اختفت النجوم تحت وطأة غيوم سوداء، أما القمر فلم يظهر منذ عدة أيام. الأشجار امتدت على طول الطريق، وقفت بمهابة وانحنى بعضها يحكي قصة الموت والمطر. أما أنت فقد كرهت أن تختفي النجوم، ويغيب القمر ورحت تقود السيارة بلا مبالاة تجاه الأضواء والأشجار التي وقفت كشحاذين يمدون أيديهم للمارة. ها قد وصلت الى المنزل وانتهى الشارع. المكان هادئ الا من ضجة خافتة تتسلل من مبنى النادي. وأصوات قادمة من حي الاكواخ والسراديب تنبئ عن ضجة لصوص اختلفوا حول الغنيمة أو مشاجرات عائلية استخدمت فيها السكاكين. ولكن اين البائع هذا الرجل الذي يطاردك أينما ذهبت. ليس بعيدا أن يكون أحد هؤلاء المشاغبين الذين ينتظرون الفرصة السانحة للفتك بك. ها هو يجلس قرب الجدار وقد التصق بعربته وارتدى معطفا شتويا خاض الدهر عليه حروبا تكللت بالظفر. انه يدخن باستمرار، ولعله في هذه اللحظة عينها يفكر في اشعال الفتيل. أليس غريبا أن يلازمك عدة شهور دون أن يتكرم بالتعرف عليك وجها لوجه وأنت أيضا لم تتشرف بدعوته للعشاء على مائدتك. أوقف السيارة وتناول المسدس. أمسكه جيدا لئلا يفلت من يدك. أنت لا تجيد اطلاق النار ولكن الدفاع عن النفس يعمل المستحيل. من يمكن أن يشترى منه هنا؟ بعض رواد النادي، والمارة الذين القاهم القدر في طريقه. انهم يعدون على الأصابع. انه يلتفت اليك ببلاهة. يتظاهر بعدم معرفتك. كذلك لم تحلم به. كأنه لم يحاول شنقك تلك الليلة. لديه مصباح صغير يضئ قليلا. ولا يستبعد أن تكون القنبلة بين البضائع تنتظر الزبون المنتقى بعناية. هل لديك علبة تبغ من طراز . . . نعم. ترك مقعده وأعطاك العلبة. آه أليس عجيبا أن تكتشف أن البائع لا يملك سوى يد واحدة والغريب أنه شاب يافع، وليس عجوزا عتيقا كما تصورته. ما هذا؟ كاد أن يقتلك خوفا هذا الكلب. كلب لا تعرف من أين طلع، أبيض واسود. هزيل راح يتشممك بانتباه، ثم تطلع اليك باستغراب. وأوشك على النطق لولا أنه أحجم في اللحظة الأخيرة، وابتعد عنك. جلس تحت قدمي البائع وأن أنه طويلة وهتف بحرقة «ما أقسى الأيام!» يبدو أن البيع معدوم هنا؟ ابدا يا أستاذ، البيع جيد. أغفى الليل اغفاءة طويلة. ومشت السحب تغطيه حتى قدميه الممتدتين في الأفق. وفي لحظة شع برق خافت كأن أزرار سترته سقط. أظنها مهنة صعبة، بيع مستمر حتى في ليالي الشتاء القارسة و . . بكل تأكيد، ولكنها ليست أقسى من مهنتي السابقة. انفتحت شهيته للحديث. لن تكون مخطئا في دعوته الى حفل مندوبي الشركات. كنت عاملا في مصهر الحديد . . هذا أحد مشاريع وزارتك. ألم تسيء في تصور الشاب مخبرا وجلادا؟ قام الكلب وراح يتثاءب. ثم هز رأسه بخبث وطلب سندويتشا من أحد المطاعم. لكن البائع تجاهل طلبه. كنا نشتغل عشرين ساعة في بعض الأحيان، النوم والراحة لا نجدهما . . هل هل حضرت من أجل سماع هذه الكلمات؟ انتظر قليلا سيكشف الشاب عن وجهه البشع. الحرارة، الموت، البؤس، كلها غنت اغنية واحدة وأثمرت الضحايا. . ماذا تسمع؟ كلام مزعج، ابتعد، ادخل منزلك، التحف، احلم بالهدوء والحب. لكن حلمك الان حرائق تشتعل في بدنك. جموع غفيرة ذات أعلام كالدم تزرع الانفجارات والضحايا. اسكت، اسكت! أنا لم أفقد سوى ساعدي الأيمن. ألة كلها أسنان أخذته بعنف. الكلب يتثاءب ثانية، يقترب من مدخل العربة ويشم طويلا. قال «هنا لحم، وأنا جائع جدا وعوضا عن الاكل نسمع ثرثرة مملة». أنت وأمثالك تبنون حياتنا الجديدة . . هل عملت مدرسا يا أستاذ. .؟ أنت تتحمل نتائج نزولك الى القاعدة الشعبية. ينبش البائع ماضيك ثم يقدمك لجما مشويا لكلبه. نعم، حدث ذلك منذ سنين بعيدة. الا تذكرني؟ طالعت وجهه بدقة أكبر. غص في الوحل وتذكر التفاهات. للأسف. كنت مدرسنا. لا أذكر. اعطيتنا كتبا. لم أتعامل بالكتب مع الطلبة. فيها كلمات رائعة عن الانسان والوطن . . الكلمات لا تجدي، والانسان آلة لولا العمل والمال. حدثتنا طويلا عن البؤس . . لا أتذكر شيئا، يبدو أنك تتحدث عن مدرس آخر. وفي يوم اختفيت . . واقعة حقيقية، وبعدها عرفت الطريق . . جئت الينا ثانية ولم تتحدث بشيء، وحينئذ . . تفتحت لي الدنيا. ولكنني أحببت ما تقول وعملت كثيرا من أجل الوطن . . هذا رائع. وحين عملت من أجل الوطن انتزعوا ذراعي فتركتني حبيبتي . . في سبيل الخدمة العامة تهون التضحيات. بحثت عن عمل فلم أجد. أمر مؤسف. أما التعويض فلم أحصل عليه. أخطاء إدارية تحدث دائما. والجوع يلاحقني أينما أذهب . . حاجة بيولوجية حتمية. سكت الشاب لكن فمه ظل يتحرك كأنه تحدث للكلب عن المهزلة بصورة سرية. لكن الكلب كان يتطلع اليه لشيء آخر. وقال بلهجة ساخرة «وما فائدة هذا الحديث الغريب؟ الأفضل أن نأكل». هذا البائع خطير، يتكلم بصورة مزعجة. ويؤمن بآراء تسبب الضرر. أما مراقبته لك وتخطيطه لقتلك فمسألة لا تحتاج الى تحقيق. السكون تجول في الفضاء طويلا. قبل البحر البعيد، وعانق الغيوم ثم نزل الى المدينة وراح يتجول في الشوارع. لم يصفر. لم يدخن. بل ظل يرمق البيوت والأشجار باستياء بالغ. ضحايا التقدم كثيرون. الجوع . . الجوع قام البائع فجأة وسحب كيسا. أخرج سكينا من جيبه الواسع. ها هي صرخات جموع الفقراء تأتي هادرة فتطيح بالبيوت الشامخة وتشعل الحريق في المتاجر والمخازن. عينا البائع استحالتا الى كشافين ساطعين وأطلقتا سلسلة من البيانات الثورية. نصل السكن يلمع. الكلب يقفز فرحا. تناولت مسدسك بسرعة مخيفة. أطلقت رصاصة مدوية استقرت في صدره. تهاوى ببطء. امسك العربة. جحظت عيناه سقطت السكن. سقط الكيس. تحشرجت الالفاظ في فمه. تناثر البصل والارغفة. ايه ماذا أفعل؟ سمع ضحكات غريبة فعرف انها الأشجار استثارها الموقف. لم ينتبه أحد غيرها. أما الكلب فتطلع بدهشة الى صاحبه. وحين رأى الكيس اندفع اليه وأدخل رأسه فيه، وملبث أن أخرج كمية من الكباب المشوي. وقبل أن يلتهمها. نادى صاحبه الى العشاء فلم يلبي الدعوة، لهذا تخلى عن مشروعه وحاول أن يوقظ البائع. هيا ابتعد عن هذا المكان المريب، اتصل هاتفيا بالشرطة وأخبرها عن محاولة لاغتيالك وتنتهي المشكلة. دخل الى منزله متشائما. وبقى الكلب ينادي صاحبه بعنف. ثم راح يئن ويبكي بحرقة. وما لبث المطر أن هطل بشدة على الرصيف. – سجن جدة 01 أكتوبر 1976 عبد الله خليفة