4 قلعة الفنون السحرية مرت خمسة عشر يوما على افتتاح الموسم الدراسي، التحق معظم أصدقائه بإعداديات المدن المجاورة، أحدهم سيستقر عند عمه، والآخر عند زوج أخته... بقي وحده يعاني من الفراغ، ظل طيلة هذه المدة يذهب إلى جانب النهر ويذرف دموعه هنالك، يبقى طوال النهار، وأحيانا يستمر حتى غسق الليل. بدأ يفكر متى اكتسب هذه الشجاعة، فلم يعد يخشى نقيق الضفادع ولا الظلام الدامس، ولا تلك الشعبة التي كانت جدته قد قالت له : »إنها وجدت بها رضيعا، وعندما انحنت لم تجد سوى يدها والسراب «. لم يعد يخشى "عبد الواد"، بل تمنى لو خرج الآن وأخذه معه، تذكر قلعة الفنون السحرية التي رآها في منامه، لكن كيف السبيل إليها ؟.. بدأ الماء أمامه يصفى وتظهر من تحته ألوان زاهية ومتلألئة، تشبه ألوان طيف قوس قزح، وبدأ يسمع صوتا يناديه : » هيا اقفز، مرحبا بك في قلعة الفنون السحرية... نحن سنتكفل بدراستك «. استرجع بسرعةٍ وميضية كلام الجدة والمعلم، وفكر في أصدقائه ووالديه! وفيما إذا كانت هذه الأشياء، تظهر للراغب في الانتحار لتشجيعه على ذلك، وفيما إذا كان ما يحدث له الآن، هو ما حدث ل "نرجس" في الأسطورة اليونانية. بيد أن ذلك الصوت أجابه : » لا لا... لا شيء من ذلك.. لقد قرأت ذهنك... إذا ضيعتَ هذه الفرصة ستندم طوال حياتك... إن هذا الباب لا يفتح إلا خمس دقائق في السنة بتوقيتكم العامي «. فقفز وهو يقول في نفسه : » يمكن للمرء أن يقتل نفسه لمجرد أشياء يتخيلها... «. بيد أنه شعر أن كليمه يستطيع قراءة ذهنه فغمغم مشوشا على هذه الفكرة : » النهر بارد ! «. لم يترك جانب النهر سوى نعليه، وكانت هذه الرسالة تعني منذ البداية أنه وقع ضحية هذا الأخير. واجتمع أفراد القرية يمشطون النهر عنه طولا وعرضا، حيث كان الشبان يتباهون بالسباحة ولأنهم لم يعثروا على الجثة، فقد سلموا بأن الطفل سرقه "عبد الواد"، ذاك العفريت الذي كان بين الفينة والأخرى يأخذ شخصا معه إلى عالم الجن، فطوال سنين مضت، كان هنالك ضحايا يختفون، ومنهم بطبيعة الحال... وهي... وجد نفسه بالمدرسة مشدوها منبهرا، فقد أصابته دهشة كبيرة حيال هذا العالم الجديد الغريب، وقد استقبله أحد أعوان المدرسة على أحسن ما يرام : » مرحبا بك هاهنا، نحن هنا لمساعدتك «. ورد هو متلعثما : »سيدي أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم «. وسار العون باتجاه الحجرة التي سيقطن بها التلميذ الجديد، وتبعه هو يخطو وراءه والخوف يترهل في فؤاده، وبدأ العون يكلمه دون أن يلتفت إليه : » إن قلعتنا هي عبارة عن عالم يعيش في مكان وزمان خاصين، وسكانها يتشكلون من أجناس وإثنيات، جاؤوا من جميع الأزمنة والأمكنة والعوالم «. ووصل العون أمام الحجرة وبدأ يقول : » حسنا... هذه هي حجرتك، إنها تحتوي على سرير وخزانة خاصة للكتب، ومختبر للأبحاث الشخصية، ومطبخ وحاسوب سحري عجيب. وبعض الأشياء الأخرى«. وكان هو يردد فقط عبارة : » نعم نعم « مطأطئا رأسه عموديا، فقد كانت نفسيته شبيهة بنفسية ملاكم تعادل مع خصمه في الجولتين السابقتين ويستعد للجولة الثالثة. ووعى المسئول ذلك واستأنف حديثه مقطبا حاجبيه : » غير أنه ليس بمستطاعك الآن الدخول إليها... إنها تفتح برقم تشفيري خاص... الأستاذة ضفدوعة هي المتخصصة في التشفير ، سوف تنجز لك رقما خاصا بك. وستضيفُ إليه أنت رقما اختياريا. وسيصبح رقمك بمنأى حتى عن ضفدوعة نفسها... لكن احترس من الأخطاء، انظر إلى تلك البقع في صدرك، إنها تعني أنك دخلت يوما إلى قلعتنا. وعندما أردت الخروج ارتكبت خطأ في النطق بالتعويذة السحرية! «. وأحنى التلميذ رأسه لينظر إلى صدره، غريب أن كليمه يستطيع رؤية ما تحت الملابس، فخجل من نفسه، بيد أن العون فهم الأمر وقال : » لا تخجل سوف تتعلم كيف تحمي نفسك من كل شيء !. أنت الآن مثل كتاب مفتوح يستطيع أي ساحر أن يقرأه «. نظر بوجا إلى شفتي مخاطبه، لقد كان فمه فاغرا وثابتا، رغم أنه ينطق حروفا حنجرية. وأدرك العون ذلك فاستدرك قائلا : » إي.. على فكرة أي لغة تتكلم؟ ! «. فأجاب الولد باندهاش وحيرة : »العربية «. ورفع العون حاجبيه وهو يقهقه : » حسنا أنا أتكلم "السنسكريتية"، ليس هناك مشكل في اللغة، فلدينا ذلك المحول اللغوي السحري العجيب، إنه مبرمج عبر الأثير. حيث تتكلم أنت بلغتك ويحولها هو إلى لغة مخاطبك تلقائيا، حتى ولو كان هنالك مخاطب وحيد ومليون ألف مستمع يفهمون لغات مختلفة ! «. وبدأ العون يصفق راحة يسراه مع راحة يمناه ويتحرك أمام باب الحجرة جيئة وذهابا كأنه يفكر فيما سيقوله وهمهم : » أمممم اسمع بوجا هنا بمدرستنا القانون فوق الجميع. والمدرسة صارمة في إقامة الحدود على الجميع. كن حذرا. لا نريد سرقة ولا كذب ولا اختلاس... وهناك شيء آخر إذا لم تشغل دماغك بشكل جيد فإن القلعة ستنتزعه منك. وتسيطر عليك بلعنةٍ. تصبح معها مثل الربوه.. تصبح حيا وميتا في نفس الوقت «. وارتعش بوجا في مكانه. وقرر المسئول الانصراف إلا أنه استدرك شيئا آخر : » آه، لقد نسيت... بخصوص نظام التغذية... فمادامت المدرسة خليطا من الأنواع والأجناس، فإنها لا تكلف نفسها مسؤولية تقديم الوجبات الجاهزة للتلاميذ، إلا في الحفلات والمهرجانات. لذلك فإنك ستتسلم منحة كل أسبوع «. وبدأ العون يحك رأسه وهو يهمهم : » حسنا سوف أقول كل شيء... فمادمت مضطرا للمبيت في الشارع، فاحذر بعض العصابات التي تهاجم مدرستنا بين الفينة والأخرى، إنهم مصاصي دماء... وهناك أيضا تلك الثقوب التي تنفتح بين الفينة والأخرى فيسقط بها كل من كان قريبا منها... ليس معي هنالك أية خريطة للمناطق التي تنشط بها هذه الثقوب... وقبل أن تتعلم كيفية التعامل معها، ابتعد عن أي ثقب رأيته ينفتح أو يتوسع ! «. 5 بمادتي : التنبؤ والتحول في صبيحة هذا اليوم نزل من الشجرة التي بات فيها البارحة ريثما تهيئ له الأستاذة رقمه، واتجه نحو قاعات الدرس، وهناك التقى بالتلميذ "صدوق عاشور" صاحب الوجه البشوش، والذي يبدو مع ذلك متحفظا شيئا ما. سأله عاشور بكل جرأة : » هل أنت هو المسمى بوجا ؟ ... إن مكانك بجانبي في إحدى الطاولات، إنني مررت بمثل ظروفك، حيث لم أكن أعرف الأقسام ولا التلاميذ ولا...، لذلك إذا كنت تحتاج لمساعدة فلا تتأخر في استشارتي «. رافقه بوجا مستبشرا به، ووقف عاشور وأشار إليه بالوقوف وقال: »شهيق « وبدأ يركضان لمسافة أزيد من مائة متر. ثم وقفا وتنفسا الصعداء. وأدرك صدوق حيرة صديقه فقال له : » إنها منطقة خالية من الأوكسجين، وهي من الفخاخ التي تبنيها القلعة لأولئك اللصوص. لذلك فاحذر مثل هذه الفخاخ، وانتبه إلى التشوير الطرقي. وشعر بوجا بشعور عجيب، فلو لم يلتق بصدوق لأصبح الآن ومنذ اليوم الأول في عداد القتلى، وقال لصديقه : " لماذا لم يحدثني عنها العون ؟ «. فأجابه : » إن هناك أشياء كثيرة مثلها، هل سيقضي العون حياته كلها في الحديث إليك، ألم يقل لك شغِّل دماغك ! «. دخلا مادة التنبؤ، كانت بالنسبة إليه أول حصة في المدرسة، وكان بعض التلاميذ ينظرون إليه بنوع من الحيطة، وشيء كالسخرية والاحتقار. نظر غير بعيد فوجد اسمه بإحدى الطاولات وجلس إلى جانب عاشور، في حين كانت تجلس في الطاولة الأمامية التلميذة "شيطا"، والتي كانت تلتفت أكثر من عشر مرات في الدقيقة، وكانت بحق تلميذة داهية وماكرة، وعلى هيئة كبيرة من دمامة المُحيا وطول الأنف، إلى درجة أنه لم يستسغ النظر إليها... وكأنه يسمعها وهي تقول : » انظروا إلى هذا البدوي الأبله، إنه لم يقدر حتى على النظر في وجهي كأنني سألتهمه ! «. وفزع منها والتفت في الاتجاه المقابل فإذا به يرى "ملاك" تلك الفتاة التي كانت على غاية من الجمال والوسامة، وبقي منبهراً في بشرتها الوضاءة والصافية وفي عينيها اللؤلؤيتين، وردته عن ذلك بتحية وابتسامة، وتعجب لأسنانها وهو يُسَبحل : » سبحان الله لا يمكنها أن تمضغ بهذه الأسنان البلورية وإلا كسرتها«. وفجأة دخل الأستاذ "عبقور"، وانتفخت أجسام التلاميذ كأنهم ديَّكة، وانتفشت ملابسهم مثل الريش، وأصبحت بطونهم مثل بطون النساء الحوامل. ولأول مرة شعر هو بهذا الشعور الغريب، فقد انتفخ دون أن تكون له الرغبة في ذلك، فبادر الأستاذ (عبقور ) إلى الاعتذار إليه : » اعذرني عما تسببتْ لك فيه هذه المفاجأة... لقد كنت ادخل إلى القسم، ويبقى التلاميذ على قدر كبير من اللامبالاة، فأصبحت أعاقب الجميع بهذه الطريقة... حاول ألا ترتدي الملابس التي تحتوي على الأزرار خاصة أنك لا تتقن الخياطة السحرية بعد«. وانحنى الأستاذ عبقور ومد له مجموعة من أزرار وزرته وانصرف في اتجاه منصة القسم. لم يفهم بوجا معنى الخياطة السحرية وبدأ يقول في نفسه :» البعض يقوم بالمخالفة والبعض الآخر يعاقب عليها مجانا ! «. فنهره الأستاذ قائلا : » هيه.. لا تنسى أنني أقرأ العقول «. فخجل التلميذ من نفسه وأشار إليه الأستاذ وهو يخاطب جميع التلاميذ :» هذا هو صديقكم الذي تنبأت بمجيئه إلى هنا، فهل تصدقونني منذ اليوم؟ ! « وبدأت تختلط أصواتهم : » واو... إنه بجميع الصفات التي ذكرتها لنا... إنك عظيم يا أستاذ عبقور... «. وأرادت التلميذة شيطا أن تتكلم بصوت مرتفع : » هل هذا هو التلميذ الذي يبحث عن أمه ؟... و... «. وحدجها الأستاذ بعينيه قبل أن تنطق بهذه الجملة، الذي انتزعها من دماغها. وأحدثت نظرته إليها ثقبان بحجم العين في جبهتها، وبدأ الأستاذ يضرب أذنه بسبابته وهو يقول : » أغلقي تلك الثقوب بالعجين حتى لا يصبح منظرك مرعبا أكثر مما هو عليه، واحذري مرة أخرى «. وبدأت شيطا تبكي، وبدأ بوجا يفكر في الشيء الذي فعلته واستحقت عنه ذلك العقاب، فهو لم ير شيئا، وردد في نفسه : » يا إلهي أشعر بالضيق، ما أصعب أن يطلع أحد على ذهنك «. وبدأ يتأفف... وتابع الأستاذ عبقور كلامه بخصوص بوجا : » إنه تلميذ نابغة لكنه سيضطر مستقبلا للقيام بمغامرة ستكون نسبة خروجه منها حيا أقل من واحد بالمائة، ومع ذلك فهو مصر على القيام بها ! «. ودقت هذه العبارة في ذهن الولد مثل الناقوس. وتذكر ما قالته له جدته من العامة. واسترجع الأستاذ جديته واستأنف الدرس الذي كان بعنوان "مخاطر التنبؤ" حيث بدأ يتحرك بين الطاولات ويقول : » إن التنبؤ بشيء لا يعني دائما تجنبه، فإذا تنبأ شخص بأنه سيموت في قاعة المدرسة، لا يجب عليه الامتناع عن الذهاب للمدرسة لهذا السبب... فقد يحدث أن يموت في مدرسة قديمة تحولت إلى مستوصف صحي «... رن الجرس، وبدأ التلاميذ يستعدون لدراسة مادة التحول، وشرع بوجا يجمع أدواته للذهاب للقاعة المجاورة، بيد أن صدوق عاشور صده عن ذلك وهو يوشوش : » أصمد بمكانك، إن القاعة ستأتي عندك «. خرج الأستاذ عبقور من النافذة متلاشيا كالزوبعة، ومخلفا وراءه غبارا كثيرا من الضحك ! . وبدأت القاعة ترتج، وتختفي أدوات التنبؤ وتظهر أدوات التحول. ولوقتٍ وجيز نظر بوجا إلى طاولته وإلى تلك الشاشات التي وضعت أمام كل تلميذ وتلميذة، فوجد عليها اسمه وفصيلته الدموية وطوله ووزنه (بعشرة أرقام وراء الفاصلة)، ومعلومات أخرى... ودخل الأستاذ حربوء، وكان أستاذا عنيفا جدا، ويتكلم لغة دقيقة . فوقف جميع التلاميذ، إلا بوجا الذي لم ينتبه لذلك، ورغم أنه انتبه ووقف متأخرا، إلا أن الأستاذ رمقه فأمر الآخرين بالجلوس، وبدأ يأمره هو بالوقوف والقعود، ولأول مرة شعر بأنه يقف ويجلس دون أن تكون له الرغبة في ذلك، وكلما وقف إلا واستدار رأسه نحو اليسار. وعندما يجلس يدور رأسه نحو اليمين. وسرَّع الأستاذ من أوامره. وبدا الولد كالدمية، وشعر أن دماغه سيطير من رأسه... وأخيرا أمره بالجلوس، وبدأت الصفرة تظهر على وجهه، وهو يرغب في التقيؤ. والتفت الأستاذ مخاطبا جميع التلاميذ : » إنني شخصيا لا أومن بالعقاب الجماعي... ولذلك فعندما أعاقب تلميذا فإنني أتفنَّن في ذلك. والآن فلنتابع الدرس... قلنا في الحصص السابقة : - إن التحول أنواع: تام وناقص، وأخيرا استحالة مطلقة، لقد كانت الاستحالة حلم الخيما ويين من العامة في العصور القديمة... وقد كان هدفهم من ذلك تحويل المعادن إلى ذهب... فكانوا يبحثون مثلا عن الإكسير واعتقدوا أنه سر الحياة... نحن لا تغوينا الجوانب المالية للتحول. لأن العامة نسوا أنه إذا تحولت كل الأشياء إلى ذهب، فإن هذا الأخير سيفقد قيمته... إن سعادتنا نحن السحرة تكمن في القدرة على التحويل... بيد أن التحويل يجب أن يكون شاملا لجميع عناصر وقوى المتحول، فإذا أراد ساحر أن يضاعف قوة شخص مثلا، فعليه أن يضاعفها بالتناسب، فلو ضاعفنا جميع حواس شخص بنسبة عشرة بالمائة وضاعفنا سمعه بنسبة مائة بالمائة، سيصبح هذا الشخص يسمع أصواتا غريبة، يسمع مثلا : طقطقات الذرات، أو خشخشة مفاصله ودقات قلبه... وسيصاب بالهوس... وكلما سقط لأمه صحن أو كأس في المطبخ إلا وسيقول لها : ( أماه... هل تسمعين هذه الرعود ؟ وستعتقد هي أن ابنها مجنونا ! ) «. وبدأ الأستاذ يمشي بين الطاولات وهو يتكلم : » والآن أيها التلاميذ لنبدأ أول درس تطبيقي، وهو كيف تحول أعضاءك إلى أدوات للاستعمال الشخصي أو الحربي !. انظروا جيدا هذا ظفر إبهام اليد اليسرى سوف أقرعه مع ظفر إبهام اليمنى، فتشتعل النار ! . هيا جربوا جميعكم... «. والتفت إلى بوجا وهو يقول : »حسنا بوجا، هل أشعلت النار ؟ «! فأجابه مسرورا : »نعم سيدي «. واستدار الأستاذ نحو التلاميذ وهو يقول :» انظروا إليه... انظروا إليه، فرغم قدومه متأخرا فقد استوعب الدرس... والآن من لم يستطع إشعال النار فليتمرن عليها في منزله، أما السبَّابة فسأحولها إلى سيف أو سكين... عليكم أن تقرؤوا التعويذة وأنتم تفكرون في السيف... «. والتفت حربوء قبالة بوجا فوجده يطفئ نارا كانت قد اشتعلت في رأسه، وتمتم بكلمات وانطفأت تلك النار تاركة وراءها رائحة شعر محترق... واستدرك الأستاذ خطأه فقال مخاطبا جميع التلاميذ :» نسيت شيئا مهما... فإذا قرع أحدكم، من اليوم فصاعدا، ظفر إبهامه مع أية جهة من جسمه فإنه سيضرم نارا. إن النار السحرية لا تنطفئ بالخبط أو الماء كما فعل بوجا، إنها تنطفئ بتعويذة سحرية، الأستاذة "ضفدوعة" مشرفة على مادة التشفير سوف تعلمكم كيف تشفرون أعضاءكم تحت أرقام خاصة. وكلما احتجتم تحويل عضو من أعضائكم إلى أداة، فما عليكم إلا ذكر التعويذة و(الكود) الخاص بذلك العضو. من كانت له ذاكرة قوية وبرامج تشفيرية دقيقة ومنتظمة يستطيع تخزين أكبر طاقة سحرية، وسيكون من جهابذة السحر، حتى ليحكى عن زعيم مملكة الأشرار أنه يصنع مائة ألف أداة من كل عضو من أعضائه، كلها مخزنة تحت أرقام خاصة... «. وسار الأستاذ في اتجاه المنصة وهو يقول :»على أية حال، قبل أن تتعلموا تخزين الأدوات في حالة كمون وتحت أرقام تشفيرية، فما عليكم إلا الانتباه حتى لا تخدشوا أجسامكم ! ... والآن انظروا سوف أستعمل السبابة والوسطى كمقص... والخنصر كشفرة حلاقة، وأحول راحة يدي إلى مرآة، وبمقدوري أن أستعمل اليد اليمنى كمطرقة واليسرى... وأخيرا أخبئ كل ذلك تحت أرقام سرية وتصبح يدي عاديتان دون أن أخدش جسمي! «. والتفت ناحية شيطا فوجدها قد أصابت ذراعها بجروح، فاستشاط غيضا وزمجر حتى بدأ التلاميذ يرتعشون في كراسيهم. وبدأت أدواتهم ترتج فوق الطاولات، كما لو ضرب المكان زلزال قوته أربع درجات بسلم ريشتر. وبدأ يقول :»ها هي بدورها قد نسيت أن سبابتها قد تحولت إلى سكين. وحكت جسمها دون أن تنتبه !. هل علي أن أحذركم من كل أداة على حدة ؟ !... انظروا إلى الأحمق الآخر لقد ثقب أنفه كما لو أنه ينقب عن الفوسفاط... بالمناسبة سأعلمكم كيف تخيطون الجروح، إنها عملية في غاية الأهمية والنفع، حتى يحكى عن زعيم مملكة العباقرة أنه يخيط الجروح التي يصاب بها قبل أن ترشح بقطرة دم ! «. ومرر حربوء لسانه على جروح شيطا، والتأمت كأنه لم يصبها أي أدى من قبل، وابتعد وهو يبصق ويقول : » اللعنة جلدها خشن كظهر القنفذ ! «. وبدأ يضرب سبابته إلى أذنه على سبيل التحذير، وأراد أن يقول شيئا، إلا أن ملاك قاطعته: »حذار أن تصلم أذنك يا أستاذ «. فضحك واتجه خطوة إلى الأمام غير مبال بكلامها :» انتبهوا فمن نسي منكم لسانه دون تشفير فقد يستيقظ صباحا ويجد شفتيه مطبقتين ! «. وبدأ التلاميذ يفكرون في أنفسهم... »يا إلهي كم من أمور يجب أن نحتاط فيها إذا أردنا أن نصبح سحرة مهرة «. وفكر بوجا في نفس الشيء إلا أنه أضاف : »لم أعد أفهم لماذا التحقت بمدرسة... «. ويبدوا أن الأستاذ فكر فيما يفكرون فيه وزاد من تحذيرهم :» نعم يجب أن تحتاطوا في كل شيء، حتى في الأحلام فهناك من ينطق أرقاما قد تحل شفرة عضو من أعضائه. وتصيره أداة حادة. أنداك قد يجدع أنفه أو يفقع عينه... أو يستيقظ متفرجا على أشلائه«. وأراد صدوق أن يكلم ملاك فنغزها بسبابته، بيد أنه خدشها خدشا عميقا فبدأت تبكي والدماء تنهمر من كتفها، وبدأ حربوء يصفر ويحمر ويخضر... وهو يقول : » أيها الساذج ألا تعلم أني لست متخصصا في خياطة الجروح العميقة... «. واتجه بسرعة نحو مكتبه وتمتم بكلمات وظهر هاتف سحري، فبدأ يهمس :»ألو ألو هل تسمعونني؟ أنا الأستاذ حربوء مدرس مادة التحول بالقسم... من مدرسة... الفنون السحرية... أريد طبيبا متخصصا في خياطة الجروح العميقة، لذي حالة مستعجلة ! «. وما إن وضع السماعة حتى وصل الطبيب الذي قدم نفسه بشكل لائق :»أنا طبيب من مملكة الأخيار... (وهمس في أذن الأستاذ) وهذا هو الرقم السري طبعا «. وطلب مساعدة احد التلاميذ. فأذن الأستاذ لبوجا بمساعدته، وبدأ الولد يستفيد من الطريقة التي كان يشتغل بها هذا الطبيب. بيد أن حربوء طفق يعتقد أن هدف بوجا هو التقرب من ملاك ، فقد كان ينهره بين الفينة والأخرى. ويطلب منه العودة إلى مقعده. فيطأطئ رأسه ويعود أدراجه، لكن الطبيب يحتاجه من جديد. واستمرت هذه العملية في دوامة غير متناهية، حتى انفجر بوجا ضاحكا، وعندما استفسره الأستاذ عن سبب ضحكه، أجابه : » في عالمنا ذهب جريح للمستشفى لخياطة جرح بسيط، ولم يجدوا الخيط الخاص بذلك، فاستعاضوا عنه بخيط انتزعوه من علبة الجبنة «. وبدأ التلاميذ يقهقهون وختم الأستاذ ذلك بقوله : »يقع في عالم العامة ما لا يقع بعالم السحر «. غادر التلاميذ مادة التحول بانطباع وحيد مشترك، فتحويل الأعضاء إلى أدوات للاستعمال الحربي والشخصي أمر جيد، إلا أن أي خطأ أو سهو قد يعود على صاحبها بالضرر، خاصة إذا لم يقم بصيانتها وبتخزينها تحت تعويذات وأرقام خاصة. أما في هذه الحالة التي لا يزالون فيها مبتدئين في هذه المادة، فإنه يمكن أن تحدث لهم أشياء أكثر من ذلك، وتحسبا لبعض المشاكل قررت ملاك مثلا ألا تنام هذه الليلة. حتى لا ترى كابوسا مزعجا يجعلها تحول أعضاءها إلى أدوات سحرية قاتلة، وتبتر أطرافها دون أن تشعر بذلك، وإذاك - ودائما حسب ملاك - لا فائدة من الاستيقاظ. نفس الفكرة خطرت ببال بوجا. إلا أنه رأى أنها فكرة بدائية. فالنوم ضروري للساحر، وهو لم ينم منذ يومين، والسبب هو أنه يبيت في الأشجار. حتى لا تبتلعه بعض الحفر. مادامت الأستاذة لم تهيئ له رقمه التشفيري بعد.
6- بوجا والكتاب المستعار خرج من مادة صناعة الأجسام السحرية منهكا، وذلك بسبب ما لقي هذه الليالي من سهر، وسار في اتجاه البريد السري ليرى ما إذا بعثت له الأستاذة ضفدوعة رقمه التشفيري. وكان برفقته صدوق، التلميذ الذي أصبح صديقا حميميا له. ومر بجانبهما التلميذ "خنفوش" الذي كان يحمل شيئا شبيها بالمرآة. إلا أن بوجا عندما نظر فيها لم ير إلا صورة تتغير باستمرار من القبح تدريجيا نحو الجمال، وهكذا دواليك... واستغرب الولد فسأل صديقه، فأجابه ضاحكا :» إنه مريض بجنون الجمال، فهو يعتقد أنه أجمل مخلوق في الكون، لذلك فالوزارة تعالجه بهذه الطريقة «. وصلا قرب البريد السحري ووضع بوجا بصمة إبهامه في المكان الخاص. تعرف عليه الربوه السحري وسمع صوتا آليا يحاوره : » نعم لديكم هنالك رسالة «. نظر بوجا إلى صديقه بنوع من الخجل والاحتياط، وفهمه صدوق وضحك : » إنها مشفرة بحيث لا يستطيع أحد قراءتها غيرك، فلا تعتقد أنني سأطلع على رقمك السري «. وودعه صدوق وفض الرسالة وصار يقرأها وهو يخطو في اتجاه الحجرة : »تحية صميمية بوجود قلعتنا السحرية. نحن الموقعين أسفله، السيدة ضفدوعة شفُّورة، رئيسة القسم السحري لتحضير الشفر. بادئ ذي بدء، نطلب منك المعذرة عن هذا التأخر. وما تسبب لك فيه من مشاكل، حيث كنت تبيت في الشارع، وقلبك يهتز اختلاجا من تلك الحفر، حيث لم تكن تتخلص من إحداها حتى تفتح في وجهك الأخرى. إن حياة الساحر كلها محن، لقد حاولنا جاهدين أن نحضر لك رقمك التشفيري في أسرع وقت ممكن. إلا أن برامج عملنا كانت مشحنة عن آخرها. فبالإضافة إلى عملي كطبيبة مساعدة بعالم الضفادع. فأنا مراسلة لجريدة "مستقبل السحر". كما أنني ملزمة بتدريس مادة التشفير، لنقص الأطر فيها. وشخصيا لا زلت أتابع دراستي بجامعة العباقرة "تخصص السحر المضاد لقوى الأشرار". وحتى لا أطيل عليك هاك رقمك التشفيري : بوجا سعيد... «. فرغ من قراءة تلك الرسالة، وهو يخطو متجها نحو حجرته، إلا أنه عرَّج على الخزانة العامة، حيث توجد كتب في غاية الأهمية والنفع، ورأى التلاميذ يزدحمون على استعارة الكتب، فخطر بباله أن يأخذ كتاب "تشفير الإشفير"، وهو كتاب يمكن أن يساعده في المُضِي قدما في مادة التشفير وأمور أخرى، وانتظر حتى وصل دوره فتقدم ليأخذه، واستغرب من أن المستخدم بالخزانة ليس سوى "إنسان آلي سحري". وفي الحقيقة ليس سوى يد عظيمة لصقت إليها عين صغيرة كأنها عدسة وفهم بوجا لتوه أن المستخدم بالخزانة لا يحتاج سوى عين ينظر بها إلى الكتاب ويد يدفعه بها لطالبه. العناية السحرية صممت الجسيم على قدر وظيفته. ونظر سعيد لسقف الخزانة ووجد بعض التلاميذ معلقين مثل أضاحي العيد. فتسأل عن السبب في معاقبتهم بهذه الطريقة البشعة ؟. بيد أن الجسيم أجابه مقهقهاً وبدون اهتمام : » لقد ضاعت منهم كتبا استعاروها من الخزانة، فحكمت عليهم الوزارة بهذا الحكم «. فشعر بخوف رهيب، حتى أنه لم تعد له أية رغبة في استعارة الكتاب، ولا في استعارة أي كتاب آخر، غير أن الجسيم أدرك شعوره فمده له بقوة كأنه أرغمه عليه وهو يحذره بصوت مرتفع : » احذر من الإكثار من ذكر الأرقام. فهناك رقم إذا ذكرته اختفى هذا الكتاب، ورقم آخر إذا ذكرته احترق هذا الكتاب... تمزق... «. واصفر وجه بوجا مثلما يصفر وجه حربوء، وأخذه وشعر بثقل وزنه. وفكر في تعويذة تخفيف الأوزان، وهي من الأبجديات الأولى التي تعلمها في مادة التحول... إلا أن تلك التعويذة تحتوي على رقم طويل، وخشي أن يعرج فيها - دون أن يشعر - على الرقم الذي يختفي أو يحترق أو... على إثره هذا الكتاب، ففكر في تحويله إلى عربة صغيرة، وفعلا تأتى له ذلك، فاستقله متجها إلى حجرته، بيد أن العربة كانت تتجه كيفما اتفق، فهو لم يفكر لها في مركز للقيادة، ولا حتى في مقود. من حسن حظه أن الرصيف كان ناعما إلا من بعض أشجار الرمان المحاذية للطريق، والتي كانت فواكهها تقهقه عليه بإسهاب. أوقف عربته بطريقة عجيبة، حيث قفز أمامها وهو يدحرج عجلاتها على جانب الرصيف ويزاحمها معه، وتوقف الكتاب / العربة واتجه بوجا نحو أشجار الرمان ليقطف بعض الفواكه، حيث أبهرته جمالية تلك الحديقة السحرية. بيد أنه لم يكد يتسلق الشجرة ويضع يده على حبة واحدة حتى تقهقه متجهة نحو الأرض، وتتبعها الفواكه الأخرى. وعندما ينزل إلى الأرض لا يكاد يضع يده على رمانة ما حتى تقهقه وتطير في اتجاه غصنها بالشجرة. وتتبعها الفواكه الأخرى واحدة واحده. وظل بوجا يصعد وينزل. والفواكه تقهقه، حتى مل من ذلك خير ما ملل. وعندما فكر في الرجوع سواء سبيله، رمق رمانتين تتناقران فيما بينهما كأنهما عصفورين، وافتطن إلى أنها مكيدة أخرى من الشجرة الضاحكة، ورفع رأسه فإذا جميع فواكه الأشجار الأخرى تضحك عنه، رغم أن بعضها كانت تبذل جهدا كبيرا للتحكم في أنفاسها. وتذكر الكتاب الذي تركه غير بعيد، وتذكر عقوبة من يُضيع كتابا مستعارا، واتجه يبحث عنه، إلا أنه لم يجد سوى يده والمكان، ولأول مرة أحس وكأن روحه ستنتزع منه، فبدأ يهرول هنا وهناك، وهو في حيرة من أمره. وظل كذاك والفواكه تقهقه، حتى أوقفته الأستاذة ضفدوعة متسائلة بقوة :» - أأنت هو المسمى بوجا السعيد ؟. - نعم أنا هو يا سيدتي. - لقد تعرفت عنك من خلال تلك البقع الضفدعوية التي بقيت موشومة على صدرك «. فشعر بقليل من الخجل، وهو يحاول تغطية صدره. وبدأت الأستاذة توبخه بصوت مرتفع :» أهملت كتابك أيها الساذج. ولم تكد أقدامك تبتعد عن الخزانة حتى نسيت العقوبة التي شاهدتها بأم عينك. وألهتك الأشجار الضاحكة، وفقط الأشجار الضاحكة. فما بالك لو صادفت الطائر الأحمق، أو شيئا من هذا القبيل... «. واقتربت الأستاذة من إحدى الأشجار وقطفت فاكهة وبدأت تلعب بها بيسراها ، والفاكهة تضحك. واستمرت الأستاذة تقول : »إن فواكه هذه الأشجار لا يستطيع أن يقطفها سوى جهابذة السحر، ومعظم الأساتذة الذين يدرسونك لا يستطيعون إليها سبيلا«. وتنهدت الأستاذة وهي تختم حديثها : »على أية حال خذ ها هو كتابك المفقود، واحترس مرة أخرى فلو كان قد وقع بيد حربوء لبلغ بك وزارة السحر، إنني شخصيا لست أعرف هل هو أستاذ أم جاسوس. إنه اسم على مسمى، فاسمه مشتق من الحرباء... أما لو كان كتابك قد وقع بيد شيطا، لجعلت منه وسيلة لابتزازك وتحويلك إلى كلب مطيع لها «!. فارقته الأستاذة فبقي جامدا في مكانه كالتمثال، ونظر ليده كأنه يريد التأكد من حصوله على الكتاب فعلا، أو كأنه يشك أنها بدلته له، فقد أصبح خفيفا أكثر من اللازم. وتأبطه واتجه نحو حجرته. وهو يفكر في هذه السيدة التي لم يستطع التعرف عليها : »لا شك أنها الأستاذة ضفدوعة، إن أسلوبها شبيه بالأسلوب الذي كتبت به الرسالة. ورغم التغييرات التي وقعت على شكلها وجسمها. فلا زال صوتها شبيها بذلك الصوت الذي عهدها به في مملكة الضفادع «. دلف إلى حجرته، واستغرب من أنها تحتوي على جميع الأشياء التي حدثه عنها العون، واستغرب من الروعة والتصميم الهندسي الباهر الذي كانت عليه. لا شك أنه سيجد راحته بها. لولا تلك الحفر التي ستشوش عليه، والتي لازال يجهل كيفية التعامل معها. وما إن تذكرها حتى بدأت واحدة تتوسع لتغطي مساحة الحجرة بأكملها، فقفز إلى الخزانة الخاصة التي كانت معلقة على الجدران، وفتح كتاب "تشفير الإشفير" بسرعة، وبدأ يقلب أوراقه وهو يقرأ حتى وجد التعويذة الملائمة، فرددها وانغلقت تلك الحفرة. وهدأت الحجرة. وشعر هو بالجوع فاتجه نحو المطبخ. غير أنه لم يجذ الولاعة والملعقة، وكذلك السكين وأدوات أخرى. ففهم لتوه أن وزارة السحر قد جمعت تلك الأدوات من جميع مطابخ التلاميذ الداخليين، فمن جهة الوزارة تنهج سياسة التقشف. ومن جهة ثانية ليس من المعقول أن تبقى الأدوات زائدة، مادام أن التلاميذ قد تعلموا كيف يصنعون الأدوات في مادة التحول. وصناعة الأجسام السحرية. وخلص بوجا إلى أن فكرة إرجاع الأدوات السحرية إلى أعضاء عادية. عند الرغبة في النوم، والتخلي عن أي قدرة سحرية. هي أفكار ليست من الصواب في شيء. فقد يقع أبسط حادث مفاجئ. ويجد نفسه بدون أبسط الأدوات. وبالتالي سيكون عرضة للخطر. إذا ما عليه إلا مواجهة مادتي التشفير والتحول تحت شعار "حربوء أمامكم وضفدوعة وراءكم". وفرغ من تناول وجبة العشاء. وعاد يقرأ في الكتاب المذكور إلا أن كتب خزانته الخاصة كانت تشوش عليه. حيث بدأ كل كتاب منها يقترب نحوه ويقول : » اقرأني أنا... «. بدأ يتثاءب ويصارع النوم، وهو يبحث في الكتاب عن غرضه. وفجأة أثار انتباهه عنوان إحدى الفقرات "كيف تشفر أحلامك"، وبدأ يقرأ : » يعتقد معظم الناس أن أحلام النوم غير مهمة، وبالتالي - فعند أصحاب هذه الأطروحة - من الأفضل أن نتجنب الأحلام برمتها، غير أن أهمية الأحلام تكمن في عدة جوانب... فهي الضامن الأساسي لوعينا بوجودنا عندما تكون في حالة نوم، وبدونها لا نستطيع التفريق بين نومنا وموتنا، لذلك من الأفضل أن نتجنب الكوابيس المزعجة فقط ، رغم أن هذه العملية بدورها لها سلبيات جمة، فالكوابيس قد تنذرنا بخطر قريب، أو تلفت انتباهنا إلى شيء كان يجب أن ننتبه إليه.. «. ونظر إلى كتب خزانته الخاصة، فرمق بها كتابا بعنوان "كيف تتفادى الكوابيس المرعبة"، وأغلق كتاب "تشفير الإشفير" وأخذ الكتاب السابق الذكر، إلا أنه وجده غاضبا ومضربا عن الانفتاح، بسبب غيرته من كتاب "تشفير الإشفير". وتأفف كثيرا لذلك حتى أنه ندم على اليوم الذي قرر فيه الالتحاق بهذه المدرسة، وبدأ يطلع على عناوين الكتب الأخرى، فوجد كتابا بعنوان "كيف تفتح الكتب المضربة أو الغاضبة". وأراد أن يفتحه إلا أنه كان غاضبا ومضربا بدوره !. فابتسم ابتسامة فجر فيها الغضب والندم... وتثاءب وانبطح فوق سريره مسلما أمره لله. استيقظ في منتصف الليل على وقع أصوات غريبة، وبسرعة تمكن من تحويل إبهامه إلى ولاعة وسبابته إلى سيف، وأشعل القنديل السحري واستعد للمبارزة. إلا أن تلك الأصوات الغريبة لم تكن سوى أصوات كتب خزانته الخاصة وهي تتعارك مع الكتاب المستعار، ورغم أن هذا الأخير استطاع تمزيقها وجعلها طريحة الأرض، إلا أنهم بدورهم قد أحدثوا به تمزقات هامة، فغضب لذلك شر ما غضب، فعقوبة الخزانة - في هذا المضمار – واضحة، والجسيم لا يقبل الأعذار كيفما كان نوعها. وشرع في خياطة الكتاب بواسطة لسانه، غير أن هذه الخياطة لم تكن نافعة. فرشومها بقيت واضحة على الأوراق، والحقيقة أنه لم يستطع إتمام نومه وإنما بقي ممددا تحت الغطاء وهو يفكر في العقوبة، حتى تمنى لو وجد طريقة يغادر بها المدرسة. مرت خمسة عشر يوماً، تعرف فيها على الأساتذة الصارمين والمتساهلين، وانطبع في نفسه حيالهم نفس الانطباع السائد لدى التلاميذ، والذي تعبر عنه شيطا بقولها: ليس في القنافذ أملساً. لم يكن يخدش جسمه مثل باقي الأولاد، مما جعلهم يعتقدون أنه مضى قدما في السحر، وعلى العكس كل ما كان يفعله هو تكبيل راحتيه مع أطراف السرير عندما يرغب في النوم، وهي الطريقة التي دأَب على استعمالها ريثما يتمكن من التشفير وتخزين الأدوات تحت تعاويذ خاصة. بدا له أن هذا اليوم سيمر سيئاً، فهو اليوم التي ستنتهي فيه مدة استعارة الكتاب. وعليه أن يُرجعه للخزانة،وقد جرب في الأيام الماضية جميع الطرق التي يمكنه أن يُعالجه بها.غير أن كل طريقة ٍ كانت تزيد الطين بلة ، فقد ازداد حال الكتاب سوءاً، ضف إلى ذلك ما عاناه من قسوة بعض الطرق، فقبل ثلاثة أيام،مر بالقرب من الأستاذ( حربوء ) وسمعه يُهاتف أحدا وهو يضحك: آهٍ... تمزق لك كتابك...حسناً الأمر في غاية البساطة...ما عليك إلاّ أن تتجه إلى شجرة التنين السحرية...ثم تقطف ورقةً من أوراقها،وتقطر حليبها عليه ...لكن حذار أن يراك أحد. فقطف أوراق تلك الشجرة محظور، ومن الأفضل أن تذهب لها بعد منتصف الليل إنها تكون نائمة. وتذكر تلك الليلة التي قرر فيها تطبيق ما سمعه من أستاذه، إذ اتجه نحو شجرة تينٍ كانت توجد بحديقة المدرسة .إلا أنها بدأت تبتعد كلما اقترب منها.وسار يركض وراءها حتى خرج عن أسوار المدرسة.وكلما توقف ورغب في التراجع عن الفكرة ،إلا وبدأت بدورها تتباطأ.ولم يتراجع إلا عندما فكر في الطائر الأحمق،بطبيعة الحال يمكن أن تكون هنالك شجرةٌ حمقاء. غادر غرفته ،هابطا عبر مجموعة من الدرجات الحجرية، انتهت به إلى ممرٍّ مستو يقود إلى ساحة المدرسة ، تقابل مع شيطا التي رددت في وجهه بصوتٍ مسموع وهي تدعك أرنبة أنفها بين سبَّابتها وإبهامها: اللعنة..على من أصبحت هذا اليوم . لم يعر لسِبابها اهتماما، سار في اتجاه الخزانة وهو يفكر فيما يفعله ، وفجأةً سمع وقع أقدام يقترب من خلفه ، عرف أنها ملاك،التي كانت تحمل حزمة كتب في يمناها،وتلعب بفأرها الزئبقي . صافحته كعادتها بتلك الابتسامة البلورية الخجولة ،ثم اقتربت من أذنه وهمست: صديقنا بوجا، إننا مدينين لك ،وإذا كنت ترغب في المساعدة فنحن رهن إشارتك. استغل هذه الفرصة وصارحها بقضية نسخته الممزقة ، مدت له نسخةً من ملكها ،تفحص الورقة الأولى من نسخة الخزانة ،والتي يوجد عليها ا لطابع .وحولها إلى هذه ا لنسخة،ثم عالجها بلسانه بشكلٍ لم تترك معه أثاراً. ووضعت ملاك راحتها في جيده وهي توشوش: وهذه بعض القطع الذهبية إذا رغبت في اقتناء شيء، لم تستطع اقتناءه بالمنحة المدرسية. تبدَّدت تعابيير الامتنان من ذهنه ولم يجد ما يعبر به عن شعوره،فربتت التلميذة على كتفه وسارت في اتجاه آخر. اقترب من الجسيم المشرف على الخزانة،وهو يفكر فيما كان سيقول له لو لم يحصل على هذه النسخة وهز. عينيه إلى السقيفة،وأبصر تلاميذ آخرين انضموا إلى لائحة المعلَّقين، ثم فكر في نفسه معلّقاً،وشعر بالإغماء . مرر الجسيم يده على الكتاب، وبدأ يفحصه بتلكَ العينِ المجهرية، وهو يهدر ويضحك: حسناً لقد غيَّرتَ النسخة.من حسنِ حظك أنها أفضل منْ نسخة الخزانة ... أممم ... وحولتَ طابع الخزانة.. وهذه جنحة . القانون يعاقب عليها ابتدءا من صفعة على الوجه ،حتى السجن أو الإعدام حسب أهمية الخاتم والمختوم . وبدأ الجسيم يستعدُّ لصفعه.في الوقت الذي تذكر فيه هو أن هذه اليد هي التي مدت له الكتاب عندما كان ثقيلاً.لاشك أنه سيصفعه حتى يلتصقَ بالجدار،هكذا فكر،وهو يردد تعويذة تخفيف ضربات العدوِّ،وتعويذة تقوية الجسم .ومع ذلك التصق بالحائط المجاور، حتى ترك عليه بعض الأثر. واستجمع قواه وود مغادرة القاعة. إلاَّ أن الجسيم استوقفه: - إي...إلى أين أنت ذاهب؟.(وبدأ صوته يرتفع) قانون الخزانة لا يسمح بذلك.إنَّ البند الذي وقعت عليه في البداية ينصُّ على أنه كلما أرجعت كتاباً،إلا ّوعليك أن تأخذ آخراً. - عفواً سيدي...لل ...قققددددد...لقد أصبح لذيَّ مالي الخاص.سأستطيع شراء الكتب التي تخصني بمفردي . زمجر الجسيم حتى بدأت الكتب ترتعش في رفوفها: القانون هو القانون.إن العقدة تبقى سارية المفعول حتى نهاية الموسم الدراسي . وشعر بوجا بخوفٍ رهيبٍ، وهو يردد في نفسه: لماذا نتخذ قراراتٍ مستعجلة، دون التفكير في عواقبها ...اللعنة.وتابع كلامه بطريقةٍ استعطافية: سيدي أعطيني ألطف كتابٍ، ألين كتابٍ،أسهل كتابٍ.... وسار الجسيم بين رفوفِ الخزانة وهو يتهكم: أفعل كتابٍ، أضعل كتابٍ.... ووضع يده على أحد الكتب وهو يقول:هاهو الكتاب اللطيف. إلا أنه الآن يحتضن بيضه...في الأسبوعِ المقبلِ سيفرخ كتيباتٍ جميلة ولطيفة سأعطيك منها . واتجه نحو كتابٍ آخر وبدأ يتحايل كأنه يريد الإمساك بثعبانٍ. ثم مده للتلميذ وهو يردد: إنه كتاب "الكواكب السيَّارة" . انتبه إنه يفقع العينين، فهو مِزاجيُّ الطباع . نحسٌ مع كواكب النحس. وسعد مع كواكب السعد...برجه العقرب لذلك فنقراته تصبح سامّة عندما تحُلُّ ساعة زحل...وبالمناسبة لا تقل لأحدٍ إنني صفعتك. دخل التلاميذ لدراسة مادة :"صناعة الأجسام السحرية" التي يشرف عليها الأستاذ صنُّوع المريخي،وهو أستاذ غريب الأطوار ومتقلِّب المزاج. حيث يكون مرحا في بعض الأوقات.ومنطوياً على نفسه في أوقاتٍ أخرى. بدون أية مبرراتٍ واقعية .فقط لتأثره بالأبراج والكواكب وغيرها . نظر بوجا إلى الصف المقابل له ،فرمق التلميذ جهبور الذي حضر وهو يعلق في عنقه فأْساً ومعولاً...وقد شرع التلاميذ يضحكون لمجرد دخوله . علَّقت شيطا، وهي تمضغ دودة قزٍّ كعلكة:حاملُ الهمِّ البيئي. وبدأ عاشور يحدث بوجا عنه : لقد ضبطته القلعة يتبول على جدع شجرة، فحكمت عليه أن يغرس مائة فسيلةٍ.على أنه عاهد نفسه أن يغرس مائة ألف ودون استعمال السحر . اقترح بوجا على عاشور فكرة: لماذا لا نساعدانه يوم الأحد المقبل ،سنقضي بلا شك يوماً رائعاً. وظهر-فجأة- الأستاذ صنوع،كأنه خرج من زوبعة دخانٍ، وبدأ ينفض ملابسه ،والتلاميذ يستعدون جديتهم بسرعة ، ونظر هو إلى شيطا وقال مغتاظا: أراك تبحلقين في وجهي هكذا أتحسبينني ضفدع.وألقى عليها مخلوقاً سحرياً مشاكساً.حيث شرع هذا المخلوق يلهيها عن درسها ،ويوشوش عليها في تحويل أصابعها إلى أدوات.عندما ترغب في المسطرة مثلاً، يجعلها تحصل على ممحاة. وهكذا دواليك ... افتتح الأستاذ صنوع حصته بملاحظةٍ خارجةٍ عن الدرس: لقد أصدرت القلعة بلاغاً نقلته جريدة"سحر هاروت ومار وت".جاء فيه أن أحد السحرة،هذه الأيام، يروج أموالاً مزورةً. وشخصيّاً كلّفتني الوزارة بالبحث في هذا الموضوع.. لقد صنعت أجساماً سحرية سوف تتكلّف بالتحقيق مع التلاميذ. واستأنف كلامه بلهجةٍ شديدةٍ: عندما سأقبض على المتهم سيعاقب عقاباً عسيراً.شعر بوجا بمعدته تتقلص تدريجيا، مثلما لو أن قنفذا يتحرَّك بداخلها.والتفت نحو ملاك وسألها بصوتٍ خفيض: أأنتِ متأكدة من أن تلك القطع التي أعطيتنيها البارحة،خالصة و غير مزورة. فانتفضت ملاك غضبا وهي تقول:أنا لم أعطك شيئاً أيها البدويُّ السفيه.ورمقهما الأستاذ فاتجه نحوهما بسرعةٍ وهو يهمهم : حسناً، لقد سمعتكما... أما أنت يا ملاك فدائماً تكونين على حق... أما أنت فإليك هذه المفاجأة. ونفث من فمه مخلوقين سحريين،شرع أحدهما يُعارك بوجا،أما الثاني فيستنطقه ويُحقق معه بخصوصِ الأموال المذكورة. وبدأ الأستاذ يمشي بين الطاولات،وهو يملي الدرس،والتلاميذ يكتبون إذ لم تكن تسمع سوى طقطقات أصابعهم عند تحويلها إلى أدوات. كان بوجا بدوره يكتب رغم المضايقات التي يتعرض من المخلوقين السحريين،وكان الأستاذ يراقبه بطرف عينه وهو يملي الدرس:إن صناعة الأجسام السحرية،عملية في غاية الاستعصاء والتعقيد، فهي تقتضي الإلمام بمادة التحول، لمعرفة الهيئات التي يمكن أن يؤول إليها الجسم، والإلمام بمادة التنبؤ لمعرفة ماذا يمكن أن يُحدثه دخولَ جِسْمٍ مصنوع في عالم الوجود... والأهم من ذلك فهذه الصناعة تعتمد على تطوير علم الفلك القديم. .. واقترب الأستاذ من (جهبور) وبدأ يتفحص الفأس الذي كان معلّقاً في عنقهِ كقلادة وهو يتابع بصوتٍ خفيض: ..لقد كان السحرة القدماء يعتقدون أن لكل يومٍ كوكب وأن عدد الكواكب هو سبعة بعدد الأيام . واعتبروا الشمس كذلك كوكباً وليس نجماً، فالشمس ليوم الأحد،والقمر ليوم الاثنين ،والمريخ للثلاثاء . وأن لكل كوكبٍ معدنٍ خاصٍ به،فالذهب للشمس،والفضة للقمر،والزئبق لعطارد ...ويعتقدون أن بعض الكواكب للسعد وأخرى للنحس،فالمريخ مثلاً: نحس محض وله تأثير سريع في الانتصار في الحروب ،لذلك يُحكى عن الزعيم النمرود شرار سليل النمرود بن كنعان، يحكى عنه أنه صنع جميع أدواته العسكرية في ساعة المريخ .مما أكسبها قدرة تدميرية عالية ، وأكثر من ذلك فقد طوّر هذه المعرفة كثيراً. حتى أنه يختار أوقات دقيقةً.يوفق فيها بين الأبراج والمنازل والكواكب. ليصنع أجساماً بمواصفات عالية الدقة .وبدأ الأستاذ يمشي بين التلاميذ وهو يراقب التمارين التي كلَّفهم بها في الحصة المنصرمة . وبدأت همهمته تتضح لبوجا كلما اقترب منه : أريني تمرينك يا ملاك..أمممم...فأرٌ من الزئبق، في الحقيقة المخلوقات الزئبقية أكثر سهولة في الصناعة ..غير أنه لا جدوى منها فهي تُتْلف تحت حرارة خمسون درجة. وتفقد القدرة على الحركة عند سِتِّ درجات. وبطبيعة الحال لا يمكنكِ أن تصحبين معك مخلوقاً زئبقياً. إلى الحمام أوإلى الصحراء المغربية. ووصل الأستاذ صنوع قرب (شيطا) وهو يضحك : وأنت أيتها الجميلة ..حسناً، قطُّ من الآنك كوكبه زحل وهو نحس محض، آهٍ يا ملاك احذري قط شيطا،إنه عنيفٌ جداً...وأنت يا بوجا كلبٌ من الذهب غير أنه بلا ذيل. مالذي يا ترى جعلك تفكر في كلبٍ مبتور الذيل ؟. رد بوجا بصوتٍ متلعثم،وهو مشغول بالمخلوق السحري الذي كان يبارزه: كان لدينا كلبٌ بعالم العامة، وذات يومٍ عاد إلى المنزل وقد قطع ذيله.... وحمل الأستاذ،كُليب التلميذ في راحته كطائرٍ وهو يهمهم: حسناً،هذه معلومات هامة عنك .وسمعه هو ،وشعر لأول مرةٍ أنه بدأ يتقن عملية انتزاع الأفكار من أدهان الآخرين، فحداه نفس الإحساس الذي يحدو طفل،تعلم السباحة لأول مرة. واُنتهى الأستاذ من تصفح جميع تمارين التلاميذ وعاد إلى المنصة وبدأ يتكلم بصوتٍ مرتفع: حسناً...معظم تمارينكم كانت في المستوى، إلاّ أن أحسن تمرينٍ هو كليب بوجا،الساحر ابن الساحرة.إنه يشبه أمه. وغضب بوجا وثار لأول مرة وهو يقول : احرس لسانك،فأنت تعلم أن أمي من العامة، والسحر هنالك محظور .وأكثر من ذلك أن أمي لا تتقن حتى طهي الخبز، ومعظم مشاكلها مع أبي كانت تدور حول طعامٍ لم يُطهَ بطريقةٍ جيدة. وصفق الأستاذ راحته مع مكتبه بقوه وصار يتكلم بصوتٍ خشن وهو يضغط على الحروف اللثوية: صه بوجا . فأمك سحَّارة ماهرة . وتركت هذه العبارة ألف علامة استفهام في ذهن التلميذ، وتذكر الأستاذ موضوع النقود وسار نحوه، وبدأ يتفحص الجسم السحري الذي كان يعاركه، فلأولِ مرةٍ استطاع تلميذ أن يهزم هذا المخلوق ، فهو من أشرس المخلوقات التي يحتوي عليها متحفه .غير أن الأستاذ أضمرَ هذه الحقيقة وهو يخاطب بوجا: حسناً لقد أهزمته لكن عليك ألاّ تصاب بالغرور، فهو ألطفَ مخلوقٍ أملكه، وإذا حدت وقمت بمخالفة ٍأخرى،في الحصص القادمة ،فسأعاقبك بما هو أشق.... وبدأ يسأل الجسيم المكلف بالتحقيق: وأنت هل توصلت...؟ رد الجسيم السحري، بصوت كراكيزي والتلاميذ ينصتون: نعم سيدي، الأموال التي بحوزة هذا العامي، أموالٌ خالصةٌ وغير مزورة إلاّ أنه يقول:إنه أخذها كهبةٍ من ملاك وهذا ما.يتنافى مع أقوالها .فهي تنفي حتى أنها كلمته خارج القاعة... وبالتالي يمكننا التسجيل على أن الأموال التي بحوزته هيَّ أموال مسروقة .وإذا ما رفعت دعوة بالسرقة. فسيكون صديقنا أول متهم في الموضوع.
7 بوجا؟ استيقظ هذا الصباح، على وقع حدثٍ مفاجئ، والأمر يتعلق بكتاب "الكواكب السيارة"الذي كان ينتفض،ويرتفع بضع ياردات ويقع على رأسهِ وهو ممددٌ فوق سريره. وحَمِد اللهَ حمداً كثيرا، لأن هذا الكتاب لم يكن ثقيل الوزن مثل الكتاب الأول، وإلاّ لكان رأسه الآن قد تهشم ، وبدأ يبحثُ عن سبب هذه الانتفاضة ففتح الكتاب لعله يجد شيئاً يفسر به الأمر فشرع يقلب الأوراق ورقة تلوى ورقه. حتى وجد موضوعاً وسار يقرأ: يقول الساحر موغا:" في قلعتنا السحرية كانت الكتب قديماً تتكلم بمفردها، دون أن تكون لها صور بشرية، إلاّ أنها كانت تحدث ُ مشاكل كثيرة من إفشاء للأسرار وغيره.. فاجتمع مجمع السحرة واتفقوا أن يمارسوا تعويذة أبدية تجعل الكتب بكماء، إلا أنهم تركوا فرصة للسحرة الموهوبين... في كل كتاب أربع كلمات من استطاع أن يضع عليهم إصبعه بالتتابع سيكلمه الكتاب وسيجيبه عما يريده . شغل حاسوبه بسرعة وأراد أن يتعرف على جميع الاحتمالات الممكنة،إلاّ أنها كانت كثيرة، واحتمال إيجاد هذه الكلمات، مثل احتمال تركيب رقم هاتف أحد الأصدقاء والعثور عليه بالصدفة، فطن إلى محاولة التعرف على الكلمات بواسطة الحدس.. بدأ يجمع شتات ذهنه وهو ينظر على الكلمات..وأخيراً همس الكتاب بخفوت : سيدي، لقد انتهت مدة استعارتي . واتجه التلميذ نحو الدولاب، وهو يتأرجح بين الفرحة والحيرة ، وبدأ يبحث عن ورقة الاستعارة ويرد على الكتاب : لا لا ...هذا غير صحيح. فالجسيم قال :إنه أعاركَ لي لمدة خمسة عشر يوماً.لم يمر منها حتى الآن سوى أسبوع . وغضب الكتاب وبدأ يعبر عن سخطه لتكذيب بوجا له.غير أن هذا الأخير وجد ورقة الاستعارة ،وأضحى يهمهم: أنت على حق يا أبالكواكب. وتابع الكتاب كلامه وهو يضحك: إدا تأخرت عن إرجاعي بساعةٍ أو ساعتين، فإنك ستعاقب عقاباً عسيراً. وأدركه الوقت، وتذكر عندما قال له الجسيم بأن هذا الكتاب يستطيع العودة بمفرده ، ففتح له الباب وطلب منه الإسراع إلى الخزانة وأن يخبر الجسيم... ودخل هو لدورة المياه. و لأول مرة أبصر تلك الكلمات التي كانت مُشخبطةٌ على الحائط،والتي يبدو أن بعض التلاميذ الدين سبق لهم أن قطنوا بهذه الحجرة،هم الذين كتبوها، شُخْبِِطت كلماتٌ كثيرة، لم يستطع أن يقرأ منها سوى : آه ثم آهٍ من صرامة ضفدوعة، ومكر حربوء، وعدوانية صنوع ، ومن قوة تلك اليد المشرفة على الخزانة. وخرج من دورة المياه على عجلٍ، ثم دلف إلى الحمام،وبعدها اتجه نحو المطبخ فوجد كأساُ من الشاي يعود للبارحة ، فرشف منه رشفة باردة وخرج مقتفياً أثار كتابه وهو يتذكر المتاعب التي عاشها معه طيلة هذا الأسبوع فعندما تحل ساعة المريخ الذي له فعل الحروب ومنعها،وإشعال النيران وإخمادها، فإن الكتاب ساعتئذٍ، يشرع في إضرام النار في الحجرة ،وفي كتب الخزانة، وقد كان الولد يجد صعوبةً في صده عن ذلك وإطفاء النيران، وعندما تحل ساعة الشمس،ينشر الكتاب أضواء زائدة حتى أن عيني بوجا،تكادان تنفقعان،رغم ترديده لتعاويذ تضييق البؤبؤ والطامةُ الكبرى هي عندما تحل ساعة الزهرة،وهي ساعة الحب .وفيها يسهب الكتاب في البكاء والنحيب والسبب هو أنه مغرمٌٌ في رواية "ماجدو لين" حتى النخاع، وكان بوجا قد فهم بعض حركاته، وفتش خزانته الخاصة عن آخرها، بحتاً عن الرواية الرومانسية المذكورة، ومد له قصة "الجنية عيشة" وطفق يُحاول إقناعه بأن عيشة أجمل من( ماجدو لين )،إلاّ أن الكتاب ظل غاضبا ويرغب في تمزيقِ نفسه . تابع بوجا طريقه ،وصل إلى الرصيف المحاذي للأشجار الضاحكة ،وهو يفكر في الساعة التي يمكن للكتاب أن يكون قد مرّ فيها من هنا .فلو كان قد مر في ساعة القمر مثلا،والقمر سعْدٌ مع السعود ونحْسٌ مع النحوس، فإن الكتاب سيشرع في القهقهة مع الفواكه الضاحكة وسينسى المسئولية التي كلفه بها، وسار مقتفياً أثر أقدامه. بواسطة أداة كشف الأثر التي صنعها في مادة "صناعة..." .وفجأةً اختفى أثر الكتاب، ولم تتجاوز هذه النقطة بالضبط. وشك بوجا في أن إحدى الحفر قد تكون ابتلعته. وحوّل عينه اليسرى إلى مجهر للبحث عن الشقوق الدقيقة التي يمكن أن تذله إلى فوهة الحفرة وفعلاً وجد أن الحفرة السابعة والسبعون قد ابتلعت الكتاب . احتقن وجهه ،واجتاحته الحيرة والدهشة.وعزيمته تتأرجح بين الارتماء في الحفرة بحثاً عن الضالة،أو مواجهة عقوبة الخزانة كيفما كانت .وأخيراً قرر القرار الأول،فتح الحفرة وألقى بنفسه فيها .وبدأ يضاعف من وزنه كي يدرك الكتاب بسرعة .فعمق هذه الحفرة غير محدودٍ.وازداد الظلام وبدأ يعتم عليه الرؤية.فكر في تعويذة تقوية العين على اختراق الظلام.إلاّ أنه لم يسبق له أن روّض باحَّة بصره على تغطية المدار السحري للعين. وبذل ذلك،فكر في إشعال القناديل المعلَّقة على جوانب الحيطان .إلاّ أنه وجد صعوبة كبيرةً .فرغم أن الشرر كان يتطاير بين ظفري إبهاميه،ورغم أنه الآن يشمُّ رائحة أظافره تحترق.إلاّ أن النار كانت تنطفئ بسرعة . وأخيراً رمق على وميض الشرر شيئاً شبيهاً بكتابه.غير أنه لم يستطع التوقف.ظل ينزل وينزل...وهو يردد جميع التعاويذ،وبضربة حظٍ صادف التعويذة التي تهمه .فوقف في الهواء كأنه يقف على سطحٍ غير مرئيٍ .وبدأ ينظر للأعلى وهو يسمع جلبة أصواتٍ تختلط: - إنه كتابي أنا... كلاّ أنا أول من رآه لذلك فهو لي .- بلْ أنا من وضعتُ عليه يدي.- اخرسوا قانون الملاحة الإسباني القديم ينص على أن من رأى ضالة فهي له.- وقانون "حمورابي"....كان الأمر يتعلق بخمسة عفاريت من قاطني الحفر، والذين كانوا يتخاطفون الكتاب فيما بينهم، مثلما تتخاطف النسور عصفورا في السماء شعرا لتلميذ بإحساس غريب، وبدأ الحنق يترهّل في فؤاده،والرِّعدة تعتريه من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه،فالكتاب يكاد يضيع،وهو شخصياً لم يسبق له أن خاض مبارزة مع عفاريت الحفر. فكر مقتفياً معنى أحد الأبيات الشعرية،إدا لم يكن من الموت بد فمن الأفضل ألاّ أموت جبانُ أرجع يمنى يديْه سيفاً،ويسراهما ذرعاً.وردد تعويذة حماية الجسم من عفاريت الحفر.واستحضر قواعد المُسَايفة كما قرأها في بعض كتب الساموراي.ووجه نداءاً على شكل صرخة: إنه كتابي أنااااااااا. فابتعدوا عن الكتاب وبدءوا يستعدون للقتال، ويوحِّدون أنفسهم ضد هذا الدخيل الغريب . ووعى ذلك وهيأ لسانه لخياطة الجروح التي يمكن أن يصاب بها. وشرعوا يتبادلون الضربات. أسفل،أعلى، أيسر...وألحقوا به جروحاً كثيرة إلاّ أنه كان يخيطها بسرعة.كانوا يعتنقون مقولة:الهجوم أحسن وسيلة للدفاع.أما هو فسلك مسلك الجَلَد والحفاظ على الطاقة،كآليةٍ لإعياء العدو. بدأ يُلحق بهم جروحا بليغة، وهم ينصرفون واحداً تلوى الآخر.نظر بوجا إلى يدي العفريت الوحيد الذي بقي صامداً.وجدهما زئبقيتان.استرجع ما قاله الأستاذ صنوع لملاك حول المخلوقات الزئبقية .فحاول أن يقربه من أحد القناديل السحرية ذاب الزئبق وانهزم العفريت. وتفحص الكتاب ،فوجده ممزقاً.وخطرت بذهنه هلوسة:هل ستأتي ملاك مرةً أخرى، وتعطيني نسخة من....وبدأ يعاتب الكتاب عن سقوطه في هذه الحفرة.إلاّ أن هذا الأخير رد ّبصوت مبحوح: أنا لم أرها أبداً.كما أنها لا تفتحُ في هذه الساعة التي فُتِحتْ فيها.لا شك أن هنالك عدوٌ يريد الإيقاع بك.لاشك أن هذا العدو هو الذي فتحها عندما اقتربت منها . وتأبط الكتاب ،وبدأ يصَّعد في اتجاه الفوهة.إلاّ أنه وجدها مغلقة. وبدأ يفكر في سبل الخروج: لا شك أنها ترتبط مع حفرٍ أخر ببعض الأنفاق.لا بد أن تكون بعض الحفر –الآن- مفتوحة.إذا استطعتُ إيجاد النفق المؤدي إلى حفرةٍ مفتوحة، سأنجح في الخروج.وبدأ يبحث مستخدماً جميع الإمكانيات التي تعلمها.ووجد نفقا غير أنه تذكر مشكلةً أخرى فبدأ يُهمهم: أمْمم .. إذا خرجت من إحدى الحفر ووجدْتُنِي بالمتحف السحري أو ببيت المال، فإنني سأتهم بالسرقة .... وتمعن في الأمر ملياً. وفتح الكتاب لعله يجد شيئاً ينتفع به. كانت الكلمات تحلق فوق رأسه كسرب نحلٍ.بسبب خوفها من العفاريت.وبدأ يضرب الكتاب بسبَّابته، ضربات خفيفة. والكلمات تعود لأماكنها شيئا فشيئا.وأخيرا وجد فقرة بعنوان"كيف تتفادى الحفر"وبدأ يقرأ: الحفرة كذا وكذا تفتح يوم كذا وكذا ساعة ...وتأفف غضباً وهو يردد: أنا أريد كيف أخرج من الحفر،وليس كيف أتفادى الوقوع بها...بطبيعة الحال لا يمكننا تفادي شيئاً نوجد بداخله. وبدأ يقلب أوراق الكتاب وهو يقول في نفسه: فعلاً يا أبا الكواكب فأنت على حق لاشك أن هنالك عدوٌ يعمل على إحاشتي إلى كمين ما (وتنهد) فهذه الحفرة لا تفتح في هده الساعة .واستوقفه العنوان الضالّة ''كيف تخرج من الحفر'' وبدأ يقرأ: يرتبط كل ثقب مع الثقوب الأخرى بأربعة أنفاقٍ.كل نفق يتجه نحو جهة من الجهات الأربع إذا استطعت تحديد الشمال فاتجه نحوه .فجميع الحفر الشمالية تؤدي إلى حديقة المدرسة. وتذكر البوصلة فرغم أن الأستاذ حربوء لم يعلمهم كيف يصنعونها.فإن الأستاذة ضفدوعة كانت قد حدثتهم عنها :إذا تعلمتم كيف تحوِّلون أعضاءكم إلى أدوات فلا تنسوا البوصلة إنها تنقدنا أحياناً من موت مؤكد. لقد صنعها إلاّ أنه أهمل الرقم الذي خزنها تحته.وذلك لقلة استعماله لها. وبدأ يردد التعاويذ والأرقام.وأصابعه تتحوّل إلى أدوات ثم ترجع إلى حالتها الأصلية بسرعة.كل ذلك بحثاً عن البوصلة. وجد نفسه بالحديقة بعد عذابٍ مرير .فشرعت الفواكه – لتوها- تقهقه عنه.إلا أن الساعة كانت ساعة زحل وهو نحس محض.وبالتالي فالكتاب كان يفجر كل رمّانة اشتهت القهقهة.لتتطاير حباتها في الأرض كشظايا البلور المكسور.وسار مسرعا في اتجاه الخزانة. وقد تجاوز المدة المحددة له بساعتين. وبدأ يحوِّل قدميه إلى قبقابي انزلاق،اختزالاً للوقت .إلاّ أنه سمِع وقع أقدامٍ تقترب من خلفه. وشعر بجسمه ينتفخ،فعرف أن الأمر يتعلق بالأستاذ عبقور،ربت هذا الأخير على ظهره،وهو يسري على ارتفاعِ قدمٍ عن السطح، وبدأ يُكلمه : ها أنت قد وصلتَ ما قلتهُ سابقاً..لقد قلتُ للتلاميذ إنك ستواجه مشاكل كثيرة. كان من الأفضل لو بقيت َبعالم العامة.فقد نشرت جريدة"السحر الأسود"نبأً جاء فيه أن الأستاذ حربوء وضع شِكاية لدى الضابطة القضائية. يقول فيها إنه تعرض لسرقة.وفي هذه الحالة كنتَ أنت المتهم الوحيد. فبالإضافة إلى الشاهدة ملاك وقرائن أخرى...فالجسيم العامل بالخزانة يشهد أنك صرحت له بأنك لم تعد في حاجة إلى كتب الخزانة .مع العلم أن ثمن هذه الأخيرة مكلفٌ جداً.وأكثر من ذلك،فالكاميرات السحرية بالخزانة كانت مشغَّلة.وهنالك قرص يثبت صحة شهادةِ الجسيم . أجاب بوجا وعيناه تفيضانِ بدموعٍ زئبقية اللون : سيِّدي لقد علمت أني ما جئتُ هنا لأسرق.أنا لم أسرق شيئاً صدقني إنها تهمة، تهمة....وارتفع صوته وهو يردد هذه العبارة الأخيرة عدة مراتٍ، وانتبه إلى أنه يُحاور أستاذهُ.فانحنى حتى كاد يلامس الأرض. وردَّ عبقور بصوتٍ خفيض: أنا آسف لذيّ انطباع قويٌّ بأنك بريء.غير أن هؤلاء السحرة لا يؤمنون إلاّ بالأذلة. والتي كلها ضدك .آسف فمثلاً من الصعب على أيّ ِشخص أن يقلد صورة ملاك وينتحل شخصيتها.فوالداها يأخذانها كل سنة لأكبر صالون في التجميل السحري. وتقام لها عمليات التجميل تلك في أوضاعٍ فلكية دقيقة،ويسهر عليها سحرةٌ مهرة.إذن من البلادة ألاّ تميِّزها عمن تشبه لك بها.(صمتَ قليلاً) حسناً يمكنك أن تجمع أيَّ ذليلٍ تراه في صالحك.إن الأستاذة ضفدوعة ندبت نفسها للدفاع عنك إنها خبيرة عملاقة في التحري أتمنى أن يُحالفكما الحظ رغم أن جميع تنبؤاتي – بخصوصك - غير سارة وتندر بالأسوأ. وربت على كتف بوجا من جديد .واختفى بين التلاميذ الذين كانوا ينتفخون بمجرد ما يمر قربهم إلى درجة أن أزرار ملا بسهم كانت تتساقط كالبَرَد. اقترب بوجا من الخزانة المدرسية، وانتابه نفس الشعور ،الذي انتابه في المرة السابقة . غير أن الجسيم، دنا منه وصافحه وهو يبتسم ، فأحس كأن الجسيم انتزع منه أحد أصابعه ، إلاّ أنه تفحص يده فوجدها سليمة . وبادر إلى الاعتذار: سيدي أعذرني عن تأخيري لهذا الكتاب .لقد كنت أظن أن مدة استعارته تصل خمسة عشر يوماً، كما قلت لي. غير أنني فوجئت هذا الصباح،عندما وجدت أن المدة لا تتجاوز أسبوعاً واحداً. ورد الجسيم مستجمعاً كل قواه : أأنتَ بليد أم أحمق؟. الكلام الشفهي يتطاير كالغبار ، نحن هنا لا نؤمن إلاّ بالكلام المدون. كان عليك أن تنتبه إلى التاريخ المدون على ورقة الاستعارة.. حسناً لقد عاد الكتاب بمفرده .انظر إنه بالجناح السابع . اعترتهُ رعدةرمن أخمص قدميه حتى أعلى رأسه . وبدأت أسنانه تصطك وهو يُجيب بصوتٍ مشروخ: عفواً سيدي...إنه لم يعد بل تعثر في الحفرة السابعة والسبعون، وقد ارتميت ُبها بحثاً عنه.لقد استخلصته بعد صراع مرير. وانتفض الجسيم وصار يتكلم بصوتٍ أقوى: بوجا.. إذا سرقت تلك النسخة من مكانٍ ما ،فمن الأفضل أن تبحث عن مبررات مقبولة. فالحفرة السابعة والسبعون لا تنفتح هذا اليوم . اُنظر إلى خريطة الحفر إنها مرتبطة بالأوضاع الفلكية.. ولو هبنا أنها فتحت وألقيت نفسكَ فيها.فلن تخرج منها أبداً.إن الحفر شبكة تحتية من الثقوب والمتاهات المترابطة فيما بينها.وكل باب من أبواب هذه الشبكة يفتح بتعويذة سرية . فحتى قراصنة التعاويذ والشفر،يستغرقون وقتاً طويلاً في الخروج منها . إِي بوجا من الصعب عليك الكذب في القلعة السحرية .هيَّا خذ 8 مادة الإنترنيت السحرية. ما فتيء التلاميذ يدخلون إلى قاعة الأستاذ حسُّوب، الذي يُدرس مادة "الإنترنيت السحرية"، ويرتدون منظارات لرؤية الأشياء البعيدة،وللرؤية من خلال الأجسام المعتمة والجدران ، ويضعون أمامهم تمارين الحصة الماضية.حتى أخد الأستاذ حسوب فأرة حاسوبه وشرع يبْعِد بها الطاولات عن بعضها، ويحوِّل هذا التلميذ من مكانه إلى مكانٍ آخر.ووصل الأستاذ بسهم حاسوبه قبالة شيطا،وضغط على الفأرة فبقيت هذه التلميذة جامدة مكانها كالتمثال ،وفمها مفتوح كسمكةٍ خرجت من الماء لتوها، وتمتم حسوب:هذه أفضل وسيلة لإسكات المشاغبين..ستبقين هكذا طيلة هذه الحصة. فدروس اليوم معقدة وتحتاج إلى التركيز،ولا بأس إذا ضحينا بتلميذةٍ من أجل خمسين تلميذاً. واقترب السهمُ من بوجا وخشي بدوره عقوبةً ما.غير أن كل ما فعله الأستاذ هو إبعاده للطاولات والتلاميذ من قربه، إذ لم يبق بجانبه سوى صديقهُ عاشور الذي أثار ذلك حفيظته وبدأ يحتج : أستاذ إننا لا نعاني من أي مرض معدٍ..فأنفلونزا الخنازير أصبحت في مزبلة التاريخ.... ونظر الأستاذ صوبه وهو يذبذب أذنه بسبَّابته، حتى أن هذه الذبذبة لم تخمد إلاّ بعد دقيقة عن كفِّه عن ذلك. وانطوى عاشور على نفسه، إذ لم بوسعه الدخول في مناوشات مع الأستاذ ولم يشغل حسوب نفسه بتبرير سلوكه. وفهم التلاميذ أن قضية سرقة بوجا للقطع الذهبية،هي التي جعلت الأستاذ يبعده عنهم.لاعتقاده أنه يمكن أن يسرق مرةً أخرى.وبدأت ملاك تهتَزُّ وترتعش بكرسيها، وسلّت يدها من جيدها ،فبدأ جسمها يهدأ رويداً رويدا والهزاز يتحول نحو ذراعها،وأخيرا لم تبق سوى راحة يدها التي ترتج وبدأت تقرأ في كفها وتتكلم بصوتٍ مسموع: لم يجدوا من رسائل هاتفية هذا الصباح سوى أن بوجا متهم بسرقة أستاذه . وفيما بعد بدأ جميع التلاميذ يرتجون ،وكلٌّ منهم يردد بعض التعاويذ على راحة يده ويقول : لقد عرفتها.. عرفت أن قضية بوجا ستصبح شهيرة . وبقيت شيطا وحدها تهتز كأنها عقرب ساعةٍ يتحرك بمكانه .وزاد ذلك من قهقهة التلاميذ الذين انتبهوا إليها مؤخراً وخطى الأستاذ نحوها وهو يقول: يتعذر الآن الاتصال بمخاطبكم . والتلاميذ يقهقهون بشكل أقوى إلاّ بوجا الذي بدا منشغلاً بوضعيته الجديدة وسعل الأستاذ، استعداداً للشروع في الدرس وهو يحاول جاهدا أن يتغلب عن الرغبة في الضحك واستعاد التلاميذ جديتهم،إذ كانت هذه المادة محبوبة لديهم ، فهي تنتمي إلى صنف السحر المعاصر، وتُتيح إمكانيات جديدة لتطوير القدرات السحرية.وحوّل الأستاذ حائط القاعة إلى شاشة حقيقية ثلاثية الأبعاد حيث بدأت تظهر كأنها نافذة كبيرة منفتحة على مشهد بيئي، يمكن لكل تلميذ أن يعبرَ من خلالها إلى ذلك المشهد.وبدأ يمسك فأرة الحاسوب وهو يتكلم: هذا هو الأسبوع السادس عشر،لقد تعلمتم في الحصص السابقة كيف تشاهدون تاريخ أبائكم وأجدادكم ..مسجلاً في أقراصٍ سحرية. وتعلمتم كيف تتعرفون على أعدائكم . سوف أتمثَّل على ذلك بالتلميذ بوجا . إنه مطلوبٌ للنمرود شرار.الذي يستطيع القضاء عليه في أية لحظة لولم يحْتمِ بقلعتنا، حيث هنالك اتفاقية عدم الاعتداء الموقعة بيننا وبين مملكة النمرود... إنها مسألة ثأر سلالي..لقد تمكن السيد النمرود من القضاء على عائلة بوجا، حيث لم يبق منها سوى هوّ.وفي أحسن الأحوال هو وأمه التي اختفت بعام الضفادع ولم يُعثر لها على أثر لحد الآن، وللأسف الشديد استقدمته قلعتنا لحمايته،وتعليمه كيف ينجو بنفسه.غير أنه بدأ يسرق ويُزوِّر.. السارق الجبان لا يسرق إلاّ من منزل والديه. وبدأ التلاميذ ينظرون صوب المتهم وهو يسمع وشوشتهم، وهم يتناولون قضيته من وجهات نظر متباينة. فشعر بمعدته تتحرك كما لو توجد بداخلها قنافذ وبدأ يسمع نبض قلبه وضرب الأستاذ مكتبه بسبَّابته\ العصا وهو يتابع الدرس بصوتٍ مرتفع: اليوم سنتعلم كيف نستحضر شيئاً ونجلبهُ، بواسطة الإنترنيت السحرية، انظروا لديَّ عدة نوافذ،سوف أتجه نحو نافذة الاستحضار. وضغط على الفأرة غير أنها عضته،وبدأ يتأوه ويخيط جرحه بلسانه :آهٍ لقد نسيتُ تعويذة تنويم الفأرة .وهمهم: هاهيَّ لائحة الاختيارات،إنها طويلة جداً: إحضار عدو جلب كتاب جلب الكنوز أو التعرف على ... وليست كل هذه الاختيارات في متناولنا فبعضها محظور.والبعض الآخر يحتاج إلى تعاويذ سرية ومعقدة. سوف نتمرّنُ إذن على طريقة جلب كتاب ، تابعوا معي على الشاشة، هذه هي خريطة المدرسة ، سأتجه نحو قاعة الخزانة، للدخول إليها يجب أن نعرف كلمة السر وللأسف الشديد هذه الكلمة تتغير كل ساعة،علي أن أعود إلى الذليل السري للخزانة... حسناً ها أندا دخلت الخزانة. تلاحظون معي لائحة اختيارات طويلة: - كتب السحر القديم - كتب سحر المستقبل. – السحر بالأعداد والطلاسم والأوفاق... حسناً سوف أختار كتب المستقبل، تشاهدون أن لائحة الكتب طويلة جداً، لذلك سأستعمل تعويذة الإلهام السحري، فهي تجعلني أجد الكتاب الذي أبحثُ عنه دون أن أتكلف عناء ذلك.انظروا إنه كتاب "الكواكب السيَّارة".إنه الكتاب الذي كنت أبحث عنه. وبدأ بوجا يرتعد بمكانه إذ خشيَّ أن يكون الجسيم قد أخطأ في شيء ما وترك الكتاب معه، وتابع الأستاذ كلامه وهو معجبٌ بنفسه كأنه حقق معجزة: ياللفاجعة.. إنها مفاجأة سيئة، هاهو الأستاذ صنوع بدوره، أرسل مخلوقاًً سحرياً يبحث عن الكتاب نفسه، انظروا إلى هدا المخلوق إنه يعبث بكتب الخزانة ، لاشك أنه سيفسد ترتيبها، ولا شك كذلك أنه يرتدي قبعة الإخفاء، فالجسيم لم يرهُ حتى الآن .لكنه سيشك في وجوده إذا ما استمر في تقليب الكتب بهذه الطريقة ..حسنا علينا أن نعجل بإحضار هذا الكتاب وإلا سبقنا إليه الجسيم . وبدأ التلاميذ يتشوقون إلى إحضار هذا الكتاب بسرعة.وإلى متابعة أحداث هذه المنافسة .وتنهد الأستاذ وهو يضغط على الفأرة مغتاظا : ألم تنتبهوا إلى المتنافس الثالث إنه الأستاذ حربوء، ياللعار إنه يستعملُ تقنية نسميها:" الإحاشة بالتداعي الحر"، فمثلا سيأتي ساحر ويطلب كتابا ما، وسيمارس الأستاذ حربوء على الجسيم تعويذة تجعله يعتقد أن ذلك الساحر قد طلب منه كتاب "الكواكب السيارة".وسيمده إليه غير أن ذلك الساحر سيقول له : أنا لم اطلب منك هذا الكتاب.وسيقع بينهما شجاراً،سيهمل على إثره الجسيم الكتاب فوق المكتب.وسيحوله حربوء إلى كرة،تتدحرج من على المكتب إلى الرصيف.وسيأتي تلميذ عابر وسيشرع في ركل الكرة\الكتاب وهو يتجه في اتجاه القاعة التي يوجد بها الأستاذ .وعندما سيصل هذا التلميذ مفترق الطرق،ويرغب في السير في منحَى آخر.سيركل الكرة وسيجدها ثقيلة ،وسيتركها بمكانها .وسيحولها حربوء إلى وردة ،وتأتي فتاة عابرة وتجد الوردة أمامها وتأخذها وتشرع في شمها،زامعةً إهداءها إلى إحدى صديقاتها وعندما ستقترب من قاعة حربوء ستجد أن رائحة الوردة أضحت كريهة وستتركها أمام باب قاعته ليخرج هو ويأخذها ويرجعها إلى شكلها الأصلي. وتأفف الأستاذ حسوب وهو يتابع كلامه وينظر إلى الشاشة:يا إلهى لا أظن أن النسخة المطلوبة موجودة بالخزانة ..حسناً سأكبل المخلوق السحري الذي أرسله صنوع وسوف أمارس تعويذة عن بُعد تَشُلُّ إحاشة حربوء. وهمهم وبدأ ينظر إلى التلاميذ الذين كانوا يحملقون فيّ الشاشة ، ثم قطَّب حاجبيه وتابع كلامه: أمممم.. هاهي الأستاذة( ضفدوعة) بدورها تبحث عن هذا الكتاب ليس من الصدفة أن نبحث عن نسخةٍ واحدة في وقتٍ واحد. وفجأةً خرج (بيرس) السحري من محفظة بوجا وبدأ ينبح عنها، كأنه يدل الأستاذ لما يوجد بداخلها، واقترب منها هذا الأخير،وبدأ يفتحها ويداه ترتجفان من الخوف، ووجد بها الكتاب المبحوث عنه.وبدأ يتكلم بصوتٍ مرتفع:هاهو البليد قد سرق كتاب الخزانة، لقد استعمل صنوع تقنية البحث الشامل إذ جعل جميع الأجسام ،التي صنعتموها عنده، تشتغل لصالحه ضدكم . هاهو (بيرس السحري)الذي صنعه بوجا بنفسه، يكشف عن هذه السرقة ويفضحها، اللَّعنة السارق لا يستطيع الإقلاع عن عادته. وبدأ الولد يبكي ويستعطف: إن الجسيم هو من قال لي: إن الكتاب قد عاد بمفرده إلى رفِّه بالخزانة ، إنه أبى أن يأخذه مني ، أنا بريء ،أنا بريء... ورجع الأستاذ نحو فأرة الحاسوب وبدأ يتكلم بامتعاض: سوف أريكم ذليلاً قاطعاً يفضح هذا السارق الكذاب هاهو سِجِل الخزانة ،وهاهو توقيع هذا البليد، إنه وقع على أنه استرجع الكتاب ، فهل أرغمه الجسيم على ذلك؟. إن التوقيع حديث فالحبر لازال رطباً، لنتأكد من البصمات ،حسناً إنها بصمات إبهامه. وأجهش بوجا في البكاء،وعيناه تدوران في محجريهما، غير أنه بدأ يجفف دموعه ويتظاهر بمظهر من لم تؤثر فيه الأحداث،وكان جهبور في الصف المقابل يحتجُّ مدافعاً عنه ، إلاّ أن الأستاذ أسكتهُ وتابع كلامه وهو يبتسم: أرى أنه لابد من إبلاغ الوزارة بالقضية. بيد أنه عندما اتجه نحو محفظة بوجا لم يجد الكتاب المذكور، فبدأ يفتش جميع أركان الحجرة ، وهو يذرعها جيئةً وذهابا، ويتكلم بصوتِ من يُحاول إقناع نفسه:يا إلهى من سرقه؟ .أين اختفى ؟. لستًُ من العامة لكي أدخن سيجارة في مثل هذه المواقف. وأخذ فأرة الحاسوب من جديد، وظهرت رفوف الخزانة على الشاشة ، فشاهد الكتاب وهو بمكانه بأحد الرفوف، واشرأبت وجوه التلاميذ صوب الشاشة، وصار هو ينتفض ويتكلم بهستريا: واغوتاه سأصاب بالدوار.. ستتهمني الوزارة بالتبليغ الكاذب. وبدأ يبحث عن أدلة تثبت، فقط ، أن الكتاب كان بمحفظة التلميذ، فمن المفترض أن يُمارس على (بيرس) السحري ،تعويذة الاسترجاع، فيلاحظ صورة الكتاب على بؤبؤي عينيه ، لكنه عندما فعلها لم ير صورةً تذكر، كما لو أن أحداً مسحها من عيني هذا المخلوق السحري، وشهادات التلاميذ تعتبر كافية،فلو أن أربعة منهم اثبتوا رؤيتهم للكتاب لكان ذلك ذليلا مقنعاً بالنسبة للوزارة، بيد أن لا أحد منهم استطاع أن يجزم في ذلك ، وأقوى الشهود يعتقد،فقط، أنه رأى شيئاً أسوداً. مع العلم أن لون الكتاب يتغير في كل ساعة، تفاعلاً مع الكواكب. وهذه الساعة الزُّحليةَ تقتضي أن يكون لونه أحمراً قرمزياً. ثمَّ إن كتاب "الكواكب السيارة" له خصائص كثيرة، فإذا مرّ من مكان ما، فإن رائحته تبقى بهذا المكان أزيد من نصف يوم. فالحبر الذي كُتِبَ به محضرٌ من القطران، وعندما استعمل الأستاذ حسوب تعويذة البحث عن الروائح . لم يجد أيَّ ذليلٍ يثبت أن رائحة القطران كانت هنالك، ولا أحد من التلاميذ استطاع أن يُؤكد أنه شمها ، لا من قبل ،ولا من بعد، لا عن بعد ولا عن قرب، وهذا يعني أن أحداً غسل أدمغتهم وشطب المسرح من جميع الأذلة. وأخيراً ، وهذا الذليل ضد الأستاذ نفسه، فآخر كتاب استعارهُ بوجا معروف بمعاداته للكتاب المذكور ولو هَبنا أنهما كانا معاً بمحفظةٍ واحدة، لحدث أن مزّق أحدهما الآخر خاصّةً في هذه الساعة بالضبط. بدأ الأستاذ يسير في القاعة كيفما اتفق، وهو في حيصَ بيصٍٍ من أمره، وكانت شيطا قد انفلتت من لعنة التسكين التي مارسها عليها في بداية الحصة، وشرعت تتسلّى بمضغ دودةِ قزٍّ كعلكة، فكر وهو يدعك أرنبة أنفه بين إصبعي يمناه: كيف لي أن أكذِّب شيئاً رأيته بأم عيني... سأصاب بالجنون إذا لم اعثر على أي ذليلٍ يثبت ادعائي .وصار يتكلمُ بصوتٍ أكثر ارتفاعا: لاشك أن هنالك ثلاثة احتمالات:فإما أن يكون بوجا هو من أرجع الكتاب إلى الخزانة، ومحا جميع الأدلة من المسرح...أممممم لا اعتقد أن تلميذاً سيفعل كل هذه الأشياء،مهما تفتقت عبقريته، إذن سيكون هنالك من يساعده عن بُعد.. حسناً سأحتفظ بالاحتمال الثالث لنفسي. واتجه نحو بوجا كما لو خطرت بباله فكرة ستحُل المشكلةوتساءل: أنت قلت لي :بأن الكتاب كان معك ...وبأن الجسيم لم يشأ أخده منك . وانتفض بوجا غاضباً، كأن ساحراً يملي عليه ما يقوله : أنا لم أقل لك شيئاً من هذا القبيل هل فقدت عقلك؟. والتفت الأستاذ نحو التلاميذ يطلب شهادتهم :ألم تسمعونه عندما قال لي... واختلطت جلبتهم وهم يردون: ها ها ..نحن لم نسمع شيئاً. لاشك أنك جُنِنْتَ، فأنت تطلب منّا شهادة زور . وزادت شدة غضب حسوب حتى صار أنفه أحمراً كسكينٍ وضع على اللّهب، وهمس بتعويذة تتيح له مضاعفة قوتي تركيزه وتفكيره مائة مرّة. وهي تعويذة لا يمارسها الساحر أكثر من مرةٍ في حياته، فالتكرار من استعمالها له عواقب وخيمة على الصحة. واتجه نحو الحائط المقابل وهو لا يدري ما يفعل..ومرر يده على الحائط.فظهر هاتف تابت بنيُّ اللون. ورفع السماعة بيديه المرتعشتان، وبدأ يُهاتف الجسيم: ألو ،ألو ..هل تسمعني ؟ إنني في ورطة... وردّ الجسيم بصوتٍ مشروخ بعدما سمع جميع تفاصيل القصة:عفواً صديقي فهذا ما فعلته تماماً ويا للتعاسة،لقد بلَّغت الوزارة بأن بوجا سرق الكتاب المعني ، وأعددت تقريراً مفصلاً في الموضوع، إلاّ أنني عندما أرسلت تقريري للوزارة،وعدت أدراجي وجدت الكتاب بمكانه، وأكثر من ذلك فأنت تعلم أن هنالك كاميرات سحرية ها هنا، تسجل كل ما يحدُث بالخزانة، عندما عدت إلى ذاكرة الكاميرات وجدت أن الكتاب ظل مرابطا ًبمكانه طيلة هذه المدة،وأكثر من ذلك فهذا الكتاب يهتم بتدوين سيرته الذاتية بشكلٍ دقيق، وعندما رجعت للورقة الخاصة بهذا اليوم وجدته قد كتب أنه ظل هنالك، منذ أن سلمه بوجا إليّ؟.. آهٍ إنني أشعر بالغثيان. وبدؤوا يسمعون صوت التقيؤ عبر السماعة، وتخلص الأستاذ منها كأنها أفعى. وشرع يذرع القاعة من جديد، والدخانٌ الأخضر يخرج من أنفه،وهو لا يذري ما يفعل. وفجأةً دخل أربعة أفراد من حراس سجن سَجفنارت، مصحوبين معهم بقفصٍ فضي وانبطح التلاميذ،لمدة دقيقة، كأنه أُغْميَّ عليهم دفعةً واحدة وساد صمتٌ رهيبٌ ، حتى بدا يُسمع طنين حشرة الشوغو . وبهت وجه الأستاذ حسوب حتى أضحى مثل فاكهة موز فاسدة، وشعر بوجا بقلبه يرتج كأنه وضِعَ بأنبوبٍ فولاذي ضيق، ونحنح أحد الحراس ، حتى تطاير شررٌ أزرق من فمه ونظر صوب التلاميذ بتلك النظرة المتكبرة الرهيبة، وبدأ يتكلم ،وشفتاه ثابتتين كما لو كان يتكلم من حنجرته: حسناً.. لعلكم تساءلتم لماذا أبعد أستاذكم الطاولات عن هذا الشيء المسمى بوجا؟. الجواب: هو أنّ وزارة العدل قررت وضعه تحت الحراسة النظرية.. وحتى يتمكن الضنين من متابعة دراسته، تقرر وضعه داخل هذا القفص المحمول. وتابع كلامه وهو يضغط على مخارج الحروف بقوة: لقد كان هذا القفص سيكون أصغر من الحجم الذي هو عليه الآن. لولا أن الأستاذ عبقور قدم طلباً بتوسيعه. حيث قال إنه ينفخ أجسام التلاميذ لمدة دقيقة بعد دخوله. ويخشى أن يحتك جسم المتهم بقضبان القفص. وإذا كان عبقور يهتم بسلامة تلميذه. فنحن نهتم بسلامة قفصنا.إذ لا نريد أن يُعوِّج متهم ما قضبانه. واقترب من المتهم ، الذي بدأ يرتعد، وشرع يكلمه بصوت حنجري مهموس: والآن سأعلمك كيفية التعامل مع هذا القفص .إذا أردت المشي فستحوله إلى بذلة فضية هكذا.. وإذا رغبت في النوم فتمدد فيه هكذا.. وفي الحمام ودورة المياه، يمكنك أن تحوله إلى خوذة. وانتبه فنحن لا نريدك أن ترجعه خوذةً وقتما تشاء. بل فقط في هاتين الحالتين، وفي حلة الدفاع عن النفس. ورجع إلى الوراء وسار يتكلم بصوت مسموع للجميع: من أجل محاكمتك برمجت الوزارة خمس جلسات.حاول أن تجمع الأذلة التي تراها في صالحك. آخر جلسة ستكون في نهاية الموسم الدراسي.آنذاك إما الإدانة وسجن سجفنارت وإما التبرئة وستعود في إجازة عند العامة. والتفت نحو الأستاذ وبدأ يغمغم: كان من الأفضل لو لم ندخل في هذا الوقت فقد تسببنا في عرقلة الدرس . وخلقنا مشاكل نفسية للتلاميذ. وغادروا القسم بإشارات توديع مليئة بالكبرياء. تاركين وراءهم صمتا قاتلا . فقد بقي الهدوء سائداً أكثر من نصف ساعة ورنَّ الجرس ، واختفى الأستاذ مثلما يختفي القمر وراء سحابة تتحرك ببطء. وبدأ التلاميذ ينصرفون وتأخر بوجا حتى لا يشل انصرافهم بقفصه.وشرع عاشور يُساعده على النزول ويتكلم بقلق: إذا دخلْتَ سجفنارت فإنني سأعمل كل جهدي لأُبلغ والديك.ولم يجد صديقه ما يردُّ به. بدأت،فقط، ملامح وجهه ترتعد، وعيناه ترفرفان دون إرادته.وسارا على الرصيف الحجري اتجاه الساحة. ولاحظ بوجا أن عددا كثيرا من التلاميذ والسحرة يحدقون فيه بفضول، وبعضهم يلكز البعض وهم يشيرون نحوه، ودفع عاشور صديقه وهو يهمس: هيَّا لنذهب من الجهة الأخرى، اللعنة لقد أبصرنا...إنه يُنادي عنا. كان الأمر يتعلق بالأستاذ حَنظلة الذي يدرِّس مادة سحر الشك، للمستويات الثانوية، ولازال كل منهما يحتفظ حياله بذكرياتٍ مُقززة، فقد حدث لبوجا أن مر عليه وحيّاه. وبذل أن يرد الأستاذ التحية ردّ متأففاً:كم مرّةٍ في اليوم عليَّ أن أردَّ هذه التحية.وفي يومٍ آخر تقابلا في الرصيف، ولم يهتم به بوجا وسمعه يقول : اللعنة جيلٌ بلا أخلاق كنا نقبلُ أيادي أسادتنا. وفي المرة الثالثة عندما حاول بوجا تقبيل يده ، سحبها هذا الأستاذ وهو يقول: عفواً أنت تعود بنا إلى العصور الثيوقراطية. أنت تكرس ظاهرة التخلف ستكون تلميذاً رديئاً في فلسفة سحر الشك. إذا حللت عندي في السنوات المقبلة. وقفا قرب الأستاذ الذي ظل يبحلقُ فيهما أكثر من خمس دقائق، وهو يتفرس وجه بوجا حتى بدأ هذا الأخير يتضجر من ذلك،آنذاك همهم الأستاذ : أأنت في القفص. أجاب التلميذ مضطرباً: وهل تظنني في المسبح. وغمز عاشور صديقه يحثه على التأدب، وتهدئة الأعصاب. وبقي الأستاذ مشدوها فيهما وهو يتسلَّى بإخراج سحابة من الدخان،تارة من أنفه وأخرى من أدنيه وعينيه، ونفخ زوبعةً من الدخان في وجهيهما وقال: أنا أشك في هذه التهمة. وسُرّا بهذه الكلمة، وعلق عاشور متسرعاً: وأنا كذلك ... غير أن الأستاذ تابع مقطباً حاجبيه :لكنني أشك في براءتك. فثار بوجا مردداً بصوت أجش: ومن قال لك بأنني بريء؟، أذهب وقلها لهم.. قل لهم : إنك رأيتني أسرق. وصفق حنظلة راحتيه معا وهو يضحك ويتكلم : حسناً هذا ما كنت أود الوصول إليه، إن نفسيتك هي نفسية بريءٍ فقد الأمل في براءته. حاول أن تتجلد صبراً تمسك بالأمل، لا تنهزمو.... ثم أخرج مرآةً صغيرةً، من محفظته وهمهم وهو ينظر إليها: حسناً أنا إذن من يتكلم معكما.. آهٍ اعتقد أن كثرة الشك تقود إلى الجنون. وابتعدا عنه وكلُّ منهما يحاول التحكم في أنفاسه إلاّ أنهما انفجرا ضحكاً وسمعاه يتوعّد:تضحكان عني.. حسناً سنلتقي في السنوات المقبلة. وعلق عاشور على ذلك: لا أظنه سيتذكر ما أكله البارحة. وصلا إلى الساحة ، التي كانت تزدحم بالتلاميذ الذين يتداولون الآن قضيته على ألسنتهم ، ويتحدثون عن صعوبة سجن 'سجفنَّارت' . كانت شيطا تحدِّث صديقاتها عن أبشع أنواع التعذيب،هزت كتفيها عناداً، رغم أنها أبصرتهما واستمرت في حديثها: يربطون السجين من رجليه ويدلونه في بئرٍ عميقةٍ. ويستمرون في تنزيله وتصعيده، وعند نزوله ينعكسُ مع دلاءٍ طالعة، فيها القليل من الماء وعليه أن يشرب منها.إلاّ أنه كلما دلى دلواً في فمه إلاّ ووجده فارغاً فمن بين جميع تلك الدلاء، يوجد دلو وحيد هو الذي يحتوي على بعض القطرات من الماء،وعندما يصل السجين إلى قعر البئر، يرغب في الارتواء، إلاّ أن الحبال لا تترك له فرصة ذلك .حيث يبدأ في الصعود مباشرة لينعكس مع الدلاء وهي نازلة،(ضحكتْ) تتجه الدلاء بما لا يشتهي السجناء. بدأ عاشور يربت على كتف صديقه ويقول:لا تصدقها لاشك أن هنالك مبالغات.ثم إن أمِّي تعرف تعويذة الارتواء، أتمنى أن تلقنها لي،سأعلمها لك،وحينها لن تبق في حاجةٍ إلى تلك الدلاء، سأقومُ بإضرابٍ عن الطعام، إن لم تشأ أمي تعليمي...وشعر بوجا بمزيدٍ من الحيرة وهو يتساءل: إنَّك تعاملني كأن حكم الإدانة قد صدر في حقي ، ألا تؤمن ببراءتي؟. وسكت عاشور، ولم يعرف ما يقوله، فهو لم يُرد أن يكون نذير شؤمٍ لصديقه، فقد سمع،في الأسبوع الماضي، الأستاذ حربوء يقسم أن جميع الأذلة، تفيد أن بوجا هو من سرق القطع الذهبية. وصلا مفترق الطرق، حيث سيتجه كل منهما سواء سبيله، تنهد عاشور وودعه: تصبح على براءة. قلَّ الزحام حيث دخل جميع التلاميذ إلى قاعاتهم، وسمع هو شجارا ً في الطابق العلوي، فنظر إلى الدرج فشاهد أرجلا تنزل بسرعة ، وبدأ يتضح الصوت كان الأمر يتعلق بالأستاذة ضفدوعة وهي تقول: لا اعتقد أن تلميذاً جديداً على القلعة يستطيع تدبير هذه السرقة .غير أن الصوت ،الذي لم يستطع التعرف عليه كان يرد محتجاً: هنالك سحرة بالولادة وُلدوا بقابليةٍ واستعدادٍ كبيرين لتعلم السحر، والمتهم من هذا النوع ، إنه ابن عائلة سليلة في السحر. مَرّوا عليه كزوبعة من الغبار، وهو مختبئٌ وراء حاوية للقمامة، كان الأمر يتعلق بالأستاذ حربوء الذي ظل يلوم الأستاذة عن مؤازرتها لبوجا، وكان عبقور يتوسطهما ويحثهما على تهدئة أعصابهما. انتظرهم حتى اختفوا فحول قدميه إلى قبقابي انزلاق، حيث ظلت هذه هي التقنية الوحيدة التي تعلمها في التنقل،حتى الآن،واقترب من حجرته وبدأ يُبصر ذلك الولد الذي حسبه في البداية التلميذ ( خنفوش) الذي يقطن بالحجرة المجاورة له، و الذي كان غالبا ما يتقاعس عن إيصال نفاياته إلى الحاوية، فيتركها أمام حجرة بوجا، أو ينتظره ليطلب منه أن يشعل له قنديله، فهو لا يجيد قرْع ظفرا إبهاميه ، غير أن الأمر كان يتعلق بأحد الصحافيين الذي جاء لاستجوابه حول القضية. لكن بوجا امتنع عن أيِّ تصريح عملاً بنصيحة الأستاذ عبقور الذي كان قد أوصاه: لا تقل لهم شيئاً..إنهم غالباً ما يقوِّلونك ما لم تقله، وأحياناً تكون تصريحاتك لهم أذلة ضدك . وفي صبيحة اليوم الموالي،اكتفت معظم الجرائد بالتقاط صورة للضنين وهو في قفصه باستثناء جريدة"السحر الأسود" التي كتبت: لاشك أن هنالك لُبس في القضيَّة ولاشك أن هنالك من يخطط للزج بالتلميذ في السجن، وجريدة "سحر المستقبليات" التي نشرت: طفلٌ بدويٌ ، مبتدئ ...جِيء به من العامة يسرق خزانة أستاذه يا للعار ويا للمثل القائل: اتق شرَّ من أحسنت إليه. ويا للعجب فقد كان هذا المقال موقعاً من طرف الأستاذة ضفدوعة، فهل استطاع حربوء أن يقنعها بتغيير موقفها؟ هكذا تساءل وهو يتنهد بعد قراءة هذا المقال.(يُتبع) 4 قلعة الفنون السحرية مرت خمسة عشر يوما على افتتاح الموسم الدراسي، التحق معظم أصدقائه بإعداديات المدن المجاورة، أحدهم سيستقر عند عمه، والآخر عند زوج أخته... بقي وحده يعاني من الفراغ، ظل طيلة هذه المدة يذهب إلى جانب النهر ويذرف دموعه هنالك، يبقى طوال النهار، وأحيانا يستمر حتى غسق الليل. بدأ يفكر متى اكتسب هذه الشجاعة، فلم يعد يخشى نقيق الضفادع ولا الظلام الدامس، ولا تلك الشعبة التي كانت جدته قد قالت له : »إنها وجدت بها رضيعا، وعندما انحنت لم تجد سوى يدها والسراب «. لم يعد يخشى "عبد الواد"، بل تمنى لو خرج الآن وأخذه معه، تذكر قلعة الفنون السحرية التي رآها في منامه، لكن كيف السبيل إليها ؟.. بدأ الماء أمامه يصفى وتظهر من تحته ألوان زاهية ومتلألئة، تشبه ألوان طيف قوس قزح، وبدأ يسمع صوتا يناديه : » هيا اقفز، مرحبا بك في قلعة الفنون السحرية... نحن سنتكفل بدراستك «. استرجع بسرعةٍ وميضية كلام الجدة والمعلم، وفكر في أصدقائه ووالديه! وفيما إذا كانت هذه الأشياء، تظهر للراغب في الانتحار لتشجيعه على ذلك، وفيما إذا كان ما يحدث له الآن، هو ما حدث ل "نرجس" في الأسطورة اليونانية. بيد أن ذلك الصوت أجابه : » لا لا... لا شيء من ذلك.. لقد قرأت ذهنك... إذا ضيعتَ هذه الفرصة ستندم طوال حياتك... إن هذا الباب لا يفتح إلا خمس دقائق في السنة بتوقيتكم العامي «. فقفز وهو يقول في نفسه : » يمكن للمرء أن يقتل نفسه لمجرد أشياء يتخيلها... «. بيد أنه شعر أن كليمه يستطيع قراءة ذهنه فغمغم مشوشا على هذه الفكرة : » النهر بارد ! «. لم يترك جانب النهر سوى نعليه، وكانت هذه الرسالة تعني منذ البداية أنه وقع ضحية هذا الأخير. واجتمع أفراد القرية يمشطون النهر عنه طولا وعرضا، حيث كان الشبان يتباهون بالسباحة ولأنهم لم يعثروا على الجثة، فقد سلموا بأن الطفل سرقه "عبد الواد"، ذاك العفريت الذي كان بين الفينة والأخرى يأخذ شخصا معه إلى عالم الجن، فطوال سنين مضت، كان هنالك ضحايا يختفون، ومنهم بطبيعة الحال... وهي... وجد نفسه بالمدرسة مشدوها منبهرا، فقد أصابته دهشة كبيرة حيال هذا العالم الجديد الغريب، وقد استقبله أحد أعوان المدرسة على أحسن ما يرام : » مرحبا بك هاهنا، نحن هنا لمساعدتك «. ورد هو متلعثما : »سيدي أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم «. وسار العون باتجاه الحجرة التي سيقطن بها التلميذ الجديد، وتبعه هو يخطو وراءه والخوف يترهل في فؤاده، وبدأ العون يكلمه دون أن يلتفت إليه : » إن قلعتنا هي عبارة عن عالم يعيش في مكان وزمان خاصين، وسكانها يتشكلون من أجناس وإثنيات، جاؤوا من جميع الأزمنة والأمكنة والعوالم «. ووصل العون أمام الحجرة وبدأ يقول : » حسنا... هذه هي حجرتك، إنها تحتوي على سرير وخزانة خاصة للكتب، ومختبر للأبحاث الشخصية، ومطبخ وحاسوب سحري عجيب. وبعض الأشياء الأخرى«. وكان هو يردد فقط عبارة : » نعم نعم « مطأطئا رأسه عموديا، فقد كانت نفسيته شبيهة بنفسية ملاكم تعادل مع خصمه في الجولتين السابقتين ويستعد للجولة الثالثة. ووعى المسئول ذلك واستأنف حديثه مقطبا حاجبيه : » غير أنه ليس بمستطاعك الآن الدخول إليها... إنها تفتح برقم تشفيري خاص... الأستاذة ضفدوعة هي المتخصصة في التشفير ، سوف تنجز لك رقما خاصا بك. وستضيفُ إليه أنت رقما اختياريا. وسيصبح رقمك بمنأى حتى عن ضفدوعة نفسها... لكن احترس من الأخطاء، انظر إلى تلك البقع في صدرك، إنها تعني أنك دخلت يوما إلى قلعتنا. وعندما أردت الخروج ارتكبت خطأ في النطق بالتعويذة السحرية! «. وأحنى التلميذ رأسه لينظر إلى صدره، غريب أن كليمه يستطيع رؤية ما تحت الملابس، فخجل من نفسه، بيد أن العون فهم الأمر وقال : » لا تخجل سوف تتعلم كيف تحمي نفسك من كل شيء !. أنت الآن مثل كتاب مفتوح يستطيع أي ساحر أن يقرأه «. نظر بوجا إلى شفتي مخاطبه، لقد كان فمه فاغرا وثابتا، رغم أنه ينطق حروفا حنجرية. وأدرك العون ذلك فاستدرك قائلا : » إي.. على فكرة أي لغة تتكلم؟ ! «. فأجاب الولد باندهاش وحيرة : »العربية «. ورفع العون حاجبيه وهو يقهقه : » حسنا أنا أتكلم "السنسكريتية"، ليس هناك مشكل في اللغة، فلدينا ذلك المحول اللغوي السحري العجيب، إنه مبرمج عبر الأثير. حيث تتكلم أنت بلغتك ويحولها هو إلى لغة مخاطبك تلقائيا، حتى ولو كان هنالك مخاطب وحيد ومليون ألف مستمع يفهمون لغات مختلفة ! «. وبدأ العون يصفق راحة يسراه مع راحة يمناه ويتحرك أمام باب الحجرة جيئة وذهابا كأنه يفكر فيما سيقوله وهمهم : » أمممم اسمع بوجا هنا بمدرستنا القانون فوق الجميع. والمدرسة صارمة في إقامة الحدود على الجميع. كن حذرا. لا نريد سرقة ولا كذب ولا اختلاس... وهناك شيء آخر إذا لم تشغل دماغك بشكل جيد فإن القلعة ستنتزعه منك. وتسيطر عليك بلعنةٍ. تصبح معها مثل الربوه.. تصبح حيا وميتا في نفس الوقت «. وارتعش بوجا في مكانه. وقرر المسئول الانصراف إلا أنه استدرك شيئا آخر : » آه، لقد نسيت... بخصوص نظام التغذية... فمادامت المدرسة خليطا من الأنواع والأجناس، فإنها لا تكلف نفسها مسؤولية تقديم الوجبات الجاهزة للتلاميذ، إلا في الحفلات والمهرجانات. لذلك فإنك ستتسلم منحة كل أسبوع «. وبدأ العون يحك رأسه وهو يهمهم : » حسنا سوف أقول كل شيء... فمادمت مضطرا للمبيت في الشارع، فاحذر بعض العصابات التي تهاجم مدرستنا بين الفينة والأخرى، إنهم مصاصي دماء... وهناك أيضا تلك الثقوب التي تنفتح بين الفينة والأخرى فيسقط بها كل من كان قريبا منها... ليس معي هنالك أية خريطة للمناطق التي تنشط بها هذه الثقوب... وقبل أن تتعلم كيفية التعامل معها، ابتعد عن أي ثقب رأيته ينفتح أو يتوسع ! «. 5 بمادتي : التنبؤ والتحول في صبيحة هذا اليوم نزل من الشجرة التي بات فيها البارحة ريثما تهيئ له الأستاذة رقمه، واتجه نحو قاعات الدرس، وهناك التقى بالتلميذ "صدوق عاشور" صاحب الوجه البشوش، والذي يبدو مع ذلك متحفظا شيئا ما. سأله عاشور بكل جرأة : » هل أنت هو المسمى بوجا ؟ ... إن مكانك بجانبي في إحدى الطاولات، إنني مررت بمثل ظروفك، حيث لم أكن أعرف الأقسام ولا التلاميذ ولا...، لذلك إذا كنت تحتاج لمساعدة فلا تتأخر في استشارتي «. رافقه بوجا مستبشرا به، ووقف عاشور وأشار إليه بالوقوف وقال: »شهيق « وبدأ يركضان لمسافة أزيد من مائة متر. ثم وقفا وتنفسا الصعداء. وأدرك صدوق حيرة صديقه فقال له : » إنها منطقة خالية من الأوكسجين، وهي من الفخاخ التي تبنيها القلعة لأولئك اللصوص. لذلك فاحذر مثل هذه الفخاخ، وانتبه إلى التشوير الطرقي. وشعر بوجا بشعور عجيب، فلو لم يلتق بصدوق لأصبح الآن ومنذ اليوم الأول في عداد القتلى، وقال لصديقه : " لماذا لم يحدثني عنها العون ؟ «. فأجابه : » إن هناك أشياء كثيرة مثلها، هل سيقضي العون حياته كلها في الحديث إليك، ألم يقل لك شغِّل دماغك ! «. دخلا مادة التنبؤ، كانت بالنسبة إليه أول حصة في المدرسة، وكان بعض التلاميذ ينظرون إليه بنوع من الحيطة، وشيء كالسخرية والاحتقار. نظر غير بعيد فوجد اسمه بإحدى الطاولات وجلس إلى جانب عاشور، في حين كانت تجلس في الطاولة الأمامية التلميذة "شيطا"، والتي كانت تلتفت أكثر من عشر مرات في الدقيقة، وكانت بحق تلميذة داهية وماكرة، وعلى هيئة كبيرة من دمامة المُحيا وطول الأنف، إلى درجة أنه لم يستسغ النظر إليها... وكأنه يسمعها وهي تقول : » انظروا إلى هذا البدوي الأبله، إنه لم يقدر حتى على النظر في وجهي كأنني سألتهمه ! «. وفزع منها والتفت في الاتجاه المقابل فإذا به يرى "ملاك" تلك الفتاة التي كانت على غاية من الجمال والوسامة، وبقي منبهراً في بشرتها الوضاءة والصافية وفي عينيها اللؤلؤيتين، وردته عن ذلك بتحية وابتسامة، وتعجب لأسنانها وهو يُسَبحل : » سبحان الله لا يمكنها أن تمضغ بهذه الأسنان البلورية وإلا كسرتها«. وفجأة دخل الأستاذ "عبقور"، وانتفخت أجسام التلاميذ كأنهم ديَّكة، وانتفشت ملابسهم مثل الريش، وأصبحت بطونهم مثل بطون النساء الحوامل. ولأول مرة شعر هو بهذا الشعور الغريب، فقد انتفخ دون أن تكون له الرغبة في ذلك، فبادر الأستاذ (عبقور ) إلى الاعتذار إليه : » اعذرني عما تسببتْ لك فيه هذه المفاجأة... لقد كنت ادخل إلى القسم، ويبقى التلاميذ على قدر كبير من اللامبالاة، فأصبحت أعاقب الجميع بهذه الطريقة... حاول ألا ترتدي الملابس التي تحتوي على الأزرار خاصة أنك لا تتقن الخياطة السحرية بعد«. وانحنى الأستاذ عبقور ومد له مجموعة من أزرار وزرته وانصرف في اتجاه منصة القسم. لم يفهم بوجا معنى الخياطة السحرية وبدأ يقول في نفسه :» البعض يقوم بالمخالفة والبعض الآخر يعاقب عليها مجانا ! «. فنهره الأستاذ قائلا : » هيه.. لا تنسى أنني أقرأ العقول «. فخجل التلميذ من نفسه وأشار إليه الأستاذ وهو يخاطب جميع التلاميذ :» هذا هو صديقكم الذي تنبأت بمجيئه إلى هنا، فهل تصدقونني منذ اليوم؟ ! « وبدأت تختلط أصواتهم : » واو... إنه بجميع الصفات التي ذكرتها لنا... إنك عظيم يا أستاذ عبقور... «. وأرادت التلميذة شيطا أن تتكلم بصوت مرتفع : » هل هذا هو التلميذ الذي يبحث عن أمه ؟... و... «. وحدجها الأستاذ بعينيه قبل أن تنطق بهذه الجملة، الذي انتزعها من دماغها. وأحدثت نظرته إليها ثقبان بحجم العين في جبهتها، وبدأ الأستاذ يضرب أذنه بسبابته وهو يقول : » أغلقي تلك الثقوب بالعجين حتى لا يصبح منظرك مرعبا أكثر مما هو عليه، واحذري مرة أخرى «. وبدأت شيطا تبكي، وبدأ بوجا يفكر في الشيء الذي فعلته واستحقت عنه ذلك العقاب، فهو لم ير شيئا، وردد في نفسه : » يا إلهي أشعر بالضيق، ما أصعب أن يطلع أحد على ذهنك «. وبدأ يتأفف... وتابع الأستاذ عبقور كلامه بخصوص بوجا : » إنه تلميذ نابغة لكنه سيضطر مستقبلا للقيام بمغامرة ستكون نسبة خروجه منها حيا أقل من واحد بالمائة، ومع ذلك فهو مصر على القيام بها ! «. ودقت هذه العبارة في ذهن الولد مثل الناقوس. وتذكر ما قالته له جدته من العامة. واسترجع الأستاذ جديته واستأنف الدرس الذي كان بعنوان "مخاطر التنبؤ" حيث بدأ يتحرك بين الطاولات ويقول : » إن التنبؤ بشيء لا يعني دائما تجنبه، فإذا تنبأ شخص بأنه سيموت في قاعة المدرسة، لا يجب عليه الامتناع عن الذهاب للمدرسة لهذا السبب... فقد يحدث أن يموت في مدرسة قديمة تحولت إلى مستوصف صحي «... رن الجرس، وبدأ التلاميذ يستعدون لدراسة مادة التحول، وشرع بوجا يجمع أدواته للذهاب للقاعة المجاورة، بيد أن صدوق عاشور صده عن ذلك وهو يوشوش : » أصمد بمكانك، إن القاعة ستأتي عندك «. خرج الأستاذ عبقور من النافذة متلاشيا كالزوبعة، ومخلفا وراءه غبارا كثيرا من الضحك ! . وبدأت القاعة ترتج، وتختفي أدوات التنبؤ وتظهر أدوات التحول. ولوقتٍ وجيز نظر بوجا إلى طاولته وإلى تلك الشاشات التي وضعت أمام كل تلميذ وتلميذة، فوجد عليها اسمه وفصيلته الدموية وطوله ووزنه (بعشرة أرقام وراء الفاصلة)، ومعلومات أخرى... ودخل الأستاذ حربوء، وكان أستاذا عنيفا جدا، ويتكلم لغة دقيقة . فوقف جميع التلاميذ، إلا بوجا الذي لم ينتبه لذلك، ورغم أنه انتبه ووقف متأخرا، إلا أن الأستاذ رمقه فأمر الآخرين بالجلوس، وبدأ يأمره هو بالوقوف والقعود، ولأول مرة شعر بأنه يقف ويجلس دون أن تكون له الرغبة في ذلك، وكلما وقف إلا واستدار رأسه نحو اليسار. وعندما يجلس يدور رأسه نحو اليمين. وسرَّع الأستاذ من أوامره. وبدا الولد كالدمية، وشعر أن دماغه سيطير من رأسه... وأخيرا أمره بالجلوس، وبدأت الصفرة تظهر على وجهه، وهو يرغب في التقيؤ. والتفت الأستاذ مخاطبا جميع التلاميذ : » إنني شخصيا لا أومن بالعقاب الجماعي... ولذلك فعندما أعاقب تلميذا فإنني أتفنَّن في ذلك. والآن فلنتابع الدرس... قلنا في الحصص السابقة : - إن التحول أنواع: تام وناقص، وأخيرا استحالة مطلقة، لقد كانت الاستحالة حلم الخيما ويين من العامة في العصور القديمة... وقد كان هدفهم من ذلك تحويل المعادن إلى ذهب... فكانوا يبحثون مثلا عن الإكسير واعتقدوا أنه سر الحياة... نحن لا تغوينا الجوانب المالية للتحول. لأن العامة نسوا أنه إذا تحولت كل الأشياء إلى ذهب، فإن هذا الأخير سيفقد قيمته... إن سعادتنا نحن السحرة تكمن في القدرة على التحويل... بيد أن التحويل يجب أن يكون شاملا لجميع عناصر وقوى المتحول، فإذا أراد ساحر أن يضاعف قوة شخص مثلا، فعليه أن يضاعفها بالتناسب، فلو ضاعفنا جميع حواس شخص بنسبة عشرة بالمائة وضاعفنا سمعه بنسبة مائة بالمائة، سيصبح هذا الشخص يسمع أصواتا غريبة، يسمع مثلا : طقطقات الذرات، أو خشخشة مفاصله ودقات قلبه... وسيصاب بالهوس... وكلما سقط لأمه صحن أو كأس في المطبخ إلا وسيقول لها : ( أماه... هل تسمعين هذه الرعود ؟ وستعتقد هي أن ابنها مجنونا ! ) «. وبدأ الأستاذ يمشي بين الطاولات وهو يتكلم : » والآن أيها التلاميذ لنبدأ أول درس تطبيقي، وهو كيف تحول أعضاءك إلى أدوات للاستعمال الشخصي أو الحربي !. انظروا جيدا هذا ظفر إبهام اليد اليسرى سوف أقرعه مع ظفر إبهام اليمنى، فتشتعل النار ! . هيا جربوا جميعكم... «. والتفت إلى بوجا وهو يقول : »حسنا بوجا، هل أشعلت النار ؟ «! فأجابه مسرورا : »نعم سيدي «. واستدار الأستاذ نحو التلاميذ وهو يقول :» انظروا إليه... انظروا إليه، فرغم قدومه متأخرا فقد استوعب الدرس... والآن من لم يستطع إشعال النار فليتمرن عليها في منزله، أما السبَّابة فسأحولها إلى سيف أو سكين... عليكم أن تقرؤوا التعويذة وأنتم تفكرون في السيف... «. والتفت حربوء قبالة بوجا فوجده يطفئ نارا كانت قد اشتعلت في رأسه، وتمتم بكلمات وانطفأت تلك النار تاركة وراءها رائحة شعر محترق... واستدرك الأستاذ خطأه فقال مخاطبا جميع التلاميذ :» نسيت شيئا مهما... فإذا قرع أحدكم، من اليوم فصاعدا، ظفر إبهامه مع أية جهة من جسمه فإنه سيضرم نارا. إن النار السحرية لا تنطفئ بالخبط أو الماء كما فعل بوجا، إنها تنطفئ بتعويذة سحرية، الأستاذة "ضفدوعة" مشرفة على مادة التشفير سوف تعلمكم كيف تشفرون أعضاءكم تحت أرقام خاصة. وكلما احتجتم تحويل عضو من أعضائكم إلى أداة، فما عليكم إلا ذكر التعويذة و(الكود) الخاص بذلك العضو. من كانت له ذاكرة قوية وبرامج تشفيرية دقيقة ومنتظمة يستطيع تخزين أكبر طاقة سحرية، وسيكون من جهابذة السحر، حتى ليحكى عن زعيم مملكة الأشرار أنه يصنع مائة ألف أداة من كل عضو من أعضائه، كلها مخزنة تحت أرقام خاصة... «. وسار الأستاذ في اتجاه المنصة وهو يقول :»على أية حال، قبل أن تتعلموا تخزين الأدوات في حالة كمون وتحت أرقام تشفيرية، فما عليكم إلا الانتباه حتى لا تخدشوا أجسامكم ! ... والآن انظروا سوف أستعمل السبابة والوسطى كمقص... والخنصر كشفرة حلاقة، وأحول راحة يدي إلى مرآة، وبمقدوري أن أستعمل اليد اليمنى كمطرقة واليسرى... وأخيرا أخبئ كل ذلك تحت أرقام سرية وتصبح يدي عاديتان دون أن أخدش جسمي! «. والتفت ناحية شيطا فوجدها قد أصابت ذراعها بجروح، فاستشاط غيضا وزمجر حتى بدأ التلاميذ يرتعشون في كراسيهم. وبدأت أدواتهم ترتج فوق الطاولات، كما لو ضرب المكان زلزال قوته أربع درجات بسلم ريشتر. وبدأ يقول :»ها هي بدورها قد نسيت أن سبابتها قد تحولت إلى سكين. وحكت جسمها دون أن تنتبه !. هل علي أن أحذركم من كل أداة على حدة ؟ !... انظروا إلى الأحمق الآخر لقد ثقب أنفه كما لو أنه ينقب عن الفوسفاط... بالمناسبة سأعلمكم كيف تخيطون الجروح، إنها عملية في غاية الأهمية والنفع، حتى يحكى عن زعيم مملكة العباقرة أنه يخيط الجروح التي يصاب بها قبل أن ترشح بقطرة دم ! «. ومرر حربوء لسانه على جروح شيطا، والتأمت كأنه لم يصبها أي أدى من قبل، وابتعد وهو يبصق ويقول : » اللعنة جلدها خشن كظهر القنفذ ! «. وبدأ يضرب سبابته إلى أذنه على سبيل التحذير، وأراد أن يقول شيئا، إلا أن ملاك قاطعته: »حذار أن تصلم أذنك يا أستاذ «. فضحك واتجه خطوة إلى الأمام غير مبال بكلامها :» انتبهوا فمن نسي منكم لسانه دون تشفير فقد يستيقظ صباحا ويجد شفتيه مطبقتين ! «. وبدأ التلاميذ يفكرون في أنفسهم... »يا إلهي كم من أمور يجب أن نحتاط فيها إذا أردنا أن نصبح سحرة مهرة «. وفكر بوجا في نفس الشيء إلا أنه أضاف : »لم أعد أفهم لماذا التحقت بمدرسة... «. ويبدوا أن الأستاذ فكر فيما يفكرون فيه وزاد من تحذيرهم :» نعم يجب أن تحتاطوا في كل شيء، حتى في الأحلام فهناك من ينطق أرقاما قد تحل شفرة عضو من أعضائه. وتصيره أداة حادة. أنداك قد يجدع أنفه أو يفقع عينه... أو يستيقظ متفرجا على أشلائه«. وأراد صدوق أن يكلم ملاك فنغزها بسبابته، بيد أنه خدشها خدشا عميقا فبدأت تبكي والدماء تنهمر من كتفها، وبدأ حربوء يصفر ويحمر ويخضر... وهو يقول : » أيها الساذج ألا تعلم أني لست متخصصا في خياطة الجروح العميقة... «. واتجه بسرعة نحو مكتبه وتمتم بكلمات وظهر هاتف سحري، فبدأ يهمس :»ألو ألو هل تسمعونني؟ أنا الأستاذ حربوء مدرس مادة التحول بالقسم... من مدرسة... الفنون السحرية... أريد طبيبا متخصصا في خياطة الجروح العميقة، لذي حالة مستعجلة ! «. وما إن وضع السماعة حتى وصل الطبيب الذي قدم نفسه بشكل لائق :»أنا طبيب من مملكة الأخيار... (وهمس في أذن الأستاذ) وهذا هو الرقم السري طبعا «. وطلب مساعدة احد التلاميذ. فأذن الأستاذ لبوجا بمساعدته، وبدأ الولد يستفيد من الطريقة التي كان يشتغل بها هذا الطبيب. بيد أن حربوء طفق يعتقد أن هدف بوجا هو التقرب من ملاك ، فقد كان ينهره بين الفينة والأخرى. ويطلب منه العودة إلى مقعده. فيطأطئ رأسه ويعود أدراجه، لكن الطبيب يحتاجه من جديد. واستمرت هذه العملية في دوامة غير متناهية، حتى انفجر بوجا ضاحكا، وعندما استفسره الأستاذ عن سبب ضحكه، أجابه : » في عالمنا ذهب جريح للمستشفى لخياطة جرح بسيط، ولم يجدوا الخيط الخاص بذلك، فاستعاضوا عنه بخيط انتزعوه من علبة الجبنة «. وبدأ التلاميذ يقهقهون وختم الأستاذ ذلك بقوله : »يقع في عالم العامة ما لا يقع بعالم السحر «. غادر التلاميذ مادة التحول بانطباع وحيد مشترك، فتحويل الأعضاء إلى أدوات للاستعمال الحربي والشخصي أمر جيد، إلا أن أي خطأ أو سهو قد يعود على صاحبها بالضرر، خاصة إذا لم يقم بصيانتها وبتخزينها تحت تعويذات وأرقام خاصة. أما في هذه الحالة التي لا يزالون فيها مبتدئين في هذه المادة، فإنه يمكن أن تحدث لهم أشياء أكثر من ذلك، وتحسبا لبعض المشاكل قررت ملاك مثلا ألا تنام هذه الليلة. حتى لا ترى كابوسا مزعجا يجعلها تحول أعضاءها إلى أدوات سحرية قاتلة، وتبتر أطرافها دون أن تشعر بذلك، وإذاك - ودائما حسب ملاك - لا فائدة من الاستيقاظ. نفس الفكرة خطرت ببال بوجا. إلا أنه رأى أنها فكرة بدائية. فالنوم ضروري للساحر، وهو لم ينم منذ يومين، والسبب هو أنه يبيت في الأشجار. حتى لا تبتلعه بعض الحفر. مادامت الأستاذة لم تهيئ له رقمه التشفيري بعد.
6- بوجا والكتاب المستعار خرج من مادة صناعة الأجسام السحرية منهكا، وذلك بسبب ما لقي هذه الليالي من سهر، وسار في اتجاه البريد السري ليرى ما إذا بعثت له الأستاذة ضفدوعة رقمه التشفيري. وكان برفقته صدوق، التلميذ الذي أصبح صديقا حميميا له. ومر بجانبهما التلميذ "خنفوش" الذي كان يحمل شيئا شبيها بالمرآة. إلا أن بوجا عندما نظر فيها لم ير إلا صورة تتغير باستمرار من القبح تدريجيا نحو الجمال، وهكذا دواليك... واستغرب الولد فسأل صديقه، فأجابه ضاحكا :» إنه مريض بجنون الجمال، فهو يعتقد أنه أجمل مخلوق في الكون، لذلك فالوزارة تعالجه بهذه الطريقة «. وصلا قرب البريد السحري ووضع بوجا بصمة إبهامه في المكان الخاص. تعرف عليه الربوه السحري وسمع صوتا آليا يحاوره : » نعم لديكم هنالك رسالة «. نظر بوجا إلى صديقه بنوع من الخجل والاحتياط، وفهمه صدوق وضحك : » إنها مشفرة بحيث لا يستطيع أحد قراءتها غيرك، فلا تعتقد أنني سأطلع على رقمك السري «. وودعه صدوق وفض الرسالة وصار يقرأها وهو يخطو في اتجاه الحجرة : »تحية صميمية بوجود قلعتنا السحرية. نحن الموقعين أسفله، السيدة ضفدوعة شفُّورة، رئيسة القسم السحري لتحضير الشفر. بادئ ذي بدء، نطلب منك المعذرة عن هذا التأخر. وما تسبب لك فيه من مشاكل، حيث كنت تبيت في الشارع، وقلبك يهتز اختلاجا من تلك الحفر، حيث لم تكن تتخلص من إحداها حتى تفتح في وجهك الأخرى. إن حياة الساحر كلها محن، لقد حاولنا جاهدين أن نحضر لك رقمك التشفيري في أسرع وقت ممكن. إلا أن برامج عملنا كانت مشحنة عن آخرها. فبالإضافة إلى عملي كطبيبة مساعدة بعالم الضفادع. فأنا مراسلة لجريدة "مستقبل السحر". كما أنني ملزمة بتدريس مادة التشفير، لنقص الأطر فيها. وشخصيا لا زلت أتابع دراستي بجامعة العباقرة "تخصص السحر المضاد لقوى الأشرار". وحتى لا أطيل عليك هاك رقمك التشفيري : بوجا سعيد... «. فرغ من قراءة تلك الرسالة، وهو يخطو متجها نحو حجرته، إلا أنه عرَّج على الخزانة العامة، حيث توجد كتب في غاية الأهمية والنفع، ورأى التلاميذ يزدحمون على استعارة الكتب، فخطر بباله أن يأخذ كتاب "تشفير الإشفير"، وهو كتاب يمكن أن يساعده في المُضِي قدما في مادة التشفير وأمور أخرى، وانتظر حتى وصل دوره فتقدم ليأخذه، واستغرب من أن المستخدم بالخزانة ليس سوى "إنسان آلي سحري". وفي الحقيقة ليس سوى يد عظيمة لصقت إليها عين صغيرة كأنها عدسة وفهم بوجا لتوه أن المستخدم بالخزانة لا يحتاج سوى عين ينظر بها إلى الكتاب ويد يدفعه بها لطالبه. العناية السحرية صممت الجسيم على قدر وظيفته. ونظر سعيد لسقف الخزانة ووجد بعض التلاميذ معلقين مثل أضاحي العيد. فتسأل عن السبب في معاقبتهم بهذه الطريقة البشعة ؟. بيد أن الجسيم أجابه مقهقهاً وبدون اهتمام : » لقد ضاعت منهم كتبا استعاروها من الخزانة، فحكمت عليهم الوزارة بهذا الحكم «. فشعر بخوف رهيب، حتى أنه لم تعد له أية رغبة في استعارة الكتاب، ولا في استعارة أي كتاب آخر، غير أن الجسيم أدرك شعوره فمده له بقوة كأنه أرغمه عليه وهو يحذره بصوت مرتفع : » احذر من الإكثار من ذكر الأرقام. فهناك رقم إذا ذكرته اختفى هذا الكتاب، ورقم آخر إذا ذكرته احترق هذا الكتاب... تمزق... «. واصفر وجه بوجا مثلما يصفر وجه حربوء، وأخذه وشعر بثقل وزنه. وفكر في تعويذة تخفيف الأوزان، وهي من الأبجديات الأولى التي تعلمها في مادة التحول... إلا أن تلك التعويذة تحتوي على رقم طويل، وخشي أن يعرج فيها - دون أن يشعر - على الرقم الذي يختفي أو يحترق أو... على إثره هذا الكتاب، ففكر في تحويله إلى عربة صغيرة، وفعلا تأتى له ذلك، فاستقله متجها إلى حجرته، بيد أن العربة كانت تتجه كيفما اتفق، فهو لم يفكر لها في مركز للقيادة، ولا حتى في مقود. من حسن حظه أن الرصيف كان ناعما إلا من بعض أشجار الرمان المحاذية للطريق، والتي كانت فواكهها تقهقه عليه بإسهاب. أوقف عربته بطريقة عجيبة، حيث قفز أمامها وهو يدحرج عجلاتها على جانب الرصيف ويزاحمها معه، وتوقف الكتاب / العربة واتجه بوجا نحو أشجار الرمان ليقطف بعض الفواكه، حيث أبهرته جمالية تلك الحديقة السحرية. بيد أنه لم يكد يتسلق الشجرة ويضع يده على حبة واحدة حتى تقهقه متجهة نحو الأرض، وتتبعها الفواكه الأخرى. وعندما ينزل إلى الأرض لا يكاد يضع يده على رمانة ما حتى تقهقه وتطير في اتجاه غصنها بالشجرة. وتتبعها الفواكه الأخرى واحدة واحده. وظل بوجا يصعد وينزل. والفواكه تقهقه، حتى مل من ذلك خير ما ملل. وعندما فكر في الرجوع سواء سبيله، رمق رمانتين تتناقران فيما بينهما كأنهما عصفورين، وافتطن إلى أنها مكيدة أخرى من الشجرة الضاحكة، ورفع رأسه فإذا جميع فواكه الأشجار الأخرى تضحك عنه، رغم أن بعضها كانت تبذل جهدا كبيرا للتحكم في أنفاسها. وتذكر الكتاب الذي تركه غير بعيد، وتذكر عقوبة من يُضيع كتابا مستعارا، واتجه يبحث عنه، إلا أنه لم يجد سوى يده والمكان، ولأول مرة أحس وكأن روحه ستنتزع منه، فبدأ يهرول هنا وهناك، وهو في حيرة من أمره. وظل كذاك والفواكه تقهقه، حتى أوقفته الأستاذة ضفدوعة متسائلة بقوة :» - أأنت هو المسمى بوجا السعيد ؟. - نعم أنا هو يا سيدتي. - لقد تعرفت عنك من خلال تلك البقع الضفدعوية التي بقيت موشومة على صدرك «. فشعر بقليل من الخجل، وهو يحاول تغطية صدره. وبدأت الأستاذة توبخه بصوت مرتفع :» أهملت كتابك أيها الساذج. ولم تكد أقدامك تبتعد عن الخزانة حتى نسيت العقوبة التي شاهدتها بأم عينك. وألهتك الأشجار الضاحكة، وفقط الأشجار الضاحكة. فما بالك لو صادفت الطائر الأحمق، أو شيئا من هذا القبيل... «. واقتربت الأستاذة من إحدى الأشجار وقطفت فاكهة وبدأت تلعب بها بيسراها ، والفاكهة تضحك. واستمرت الأستاذة تقول : »إن فواكه هذه الأشجار لا يستطيع أن يقطفها سوى جهابذة السحر، ومعظم الأساتذة الذين يدرسونك لا يستطيعون إليها سبيلا«. وتنهدت الأستاذة وهي تختم حديثها : »على أية حال خذ ها هو كتابك المفقود، واحترس مرة أخرى فلو كان قد وقع بيد حربوء لبلغ بك وزارة السحر، إنني شخصيا لست أعرف هل هو أستاذ أم جاسوس. إنه اسم على مسمى، فاسمه مشتق من الحرباء... أما لو كان كتابك قد وقع بيد شيطا، لجعلت منه وسيلة لابتزازك وتحويلك إلى كلب مطيع لها «!. فارقته الأستاذة فبقي جامدا في مكانه كالتمثال، ونظر ليده كأنه يريد التأكد من حصوله على الكتاب فعلا، أو كأنه يشك أنها بدلته له، فقد أصبح خفيفا أكثر من اللازم. وتأبطه واتجه نحو حجرته. وهو يفكر في هذه السيدة التي لم يستطع التعرف عليها : »لا شك أنها الأستاذة ضفدوعة، إن أسلوبها شبيه بالأسلوب الذي كتبت به الرسالة. ورغم التغييرات التي وقعت على شكلها وجسمها. فلا زال صوتها شبيها بذلك الصوت الذي عهدها به في مملكة الضفادع «. دلف إلى حجرته، واستغرب من أنها تحتوي على جميع الأشياء التي حدثه عنها العون، واستغرب من الروعة والتصميم الهندسي الباهر الذي كانت عليه. لا شك أنه سيجد راحته بها. لولا تلك الحفر التي ستشوش عليه، والتي لازال يجهل كيفية التعامل معها. وما إن تذكرها حتى بدأت واحدة تتوسع لتغطي مساحة الحجرة بأكملها، فقفز إلى الخزانة الخاصة التي كانت معلقة على الجدران، وفتح كتاب "تشفير الإشفير" بسرعة، وبدأ يقلب أوراقه وهو يقرأ حتى وجد التعويذة الملائمة، فرددها وانغلقت تلك الحفرة. وهدأت الحجرة. وشعر هو بالجوع فاتجه نحو المطبخ. غير أنه لم يجذ الولاعة والملعقة، وكذلك السكين وأدوات أخرى. ففهم لتوه أن وزارة السحر قد جمعت تلك الأدوات من جميع مطابخ التلاميذ الداخليين، فمن جهة الوزارة تنهج سياسة التقشف. ومن جهة ثانية ليس من المعقول أن تبقى الأدوات زائدة، مادام أن التلاميذ قد تعلموا كيف يصنعون الأدوات في مادة التحول. وصناعة الأجسام السحرية. وخلص بوجا إلى أن فكرة إرجاع الأدوات السحرية إلى أعضاء عادية. عند الرغبة في النوم، والتخلي عن أي قدرة سحرية. هي أفكار ليست من الصواب في شيء. فقد يقع أبسط حادث مفاجئ. ويجد نفسه بدون أبسط الأدوات. وبالتالي سيكون عرضة للخطر. إذا ما عليه إلا مواجهة مادتي التشفير والتحول تحت شعار "حربوء أمامكم وضفدوعة وراءكم". وفرغ من تناول وجبة العشاء. وعاد يقرأ في الكتاب المذكور إلا أن كتب خزانته الخاصة كانت تشوش عليه. حيث بدأ كل كتاب منها يقترب نحوه ويقول : » اقرأني أنا... «. بدأ يتثاءب ويصارع النوم، وهو يبحث في الكتاب عن غرضه. وفجأة أثار انتباهه عنوان إحدى الفقرات "كيف تشفر أحلامك"، وبدأ يقرأ : » يعتقد معظم الناس أن أحلام النوم غير مهمة، وبالتالي - فعند أصحاب هذه الأطروحة - من الأفضل أن نتجنب الأحلام برمتها، غير أن أهمية الأحلام تكمن في عدة جوانب... فهي الضامن الأساسي لوعينا بوجودنا عندما تكون في حالة نوم، وبدونها لا نستطيع التفريق بين نومنا وموتنا، لذلك من الأفضل أن نتجنب الكوابيس المزعجة فقط ، رغم أن هذه العملية بدورها لها سلبيات جمة، فالكوابيس قد تنذرنا بخطر قريب، أو تلفت انتباهنا إلى شيء كان يجب أن ننتبه إليه.. «. ونظر إلى كتب خزانته الخاصة، فرمق بها كتابا بعنوان "كيف تتفادى الكوابيس المرعبة"، وأغلق كتاب "تشفير الإشفير" وأخذ الكتاب السابق الذكر، إلا أنه وجده غاضبا ومضربا عن الانفتاح، بسبب غيرته من كتاب "تشفير الإشفير". وتأفف كثيرا لذلك حتى أنه ندم على اليوم الذي قرر فيه الالتحاق بهذه المدرسة، وبدأ يطلع على عناوين الكتب الأخرى، فوجد كتابا بعنوان "كيف تفتح الكتب المضربة أو الغاضبة". وأراد أن يفتحه إلا أنه كان غاضبا ومضربا بدوره !. فابتسم ابتسامة فجر فيها الغضب والندم... وتثاءب وانبطح فوق سريره مسلما أمره لله. استيقظ في منتصف الليل على وقع أصوات غريبة، وبسرعة تمكن من تحويل إبهامه إلى ولاعة وسبابته إلى سيف، وأشعل القنديل السحري واستعد للمبارزة. إلا أن تلك الأصوات الغريبة لم تكن سوى أصوات كتب خزانته الخاصة وهي تتعارك مع الكتاب المستعار، ورغم أن هذا الأخير استطاع تمزيقها وجعلها طريحة الأرض، إلا أنهم بدورهم قد أحدثوا به تمزقات هامة، فغضب لذلك شر ما غضب، فعقوبة الخزانة - في هذا المضمار – واضحة، والجسيم لا يقبل الأعذار كيفما كان نوعها. وشرع في خياطة الكتاب بواسطة لسانه، غير أن هذه الخياطة لم تكن نافعة. فرشومها بقيت واضحة على الأوراق، والحقيقة أنه لم يستطع إتمام نومه وإنما بقي ممددا تحت الغطاء وهو يفكر في العقوبة، حتى تمنى لو وجد طريقة يغادر بها المدرسة. مرت خمسة عشر يوماً، تعرف فيها على الأساتذة الصارمين والمتساهلين، وانطبع في نفسه حيالهم نفس الانطباع السائد لدى التلاميذ، والذي تعبر عنه شيطا بقولها: ليس في القنافذ أملساً. لم يكن يخدش جسمه مثل باقي الأولاد، مما جعلهم يعتقدون أنه مضى قدما في السحر، وعلى العكس كل ما كان يفعله هو تكبيل راحتيه مع أطراف السرير عندما يرغب في النوم، وهي الطريقة التي دأَب على استعمالها ريثما يتمكن من التشفير وتخزين الأدوات تحت تعاويذ خاصة. بدا له أن هذا اليوم سيمر سيئاً، فهو اليوم التي ستنتهي فيه مدة استعارة الكتاب. وعليه أن يُرجعه للخزانة،وقد جرب في الأيام الماضية جميع الطرق التي يمكنه أن يُعالجه بها.غير أن كل طريقة ٍ كانت تزيد الطين بلة ، فقد ازداد حال الكتاب سوءاً، ضف إلى ذلك ما عاناه من قسوة بعض الطرق، فقبل ثلاثة أيام،مر بالقرب من الأستاذ( حربوء ) وسمعه يُهاتف أحدا وهو يضحك: آهٍ... تمزق لك كتابك...حسناً الأمر في غاية البساطة...ما عليك إلاّ أن تتجه إلى شجرة التنين السحرية...ثم تقطف ورقةً من أوراقها،وتقطر حليبها عليه ...لكن حذار أن يراك أحد. فقطف أوراق تلك الشجرة محظور، ومن الأفضل أن تذهب لها بعد منتصف الليل إنها تكون نائمة. وتذكر تلك الليلة التي قرر فيها تطبيق ما سمعه من أستاذه، إذ اتجه نحو شجرة تينٍ كانت توجد بحديقة المدرسة .إلا أنها بدأت تبتعد كلما اقترب منها.وسار يركض وراءها حتى خرج عن أسوار المدرسة.وكلما توقف ورغب في التراجع عن الفكرة ،إلا وبدأت بدورها تتباطأ.ولم يتراجع إلا عندما فكر في الطائر الأحمق،بطبيعة الحال يمكن أن تكون هنالك شجرةٌ حمقاء. غادر غرفته ،هابطا عبر مجموعة من الدرجات الحجرية، انتهت به إلى ممرٍّ مستو يقود إلى ساحة المدرسة ، تقابل مع شيطا التي رددت في وجهه بصوتٍ مسموع وهي تدعك أرنبة أنفها بين سبَّابتها وإبهامها: اللعنة..على من أصبحت هذا اليوم . لم يعر لسِبابها اهتماما، سار في اتجاه الخزانة وهو يفكر فيما يفعله ، وفجأةً سمع وقع أقدام يقترب من خلفه ، عرف أنها ملاك،التي كانت تحمل حزمة كتب في يمناها،وتلعب بفأرها الزئبقي . صافحته كعادتها بتلك الابتسامة البلورية الخجولة ،ثم اقتربت من أذنه وهمست: صديقنا بوجا، إننا مدينين لك ،وإذا كنت ترغب في المساعدة فنحن رهن إشارتك. استغل هذه الفرصة وصارحها بقضية نسخته الممزقة ، مدت له نسخةً من ملكها ،تفحص الورقة الأولى من نسخة الخزانة ،والتي يوجد عليها ا لطابع .وحولها إلى هذه ا لنسخة،ثم عالجها بلسانه بشكلٍ لم تترك معه أثاراً. ووضعت ملاك راحتها في جيده وهي توشوش: وهذه بعض القطع الذهبية إذا رغبت في اقتناء شيء، لم تستطع اقتناءه بالمنحة المدرسية. تبدَّدت تعابيير الامتنان من ذهنه ولم يجد ما يعبر به عن شعوره،فربتت التلميذة على كتفه وسارت في اتجاه آخر. اقترب من الجسيم المشرف على الخزانة،وهو يفكر فيما كان سيقول له لو لم يحصل على هذه النسخة وهز. عينيه إلى السقيفة،وأبصر تلاميذ آخرين انضموا إلى لائحة المعلَّقين، ثم فكر في نفسه معلّقاً،وشعر بالإغماء . مرر الجسيم يده على الكتاب، وبدأ يفحصه بتلكَ العينِ المجهرية، وهو يهدر ويضحك: حسناً لقد غيَّرتَ النسخة.من حسنِ حظك أنها أفضل منْ نسخة الخزانة ... أممم ... وحولتَ طابع الخزانة.. وهذه جنحة . القانون يعاقب عليها ابتدءا من صفعة على الوجه ،حتى السجن أو الإعدام حسب أهمية الخاتم والمختوم . وبدأ الجسيم يستعدُّ لصفعه.في الوقت الذي تذكر فيه هو أن هذه اليد هي التي مدت له الكتاب عندما كان ثقيلاً.لاشك أنه سيصفعه حتى يلتصقَ بالجدار،هكذا فكر،وهو يردد تعويذة تخفيف ضربات العدوِّ،وتعويذة تقوية الجسم .ومع ذلك التصق بالحائط المجاور، حتى ترك عليه بعض الأثر. واستجمع قواه وود مغادرة القاعة. إلاَّ أن الجسيم استوقفه: - إي...إلى أين أنت ذاهب؟.(وبدأ صوته يرتفع) قانون الخزانة لا يسمح بذلك.إنَّ البند الذي وقعت عليه في البداية ينصُّ على أنه كلما أرجعت كتاباً،إلا ّوعليك أن تأخذ آخراً. - عفواً سيدي...لل ...قققددددد...لقد أصبح لذيَّ مالي الخاص.سأستطيع شراء الكتب التي تخصني بمفردي . زمجر الجسيم حتى بدأت الكتب ترتعش في رفوفها: القانون هو القانون.إن العقدة تبقى سارية المفعول حتى نهاية الموسم الدراسي . وشعر بوجا بخوفٍ رهيبٍ، وهو يردد في نفسه: لماذا نتخذ قراراتٍ مستعجلة، دون التفكير في عواقبها ...اللعنة.وتابع كلامه بطريقةٍ استعطافية: سيدي أعطيني ألطف كتابٍ، ألين كتابٍ،أسهل كتابٍ.... وسار الجسيم بين رفوفِ الخزانة وهو يتهكم: أفعل كتابٍ، أضعل كتابٍ.... ووضع يده على أحد الكتب وهو يقول:هاهو الكتاب اللطيف. إلا أنه الآن يحتضن بيضه...في الأسبوعِ المقبلِ سيفرخ كتيباتٍ جميلة ولطيفة سأعطيك منها . واتجه نحو كتابٍ آخر وبدأ يتحايل كأنه يريد الإمساك بثعبانٍ. ثم مده للتلميذ وهو يردد: إنه كتاب "الكواكب السيَّارة" . انتبه إنه يفقع العينين، فهو مِزاجيُّ الطباع . نحسٌ مع كواكب النحس. وسعد مع كواكب السعد...برجه العقرب لذلك فنقراته تصبح سامّة عندما تحُلُّ ساعة زحل...وبالمناسبة لا تقل لأحدٍ إنني صفعتك. دخل التلاميذ لدراسة مادة :"صناعة الأجسام السحرية" التي يشرف عليها الأستاذ صنُّوع المريخي،وهو أستاذ غريب الأطوار ومتقلِّب المزاج. حيث يكون مرحا في بعض الأوقات.ومنطوياً على نفسه في أوقاتٍ أخرى. بدون أية مبرراتٍ واقعية .فقط لتأثره بالأبراج والكواكب وغيرها . نظر بوجا إلى الصف المقابل له ،فرمق التلميذ جهبور الذي حضر وهو يعلق في عنقه فأْساً ومعولاً...وقد شرع التلاميذ يضحكون لمجرد دخوله . علَّقت شيطا، وهي تمضغ دودة قزٍّ كعلكة:حاملُ الهمِّ البيئي. وبدأ عاشور يحدث بوجا عنه : لقد ضبطته القلعة يتبول على جدع شجرة، فحكمت عليه أن يغرس مائة فسيلةٍ.على أنه عاهد نفسه أن يغرس مائة ألف ودون استعمال السحر . اقترح بوجا على عاشور فكرة: لماذا لا نساعدانه يوم الأحد المقبل ،سنقضي بلا شك يوماً رائعاً. وظهر-فجأة- الأستاذ صنوع،كأنه خرج من زوبعة دخانٍ، وبدأ ينفض ملابسه ،والتلاميذ يستعدون جديتهم بسرعة ، ونظر هو إلى شيطا وقال مغتاظا: أراك تبحلقين في وجهي هكذا أتحسبينني ضفدع.وألقى عليها مخلوقاً سحرياً مشاكساً.حيث شرع هذا المخلوق يلهيها عن درسها ،ويوشوش عليها في تحويل أصابعها إلى أدوات.عندما ترغب في المسطرة مثلاً، يجعلها تحصل على ممحاة. وهكذا دواليك ... افتتح الأستاذ صنوع حصته بملاحظةٍ خارجةٍ عن الدرس: لقد أصدرت القلعة بلاغاً نقلته جريدة"سحر هاروت ومار وت".جاء فيه أن أحد السحرة،هذه الأيام، يروج أموالاً مزورةً. وشخصيّاً كلّفتني الوزارة بالبحث في هذا الموضوع.. لقد صنعت أجساماً سحرية سوف تتكلّف بالتحقيق مع التلاميذ. واستأنف كلامه بلهجةٍ شديدةٍ: عندما سأقبض على المتهم سيعاقب عقاباً عسيراً.شعر بوجا بمعدته تتقلص تدريجيا، مثلما لو أن قنفذا يتحرَّك بداخلها.والتفت نحو ملاك وسألها بصوتٍ خفيض: أأنتِ متأكدة من أن تلك القطع التي أعطيتنيها البارحة،خالصة و غير مزورة. فانتفضت ملاك غضبا وهي تقول:أنا لم أعطك شيئاً أيها البدويُّ السفيه.ورمقهما الأستاذ فاتجه نحوهما بسرعةٍ وهو يهمهم : حسناً، لقد سمعتكما... أما أنت يا ملاك فدائماً تكونين على حق... أما أنت فإليك هذه المفاجأة. ونفث من فمه مخلوقين سحريين،شرع أحدهما يُعارك بوجا،أما الثاني فيستنطقه ويُحقق معه بخصوصِ الأموال المذكورة. وبدأ الأستاذ يمشي بين الطاولات،وهو يملي الدرس،والتلاميذ يكتبون إذ لم تكن تسمع سوى طقطقات أصابعهم عند تحويلها إلى أدوات. كان بوجا بدوره يكتب رغم المضايقات التي يتعرض من المخلوقين السحريين،وكان الأستاذ يراقبه بطرف عينه وهو يملي الدرس:إن صناعة الأجسام السحرية،عملية في غاية الاستعصاء والتعقيد، فهي تقتضي الإلمام بمادة التحول، لمعرفة الهيئات التي يمكن أن يؤول إليها الجسم، والإلمام بمادة التنبؤ لمعرفة ماذا يمكن أن يُحدثه دخولَ جِسْمٍ مصنوع في عالم الوجود... والأهم من ذلك فهذه الصناعة تعتمد على تطوير علم الفلك القديم. .. واقترب الأستاذ من (جهبور) وبدأ يتفحص الفأس الذي كان معلّقاً في عنقهِ كقلادة وهو يتابع بصوتٍ خفيض: ..لقد كان السحرة القدماء يعتقدون أن لكل يومٍ كوكب وأن عدد الكواكب هو سبعة بعدد الأيام . واعتبروا الشمس كذلك كوكباً وليس نجماً، فالشمس ليوم الأحد،والقمر ليوم الاثنين ،والمريخ للثلاثاء . وأن لكل كوكبٍ معدنٍ خاصٍ به،فالذهب للشمس،والفضة للقمر،والزئبق لعطارد ...ويعتقدون أن بعض الكواكب للسعد وأخرى للنحس،فالمريخ مثلاً: نحس محض وله تأثير سريع في الانتصار في الحروب ،لذلك يُحكى عن الزعيم النمرود شرار سليل النمرود بن كنعان، يحكى عنه أنه صنع جميع أدواته العسكرية في ساعة المريخ .مما أكسبها قدرة تدميرية عالية ، وأكثر من ذلك فقد طوّر هذه المعرفة كثيراً. حتى أنه يختار أوقات دقيقةً.يوفق فيها بين الأبراج والمنازل والكواكب. ليصنع أجساماً بمواصفات عالية الدقة .وبدأ الأستاذ يمشي بين التلاميذ وهو يراقب التمارين التي كلَّفهم بها في الحصة المنصرمة . وبدأت همهمته تتضح لبوجا كلما اقترب منه : أريني تمرينك يا ملاك..أمممم...فأرٌ من الزئبق، في الحقيقة المخلوقات الزئبقية أكثر سهولة في الصناعة ..غير أنه لا جدوى منها فهي تُتْلف تحت حرارة خمسون درجة. وتفقد القدرة على الحركة عند سِتِّ درجات. وبطبيعة الحال لا يمكنكِ أن تصحبين معك مخلوقاً زئبقياً. إلى الحمام أوإلى الصحراء المغربية. ووصل الأستاذ صنوع قرب (شيطا) وهو يضحك : وأنت أيتها الجميلة ..حسناً، قطُّ من الآنك كوكبه زحل وهو نحس محض، آهٍ يا ملاك احذري قط شيطا،إنه عنيفٌ جداً...وأنت يا بوجا كلبٌ من الذهب غير أنه بلا ذيل. مالذي يا ترى جعلك تفكر في كلبٍ مبتور الذيل ؟. رد بوجا بصوتٍ متلعثم،وهو مشغول بالمخلوق السحري الذي كان يبارزه: كان لدينا كلبٌ بعالم العامة، وذات يومٍ عاد إلى المنزل وقد قطع ذيله.... وحمل الأستاذ،كُليب التلميذ في راحته كطائرٍ وهو يهمهم: حسناً،هذه معلومات هامة عنك .وسمعه هو ،وشعر لأول مرةٍ أنه بدأ يتقن عملية انتزاع الأفكار من أدهان الآخرين، فحداه نفس الإحساس الذي يحدو طفل،تعلم السباحة لأول مرة. واُنتهى الأستاذ من تصفح جميع تمارين التلاميذ وعاد إلى المنصة وبدأ يتكلم بصوتٍ مرتفع: حسناً...معظم تمارينكم كانت في المستوى، إلاّ أن أحسن تمرينٍ هو كليب بوجا،الساحر ابن الساحرة.إنه يشبه أمه. وغضب بوجا وثار لأول مرة وهو يقول : احرس لسانك،فأنت تعلم أن أمي من العامة، والسحر هنالك محظور .وأكثر من ذلك أن أمي لا تتقن حتى طهي الخبز، ومعظم مشاكلها مع أبي كانت تدور حول طعامٍ لم يُطهَ بطريقةٍ جيدة. وصفق الأستاذ راحته مع مكتبه بقوه وصار يتكلم بصوتٍ خشن وهو يضغط على الحروف اللثوية: صه بوجا . فأمك سحَّارة ماهرة . وتركت هذه العبارة ألف علامة استفهام في ذهن التلميذ، وتذكر الأستاذ موضوع النقود وسار نحوه، وبدأ يتفحص الجسم السحري الذي كان يعاركه، فلأولِ مرةٍ استطاع تلميذ أن يهزم هذا المخلوق ، فهو من أشرس المخلوقات التي يحتوي عليها متحفه .غير أن الأستاذ أضمرَ هذه الحقيقة وهو يخاطب بوجا: حسناً لقد أهزمته لكن عليك ألاّ تصاب بالغرور، فهو ألطفَ مخلوقٍ أملكه، وإذا حدت وقمت بمخالفة ٍأخرى،في الحصص القادمة ،فسأعاقبك بما هو أشق.... وبدأ يسأل الجسيم المكلف بالتحقيق: وأنت هل توصلت...؟ رد الجسيم السحري، بصوت كراكيزي والتلاميذ ينصتون: نعم سيدي، الأموال التي بحوزة هذا العامي، أموالٌ خالصةٌ وغير مزورة إلاّ أنه يقول:إنه أخذها كهبةٍ من ملاك وهذا ما.يتنافى مع أقوالها .فهي تنفي حتى أنها كلمته خارج القاعة... وبالتالي يمكننا التسجيل على أن الأموال التي بحوزته هيَّ أموال مسروقة .وإذا ما رفعت دعوة بالسرقة. فسيكون صديقنا أول متهم في الموضوع.
7 بوجا؟ استيقظ هذا الصباح، على وقع حدثٍ مفاجئ، والأمر يتعلق بكتاب "الكواكب السيارة"الذي كان ينتفض،ويرتفع بضع ياردات ويقع على رأسهِ وهو ممددٌ فوق سريره. وحَمِد اللهَ حمداً كثيرا، لأن هذا الكتاب لم يكن ثقيل الوزن مثل الكتاب الأول، وإلاّ لكان رأسه الآن قد تهشم ، وبدأ يبحثُ عن سبب هذه الانتفاضة ففتح الكتاب لعله يجد شيئاً يفسر به الأمر فشرع يقلب الأوراق ورقة تلوى ورقه. حتى وجد موضوعاً وسار يقرأ: يقول الساحر موغا:" في قلعتنا السحرية كانت الكتب قديماً تتكلم بمفردها، دون أن تكون لها صور بشرية، إلاّ أنها كانت تحدث ُ مشاكل كثيرة من إفشاء للأسرار وغيره.. فاجتمع مجمع السحرة واتفقوا أن يمارسوا تعويذة أبدية تجعل الكتب بكماء، إلا أنهم تركوا فرصة للسحرة الموهوبين... في كل كتاب أربع كلمات من استطاع أن يضع عليهم إصبعه بالتتابع سيكلمه الكتاب وسيجيبه عما يريده . شغل حاسوبه بسرعة وأراد أن يتعرف على جميع الاحتمالات الممكنة،إلاّ أنها كانت كثيرة، واحتمال إيجاد هذه الكلمات، مثل احتمال تركيب رقم هاتف أحد الأصدقاء والعثور عليه بالصدفة، فطن إلى محاولة التعرف على الكلمات بواسطة الحدس.. بدأ يجمع شتات ذهنه وهو ينظر على الكلمات..وأخيراً همس الكتاب بخفوت : سيدي، لقد انتهت مدة استعارتي . واتجه التلميذ نحو الدولاب، وهو يتأرجح بين الفرحة والحيرة ، وبدأ يبحث عن ورقة الاستعارة ويرد على الكتاب : لا لا ...هذا غير صحيح. فالجسيم قال :إنه أعاركَ لي لمدة خمسة عشر يوماً.لم يمر منها حتى الآن سوى أسبوع . وغضب الكتاب وبدأ يعبر عن سخطه لتكذيب بوجا له.غير أن هذا الأخير وجد ورقة الاستعارة ،وأضحى يهمهم: أنت على حق يا أبالكواكب. وتابع الكتاب كلامه وهو يضحك: إدا تأخرت عن إرجاعي بساعةٍ أو ساعتين، فإنك ستعاقب عقاباً عسيراً. وأدركه الوقت، وتذكر عندما قال له الجسيم بأن هذا الكتاب يستطيع العودة بمفرده ، ففتح له الباب وطلب منه الإسراع إلى الخزانة وأن يخبر الجسيم... ودخل هو لدورة المياه. و لأول مرة أبصر تلك الكلمات التي كانت مُشخبطةٌ على الحائط،والتي يبدو أن بعض التلاميذ الدين سبق لهم أن قطنوا بهذه الحجرة،هم الذين كتبوها، شُخْبِِطت كلماتٌ كثيرة، لم يستطع أن يقرأ منها سوى : آه ثم آهٍ من صرامة ضفدوعة، ومكر حربوء، وعدوانية صنوع ، ومن قوة تلك اليد المشرفة على الخزانة. وخرج من دورة المياه على عجلٍ، ثم دلف إلى الحمام،وبعدها اتجه نحو المطبخ فوجد كأساُ من الشاي يعود للبارحة ، فرشف منه رشفة باردة وخرج مقتفياً أثار كتابه وهو يتذكر المتاعب التي عاشها معه طيلة هذا الأسبوع فعندما تحل ساعة المريخ الذي له فعل الحروب ومنعها،وإشعال النيران وإخمادها، فإن الكتاب ساعتئذٍ، يشرع في إضرام النار في الحجرة ،وفي كتب الخزانة، وقد كان الولد يجد صعوبةً في صده عن ذلك وإطفاء النيران، وعندما تحل ساعة الشمس،ينشر الكتاب أضواء زائدة حتى أن عيني بوجا،تكادان تنفقعان،رغم ترديده لتعاويذ تضييق البؤبؤ والطامةُ الكبرى هي عندما تحل ساعة الزهرة،وهي ساعة الحب .وفيها يسهب الكتاب في البكاء والنحيب والسبب هو أنه مغرمٌٌ في رواية "ماجدو لين" حتى النخاع، وكان بوجا قد فهم بعض حركاته، وفتش خزانته الخاصة عن آخرها، بحتاً عن الرواية الرومانسية المذكورة، ومد له قصة "الجنية عيشة" وطفق يُحاول إقناعه بأن عيشة أجمل من( ماجدو لين )،إلاّ أن الكتاب ظل غاضبا ويرغب في تمزيقِ نفسه . تابع بوجا طريقه ،وصل إلى الرصيف المحاذي للأشجار الضاحكة ،وهو يفكر في الساعة التي يمكن للكتاب أن يكون قد مرّ فيها من هنا .فلو كان قد مر في ساعة القمر مثلا،والقمر سعْدٌ مع السعود ونحْسٌ مع النحوس، فإن الكتاب سيشرع في القهقهة مع الفواكه الضاحكة وسينسى المسئولية التي كلفه بها، وسار مقتفياً أثر أقدامه. بواسطة أداة كشف الأثر التي صنعها في مادة "صناعة..." .وفجأةً اختفى أثر الكتاب، ولم تتجاوز هذه النقطة بالضبط. وشك بوجا في أن إحدى الحفر قد تكون ابتلعته. وحوّل عينه اليسرى إلى مجهر للبحث عن الشقوق الدقيقة التي يمكن أن تذله إلى فوهة الحفرة وفعلاً وجد أن الحفرة السابعة والسبعون قد ابتلعت الكتاب . احتقن وجهه ،واجتاحته الحيرة والدهشة.وعزيمته تتأرجح بين الارتماء في الحفرة بحثاً عن الضالة،أو مواجهة عقوبة الخزانة كيفما كانت .وأخيراً قرر القرار الأول،فتح الحفرة وألقى بنفسه فيها .وبدأ يضاعف من وزنه كي يدرك الكتاب بسرعة .فعمق هذه الحفرة غير محدودٍ.وازداد الظلام وبدأ يعتم عليه الرؤية.فكر في تعويذة تقوية العين على اختراق الظلام.إلاّ أنه لم يسبق له أن روّض باحَّة بصره على تغطية المدار السحري للعين. وبذل ذلك،فكر في إشعال القناديل المعلَّقة على جوانب الحيطان .إلاّ أنه وجد صعوبة كبيرةً .فرغم أن الشرر كان يتطاير بين ظفري إبهاميه،ورغم أنه الآن يشمُّ رائحة أظافره تحترق.إلاّ أن النار كانت تنطفئ بسرعة . وأخيراً رمق على وميض الشرر شيئاً شبيهاً بكتابه.غير أنه لم يستطع التوقف.ظل ينزل وينزل...وهو يردد جميع التعاويذ،وبضربة حظٍ صادف التعويذة التي تهمه .فوقف في الهواء كأنه يقف على سطحٍ غير مرئيٍ .وبدأ ينظر للأعلى وهو يسمع جلبة أصواتٍ تختلط: - إنه كتابي أنا... كلاّ أنا أول من رآه لذلك فهو لي .- بلْ أنا من وضعتُ عليه يدي.- اخرسوا قانون الملاحة الإسباني القديم ينص على أن من رأى ضالة فهي له.- وقانون "حمورابي"....كان الأمر يتعلق بخمسة عفاريت من قاطني الحفر، والذين كانوا يتخاطفون الكتاب فيما بينهم، مثلما تتخاطف النسور عصفورا في السماء شعرا لتلميذ بإحساس غريب، وبدأ الحنق يترهّل في فؤاده،والرِّعدة تعتريه من أخمص قدميه إلى أعلى رأسه،فالكتاب يكاد يضيع،وهو شخصياً لم يسبق له أن خاض مبارزة مع عفاريت الحفر. فكر مقتفياً معنى أحد الأبيات الشعرية،إدا لم يكن من الموت بد فمن الأفضل ألاّ أموت جبانُ أرجع يمنى يديْه سيفاً،ويسراهما ذرعاً.وردد تعويذة حماية الجسم من عفاريت الحفر.واستحضر قواعد المُسَايفة كما قرأها في بعض كتب الساموراي.ووجه نداءاً على شكل صرخة: إنه كتابي أنااااااااا. فابتعدوا عن الكتاب وبدءوا يستعدون للقتال، ويوحِّدون أنفسهم ضد هذا الدخيل الغريب . ووعى ذلك وهيأ لسانه لخياطة الجروح التي يمكن أن يصاب بها. وشرعوا يتبادلون الضربات. أسفل،أعلى، أيسر...وألحقوا به جروحاً كثيرة إلاّ أنه كان يخيطها بسرعة.كانوا يعتنقون مقولة:الهجوم أحسن وسيلة للدفاع.أما هو فسلك مسلك الجَلَد والحفاظ على الطاقة،كآليةٍ لإعياء العدو. بدأ يُلحق بهم جروحا بليغة، وهم ينصرفون واحداً تلوى الآخر.نظر بوجا إلى يدي العفريت الوحيد الذي بقي صامداً.وجدهما زئبقيتان.استرجع ما قاله الأستاذ صنوع لملاك حول المخلوقات الزئبقية .فحاول أن يقربه من أحد القناديل السحرية ذاب الزئبق وانهزم العفريت. وتفحص الكتاب ،فوجده ممزقاً.وخطرت بذهنه هلوسة:هل ستأتي ملاك مرةً أخرى، وتعطيني نسخة من....وبدأ يعاتب الكتاب عن سقوطه في هذه الحفرة.إلاّ أن هذا الأخير رد ّبصوت مبحوح: أنا لم أرها أبداً.كما أنها لا تفتحُ في هذه الساعة التي فُتِحتْ فيها.لا شك أن هنالك عدوٌ يريد الإيقاع بك.لاشك أن هذا العدو هو الذي فتحها عندما اقتربت منها . وتأبط الكتاب ،وبدأ يصَّعد في اتجاه الفوهة.إلاّ أنه وجدها مغلقة. وبدأ يفكر في سبل الخروج: لا شك أنها ترتبط مع حفرٍ أخر ببعض الأنفاق.لا بد أن تكون بعض الحفر –الآن- مفتوحة.إذا استطعتُ إيجاد النفق المؤدي إلى حفرةٍ مفتوحة، سأنجح في الخروج.وبدأ يبحث مستخدماً جميع الإمكانيات التي تعلمها.ووجد نفقا غير أنه تذكر مشكلةً أخرى فبدأ يُهمهم: أمْمم .. إذا خرجت من إحدى الحفر ووجدْتُنِي بالمتحف السحري أو ببيت المال، فإنني سأتهم بالسرقة .... وتمعن في الأمر ملياً. وفتح الكتاب لعله يجد شيئاً ينتفع به. كانت الكلمات تحلق فوق رأسه كسرب نحلٍ.بسبب خوفها من العفاريت.وبدأ يضرب الكتاب بسبَّابته، ضربات خفيفة. والكلمات تعود لأماكنها شيئا فشيئا.وأخيرا وجد فقرة بعنوان"كيف تتفادى الحفر"وبدأ يقرأ: الحفرة كذا وكذا تفتح يوم كذا وكذا ساعة ...وتأفف غضباً وهو يردد: أنا أريد كيف أخرج من الحفر،وليس كيف أتفادى الوقوع بها...بطبيعة الحال لا يمكننا تفادي شيئاً نوجد بداخله. وبدأ يقلب أوراق الكتاب وهو يقول في نفسه: فعلاً يا أبا الكواكب فأنت على حق لاشك أن هنالك عدوٌ يعمل على إحاشتي إلى كمين ما (وتنهد) فهذه الحفرة لا تفتح في هده الساعة .واستوقفه العنوان الضالّة ''كيف تخرج من الحفر'' وبدأ يقرأ: يرتبط كل ثقب مع الثقوب الأخرى بأربعة أنفاقٍ.كل نفق يتجه نحو جهة من الجهات الأربع إذا استطعت تحديد الشمال فاتجه نحوه .فجميع الحفر الشمالية تؤدي إلى حديقة المدرسة. وتذكر البوصلة فرغم أن الأستاذ حربوء لم يعلمهم كيف يصنعونها.فإن الأستاذة ضفدوعة كانت قد حدثتهم عنها :إذا تعلمتم كيف تحوِّلون أعضاءكم إلى أدوات فلا تنسوا البوصلة إنها تنقدنا أحياناً من موت مؤكد. لقد صنعها إلاّ أنه أهمل الرقم الذي خزنها تحته.وذلك لقلة استعماله لها. وبدأ يردد التعاويذ والأرقام.وأصابعه تتحوّل إلى أدوات ثم ترجع إلى حالتها الأصلية بسرعة.كل ذلك بحثاً عن البوصلة. وجد نفسه بالحديقة بعد عذابٍ مرير .فشرعت الفواكه – لتوها- تقهقه عنه.إلا أن الساعة كانت ساعة زحل وهو نحس محض.وبالتالي فالكتاب كان يفجر كل رمّانة اشتهت القهقهة.لتتطاير حباتها في الأرض كشظايا البلور المكسور.وسار مسرعا في اتجاه الخزانة. وقد تجاوز المدة المحددة له بساعتين. وبدأ يحوِّل قدميه إلى قبقابي انزلاق،اختزالاً للوقت .إلاّ أنه سمِع وقع أقدامٍ تقترب من خلفه. وشعر بجسمه ينتفخ،فعرف أن الأمر يتعلق بالأستاذ عبقور،ربت هذا الأخير على ظهره،وهو يسري على ارتفاعِ قدمٍ عن السطح، وبدأ يُكلمه : ها أنت قد وصلتَ ما قلتهُ سابقاً..لقد قلتُ للتلاميذ إنك ستواجه مشاكل كثيرة. كان من الأفضل لو بقيت َبعالم العامة.فقد نشرت جريدة"السحر الأسود"نبأً جاء فيه أن الأستاذ حربوء وضع شِكاية لدى الضابطة القضائية. يقول فيها إنه تعرض لسرقة.وفي هذه الحالة كنتَ أنت المتهم الوحيد. فبالإضافة إلى الشاهدة ملاك وقرائن أخرى...فالجسيم العامل بالخزانة يشهد أنك صرحت له بأنك لم تعد في حاجة إلى كتب الخزانة .مع العلم أن ثمن هذه الأخيرة مكلفٌ جداً.وأكثر من ذلك،فالكاميرات السحرية بالخزانة كانت مشغَّلة.وهنالك قرص يثبت صحة شهادةِ الجسيم . أجاب بوجا وعيناه تفيضانِ بدموعٍ زئبقية اللون : سيِّدي لقد علمت أني ما جئتُ هنا لأسرق.أنا لم أسرق شيئاً صدقني إنها تهمة، تهمة....وارتفع صوته وهو يردد هذه العبارة الأخيرة عدة مراتٍ، وانتبه إلى أنه يُحاور أستاذهُ.فانحنى حتى كاد يلامس الأرض. وردَّ عبقور بصوتٍ خفيض: أنا آسف لذيّ انطباع قويٌّ بأنك بريء.غير أن هؤلاء السحرة لا يؤمنون إلاّ بالأذلة. والتي كلها ضدك .آسف فمثلاً من الصعب على أيّ ِشخص أن يقلد صورة ملاك وينتحل شخصيتها.فوالداها يأخذانها كل سنة لأكبر صالون في التجميل السحري. وتقام لها عمليات التجميل تلك في أوضاعٍ فلكية دقيقة،ويسهر عليها سحرةٌ مهرة.إذن من البلادة ألاّ تميِّزها عمن تشبه لك بها.(صمتَ قليلاً) حسناً يمكنك أن تجمع أيَّ ذليلٍ تراه في صالحك.إن الأستاذة ضفدوعة ندبت نفسها للدفاع عنك إنها خبيرة عملاقة في التحري أتمنى أن يُحالفكما الحظ رغم أن جميع تنبؤاتي – بخصوصك - غير سارة وتندر بالأسوأ. وربت على كتف بوجا من جديد .واختفى بين التلاميذ الذين كانوا ينتفخون بمجرد ما يمر قربهم إلى درجة أن أزرار ملا بسهم كانت تتساقط كالبَرَد. اقترب بوجا من الخزانة المدرسية، وانتابه نفس الشعور ،الذي انتابه في المرة السابقة . غير أن الجسيم، دنا منه وصافحه وهو يبتسم ، فأحس كأن الجسيم انتزع منه أحد أصابعه ، إلاّ أنه تفحص يده فوجدها سليمة . وبادر إلى الاعتذار: سيدي أعذرني عن تأخيري لهذا الكتاب .لقد كنت أظن أن مدة استعارته تصل خمسة عشر يوماً، كما قلت لي. غير أنني فوجئت هذا الصباح،عندما وجدت أن المدة لا تتجاوز أسبوعاً واحداً. ورد الجسيم مستجمعاً كل قواه : أأنتَ بليد أم أحمق؟. الكلام الشفهي يتطاير كالغبار ، نحن هنا لا نؤمن إلاّ بالكلام المدون. كان عليك أن تنتبه إلى التاريخ المدون على ورقة الاستعارة.. حسناً لقد عاد الكتاب بمفرده .انظر إنه بالجناح السابع . اعترتهُ رعدةرمن أخمص قدميه حتى أعلى رأسه . وبدأت أسنانه تصطك وهو يُجيب بصوتٍ مشروخ: عفواً سيدي...إنه لم يعد بل تعثر في الحفرة السابعة والسبعون، وقد ارتميت ُبها بحثاً عنه.لقد استخلصته بعد صراع مرير. وانتفض الجسيم وصار يتكلم بصوتٍ أقوى: بوجا.. إذا سرقت تلك النسخة من مكانٍ ما ،فمن الأفضل أن تبحث عن مبررات مقبولة. فالحفرة السابعة والسبعون لا تنفتح هذا اليوم . اُنظر إلى خريطة الحفر إنها مرتبطة بالأوضاع الفلكية.. ولو هبنا أنها فتحت وألقيت نفسكَ فيها.فلن تخرج منها أبداً.إن الحفر شبكة تحتية من الثقوب والمتاهات المترابطة فيما بينها.وكل باب من أبواب هذه الشبكة يفتح بتعويذة سرية . فحتى قراصنة التعاويذ والشفر،يستغرقون وقتاً طويلاً في الخروج منها . إِي بوجا من الصعب عليك الكذب في القلعة السحرية .هيَّا خذ 8 مادة الإنترنيت السحرية. ما فتيء التلاميذ يدخلون إلى قاعة الأستاذ حسُّوب، الذي يُدرس مادة "الإنترنيت السحرية"، ويرتدون منظارات لرؤية الأشياء البعيدة،وللرؤية من خلال الأجسام المعتمة والجدران ، ويضعون أمامهم تمارين الحصة الماضية.حتى أخد الأستاذ حسوب فأرة حاسوبه وشرع يبْعِد بها الطاولات عن بعضها، ويحوِّل هذا التلميذ من مكانه إلى مكانٍ آخر.ووصل الأستاذ بسهم حاسوبه قبالة شيطا،وضغط على الفأرة فبقيت هذه التلميذة جامدة مكانها كالتمثال ،وفمها مفتوح كسمكةٍ خرجت من الماء لتوها، وتمتم حسوب:هذه أفضل وسيلة لإسكات المشاغبين..ستبقين هكذا طيلة هذه الحصة. فدروس اليوم معقدة وتحتاج إلى التركيز،ولا بأس إذا ضحينا بتلميذةٍ من أجل خمسين تلميذاً. واقترب السهمُ من بوجا وخشي بدوره عقوبةً ما.غير أن كل ما فعله الأستاذ هو إبعاده للطاولات والتلاميذ من قربه، إذ لم يبق بجانبه سوى صديقهُ عاشور الذي أثار ذلك حفيظته وبدأ يحتج : أستاذ إننا لا نعاني من أي مرض معدٍ..فأنفلونزا الخنازير أصبحت في مزبلة التاريخ.... ونظر الأستاذ صوبه وهو يذبذب أذنه بسبَّابته، حتى أن هذه الذبذبة لم تخمد إلاّ بعد دقيقة عن كفِّه عن ذلك. وانطوى عاشور على نفسه، إذ لم بوسعه الدخول في مناوشات مع الأستاذ ولم يشغل حسوب نفسه بتبرير سلوكه. وفهم التلاميذ أن قضية سرقة بوجا للقطع الذهبية،هي التي جعلت الأستاذ يبعده عنهم.لاعتقاده أنه يمكن أن يسرق مرةً أخرى.وبدأت ملاك تهتَزُّ وترتعش بكرسيها، وسلّت يدها من جيدها ،فبدأ جسمها يهدأ رويداً رويدا والهزاز يتحول نحو ذراعها،وأخيرا لم تبق سوى راحة يدها التي ترتج وبدأت تقرأ في كفها وتتكلم بصوتٍ مسموع: لم يجدوا من رسائل هاتفية هذا الصباح سوى أن بوجا متهم بسرقة أستاذه . وفيما بعد بدأ جميع التلاميذ يرتجون ،وكلٌّ منهم يردد بعض التعاويذ على راحة يده ويقول : لقد عرفتها.. عرفت أن قضية بوجا ستصبح شهيرة . وبقيت شيطا وحدها تهتز كأنها عقرب ساعةٍ يتحرك بمكانه .وزاد ذلك من قهقهة التلاميذ الذين انتبهوا إليها مؤخراً وخطى الأستاذ نحوها وهو يقول: يتعذر الآن الاتصال بمخاطبكم . والتلاميذ يقهقهون بشكل أقوى إلاّ بوجا الذي بدا منشغلاً بوضعيته الجديدة وسعل الأستاذ، استعداداً للشروع في الدرس وهو يحاول جاهدا أن يتغلب عن الرغبة في الضحك واستعاد التلاميذ جديتهم،إذ كانت هذه المادة محبوبة لديهم ، فهي تنتمي إلى صنف السحر المعاصر، وتُتيح إمكانيات جديدة لتطوير القدرات السحرية.وحوّل الأستاذ حائط القاعة إلى شاشة حقيقية ثلاثية الأبعاد حيث بدأت تظهر كأنها نافذة كبيرة منفتحة على مشهد بيئي، يمكن لكل تلميذ أن يعبرَ من خلالها إلى ذلك المشهد.وبدأ يمسك فأرة الحاسوب وهو يتكلم: هذا هو الأسبوع السادس عشر،لقد تعلمتم في الحصص السابقة كيف تشاهدون تاريخ أبائكم وأجدادكم ..مسجلاً في أقراصٍ سحرية. وتعلمتم كيف تتعرفون على أعدائكم . سوف أتمثَّل على ذلك بالتلميذ بوجا . إنه مطلوبٌ للنمرود شرار.الذي يستطيع القضاء عليه في أية لحظة لولم يحْتمِ بقلعتنا، حيث هنالك اتفاقية عدم الاعتداء الموقعة بيننا وبين مملكة النمرود... إنها مسألة ثأر سلالي..لقد تمكن السيد النمرود من القضاء على عائلة بوجا، حيث لم يبق منها سوى هوّ.وفي أحسن الأحوال هو وأمه التي اختفت بعام الضفادع ولم يُعثر لها على أثر لحد الآن، وللأسف الشديد استقدمته قلعتنا لحمايته،وتعليمه كيف ينجو بنفسه.غير أنه بدأ يسرق ويُزوِّر.. السارق الجبان لا يسرق إلاّ من منزل والديه. وبدأ التلاميذ ينظرون صوب المتهم وهو يسمع وشوشتهم، وهم يتناولون قضيته من وجهات نظر متباينة. فشعر بمعدته تتحرك كما لو توجد بداخلها قنافذ وبدأ يسمع نبض قلبه وضرب الأستاذ مكتبه بسبَّابته\ العصا وهو يتابع الدرس بصوتٍ مرتفع: اليوم سنتعلم كيف نستحضر شيئاً ونجلبهُ، بواسطة الإنترنيت السحرية، انظروا لديَّ عدة نوافذ،سوف أتجه نحو نافذة الاستحضار. وضغط على الفأرة غير أنها عضته،وبدأ يتأوه ويخيط جرحه بلسانه :آهٍ لقد نسيتُ تعويذة تنويم الفأرة .وهمهم: هاهيَّ لائحة الاختيارات،إنها طويلة جداً: إحضار عدو جلب كتاب جلب الكنوز أو التعرف على ... وليست كل هذه الاختيارات في متناولنا فبعضها محظور.والبعض الآخر يحتاج إلى تعاويذ سرية ومعقدة. سوف نتمرّنُ إذن على طريقة جلب كتاب ، تابعوا معي على الشاشة، هذه هي خريطة المدرسة ، سأتجه نحو قاعة الخزانة، للدخول إليها يجب أن نعرف كلمة السر وللأسف الشديد هذه الكلمة تتغير كل ساعة،علي أن أعود إلى الذليل السري للخزانة... حسناً ها أندا دخلت الخزانة. تلاحظون معي لائحة اختيارات طويلة: - كتب السحر القديم - كتب سحر المستقبل. – السحر بالأعداد والطلاسم والأوفاق... حسناً سوف أختار كتب المستقبل، تشاهدون أن لائحة الكتب طويلة جداً، لذلك سأستعمل تعويذة الإلهام السحري، فهي تجعلني أجد الكتاب الذي أبحثُ عنه دون أن أتكلف عناء ذلك.انظروا إنه كتاب "الكواكب السيَّارة".إنه الكتاب الذي كنت أبحث عنه. وبدأ بوجا يرتعد بمكانه إذ خشيَّ أن يكون الجسيم قد أخطأ في شيء ما وترك الكتاب معه، وتابع الأستاذ كلامه وهو معجبٌ بنفسه كأنه حقق معجزة: ياللفاجعة.. إنها مفاجأة سيئة، هاهو الأستاذ صنوع بدوره، أرسل مخلوقاًً سحرياً يبحث عن الكتاب نفسه، انظروا إلى هدا المخلوق إنه يعبث بكتب الخزانة ، لاشك أنه سيفسد ترتيبها، ولا شك كذلك أنه يرتدي قبعة الإخفاء، فالجسيم لم يرهُ حتى الآن .لكنه سيشك في وجوده إذا ما استمر في تقليب الكتب بهذه الطريقة ..حسنا علينا أن نعجل بإحضار هذا الكتاب وإلا سبقنا إليه الجسيم . وبدأ التلاميذ يتشوقون إلى إحضار هذا الكتاب بسرعة.وإلى متابعة أحداث هذه المنافسة .وتنهد الأستاذ وهو يضغط على الفأرة مغتاظا : ألم تنتبهوا إلى المتنافس الثالث إنه الأستاذ حربوء، ياللعار إنه يستعملُ تقنية نسميها:" الإحاشة بالتداعي الحر"، فمثلا سيأتي ساحر ويطلب كتابا ما، وسيمارس الأستاذ حربوء على الجسيم تعويذة تجعله يعتقد أن ذلك الساحر قد طلب منه كتاب "الكواكب السيارة".وسيمده إليه غير أن ذلك الساحر سيقول له : أنا لم اطلب منك هذا الكتاب.وسيقع بينهما شجاراً،سيهمل على إثره الجسيم الكتاب فوق المكتب.وسيحوله حربوء إلى كرة،تتدحرج من على المكتب إلى الرصيف.وسيأتي تلميذ عابر وسيشرع في ركل الكرة\الكتاب وهو يتجه في اتجاه القاعة التي يوجد بها الأستاذ .وعندما سيصل هذا التلميذ مفترق الطرق،ويرغب في السير في منحَى آخر.سيركل الكرة وسيجدها ثقيلة ،وسيتركها بمكانها .وسيحولها حربوء إلى وردة ،وتأتي فتاة عابرة وتجد الوردة أمامها وتأخذها وتشرع في شمها،زامعةً إهداءها إلى إحدى صديقاتها وعندما ستقترب من قاعة حربوء ستجد أن رائحة الوردة أضحت كريهة وستتركها أمام باب قاعته ليخرج هو ويأخذها ويرجعها إلى شكلها الأصلي. وتأفف الأستاذ حسوب وهو يتابع كلامه وينظر إلى الشاشة:يا إلهى لا أظن أن النسخة المطلوبة موجودة بالخزانة ..حسناً سأكبل المخلوق السحري الذي أرسله صنوع وسوف أمارس تعويذة عن بُعد تَشُلُّ إحاشة حربوء. وهمهم وبدأ ينظر إلى التلاميذ الذين كانوا يحملقون فيّ الشاشة ، ثم قطَّب حاجبيه وتابع كلامه: أمممم.. هاهي الأستاذة( ضفدوعة) بدورها تبحث عن هذا الكتاب ليس من الصدفة أن نبحث عن نسخةٍ واحدة في وقتٍ واحد. وفجأةً خرج (بيرس) السحري من محفظة بوجا وبدأ ينبح عنها، كأنه يدل الأستاذ لما يوجد بداخلها، واقترب منها هذا الأخير،وبدأ يفتحها ويداه ترتجفان من الخوف، ووجد بها الكتاب المبحوث عنه.وبدأ يتكلم بصوتٍ مرتفع:هاهو البليد قد سرق كتاب الخزانة، لقد استعمل صنوع تقنية البحث الشامل إذ جعل جميع الأجسام ،التي صنعتموها عنده، تشتغل لصالحه ضدكم . هاهو (بيرس السحري)الذي صنعه بوجا بنفسه، يكشف عن هذه السرقة ويفضحها، اللَّعنة السارق لا يستطيع الإقلاع عن عادته. وبدأ الولد يبكي ويستعطف: إن الجسيم هو من قال لي: إن الكتاب قد عاد بمفرده إلى رفِّه بالخزانة ، إنه أبى أن يأخذه مني ، أنا بريء ،أنا بريء... ورجع الأستاذ نحو فأرة الحاسوب وبدأ يتكلم بامتعاض: سوف أريكم ذليلاً قاطعاً يفضح هذا السارق الكذاب هاهو سِجِل الخزانة ،وهاهو توقيع هذا البليد، إنه وقع على أنه استرجع الكتاب ، فهل أرغمه الجسيم على ذلك؟. إن التوقيع حديث فالحبر لازال رطباً، لنتأكد من البصمات ،حسناً إنها بصمات إبهامه. وأجهش بوجا في البكاء،وعيناه تدوران في محجريهما، غير أنه بدأ يجفف دموعه ويتظاهر بمظهر من لم تؤثر فيه الأحداث،وكان جهبور في الصف المقابل يحتجُّ مدافعاً عنه ، إلاّ أن الأستاذ أسكتهُ وتابع كلامه وهو يبتسم: أرى أنه لابد من إبلاغ الوزارة بالقضية. بيد أنه عندما اتجه نحو محفظة بوجا لم يجد الكتاب المذكور، فبدأ يفتش جميع أركان الحجرة ، وهو يذرعها جيئةً وذهابا، ويتكلم بصوتِ من يُحاول إقناع نفسه:يا إلهى من سرقه؟ .أين اختفى ؟. لستًُ من العامة لكي أدخن سيجارة في مثل هذه المواقف. وأخذ فأرة الحاسوب من جديد، وظهرت رفوف الخزانة على الشاشة ، فشاهد الكتاب وهو بمكانه بأحد الرفوف، واشرأبت وجوه التلاميذ صوب الشاشة، وصار هو ينتفض ويتكلم بهستريا: واغوتاه سأصاب بالدوار.. ستتهمني الوزارة بالتبليغ الكاذب. وبدأ يبحث عن أدلة تثبت، فقط ، أن الكتاب كان بمحفظة التلميذ، فمن المفترض أن يُمارس على (بيرس) السحري ،تعويذة الاسترجاع، فيلاحظ صورة الكتاب على بؤبؤي عينيه ، لكنه عندما فعلها لم ير صورةً تذكر، كما لو أن أحداً مسحها من عيني هذا المخلوق السحري، وشهادات التلاميذ تعتبر كافية،فلو أن أربعة منهم اثبتوا رؤيتهم للكتاب لكان ذلك ذليلا مقنعاً بالنسبة للوزارة، بيد أن لا أحد منهم استطاع أن يجزم في ذلك ، وأقوى الشهود يعتقد،فقط، أنه رأى شيئاً أسوداً. مع العلم أن لون الكتاب يتغير في كل ساعة، تفاعلاً مع الكواكب. وهذه الساعة الزُّحليةَ تقتضي أن يكون لونه أحمراً قرمزياً. ثمَّ إن كتاب "الكواكب السيارة" له خصائص كثيرة، فإذا مرّ من مكان ما، فإن رائحته تبقى بهذا المكان أزيد من نصف يوم. فالحبر الذي كُتِبَ به محضرٌ من القطران، وعندما استعمل الأستاذ حسوب تعويذة البحث عن الروائح . لم يجد أيَّ ذليلٍ يثبت أن رائحة القطران كانت هنالك، ولا أحد من التلاميذ استطاع أن يُؤكد أنه شمها ، لا من قبل ،ولا من بعد، لا عن بعد ولا عن قرب، وهذا يعني أن أحداً غسل أدمغتهم وشطب المسرح من جميع الأذلة. وأخيراً ، وهذا الذليل ضد الأستاذ نفسه، فآخر كتاب استعارهُ بوجا معروف بمعاداته للكتاب المذكور ولو هَبنا أنهما كانا معاً بمحفظةٍ واحدة، لحدث أن مزّق أحدهما الآخر خاصّةً في هذه الساعة بالضبط. بدأ الأستاذ يسير في القاعة كيفما اتفق، وهو في حيصَ بيصٍٍ من أمره، وكانت شيطا قد انفلتت من لعنة التسكين التي مارسها عليها في بداية الحصة، وشرعت تتسلّى بمضغ دودةِ قزٍّ كعلكة، فكر وهو يدعك أرنبة أنفه بين إصبعي يمناه: كيف لي أن أكذِّب شيئاً رأيته بأم عيني... سأصاب بالجنون إذا لم اعثر على أي ذليلٍ يثبت ادعائي .وصار يتكلمُ بصوتٍ أكثر ارتفاعا: لاشك أن هنالك ثلاثة احتمالات:فإما أن يكون بوجا هو من أرجع الكتاب إلى الخزانة، ومحا جميع الأدلة من المسرح...أممممم لا اعتقد أن تلميذاً سيفعل كل هذه الأشياء،مهما تفتقت عبقريته، إذن سيكون هنالك من يساعده عن بُعد.. حسناً سأحتفظ بالاحتمال الثالث لنفسي. واتجه نحو بوجا كما لو خطرت بباله فكرة ستحُل المشكلةوتساءل: أنت قلت لي :بأن الكتاب كان معك ...وبأن الجسيم لم يشأ أخده منك . وانتفض بوجا غاضباً، كأن ساحراً يملي عليه ما يقوله : أنا لم أقل لك شيئاً من هذا القبيل هل فقدت عقلك؟. والتفت الأستاذ نحو التلاميذ يطلب شهادتهم :ألم تسمعونه عندما قال لي... واختلطت جلبتهم وهم يردون: ها ها ..نحن لم نسمع شيئاً. لاشك أنك جُنِنْتَ، فأنت تطلب منّا شهادة زور . وزادت شدة غضب حسوب حتى صار أنفه أحمراً كسكينٍ وضع على اللّهب، وهمس بتعويذة تتيح له مضاعفة قوتي تركيزه وتفكيره مائة مرّة. وهي تعويذة لا يمارسها الساحر أكثر من مرةٍ في حياته، فالتكرار من استعمالها له عواقب وخيمة على الصحة. واتجه نحو الحائط المقابل وهو لا يدري ما يفعل..ومرر يده على الحائط.فظهر هاتف تابت بنيُّ اللون. ورفع السماعة بيديه المرتعشتان، وبدأ يُهاتف الجسيم: ألو ،ألو ..هل تسمعني ؟ إنني في ورطة... وردّ الجسيم بصوتٍ مشروخ بعدما سمع جميع تفاصيل القصة:عفواً صديقي فهذا ما فعلته تماماً ويا للتعاسة،لقد بلَّغت الوزارة بأن بوجا سرق الكتاب المعني ، وأعددت تقريراً مفصلاً في الموضوع، إلاّ أنني عندما أرسلت تقريري للوزارة،وعدت أدراجي وجدت الكتاب بمكانه، وأكثر من ذلك فأنت تعلم أن هنالك كاميرات سحرية ها هنا، تسجل كل ما يحدُث بالخزانة، عندما عدت إلى ذاكرة الكاميرات وجدت أن الكتاب ظل مرابطا ًبمكانه طيلة هذه المدة،وأكثر من ذلك فهذا الكتاب يهتم بتدوين سيرته الذاتية بشكلٍ دقيق، وعندما رجعت للورقة الخاصة بهذا اليوم وجدته قد كتب أنه ظل هنالك، منذ أن سلمه بوجا إليّ؟.. آهٍ إنني أشعر بالغثيان. وبدؤوا يسمعون صوت التقيؤ عبر السماعة، وتخلص الأستاذ منها كأنها أفعى. وشرع يذرع القاعة من جديد، والدخانٌ الأخضر يخرج من أنفه،وهو لا يذري ما يفعل. وفجأةً دخل أربعة أفراد من حراس سجن سَجفنارت، مصحوبين معهم بقفصٍ فضي وانبطح التلاميذ،لمدة دقيقة، كأنه أُغْميَّ عليهم دفعةً واحدة وساد صمتٌ رهيبٌ ، حتى بدا يُسمع طنين حشرة الشوغو . وبهت وجه الأستاذ حسوب حتى أضحى مثل فاكهة موز فاسدة، وشعر بوجا بقلبه يرتج كأنه وضِعَ بأنبوبٍ فولاذي ضيق، ونحنح أحد الحراس ، حتى تطاير شررٌ أزرق من فمه ونظر صوب التلاميذ بتلك النظرة المتكبرة الرهيبة، وبدأ يتكلم ،وشفتاه ثابتتين كما لو كان يتكلم من حنجرته: حسناً.. لعلكم تساءلتم لماذا أبعد أستاذكم الطاولات عن هذا الشيء المسمى بوجا؟. الجواب: هو أنّ وزارة العدل قررت وضعه تحت الحراسة النظرية.. وحتى يتمكن الضنين من متابعة دراسته، تقرر وضعه داخل هذا القفص المحمول. وتابع كلامه وهو يضغط على مخارج الحروف بقوة: لقد كان هذا القفص سيكون أصغر من الحجم الذي هو عليه الآن. لولا أن الأستاذ عبقور قدم طلباً بتوسيعه. حيث قال إنه ينفخ أجسام التلاميذ لمدة دقيقة بعد دخوله. ويخشى أن يحتك جسم المتهم بقضبان القفص. وإذا كان عبقور يهتم بسلامة تلميذه. فنحن نهتم بسلامة قفصنا.إذ لا نريد أن يُعوِّج متهم ما قضبانه. واقترب من المتهم ، الذي بدأ يرتعد، وشرع يكلمه بصوت حنجري مهموس: والآن سأعلمك كيفية التعامل مع هذا القفص .إذا أردت المشي فستحوله إلى بذلة فضية هكذا.. وإذا رغبت في النوم فتمدد فيه هكذا.. وفي الحمام ودورة المياه، يمكنك أن تحوله إلى خوذة. وانتبه فنحن لا نريدك أن ترجعه خوذةً وقتما تشاء. بل فقط في هاتين الحالتين، وفي حلة الدفاع عن النفس. ورجع إلى الوراء وسار يتكلم بصوت مسموع للجميع: من أجل محاكمتك برمجت الوزارة خمس جلسات.حاول أن تجمع الأذلة التي تراها في صالحك. آخر جلسة ستكون في نهاية الموسم الدراسي.آنذاك إما الإدانة وسجن سجفنارت وإما التبرئة وستعود في إجازة عند العامة. والتفت نحو الأستاذ وبدأ يغمغم: كان من الأفضل لو لم ندخل في هذا الوقت فقد تسببنا في عرقلة الدرس . وخلقنا مشاكل نفسية للتلاميذ. وغادروا القسم بإشارات توديع مليئة بالكبرياء. تاركين وراءهم صمتا قاتلا . فقد بقي الهدوء سائداً أكثر من نصف ساعة ورنَّ الجرس ، واختفى الأستاذ مثلما يختفي القمر وراء سحابة تتحرك ببطء. وبدأ التلاميذ ينصرفون وتأخر بوجا حتى لا يشل انصرافهم بقفصه.وشرع عاشور يُساعده على النزول ويتكلم بقلق: إذا دخلْتَ سجفنارت فإنني سأعمل كل جهدي لأُبلغ والديك.ولم يجد صديقه ما يردُّ به. بدأت،فقط، ملامح وجهه ترتعد، وعيناه ترفرفان دون إرادته.وسارا على الرصيف الحجري اتجاه الساحة. ولاحظ بوجا أن عددا كثيرا من التلاميذ والسحرة يحدقون فيه بفضول، وبعضهم يلكز البعض وهم يشيرون نحوه، ودفع عاشور صديقه وهو يهمس: هيَّا لنذهب من الجهة الأخرى، اللعنة لقد أبصرنا...إنه يُنادي عنا. كان الأمر يتعلق بالأستاذ حَنظلة الذي يدرِّس مادة سحر الشك، للمستويات الثانوية، ولازال كل منهما يحتفظ حياله بذكرياتٍ مُقززة، فقد حدث لبوجا أن مر عليه وحيّاه. وبذل أن يرد الأستاذ التحية ردّ متأففاً:كم مرّةٍ في اليوم عليَّ أن أردَّ هذه التحية.وفي يومٍ آخر تقابلا في الرصيف، ولم يهتم به بوجا وسمعه يقول : اللعنة جيلٌ بلا أخلاق كنا نقبلُ أيادي أسادتنا. وفي المرة الثالثة عندما حاول بوجا تقبيل يده ، سحبها هذا الأستاذ وهو يقول: عفواً أنت تعود بنا إلى العصور الثيوقراطية. أنت تكرس ظاهرة التخلف ستكون تلميذاً رديئاً في فلسفة سحر الشك. إذا حللت عندي في السنوات المقبلة. وقفا قرب الأستاذ الذي ظل يبحلقُ فيهما أكثر من خمس دقائق، وهو يتفرس وجه بوجا حتى بدأ هذا الأخير يتضجر من ذلك،آنذاك همهم الأستاذ : أأنت في القفص. أجاب التلميذ مضطرباً: وهل تظنني في المسبح. وغمز عاشور صديقه يحثه على التأدب، وتهدئة الأعصاب. وبقي الأستاذ مشدوها فيهما وهو يتسلَّى بإخراج سحابة من الدخان،تارة من أنفه وأخرى من أدنيه وعينيه، ونفخ زوبعةً من الدخان في وجهيهما وقال: أنا أشك في هذه التهمة. وسُرّا بهذه الكلمة، وعلق عاشور متسرعاً: وأنا كذلك ... غير أن الأستاذ تابع مقطباً حاجبيه :لكنني أشك في براءتك. فثار بوجا مردداً بصوت أجش: ومن قال لك بأنني بريء؟، أذهب وقلها لهم.. قل لهم : إنك رأيتني أسرق. وصفق حنظلة راحتيه معا وهو يضحك ويتكلم : حسناً هذا ما كنت أود الوصول إليه، إن نفسيتك هي نفسية بريءٍ فقد الأمل في براءته. حاول أن تتجلد صبراً تمسك بالأمل، لا تنهزمو.... ثم أخرج مرآةً صغيرةً، من محفظته وهمهم وهو ينظر إليها: حسناً أنا إذن من يتكلم معكما.. آهٍ اعتقد أن كثرة الشك تقود إلى الجنون. وابتعدا عنه وكلُّ منهما يحاول التحكم في أنفاسه إلاّ أنهما انفجرا ضحكاً وسمعاه يتوعّد:تضحكان عني.. حسناً سنلتقي في السنوات المقبلة. وعلق عاشور على ذلك: لا أظنه سيتذكر ما أكله البارحة. وصلا إلى الساحة ، التي كانت تزدحم بالتلاميذ الذين يتداولون الآن قضيته على ألسنتهم ، ويتحدثون عن صعوبة سجن 'سجفنَّارت' . كانت شيطا تحدِّث صديقاتها عن أبشع أنواع التعذيب،هزت كتفيها عناداً، رغم أنها أبصرتهما واستمرت في حديثها: يربطون السجين من رجليه ويدلونه في بئرٍ عميقةٍ. ويستمرون في تنزيله وتصعيده، وعند نزوله ينعكسُ مع دلاءٍ طالعة، فيها القليل من الماء وعليه أن يشرب منها.إلاّ أنه كلما دلى دلواً في فمه إلاّ ووجده فارغاً فمن بين جميع تلك الدلاء، يوجد دلو وحيد هو الذي يحتوي على بعض القطرات من الماء،وعندما يصل السجين إلى قعر البئر، يرغب في الارتواء، إلاّ أن الحبال لا تترك له فرصة ذلك .حيث يبدأ في الصعود مباشرة لينعكس مع الدلاء وهي نازلة،(ضحكتْ) تتجه الدلاء بما لا يشتهي السجناء. بدأ عاشور يربت على كتف صديقه ويقول:لا تصدقها لاشك أن هنالك مبالغات.ثم إن أمِّي تعرف تعويذة الارتواء، أتمنى أن تلقنها لي،سأعلمها لك،وحينها لن تبق في حاجةٍ إلى تلك الدلاء، سأقومُ بإضرابٍ عن الطعام، إن لم تشأ أمي تعليمي...وشعر بوجا بمزيدٍ من الحيرة وهو يتساءل: إنَّك تعاملني كأن حكم الإدانة قد صدر في حقي ، ألا تؤمن ببراءتي؟. وسكت عاشور، ولم يعرف ما يقوله، فهو لم يُرد أن يكون نذير شؤمٍ لصديقه، فقد سمع،في الأسبوع الماضي، الأستاذ حربوء يقسم أن جميع الأذلة، تفيد أن بوجا هو من سرق القطع الذهبية. وصلا مفترق الطرق، حيث سيتجه كل منهما سواء سبيله، تنهد عاشور وودعه: تصبح على براءة. قلَّ الزحام حيث دخل جميع التلاميذ إلى قاعاتهم، وسمع هو شجارا ً في الطابق العلوي، فنظر إلى الدرج فشاهد أرجلا تنزل بسرعة ، وبدأ يتضح الصوت كان الأمر يتعلق بالأستاذة ضفدوعة وهي تقول: لا اعتقد أن تلميذاً جديداً على القلعة يستطيع تدبير هذه السرقة .غير أن الصوت ،الذي لم يستطع التعرف عليه كان يرد محتجاً: هنالك سحرة بالولادة وُلدوا بقابليةٍ واستعدادٍ كبيرين لتعلم السحر، والمتهم من هذا النوع ، إنه ابن عائلة سليلة في السحر. مَرّوا عليه كزوبعة من الغبار، وهو مختبئٌ وراء حاوية للقمامة، كان الأمر يتعلق بالأستاذ حربوء الذي ظل يلوم الأستاذة عن مؤازرتها لبوجا، وكان عبقور يتوسطهما ويحثهما على تهدئة أعصابهما. انتظرهم حتى اختفوا فحول قدميه إلى قبقابي انزلاق، حيث ظلت هذه هي التقنية الوحيدة التي تعلمها في التنقل،حتى الآن،واقترب من حجرته وبدأ يُبصر ذلك الولد الذي حسبه في البداية التلميذ ( خنفوش) الذي يقطن بالحجرة المجاورة له، و الذي كان غالبا ما يتقاعس عن إيصال نفاياته إلى الحاوية، فيتركها أمام حجرة بوجا، أو ينتظره ليطلب منه أن يشعل له قنديله، فهو لا يجيد قرْع ظفرا إبهاميه ، غير أن الأمر كان يتعلق بأحد الصحافيين الذي جاء لاستجوابه حول القضية. لكن بوجا امتنع عن أيِّ تصريح عملاً بنصيحة الأستاذ عبقور الذي كان قد أوصاه: لا تقل لهم شيئاً..إنهم غالباً ما يقوِّلونك ما لم تقله، وأحياناً تكون تصريحاتك لهم أذلة ضدك . وفي صبيحة اليوم الموالي،اكتفت معظم الجرائد بالتقاط صورة للضنين وهو في قفصه باستثناء جريدة"السحر الأسود" التي كتبت: لاشك أن هنالك لُبس في القضيَّة ولاشك أن هنالك من يخطط للزج بالتلميذ في السجن، وجريدة "سحر المستقبليات" التي نشرت: طفلٌ بدويٌ ، مبتدئ ...جِيء به من العامة يسرق خزانة أستاذه يا للعار ويا للمثل القائل: اتق شرَّ من أحسنت إليه. ويا للعجب فقد كان هذا المقال موقعاً من طرف الأستاذة ضفدوعة، فهل استطاع حربوء أن يقنعها بتغيير موقفها؟ هكذا تساءل وهو يتنهد بعد قراءة هذا المقال.(يُتبع)