أن تكوّن مشهدا بانوراميا لحراك الحسيمة ما عليك سوى أن تجمع هذه المشاهد في مشهد بانورامي واحد ليمنحك مشهد الحسيمةالمدينة المناضلة بتاريخها المثقل وبتهمة ريفها لأزيد من ثمانية أشهر من حراك مدينة في سلمية قل نظيرها عالميا، وأبكت في صمت تجربتها ملايين المغاربة الذي نظروا إليها بتلاوين اليد القصيرة أمام اليد الطولى للسلطة، وألهمت مدنا وأناسا من شتى البقاع أن جلالة الشعب لا يموت أبدا. المشهد 10: الزواطة الطويلة اسمحوا لي أن أعرفكم بنفسي: أنا الزرواطة/سياسة العصى الطويلة. انتقلت من شارع محمد الخامس بالرباط ومن أمام البرلمان إلى الحسيمة بالسرعة القصوى. أنا نهمة.. جشعة.. أحب اللحم والأفخاذ.. أحب الظهر والكاميرات وعدسات المصورين.. أحب أن أسمع الأنين والعويل والبكاء.. أشتهي المظاهرات.. أبتغي الاحتجاجات.. أنصاع للأوامر الفورية.. للهواتف النقالة. لأزيد من ثمانية أشهر وأنا أكره لفظ السلمية المردد في أداني ليلا ونهارا.. كرهت حالي.. عليّ أن أقوم بعملي المعتاد جلد وسلخ أولئك الذين يرون فيّ عنفا واضطهادا واحتقارا... أردد بفخر: أحن إلى عهود وشعوب الزواطة.. إلى سنوات الجمر والرصاص.. أحن إلى الدم والغارقين في الشعارات.. أحن إلى تعويذة الأوامر العليا... وأختم قولي: أشكر المسؤولين الذين فكروا في ولحالي وزادوا من طولي ومن هامتي وعجرفتي.. شكرا للقائمين أن منحوني لونا أسود به أشهر قبحي وأقوّم اعوعاج الأفواه والرؤوس المتنطعة التي تأبى الانكسار.. أنا تاريخ طويل من السواد والعنف ومحبة السلطة والدفاع في النهارات والليالي الطويلة عن الوعود الفارغة والمؤجلة. المشهد 9: رقم الاعتقال لا بأس أن أعتقل بعض الخارجين الذين تصفهم الدوائر بالانفصاليين.. بعض المتنطعين.. بعض من سولت لهم أنفسهم واعتقدوا لبرهة أنهم زعماء شعبيين وتاريخيين.. بعض الخارجين عن القانون.. لا بأس من قليل من الاعتقال لتستقيم الدولة رويدا رويدا.. لا بد من العودة إلى سنوات الجمر والرصاص قليلا كثيرا بطرق مبتدعة.. ولا بد من الكثير من الخوف.. ومن الكثير من الرهبة. أنا الاعتقال .. اعتقال بضع صحافيين لا مانع ومحاكمتهم بسرعة قصوى وعند الفجر لا مانع... اعتقال العشرات وتعنيفهم لا مانع.. إخراج بعض السيناريوهات والصور والفيديوهات عن بعض المعتقلين وهم يئنون من فرط السياط وهم متعبون مرتجفون.. حتى يعتقد أتباعهم ويدب فيهم الجزع الكبير ويعرفون قيمة السلطة ومهابتها التي تهاوت وسلطة الدولة وقد تراخت قبضتها بعد الربيع الأخير.. أنا الاعتقال سمة واسما ورقما للموقوفين حتى تكثر الانتظارات أمام أبواب السجون هنا وهناك. أضيف مسألة صغيرة وهامة كلما كثر الضجيج في منطقة ما تمكنت من تمرير مخططات استعجالية راهنت على زمن الفوضى لتمريرها. لا بأس من عسكرة المدينة وتطويقها وزرع بذور التفرقة صيفا وشتاء والاتهامات هنا وهناك.. ومراقبة أنفاس الفيسبوكيين واليوتوبيين والجامحين.. وقطع صبيب الانترنيت كلما جد الجد. أنا الاعتقال..أنا فقط جزء من خطة كبرى ومن مشاريع كبرى تحاك في دهاليز الظلام. المشهد 8: التهمة الجاهزة أنا الحسيمة أنا التهمة.. أنا الجائعة.. المعطلة .. البائسة.. الحزينة.. التي تحاك بي المقالب في واضحة النهار.. أنا التهمة الجاهزة القابلة للتنفيذ في الفجر القصي.. في النهارات المشعة بضوء الشمس.. أنا التهمة المهيأة بأنهم اقتحموا المسجد جمعة وخطبة.. وأنهم قاطعوا الصلوات الخمس والدعاء المستجاب. أنا التهمة بأنهم تجمهروا زرافات وجماعات وأن مخططاتهم فاقت المدينة وتسربت من تلك الأمكنة القصية.. أنا التهمة المكتوبة في المحاضر أنهم تجمهروا أعدادا ورددوا تلك الشعارات الخائبة الملبس "عاش الشعب وماتت السلطة".. أنا التهمة أنهم اختاروا لابلاصا دي ليبرتاد (ساحة الحرية) لتجمعاتهم وأبدعوا في التجمع في الشواطئ والمقاهي والبيوت. ولكني أنا التهمة التي تربيت في أديرة الليل وهمس الأذان.. لا أخاف ولا أهاب ولي كامل المناعة في تقفي أثرهم وفي تصيدهم وأنهم سيسقطون الواحد تلو الآخر في شباكي العريضة وتنتصر مشيئتي. المشهد 7: الحناجر المبحوحة "لنا يا رفاق لقاء غدا سنأتي ولن نخلف الموعدا".. يسألني لم لا أكف عن ترديد هذه الشعارات المكثفة والمنمقة بصوت جهوري عال؟ أنا الحناجر.. أنا الحسيمة حنجرة واحدة برئة واحدة وقلب يهوى النضال.. أنا الحناجر وقد بحت من علياء صوتها. يا مدينة الضياع والهامش.. أنا الحنجرة وقد تجمعت في ساحة الشهيد على صوت واحد.. أنا كلمة الحق في النفوس الأبية وأنا الكرامة تنغرس في النفوس قبل الحناجر. من يسمع أنين حنجرتي ترتعش فرائصه.. من يسمع صدح شعاراتي الملتهبة بالحماس وعلامات النصر يخاف الهزائم.. ثمانية أشهر وحنجرتي لم تمل أننا لم نخلف الموعد وأن الجماهير في صفنا ودرب النضال دربنا. المشهد 6: القنابل المسيلة واحد.. اثنان.. ثلاثة.. تحذير.. حذرتكم ثم حذرتكم ولكنكم لم تستجيبوا للنداء.. أنا القنبلة المسيلة للدمع.. أنا الصغيرة في الحجم الكبيرة في نتائجها.. أنا من فرقت طوائفهم.. وشردت جموعهم وجعلت جماعاتهم ولدانا هاربين خائفين مرتعشين.. أنا القنبلة المسيلة للدمع وقد صارت أدخنتي خانقة وحارقة وباكية لجموعهم. كم ضحكت في ذاك اليوم السعيد بعد ثمانية أشهر من حبس النفس.. ووجدت الفرصة سانحة للتفريج عن كربي وبؤسي وزهد الشهور الطويلة. كم أحببت لحظات العد وتمنيتها قبل أن ينطلق العد.. وكم أفرحتني العيون وهي تبكي وتبكي وتئن.. حذرتهم وقلت لهم أنا لا أتراخى ولا أهاب الجموع بشعاراتها ولا براياتها الزاهية ولا بعلامات النصر التي ترفعها.. لي تجارب قديمة في الجامعات وفي الساحات... وفي أيام الربيع العربي وما قبله وما بعده.. فقط أنا أنتظر الأوامر وكم أحببت مدينة الحسيمة كمكان للتنفيس عن غضبي صيفا.. غضبي شديد لا يقارن ولا أستطيع حبسه وكبته.. فالسلطة لا تستطيع كبت عنفها وإن طال كبتها كان ذا وطء شديد لا يقهر ولا يغتفر ولا يرحم. المشهد 5: صوت الزعيم أنا الزعيم الشعبي.. لا اسم لي سوى صوت الجماهير التي رفعت من شأني.. يتهمني البعض بأن مستواي الثقافي لا يؤهلني.. فالزاعمات ليست ديبلومات ولا شواهد ولكنها إقدام وإقدام وشجاعة الشجعان في الرأي وفي الساحات.. كم شهدت الحسيمة على عدد الزعامات من زمن الخطابي إلى سيليا إلى الزفزافي إلى الآخرين... الذين بحت حناجرهم من ترديد عبارات أننا لا نهاب الموت ونتمنى الشهادة دربا.. أنا الزعيم الشعبي.. أنا المعتقل.. أنا الساحة.. أنا الحنجرة.. أنا الساعات الطويلة من الشعارات.. لا اسم لي سوى صوت الجماهير التي تعانق أفراح الحرية وتبحث عن الخبز والكرامة. المشهد 4: الصمت المريب أنا الصمت المدوي في الحسيمة بعد فض التظاهرات والاحتجاجات.. أنا الصمت المدوي في سيارات الشرطة وأجهزة الأمن.. أنا الصمت الأنين المريب في المحاضر دون توقيع ودون قراءة لها.. أنا الصمت القابع في النفوس وهي تنتظر المحاكم تعلن غراماتها الثقيلة وأيامها الطويلة.. أنا صمت الحسيمة ومعه صمت المثقفين المهرولين لدواليب السلطة ومعه صمت مواقع صامت التعبير عما جرى من ثمانية أشهر معدودة ونيف.. صمت الشوارع والساحات بعدما فاضت بدموع الجماهير وفاضت حناجرها روعة في حب الوطن.. صمت البحر وقد صمتت رياحه على عنف مزودج وقبح مزدوج وقمع مزدوج.. ما أتعس أيام الصمت التي يتبعها صمت الحناجر والمحاضر والزنازين الكئيبة المشهد 3: بؤس المحاضر دون أن تنطق.. أنا لي طريقتي الخاصة والمبتكرة... أنت فوضوي.. تبحثين عن الزعامات.. تبحث عن موطأ قدم لتكون ذا هامة بين الجموع والجماهير.. أنا المحضر الأسود المكتوب بعناية ودقة أنهم تجمهروا ورشقوا السلطة ورجال الأمن حجارة من سجيل.. أنهم تمادوا في طغيانهم وأنهم تحت يافطة السلمية تسللوا إلى الساحات ورفعوا أصواتهم ومعها فيديوهاتهم في اليوتيوب وتعليقاتهم القاتلة بموت السلطة. أنا المحضر المكتوب دون أخطاء وقبل التجمهر فقط لي طريقة أن أغير فقط الاسم ليظل المحضر كاملا وإن اقتضى الأمر غيرت المدينة من تارجيست إلى سيدي إيفني إلى الحسيمة... والقادمات تجارب. أنا المحضر الذي لا يتكلم سوى في أروقة بئيسة وتحت ضغط نفسي وترهيب.. لي تقاليد عتيدة وقديمة وكل من زار أرشيفي في دار المخزن يعرف كم السلطة متيمة بأساليبي التي يصفها الخصوم بالبدائية وبعهود الحجر والعبودية وسنوات الرصاص. المشهد 2: العيون الشاهدة اشهد أيها التاريخ أنني أنا العيون الحزينة موقفا ومكانا وساحات وحسيمة بكاملها.. واشهدي أيتها العيون الحزينة كم كان وخز السلطة وعنفها قاتلا.. اشهدي أيتها العيون بعين المصورين وبالعدسات الأجنبية كم كنا سلميين وسلميين.. وكم كنا نبتغي جامعة ومستشفى وطريقا معبدة ومعملا نكد فيه. لم تكن عيوننا رغم بؤس المناظر أن نتزعم هذه الجحافل.. فقط كانت العيون تنظر إلى بشاعة ما يقع.. أمام أعيينا ضربنا ضربا مبرحا.. وأمام أعين صغارنا اعتقل أحبتنا.. وأمام عيون البحر والساحات والأحياء الشاهدة بأسمائها والجبال العالية.. اغرورقت دموعنا أسفا على أن هذه المدينة.. مدينة الشهداء والأبطال .. طالها النسيان دهرا.. وأننا طالبنا برفع العسكرة عنها وهي المثقلة بالتواريخ والاتهامات.. أننا لسنا دعاة انفصال ولسنا سوى مغاربة بعبق الريف. عيوننا تشهد أننا أحببنا الجبال والقهر وتحملنا سنوات عجاف طالت.. وقلنا ذات يوم يأتي عهد جديد نزيح فيه ثقل الماضي.. اشهدي أيتها العيون أن المطالبة برفع الذل والمهانة واستبدال كرامة والبوح بالحرية معصيات لا تغتفر.. اشهدي على دموع الأمهات وآهات الرجال واشهدي أننا كنا ذات يوم وسنبقى على العهد مغاربة حتى النخاع.. طالبنا وبحت حناجرنا برفع القهر.. وطالبنا قسما.. عدلا وكرامة وخبزا وتم وسمنا بأحط الأوصاف. المشهد 1: الخطب النارية أنا جلالة الريف.. أنا فخامة الريف.. أنا مهابة الريف.. أنا الريف الشامخ المتعالي.. أنا أنوال الشهيدة.. أنا الأيام الطويلة للمنفى والهجرات.. أنا الليل الطويل في كتابة قصص الأبطال التي تنتهي. ما المعنى أن أكون جلالة الريف ليوم واحد؟ ما المعنى أن أجسد فخامة الريف لدقيقة؟ أن أكون مغربيا لنصف دقيقة؟ أنا الأرض والتاريخ الذي لا ينسى.. أنا الشعب المقهور والأسلحة المجربة وسنوات القهر والقمع. ألا يحق لي أن أكون سيليا.. ألا يحق لي أن أكون الزفزافي.. ألا يحق أن نكون من أحفاد الخطابي.. ألا يحق لي أن أكون صوت الأمهات والثكالى والحائرين والمهجرين والقابعين ذلا وبؤسا والمنتظرين على الدوام.. ألا يحق لنا أن نكون مهابة وطن وريفا عزيزا.. مهاب الوجه والجسد.. مهاب الشكل والتاريخ وصفحات الأمل... مهاب الدمع.. مهاب الجانب والخبز والعدل والكرامة. أنا جلالة الريف حياة وقبرا وقبرا .. سرا وجهرا.. أنا الصدر العاري.. أنا الحنجرة.. أنا الشاهد على أن أيام الذل والقهر ريفا ومغربا يوما ستنمحي وتنمحي.