر لعموم هذه المنفعة، أن هيئة المحامين بالقنيطرة، شأنها شأن مختلف هيئات المحامين بالمغرب، تُعتبر في ما يتعلق بحساب الودائع، ك "الأمين العمومي القضائي" على ودائع عموم المتقاضين المستحقة بموجب أحكام وقرارات قضائية، بصفتهم أغيارا عن أعضاء الهيئة المذكورة؛ مما يجعل المفهوم الجنائي ل "الموظف العمومي" يسري، ليس على مستخدميها فقط، وإنما أيضا على مختلف المحامين المسجلين بجدولها. II- قرار غرفة جرائم الأموال والحكم بعدم الاختصاص7 بعد إحالة القضية على غرفة جرائم الأموال، أصدرت قاضية التحقيق قرارها القاضي بدوره بعدم الاختصاص في النظر في القضية لكونها تعد جنحة، معتمدة في ذلك على انتفاء صفة الموظف العمومي في حق المحامي استنادا للمادة الأولى من قانون المهنة المعتبرة بمقتضاها مهنة المحاماة مهنة حرة، وكذا الاستقلالية في القيام بمهامها التي تقتضيها ممارسة المهنة. كما أكد القرار أيضا على انتفاء صبغة المساهمة في تحقيق مصلحة ذات نفع عام في حق هيئات المحامين، لأن نقابات المحامين ليست مصالح ذات نفع عام اعتبارا لأنشطتها ومواردها المالية التي تبقى خاضعة لقانون المهنة، واعتبارا لصلاحية الرقابة على ماليتها التي تظل منوطة بنقيب الهيئة وأعضاء مجلسها. واعتبر القرار في الأخير أن المتهم ليس نقيبا ولا عضوا في الأجهزة التسييرية للنقابة، كما أن المبالغ المالية المستولى عليها لم تكن بين يديه في إطار شرط "الحيازة المؤقتة" المنصوص عليه كأحد أركان جناية الاختلاس. بعدما انجلى أمامنا تنزيل مفهوم الموظف العمومي لدى كل من المحكمة الابتدائية وقسم جرائم الأموال بخصوص الوضع الاعتباري للمحامي في علاقته بحساب الودائع والأداءات، ننتقل لاستعراض ومناقشة منظور محكمة النقض لهذا المفهوم، والذي عبرت عنه في حيثيات قرارها المتعلق بالحسم في الجهة التي يعود إليها الاختصاص للنظر في هذه القضية. III- منظور محكمة النقض للوضع الاعتباري للمحامي في علاقته بحساب الودائع والأداءات بعد إحالة القضية على محكمة النقض للبت في تنازع الاختصاص، خلصت المحكمة إلى تأييد قرار قاضية التحقيق بغرفة جرائم الأموال. وقد شكل القرار مناسبة فريدة لتحديد الطبيعة القانونية لمهنة المحاماة باعتبار ذلك مؤشرا جوهريا في تحديد اختصاص النظر في القضية. واعتمد قرار محكمة النقض على العلل التالية: - المشرع حدد الطبيعة القانونية لمهنة المحاماة، والمتجلية في الحرية والاستقلال، سواء للمؤسسات المهنية أو بالنسبة للمحامين، وهي الطبيعة التي تتنافى وضوابط الوظيفة العمومية، القائمة على السلطة الرئاسية والتسلسل الإداري؛ - ان تدبير وتسيير هيئة المحامين لحساب ودائع وأداءات المحامين يتم تنفيذا لنص المادة 57 من القانون 28.08، كما أن مسك الهيئة للحساب المذكور لا يجعل منها مصلحة ذات نفع عام، ما دامت الصبغة الأساسية للمهنة هي الاستقلالية، من جهة، ومن جهة ثانية، لكون موارد الحساب ليست متأتية من أموال عمومية، ما دام من الثابت أنها مملوكة للمحامين ولموكليهم، أي لخواص. - قانون المهنة نص على أن الحساب المذكور يقع تحت المراقبة المستمرة لنقيب الهيئة وأعضاء مجلسها عند الاقتضاء، من دون أن يكون النقيب في ممارسته لهذه المهمة محاسبا ماليا. - طريقة تنظيم الحساب المذكور حددت بالنظام الداخلي طبقا للفقرة الثامنة من المادة 91 من دون أن يكون للأجهزة العمومية أي دور. فالنقيب و بمجرد توصله بالودائع يقوم بواسطة معاونيه بإشعار أصحابها و السهر على تمكين كل منهما أسوة بين المحامي وزبونه بما يستحق من دون أن تكون له أية صفة عمومية في ما يقوم به، بل يغلب عليها الطابع المهني المتسم حسب فلسفة قانون مهنة المحاماة بالاستقلالية - اعتبار ما يتعرض له المحامي أثناء تأدية واجبه المهني من اعتداء يشكل إهانة بمفهوم الفصل 263 من القانون الجنائي لا يصلح أساسا قانونيا للقول بأن المحامي يدخل في زمرة المعنيين بمفهوم الموظف العمومي لأن هذا المقتضى إنما هو مقرر للتدليل على تحصين حق الدفاع الذي يمارسه المحامي و لم يتم إيراده ليعتبر موظفا عموميا تسري عليه أحكام الفصل 224 و 241 من القانون الجنائي. وتأسيسا على ما سبق، قضت الغرفة الجنائية بمحكمة النقض و"هي تبت في قضية تنازع الاختصاص اعتبار الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة في الملف الجنحي رقم 4037/2103/16 لاغيا وغير نافذ المفعول فيما قضى به من عدم الاختصاص النوعي. وتصرح نتيجة لذلك بأن المحكمة الابتدائية بالقنيطرة هي المختصة نوعيا للنظر في القضية. وتأمر بإحالة المتهم وملف القضية على المحكمة الابتدائية بالقنيطرة لمواصلة المحاكمة وتحميل الخزينة العامة الصائر". ثانيا- نحو مساءلة نقدية لقرار محكمة النقض إن القراءة المتأنية في مضامين هذا الحكم تسمح بالقول إنه بقدر ما يُلقِي هذا القرار بضبابيته الواضحة على المفهوم الجنائي للموظف العمومي، بقدر ما يُثير إلى السطح مجموعة من التساؤلات التي يمكن بسطها كالآتي: - هل تجاوب هذا القرار مع المفاهيم الفقهية المتقدمة لاكتساب مجموعة من المهن وأصناف من الأموال لصفة النفع العام؟ - هل أحاط بجميع ملابسات وحيثيات وأسباب نزول "حساب الودائع والأداءات" ودوره في تحصين الذمم المالية وحماية أموال المتقاضين والوكلاء؟ - هل اطلع بشكل كاف على المنظور التشريعي والقضائي للصناديق والحسابات المماثلة "لحساب الودائع والأداءات" لدى مجموعة من الدول؟ - هل استحضر قرارات قضائية سابقة أخذت منحى مغايرا في قضايا مماثلة؟ - هل تفاعل بشكل إيجابي مع اختيارات المنتظم الدولي ممثلا في اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد التي يعتبر المغرب طرفا فيها والتي تؤسس لمنظور موسع للموظف العمومي كفيل بإثبات الصفة وبالتالي إنزال الجزاء المناسب على كل من تربطه، من قريب أو بعيد، صلات بالمال العام؟ لمناقشة هذا القرار في ضوء هذه التساؤلات، من المهم المرور عبر المحددات التالية: I- نطاق معيار المنفعة العامة وموقع هيئات المحامين من هذا النطاق يندرج معيار المنفعة العامة ضمن الشروط التي حددها القانون الجنائي كأساس لتمييز الموظف العمومي والمال العام. وبما أن صفة المنفعة العامة أضحت معيارا لإدراج المؤسسات ضمن المصالح ذات النفع العام، فإنه يجدر بنا مساءلة حدود تَمثُّل واكتساب "هيئات المحامين" لصفة المنفعة العامة وما يستتبع ذلك من اعتبار المنتمين إليها ومستخدميها موظفين عموميين. لإنجاز هذه المساءلة، من المناسب التأكيد في البداية على أن تنظيم مجموعة من المهن التي أضحت المجتمعات البشرية بحاجة إليها كالطب والهندسة والمحاسبة والتوثيق والخبرة والتحكيم والمحاماة يعتبر من مهام الدولة التي تمارسها بمسؤوليتها لتحقيق المصلحة العامة وإشباع حاجيات المواطنين. ولتحقيق هذه الغاية، تُنشِئ الدولة بعض المرافق العامة التي تقوم بتسييرها هي أو بواسطة إحدى الوزارات أو عن طريق مرفق عمومي، كل ذلك تحت وصايتها ومراقبتها. كما يمكن أن تمنح امتياز تسيير بعض المرافق العامة للخواص اعتبارا لما تقتضيه المصلحة العامة؛ حيث تضع لأجل ذلك القوانين التي تنظم هذه المرافق وتُمكنها من وسائل العمل المتعلقة بالاستقلالية في التصرف والشخصية المدنية كما تخولها امتيازات السلطة العامة في إصدار الأوامر والقرارات التي تكون ملزمة لجميع المنضوين تحت لوائها. ويأتي في صدارة المرافق التي تنتمي للقطاع الخاص وتحظى بصفة المرفق العام المرافق المهنية وعلى رأسها المرفق المتعلق بهيئات المحامين.8 فباستعراض القانون المنظم لمهنة المحاماة، يتبين أن هذه المهنة حرة ومستقلة وتسيرها هيئة تتوفر على الشخصية المعنوية ولها ذمة مالية للتملك والتصرف؛ بما يفيد انتماء المهنة للقطاع الخاص. إلا أن المشرع جعل ممارستها مقيدة بشرط الانخراط في هيئة أسند لها صلاحيات وسلطات وإصدار قرارات ملزمة تحظى بامتيازات السلطة العامة ولا يتمتع بها عادة إلا أشخاص القانون العام؛9 الأمر الذي يجعل من هيئات المحامين هيئات مهنية تتمتع بالشخصية المعنوية وتابعة للقانون الخاص، لكنها تتكلف بمهام المرفق العمومي والتي لأجلها تحظى بصفة الأشخاص العامة.10 وقد تفطن الفقه لهذه الخصوصية، حينما اعتبر أنه "أمام تعاظم المهام الموكولة للدولة في مجال التسيير والمراقبة، تخلت هذه الدولة عن بعض سلطاتها لبعض الهيئات، كما هو الشأن بالنسبة لهيئات المحامين التي تسعى إلى تأطير المنخرطين فيها وتسيير الأنشطة المهنية بها ومراقبتها، الشيء الذي يبرر طبيعتها العمومية، أي اكتساءها صبغة المرفق العام وذلك انطلاقا من الوظائف المخولة إليها".11 واعتبر بعض الفقهاء أن هذه الهيئات تكتسب صفة المرفق العام من وظيفتين أساسيتين موكولتين إليها؛ الوظيفة العضوية التي تمثلها سلطة الملاءمة التي منحها لها المشرع لمطابقة أنظمتها الداخلية مع النصوص القانونية المنظمة للمهنة والأعراف والتقاليد التي تحكمها. وتجد هذه الوظيفة مصدرها الأساس في القانون وفي إرادة الدولة التي خولت لها الحق في سن أنظمة داخلية خاصة بها. والوظيفة التأديبية التي بموجبها تتوفر هذه الهيئات على امتيازات السلطة العامة التي تخضع للقانون العام.12 ولتثبيت مفهوم المصلحة العامة التي تنهض بها هذه الهيئات، أكد بعض الفقه على أن "فكرة المرفق العام لا تتنافى مع هذه الأنواع من النشاطات التي تقوم بها النقابات المهنية. ذلك أن مهمتها لا تتعلق فقط بالدفاع عن المصالح المهنية، ولكن تتعلق قبل كل شيء بتنظيم ومراقبة المهنة قصد تحقيق الصالح العام".13 وهو ما جعل أحد الفقهاء يخلص إلى أن "هيئة المحامين تسير مرفقا من المرافق العامة، الذي يهدف إلى تحقيق مصلحة عامة".14 وزاد هذا الأمرَ تأكيدا أحدُ الفقهاء بقوله "ولسنا في حاجة إلى الحديث عن أزمة المرفق العام التي أفضت، نتيجة العجز الذي أصاب المعيار العضوي للمرفق العام، إلى تبني المعيار الموضوعي الذي يَعتبر المرفق "عموميا" كلما كان النشاط الذي يمارسه يهدف إلى تحقيق مصلحة عامة، وذلك بغض النظر عن طبيعة المؤسسة، وهو ما تندرج ضمنه النقابات المهنية لهيئات المحامين، والتي ليست في واقع الأمر سوى وسيلة منظمة تبتغي تحقيق مصلحة اجتماعية تتمثل في حسن تطبيق النصوص القانونية أمام السلطة القضائية".15 ويلاحظ بالنسبة للاجتهاد القضائي أنه هو الآخر لم يتفاوت في تكييفه لهذه الهيئات مع ما أقره الفقه لها. وفي هذا الصدد، اشتهرت قرارات مجلس الدولة الفرنسي16 التي أكدت على أن المشرع بإحداثه لهذه الهيئات أراد أن يجعل تنظيم ومراقبة ممارسة مجموعة من المهن منضويا ضمن مهام المرفق العام، وبالتالي فإن القرارات التنظيمية أو الفردية التي تتخذها في إطار اختصاصاتها تعتبر قرارات إدارية. لينتهيَ إلى تحديد الهوية القانونية لهذه الهيئات بكونها ليست مؤسسات عمومية ولكن هيئات خاصة مكلفة بمهام المرفق العام وتتوفر لأجل ذلك على صلاحيات السلطة العامة. وعلى منوال الاجتهاد القضائي الفرنسي، ظلت مختلف الاجتهادات القضائية في مصر17 والمغرب18 تؤكد على أن القرارات التي تصدرها هيئات المحامين خاصة في مجال التأديب تعتبر قرارات إدارية لأن القانون خولها إصدار قرارات بمقتضى سلطتها العامة، مشددة على أنه "لما كان التأديب نشاطا إداريا تمارسه السلطة الإدارية لضمان حسن المرفق العام تحت رقابة القضاء، فإن إسناد هذا النشاط لهيئة غير إدارية لا ينزع عن النشاط صبغته الإدارية، ولا يطلق للهيئة غير الإدارية المسند إليها هذا النشاط ممارسته في غياب الرقابة القضائية".19 نخلص من كل ما سبق إلى أن معيار النفع العام المنصوص عليه ضمن مقتضيات الفصل 224 من مجموعة القانون الجنائي كأحد شروط اكتساب شخص معين لصفة الموظف العمومي، يظل أمرا ثابتا بالنسبة لهيئات المحامين بمقتضى الغاية التي من أجلها وُجدت هذه الهيئات، وهي تحقيق النفع العام المتمثل في تنظيم ومراقبة المهنة نيابة عن أشخاص القانون العام؛ بما يضمن الحفاظ على النظام العام الذي عرفه القضاء بأنه "مجموعة القواعد والأنظمة التي ترمي إلى حسن سير المرافق العامة وانتشار الأمن واستقامة الأخلاق في علاقة الأفراد ببعضهم البعض والتي لا يمكن إغفالها في معاملاتهم".20 كما يتحقق معيار النفع العام لدى هيئات المحامين بمقتضى الهوية القانونية لهذه الهيئات، باعتبارها هيئات تنتمي للقطاع الخاص ومكلفة بمهام المرفق العام، وهي المهام التي تمارسها عبر صلاحية السلطة العامة المخولة لها بمنطوق ومقصود الصلاحيات المُلْزِمة التي تتوفر عليها. وأخيرا، يتحقق معيار النفع العام أيضا بمقتضى تكليف هذه الهيئات من طرف السلطة العامة للدولة بمختلف الصلاحيات والمهام الممنوحة لها، وذلك بموجب مقتضيات تشريعية ملزمة؛ بما يوفر لها استقرارها وعموميتها زمانا ومكانا وأشخاصا؛ وكلها مقتضيات تجعل هيئات المحامين، رغم انتمائها للقطاع الخاص، مستوفية للشروط التي وضعها الفقه لاكتساب صفة النفع العام من طرف إحدى مؤسسات القطاع الخاص. وإذا كانت هذه المقتضيات توفر أرضية قانونية صلبة لإلباس الأشخاص المنتمين لهيئات المحامين لباس الموظف العمومي من زاوية وضعهم الاعتباري كمكلفين بمهام المرفق العام كما سبق توضيحه، فإن إلباسهم هذه الصفة يبدو أمرا مفروضا ولا غنى عنه من زاوية حماية الأموال الموجودة بين أيديهم بمناسبة مزاولتهم لمهامهم كما سيأتي بيانه. II- حساب الودائع والأداءات ودلالات حماية الأموال من الاعتداءات المحتملة سبقت الإشارة إلى أن المشرع أسند لهيئات المحامين صلاحيات وسلطات وإصدار قرارات ملزمة، لأجلها تحظى هذه الهيئات بصفة الأشخاص العامة لكونها تنوب في ممارستها لهذه السلطات عن أشخاص القانون العام. ومن بين هذه الصلاحيات الموكلة لها والمندرجة ضمن مهام المرفق العام إدارة حساب الودائع والأداءات الذي نصت على إحداثه مقتضيات المادة 57 من قانون المحاماة. تنص هذه المادة على أنه "يؤسس على صعيد كل هيئة حساب ودائع وأداءات المحامين يديره مجلس هيئتها، تودع به لزوما المبالغ المسلمة للمحامين المسجلين بجدول هذه الهيئة على سبيل الوديعة، وتتم بواسطته كل الأداءات المهنية التي يقوم بها المحامي لفائدة موكليه أو الغير. تودع بهذا الحساب كل المبالغ الناتجة عن تنفيذ مقرر قضائي من لدن مصالح التنفيذ والمفوضين القضائيين (..)". إن القراءة المتأنية في المقتضيات المتعلقة بحساب الودائع والأداءات تسمح برصد مجموعة من المرتكزات التي تضفي على هذا الحساب مقومات المرفق العام بما يتوخاه من تحقيق المصالح والمنافع العامة. ويمكن حصر هذه المرتكزات في ما يلي: 1- توجه إرادة المشرع من إحداث حساب الودائع والأداءات نحو ائتمان هيئات المحامين، كأشخاص معنوية، على مختلف ودائع المحامين وموكليهم، بعدما اقتضت مصلحة حماية هذه الودائع من التلاعبات وتحصين حقوق المعنيين، سحب ائتمانها من اختصاص الإدارة، ممثلة في وكيل الحسابات بصندوق المحكمة الذي كان المسؤولَ الوحيدَ عن تسليم المبالغ المحكوم بها لوكلاء مستحقيها من المتقاضين. وقد جاءت مصلحة حماية هذه الودائع والحفاظ على حقوق المعنيين بارزة في تقرير اللجنة المختصة بمجلس النواب عند مناقشتها ومصادقتها على مقترح القانون المتعلق بهيئات المحامين، والذي نص على أن الهدف من هذا الحساب يتحدد في "الحفاظ على حقوق الطرفين؛ الزبناء (المتقاضين) من جهة، والمحامين من جهة أخرى".21 وهكذا يتضح أن المشرع، وعيا منه بضرورة وضع ضوابط جديدة للحفاظ على حقوق سائر المعنيين، ارتأى سحب الاختصاص الذي كان مخولا بهذا الخصوص للمرفق العام في شخص وكلاء الحسابات بصناديق المحاكم، وإسناده لمجالس هيئات المحامين لتضطلع به اعتمادا على إجراءات جديدة وضابطة لمهام تلقي وإدارة حساب الودائع. وفق هذا المنظور، تصبح مجالس هيئات المحامين، بخصوص الصلاحيات المخولة لها بشأن هذا الحساب، كالمُستودَع العمومي المنصوص عليه ضمن فئات الموظفين العموميين في القانون الجنائي الفرنسي، والذي عرفه الفقه الفرنسي بأنه كل شخص يتلقى ويدير المبالغ أو الأشياء المعهود بها إليه بمقتضى نص قانوني؛22 الأمر الذي جعل بعض الفقه والقضاء الفرنسيين يذهبون إلى اعتبار مساعدي القضاء، كالموثق والمفوض القضائي، موظفين عموميين بمفهوم القانون الجنائي، نظرا إلى كونهم "أشخاصا عاديين مؤهلين لخدمة عموم المتقاضين فيما يقدمونه من مساعدة لمرفق العدالة، كما أنهم مأمورون رسميون، يحتكرون مهنة معينة، مع مراقبة الدولة لكل تصرفاتهم".23 2- إن تخويل الحق لهيئات المحامين في سن نظام داخلي يتعلق بإدارة حساب الودائع والأداءات يندرج، كما سبق توضيحه عند بعض الفقه، ضمن مهام المرفق العام الذي يمنحه المشرع عادة سلطة الملاءمة لمطابقة أنظمته الداخلية مع النصوص القانونية المعمول بها. وهذه صلاحية جديدة أضيفت إلى مجموعة من الصلاحيات التي تخول هذه الهيئات مهام تنظيم ومراقبة المهنة قصد تحقيق الصالح العام. ذلك أن المشرع أوكل لمجلس هيئات المحامين وضع مجموعة من الضوابط المتعلقة بإدارة هذا الحساب، والتي تهم بشكل خاص تحقيق حسابات المحامين والتحقق من وضعية الودائع لديهم والاستجابة لطلب الوكيل العام للملك في الموضوع مع وجوب إشعاره بالنتائج. والمشرع، من خلال سَنِّه لهذه الضوابط ومَنحِه صلاحية تنزيلها لهيئات المحامين في نظام داخلي خاص بهذا الحساب، إنما يروم تخويل هذه الهيئات مهمة حراسة وضبط تلقي وصرف هذه الودائع تحقيقا لمصلحة عموم المتقاضين الحاليين أو المحتملين؛ الأمر الذي جعل القضاء يقر مبدأ منع المضاربة بتلك الودائع واستثمارها، ولو في فترة جمودها وركودها، ضدا على حقوق المتقاضين، بالنظر إلى تعلقها بهم وحدهم تنفيذا لأحكام وقرارات قضائية.24 كما جعل المشرع يتيح الإمكانية للوكيل العام للملك، باعتباره ممثلا لسلطة النيابة العامة بالدائرة الاستئنافية، للمطالبة ب "تحقيق حسابات المحامين، وبالتحقق من وضعية الودائع لديهم، كلما تطلب الأمر ذلك".25 والأمر الأكيد هو أن تنصيص المشرع على ترحيل المقتضيات المتعلقة بإدارة حساب الودائع إلى نظام داخلي يصادق عليه مجلس الهيئة يعتبر في حد ذاته تكليفا تشريعيا بمسؤولية حراسة الودائع وضبط صرفها بمقتضى نفس الآليات التي تُمنح عادة للمرفق العام لضبط مجموعة من القضايا ذات الطابع التنظيمي؛ حيث يتصف النظام الداخلي، وفق هذا الاختيار، بالتشريع المُكمِّل لمهنة المحاماة كما أقرت بذلك محكمة النقض المصرية، عندما اعتبرت أن تصديق الجمعية العامة على هذا النظام يُسبغ عليه صفة التشريع المكمل لقانون مهنة المحاماة، طالما أن هذا النظام قد صدر بمقتضى التفويض المخول لمجلس النقابة والجمعية العمومية بنصوص القانون وفي حدود هذا التفويض،26 وهو ما ينطبق على النظام الداخلي لحساب الودائع والأداءات الذي يصدره مجلس الهيئة بمقتضى التفويض الممنوح له في هذا الشأن بموجب مقتضيات المادة 91 من قانون مهنة المحاماة. 3- إن حساب الودائع والأداءات، بالنظر إلى كونه يشترط انضباط ممارسة مهنة المحاماة بقواعد مالية ومحاسبية ملزمة، يعتبر حسابا تنسحب عليه صفة "المصلحة ذات النفع العام" من زاويتين أساسيتين؛ تهم الأولى، مساهمته في تثبيت شفافية الإقرار الضريبي، وفقا لمبدإ التحمل على قدر الاستطاعة للتكاليف العمومية،27 من خلال تسهيل مهمة إدارة الضرائب في الحصول على جميع المعلومات التي من شأنها أن تفيدها في ضبط ومراقبة الضرائب والواجبات والرسوم المستحقة على الغير؛ حيث تخولها المادة 214 من مدونة الضرائب حق طلب المعلومات المتعلقة بالسجلات والوثائق التي تفرض مسكها القوانين أو الأنظمة الجاري بها العمل وكذا جميع العقود والمحررات والسجلات والملفات الموجودة في حوزة الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين الذين يزاولون نشاطا خاضعا للضرائب والواجبات والرسوم، والذين يندرج ضمنهم ممارسو المهن الحرة كالمحامين.28 أما الزاوية الثانية التي يكتسب من خلالها حساب الودائع والأداءات صفة "المصلحة ذات النفع العام"، فتتعلق بخضوعه لأحكام الوقاية من غسل الأموال بمقتضى إلزامية التوطين البنكي للأموال المحكوم بها لفائدة المتقاضين؛ حيث تصبح هذه الأموال خاضعة للإجراءات المنصوص عليها بخصوص التحلي باليقظة والتصريح بالاشتباه والمراقبة الداخلية، والتي ألزم بها قانون غسل الأموال مجموعة من المعنيين وعلى رأسهم مؤسسات الائتمان.29 على هذا الأساس، يشكل التطاول على هذه الأموال مسا واضحا بمصالح عامة تعود بالنفع العام على سائر المواطنين؛ الأمر الذي يُغلِّب إلزامية سريان الحماية الجنائية على حساب الودائع والأداءات صونا لهذه المصالح. نخلص إلى القول إن ما تم استعراضه من معايير ومرتكزات يعتبر كافيا لإضفاء صفة "المصلحة ذات النفع العام" على هيئات المحامين. وبهذا الخصوص، من المهم الوقوف عند مسألة ذات دلالة جوهرية؛ مفادها أن القضاء المغربي لا يفرض وجود كل المعايير مجتمعة لاعتبار مصلحة ما ذات نفع عام، وإنما يتبين من الأحكام والقرارات القضائية اكتفاؤها بوجود معيار واحد لتمتيع المصلحة أو المؤسسة بصفة العمومية.30 ونحسب أن هذا الاختيار يكتسب مشروعيته ووجاهته من حتمية تحصين آليات حماية الأموال العامة والخاصة؛ فلو اشترطنا توافر كل المعايير مجتمعة، فإن الحماية سوف تضعف؛ إذ من الصعب إثبات توافرها في واقعة واحدة، أما إذا اكتفينا بمعيار واحد فإن الحماية سوف تتقوى وبالتالي يتحقق المبتغى من حماية المال العام من أي عبث أو تقصير من قبل أي كان.31 اعتبارا لكل ما تقدم، يتأكد أن هيئات المحامين تندرج ضمن "المصالح ذات النفع العام" المنصوص عليها في الفصل 224 من القانون الجنائي وأن المفهوم الجنائي ل "الموظف العمومي" يسري، ليس فقط على مستخدميها، وإنما أيضا على مختلف المحامين المسجلين بجدولها؛ فإن ما يصلهم من أموال خاصة بالمتقاضين، تعد محمية جنائيا بمقتضى الفصل 241 من ذات القانون، طبقا لتعبيره الصريح في أن كل موظف عمومي: "(..) بدد أو اختلس أو احتجز بدون حق أو أخفى أموالا عامة أو خاصة أو سندات تقوم مقامها أو حججا أو عقودا أو منقولات موضوعة تحت يده بمقتضى وظيفته أو بسببها. " ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يُتَّخذَ الشرط القانوني المتعلق "بضرورة وجود الأموال المختلسة بين يدي المحامي بمقتضى وظيفته" ذريعة لادعاء انتفاء جريمة الاختلاس في حقه. لأن المشرع، كما اشترط لقيام جريمة الاختلاس الركن المتعلق بوجود المال تحت تصرف الموظف بمقتضى وظيفته في إطار ما يعرف بالحيازة المؤقتة، أبقى المجال مفتوحا للاكتفاء بمجرد الاختصاص العارض؛ أي الاكتفاء بشرط تحقُّق الاختلاس بسبب الوظيفة؛32 حيث لولا الصفة الاعتبارية والمهام المزاولة لما ارتكب الموظف جناية الاختلاس؛ وهو الأمر الذي ينطبق على حالة المحامي في علاقته بالأموال المودعة بحساب الودائع والأداءات. لقد أبان حكم المحكمة الابتدائية في نازلة اختلاس حساب "الودائع والأداءات" عن اجتهاد جريء ومتقدم يَصْدُر عن منظور ناضج لحماية الأموال العامة والخاصة من عبث العابثين، ويُعبِّر عن فهم واستيعاب عميق لرهانات مكافحة الفساد كما استشرفتها مقتضيات الاتفاقية الأممية ذات الصلة، والتي أكد منطوقها على ضرورة توسيع نطاق مفهوم الموظف العمومي، تعزيزا لضمانات تحصين وحماية الأموال العامة والخاصة. وقد كان المُؤمَّل أن يسير اجتهاد محكمة النقض في اتجاه مناصرة وتعضيد هذا الاختيار، على الأقل من زاوية صيانة التوجه الدستوري الذي أدرج مُرتكزَ التخليق ومكافحة الفساد كمكون جديد ضمن مكونات الوثيقة الدستورية، الأمر الذي يؤشر على معطى أساسي مؤداه أن التعاطي للفساد من شأنه أن يشكل مجازفة محفوفة بالمخاطر وذات تكلفة باهظة للمفسدين، وأن ممارسة الوظائف لا يمكن أن تشكل فرصة للاغتناء غير المشروع؛ وكلها مقاصد دستورية يظل صمودها رهينا باجتهادات قضائية قادرة على التفاعل الإيجابي معها وعلى إذكاء الدينامية المطلوبة فيها. في انتظار انخراط ملموس لقضاء النقض في المجهود الوطني لمكافحة الفساد، نعود لنؤكد بأن إقرار مقتضيات تشريعية لمواجهة الانزلاقات التي كانت أموال موكلي وزبناء المحامين ضحية لها يستوجب إرساء الضمانات التي تحول دون هذه الانزلاقات. لذلك، فإن توجه المشرع إلى تأطير هذه الأموال وتحصينها في إطار حساب خاص منضبط بضوابط الرقابة يقتضي تمتيع هذه الأموال بحماية خاصة من خلال اعتبار المؤتمن عليها، بمقتضى الوظيفة أو بسببها، موظفا عموميا يعاقب بهذا الاعتبار، وإلا فإن إحداث هذا الحساب من شأنه أن يزيد الوضع تفاقما؛ حيث من شأنه أن يُحَوِّل المحامي الذي لا ضمير له من مختلس لأموال موكليه إلى مختلس لأموال موكليه وموكلي غيره. الهوامش: 1- القرار عدد 1331 / 8 المؤرخ في 16 / 08 / 2018 ملف جنحي عدد 15490 / 6 / 8 / 2018 2 - Sylvie Voko, Les atteintes à la probite, Thèse de doctorat en droit, Ecole doctorale de droit privé, Université paris 1 – panthéon sorbonne - Paris I, 2016, P 16. https://tel.archives-ouvertes.fr/tel-01522452 vu le 7 Mai 2017 a 18h. 3- فريد السموني: مفهوم الموظف في القانون الجنائي المقارن، "مفهوم الموظف العمومي في القانون الجنائي المقارن"مقال منشور بمجلة كتابة الضبط، ع 12، يناير2005.ص: 4 و7. 4- محمد الكشبور، م.س، ص55. 5- ملف جنحي رقم : 4037-2103-16 حكم صادر بتاريخ : 10-11-2016 6- المنصوص عليها وعلى عقوبتها في الفصول 129، 357، 359، و505، من م.ق.ج والمادة 316 من مدونة التجارة. 7- قرار صادر عن قاضية التحقيق المكلفة بجرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 26 يوليوز 2018، ملف التحقيق عدد 12 / 2017 . 8- أحمد حنين، خصائص ومميزات القرارات الصادرة عن غرفة المشورة في المادة التأديبية للمحامين، دفاتر المجلس الأعلى، عدد 3، 2004، عدد خاص عن ندوة العمل القضائي وقانون مهنة المحاماة، نسخة إلكترونية. 9- محمد المنتصر الداودي، الطبيعة القانونية للقرارات الصادرة عن غرفة المشورة في الطعون المرفوعة ضد قرارات النقباء ومجالس هيئات المحامين. دفاتر المجلس الأعلى، عدد 3، 2004، عدد خاص عن ندوة العمل القضائي وقانون مهنة المحاماة، نسخة إلكترونية. 10- أحمد حنين، م.س. 11- إبراهيم زعيم، ألا يعتبر عدم فصل مجلس الهيئة في شكاية داخل أجلها القانوني قرارا ضمنيا بحفظ تلك الشكاية؟ دفاتر المجلس الأعلى، عدد 3، 2004، عدد خاص عن ندوة العمل القضائي وقانون مهنة المحاماة، نسخة إلكترونية. 12-Omar Azziman : La profession libérale au Maroc, collection de la faculté des sciences juridiques, économiques et sociales, éditions marocaines et internationales, Tanger 1980, p117 et 125. 13- مليكة الصروخ، القانون الإداري. 14- أحمد حنين، م.س. 15- إبراهيم زعيم، م.س. 16- Décision Caisse primaire "Aide et protection" (CE, ass., 13 mai 1938 (, décision Monpeurt,(CE, ass., 31 juillet 1942), décision Bouguen Conseil d'Etat, 2 avril 1943 17- عبد المنعم محفوظ، قضاء المشروعية وفلسفة الانفتاح الاقتصادي في مصر، ط1، بدون سنة، ص74 وما بعدها. 18- قرار الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى عدد 901 بتاريخ 15/7/1999 ملف إداري عدد 545/5/99، جريدة العدالة، مارس، أبريل 2002. 19- قرار الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى عدد 1496 بتاريخ 12/11/2000، ملف عدد 273/14/2000، مجلة المحاكم المغربية، عدد 86. 20- قرار محكمة الاستئناف بمراكش عدد 1527 بتاريخ 9/6/1982، مجلة المحامي عدد9. 21- تقرير لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، حول مقترح قانون يتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، السنة التشريعية 2006-2007، دورة أبريل، ص 23. 22- un dépositaire public, soit une personne qui reçoit et gère des sommes ou des matières qui lui sont confiées en vertu d'un titre légal. 23 -VICENT.J, GUINCHARD.S, MONTAGNIER.G, VARINARD.A: « La justice et ses institutions»; Dalloz, 3 éd, 1991, P 528 et 586 et 588. 24- قرار غرفة المشورة بمحكمة الاستئناف القنيطرة، الصادر بتاريخ 16-12-2010، في الملف عدد 181-1124-10. 25- المادة 56. 26- ينظر، محمد بلهاشمي، مدى إلزامية الأنظمة الداخلية لهيئات المحامين، دفاتر المجلس الأعلى، عدد 3، 2004، عدد خاص عن ندوة العمل القضائي وقانون مهنة المحاماة، نسخة إلكترونية. 27- ينص الفصل 39 على ما يلي: على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف العمومية، التي للقانون وحده إحداثها وتوزيعها، وفق الإجراءات المنصوص عليها في هذا الدستور. 28- حق الإطلاع لا يمكن أن يشمل مجموع الملف فيما يتعلق بالمهن الحرة التي تستلزم مزاولتها تقديم خدمات ذات طابع قانوني أو ضريبي أو محاسبي. 29- تنظر المواد من 3 إلى 13.2 من الظهير الشريف رقم 1.07.79 صادر في 17 أبريل 2007 بتنفيذ القانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال. 30- بالرجوع إلى الاجتهاد القضائي، نجده غير مستقر على معيار واحد، وإنما نجده يتقلب من معيار إلى آخر، بل ويفاضل بين تلك المعايير كلما انتقل من قضية إلى أخرى دون أن تكون هناك مبررات مقنعة. ينظر، خالد حجازي، م.س، ص72. 31- خالد حجازي، م.س، ص74. 32- خالد حجازي، م.س، ص53-55. *باحثة في مجال محاربة الفساد المالي والإداري