(بخور ورمان وعرس بدوي على إيقاع الأغاني القديمة، وغشت يُشهِر ألواحه على ثوار الشاوية، ثم ملامح قصيرة، للضرورة، من سيرة الكاتب) اعْلاَشْ دْخَلتْ جْنانْ المشماش؟ قررتُ، في شهر غشت، التحرر من كل شئ يربطني بالشهور الفائتة.. فلم أعٌد أقْرَبُ الكتابة أو جهاز الكومبيوتر كما تخليتُ عن الاطلاع على البريد الاليكتروني، وخاطبت أصدقائي بتأجيل لقاءاتنا بمقهى الشاوية إلى ما بعد العاشر من سبتمبر. صرتُ حرا إلا من علاقتي بنفسي وعائلتي والأرض. وربما الأمر ليس هكذا، وإنما هو مرتبط بحالة أخرى.. فمع دخول غشت غمرتني الحياة مثل مَدٍّ هادرٍ حتى غطَّتني كاملا ولم يَعُد رأسي يتنفس خارج شلاَّلها الذي يجرفني مثل ريشة عصفور أو ورقة مشماش.. فصرت كما أريد لنفسي مواطنا بدون قيود أو التزامات، ينتمي إلى أرضه ومواطنيه، منشغل وغير منشغل أيضا. وفي هذه المرحلة تبدو لي الكتابة - ضمن قناعات أكثر جذرية وإحساس يؤمن البداهة والحدس - تبدو لي ضعفا ووهما وانشغالا في الاختلاق والتلفيق، وهو أمر يُناقض الحياة التي هي الشكل التعبيري الأضخم والأقدر على احتواء كل شئ. في هذه اللحظات أكون بعيدا عن الرغبة في الكتابة، متبرما منها.. فأنسى الكلام والقول قليلا.. هل هي حالة من الوحم الطبيعي في نفسي التي تختمر بها عناصر جديدة؟ الكتابة بالنسبة لي مثل عرصة من كل الفواكه، أخرج منها وأعود إليها كلما غمرتني رائحة فاكهة جديدة.. وفي كل دخول تسألني نفسي لماذا دخلتُ جْنان المشماش؟ سعدتُ مثل طفل بدخول فاكهة الرمان الذي اعتبره أهم فاكهة في هذه الدنيا.. وهو الأمر الذي يتبادر إلى خاطري حينما يُطِلُّ المشماش و الخوخ والعنب والبطيخ.. فواكه تصبح جزءا من حياتي اليومية ومن متعة ربانية في هذه الدنيا. دم السلالة عالمَان منفصلان داخل البيت وخارجه، أعيشهما بشكل يومي ودائم.. يحياهما كل إنسان بانشغالاتهما وتدابيرهما المتقلبة. خارج البيت هو جوهر الصراع والقسوة وإنْ بدا في لحظات محسوبة غير ما يجري، لذلك أغبط العديد من أصدقائنا على عالمهم الموحد البسيط والروتيني والذي يجدون فيه متسعا من الوقت لعيش الفراغ بكل أشكاله، حتى إنهم كل مساء يجدون فائضا زمنيا لا يعرفون ماذا يفعلون به ! أما عالم البيت فهو عندي لحظة هُدنة وترتيب للقادم، بعيدا عن مجازفات اليومي.أدخل البيت لأتحرر من عهود طاحنة وملابسات اليومي. لذلك فإنني داخل البيت ،فضلا عن القراءة والكتابة، في الصباح الباكر أو في لحظات من نهاية الأسبوع اضطرارا، أعيش الحياة التي أريد. مثلا، يروق لي ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل، من ضمن هواياتي الخاصة، أن أستخرج صندوقا نحاسيا صغيرا أخبئ فيه عددا من أهم أنواع البخور، ذات أصول هندية ويمنية. أتفقدها بتؤدة وتأمل يعتمد اللمس والشم والإحساس الداخلي ثم أختار النوع الذي سأمنحه فرصة مشاركة أنفاسي وأنفاس أسرتي. تعمل زوجتي على ترتيب واستكمال عملية توزيع البخور على البيت فتصبح الروائح التي عطرت المكان جزءا من حياته وحياتنا، يزيده طبق من الورود المجففة يتوسط البيت، بهاء وديمومة. ويهمني كثيرا الاعتناء بهذا الصندوق والطبق المصنوع من الدوم مثل عقود أعزها وأستريح لها، ولا أرى من ينوب عني في الإحساس بها والبحث باستمرار عن المؤونة التي أختزنها لفصول السنة من أجود البخور ، فيما لا أستعمل العطور الكيميائية. فاصل غشت شهر التذكر والتطهر، يختزل أعمارنا ويُعيدنا إلى الطبيعة الأولى في علاقة مباشرة مع هوِّياتنا. ومن خصيصاته أن فجره يحمل نكهة حزينة، بينما غروبه ملئ بالفرح والأسرار. كنتُ وما زلتُ مفتونا بهذا الفجر الذي يتمطط كَمَدِّ الحياة لكفِّها الخرافي السخي على الحقول بوعوده اليومية ومفاجآته المركونة في خزائنه المغلقة.كل شهر أو فصل يكون لفجره لون وصوت وأحاسيس وأسرار، لكن فجر غشت حزين، به ضجر خفيف يخفيه ولا يعلنه، على عكس دسمبر ويناير. أما غروب غشت – كما أتخيله باطمئنان – فإنه مثل الفقيرة الى الله مريم، ابنتي، ومن قبل كنت أراه في صورة الولية الطاهرة فاطنة بنت الطاهر، جدتي،. فجأة خارج مواقيت الزمان الطبيعي، يبدأ غروب هذا الشهر في التشكل من عناصر ومواد روحانية تعكس دهشة غريبة في النفس كما لو انها دهشة الأنبياء الأولى التي ورَّثوها لنا لما سقطت على الحقول والقلوب. دم التراب حياتنا مليئة بالاعتقادات والظن والاحتمال واليقين البديهي.. وهي التي تفتِل رؤيتنا وترسم لها أقدارها إلى جانب الثوابت الكبرى. كيف نُكيِّف تلك الاعتقادات والقواعد التي نراكمها فتصبح جزءا محركا لحياتنا ولثوابتنا أيضا؟ بالنسبة لي هناك هوية أخرى قوية، في حياتي، تبنيها علاقتي بفكرة "العائلة" ثم الأرض، كلاهما يحققان نظاما معقدا تصبح فيه حياتي الأخرى بالدارالبيضاء، في العمل أو خارجه، جزءا تابعا للقيم التي تحكم هويتي. هوية الدم في العائلة التي لها عرَّابٌ واحد هو بويا كما ندعوه جميعا، بينما يدعوه الأطفال والنساء بالأب الكبير، وهي تؤدي نفس المعنى الذي يجعل من محمد بن عبد السلام، بويا، عرَّابا له عائلة صغيرة داخلية، وأخرى كبيرة خارجية من أصدقائه ورفاقه.له صفات القائد والحكيم والأمين، من صفاته القسوة والعفو. لا يصل إلى يقين ما إلا عبر الظن والتخمين وحدوسه الروحانية. مع تعاقب الأيام صرتُ مساعدا لبويا وخزينة أسراره، أساهم إلى جواره في ترتيب القرارات. أمي تقول إني نسخة منه في شكل جديد. في هذه الهوية، بدون وضعي في هذا النظام سأحس بالنقص، لأن دم السلالة حصن عال للنفس والروح والقيم، سلالتي القريبة جدا من أنفاسي أو سلالتي التي يربطني بها المكان والأرض والجهة بكل التراب الظاهر والغابر. علاقة معقدة، ناتجة بالتأكيد عن نظام سلالي يربطنا بأجدادنا وبالأحداث التي عاشوها، وأعيد اليوم تأويلها. هو نفس نظام الثوار، وربما لكوني كاتبا وأستاذا جامعيا، أجدُ في الأرض التي أنتمي إليها، في تاريخها وتاريخ رجالاتها ونسائها مادة ثرية لأيقونات كونية، ولخصوصية أُعَبِّرُ بها عن رموز تنطلق من الجزئي والهامشي، من الحدثي والشخصي لتصبح شيئا كليا ومركزيا وجمعيا. بين هوية العائلة وهوية المكان تختلط ثقافات شتى، عروبية وامازيغية وافريقية تعبر عنها أنظمة وأنساق دائمة التشكل، لذلك ليست لي – بتاتا – طموحات في المجال المهني أو أني أبحث عن سبل، كيفما كانت، لأصبح مثلما يحلم الكثيرون قناصلة في الداخل وفي الخارج. يكفيني فقط اني سليل أنبياء هذه الأرض وأوليائها وثوارها، ومفوض للدفاع عن رسالاتهم وأحلامهم، ونشر نبضات أرواحهم التي لا تتوقف أبدا. كثيرا ما أتأمل على الرغم من استمرار انشغالي في قضايا تتعلق بالأرض واستكمال إجراءاتها حيث أصبحت لنا هوية ترابية بقبائل أولاد بوزيري، تربطنا بالشاوية الجنوبية وهو ما منعني من الابتعاد والسفر مع الأبناء إلى طنجة وأصيلا كما كان مقررا واكتفينا بالبقاء في محيط قريب من الدارالبيضاء، بأبواب طماريس البحرية وسيدي رحال الشاطئ. قضيانا أياما متفرقة ،لكنها ممتعة حتى انسلخت جلود الأطفال وشبعوا من الرمل والبحر والشمس، وما أثارني هو الذهول الذي رأيته على وجه مريم وهي تقشر جلدها ببطء وخوف واندهاش. في الأسبوع الأول كنت متعبا. إرهاق عام دفعني وأنا مقبل على السفر إلى سطات، إلى العدول عن الذهاب بالسيارة. فقمت باكرا وتوجهت إلى طريق مديونة – القريعة عبر سيارة أجرة صغيرة لأمتطي سيارة أجرة كبيرة نحو سطات. مرت أكثر من نصف ساعة كانت كل السيارات المارة محملة بالعدد الكافي مما اضطررت معه إلى ركوب أول حافلة تتوقف، شعرت بالحدس لإهترائها، أنني ركبتُها مرارا مذ كنت طالبا بالدارالبيضاء. حكايةقديمة في صيف جديد غشت الذي يمر من أمامي، في ثياب خفيفة ، شهر قديم وحلم شمسي يُنوِّرُ باقي الشهور. ركبتُ الحافلة الحمراء العتيقة ،القادمة من محطة أولاد زيان، أو من أي نفق كانت مختبئة فيه. وأنا لا أتصور ركوب شيء آخر في مسافة 72 كلمترا إلى سطات في طريق منبسطة ومستقيمة سنقضيها في زمن يتجاوز ساعتين ممددتين مثل سعال عجوز متهالك.في حين لا تتجاوز أي سيارة في الطريق السيار أربعين دقيقة أو أقل. بالتأكيد.. العلامات نفسها لا تتبدل: مديونة، النواصر، برشيد، سيدي العايدي ثم الفيلاج الأثري، والشخص ذاته هو أنا، كما الحافلة المتهالكة التي تجمعني بها الصدفة حتى أدمنت انتظارها أو هي التي تتعمد انتظاري... لها القدرة على أن تُلهمني قوة داخلية بتأملات استمدُّها من شساعة وثبات الحقول. ليست الحافلة متهالكة، بل رؤيتنا التي تهدمت، أما هي فتمشي متخايلة على الأرض تحترم سفرنا الفعلي والروحي. وكان علي أن لا أبالي بما سيقال أبدا وأجعل المسافة -كلها – في ذهني ووجداني، أقطعها يوميا كما لو أني أرتدي قميصي الأزرق بنصف الأكمام. صهد تدلَّت له ألسنة الأطفال والعجائز، فصاروا يمررون زجاجات الماء بينهم دون جدوى. لم أنتبه للمشهد لأنه مألوف... فنحن البريون نعشق السباحة في التراب والصهد، وتتعايش مع كل الرياح. كل الأغاني الجميلة في خيالنا، سمعتُها عبر كاسيطات الحافلة، بصخب وتكرار. اللهب ثم العرق المتقاطر من كل جسدي لم يمنع أذني من التركيز أو عيني من الانتشار امتدادا في الحقول. أوليدي يا أوليدي الدايم ربي /تعالى لمكاني تْشُوفْ حالي /الطير الحر ما يخرج فركوا جوج خواتم كُلْهَا وْدَكُّو/ مَالْكِ يا نفسي مْعَذْباني / مَالْكِ يا ليام ..سَاعْفيني. كما لو أنه فيض حب زلال كان معتقلا في خوابي معتقة، ثم فجأة يكسر كل شيء ويجرفني عميقا بعنف ناعم. أغمض عيني –دون بصري- أحس بانجراف وسط شلالات الشوق، لحظتها أبحث عن حبل أربط به هذا الاندفاع الروحاني فلا أجد غير أبخرة الانتشاء التي لن تزيدني إلا هبوطا. قصبة مديونة تختزن ألسنة حارة لصيف غشت... تتكلم عن الشيخ الذي صعد الربوة وقال: - "لا أتخيل كيف أصير حينما أفارقك. أنتظرك كل يوم حينما تدفعين بالشمس إلى الغروب، هل أستطيع أن أحيا بعدما أفقد – في مساء واحد وكل يوم – شمسين لابد منهما؟". قال لي الذي يجلس إلى جواري(وكنت وحدي) : "قضينا كل عمرنا حتى الآن في مَدٍّ عظيم. ما العلم والتعلم والكتابة... سوى متنفس ل"حرْكتنا" في هذه الحياة وسط "جْنانات "الرمان العامرة بالرغائب وارتعاشات المتعة؟ كأننا أباطرة فَقْدنا الزمن وملكنا الأزل حتى نكون نافذين وناجزين. نحن محاربون لن نستريح إلا تحت التراب". عدت أنظر إلى الامتداد والصهد داخل الحافلة، والعرق الذي يتحول إلى سائل وأبخرة تتعانق بداخلي لشحذ قدرتي على اقتلاع التذكرات الذائبة من خوابيها. قال لي (بل قلت لنفسي): سأتذكر تخايل الريح ببياضها الخيالي الأشد خفة من رذاذ الزبد، سأتذكر التفاتة شامة قبل قرن كامل لما أحست بانتعاش لذيذ وغريب، بوجه اليقين الثمل بالاحتمالات، بكلما، بلكن، بربما... سأتذكر غضبها مثل الريش يوم جاءت ثم ارتمت على صدري وكان الظلام ينظر إلينا بامتنان وكل حين يعض على شفتيه، ويتألم لأنها كانت تبكي في صمت ثم تتحدث عن رعب أخافها.. وتقول لي: نبغي عْدُونا يعمى / وأنا وأنت نشوف نبغي عدونا يعمى / وأنا وأنت نْقُودُو *** دوائر مربعة لم يدوَّن في الأوراق الرسمية أني ولدت في الأسبوع الثالث من عام أربع وستين وتسعمائة وألف ، لأن والدي محمد بن عبد السلام لما اضطر إلى انجاز الدفتر العائلي للحالة المدنية، في نهاية الستينيات ، غيَّرَ كل التواريخ بالنسبة لي ولأخوتي، كما غير في اسمين من أسمائهما وصارا حتى الآن باسمين اثنين، الأول هو المتداول والمعمول به عمليا؛ والاسم الآخر في الأوراق الرسمية.. وهو لعب لم يفسره لي والدي حتى الآن ويكتفي بالحديث في ما يخصني بالقول بأنه أسماني على اسم صديق أمازيغي له.. في ما قالت لي أمي بان والدها الحاج راعا هو من اقترح اسمي على والدي. قيل لي أيضا بأن شهر غشت الذي ولدت فيه واستُبدِل بشهر دسمبر ،كان في تلك السنة ممطرا على غير العادة وسُمي صيفنا شتاءا.. وليس غريبا أن يولد اثنان من أبنائي في شهر غشت. نحن ثمانية أخوة، أنا سادسهم. أربع بنات وأربعة ذكور .مات منا سمير في سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف، دون احتساب اثنان ماتا في سن صغيرة: حسن وفتيحة. نقطة فاصلة في منتصف شهر غشت، لبيتُ دعوة بعض أصدقائي إلى عرس في البادية بقبائل المذاكرة، لدى صديق لهم، هو عم العريس، وهو معلم بالمنطقة لا معرفة لي به، واشترطت ألا أذهب حتى كلموه بالهاتف واستشاروه في استقدامي، ةوإن رأوا الأمر لايحتاج إلى كل هذه الاستشارة والتحوطات. كنت في حاجة إلى الاستماع بتفاصيل عرس خارج تقاليد المدينة وأصباغها ؛خصوصا واني وصلت باكرا.. وجدتهم قد هيأوا لنا سرادقا كبيرا وسط الدوار والى جانب بيوتهم.كنا أزيد من سبعين نفرا من كل الأعمار في البداية،بينما النساء دخلن فضاء واسعا وسط البيت والغرف المتفرعة.يتهيأون لليلة جامعة للعرس والدُّخلة. كان بعض شباب العائلتين هم من يقومون بالخدمة ..وضعوا ثلاث صينيات للشاي ببراريد كبيرة مع كل المعدات الأخرى أمام شيخ من الشيوخ الحاضرين، والذي هَمَّ بأشغال صناعته التي يبدو أنه مدرب لها جيدا . انطلقتْ تلاوة القرآن الكريم مع سبعة فقهاء كانوا جالسين قُبالتي، لم أنتبه إليهم في البداية رغم جلاليبهم وسُحناتهم المميزة .وكانت قراءاتهم مغربية عن طريق التلاوة الجهورية التي تتوقف عند كلمات معلومة ومسجوعة بصوت عال، توقف ممدد يعودون بعده إلى التلاوة السريعة وهي قراءة تقليدية مغربية، يجيدها الفقهاء في الحفلات وفي المآتم أيضا وأيام الجمعة في المقابر. وأنا أستمع إليهم مرت بذهني حادثة جعلتني أبتسم لوحدي، فقبل سنتين، وذات سبت حينما كان علاء بالقسم الثالث الابتدائي، وضمن تهييئه لدروسه ليوم الاثنين اهتم بحفظ الآية القرآنية،سورة الضحى، وخلال مراجعتي معه جعلته يستظهر الآية بطريقة الفقهاء، وهو أمر أعجبه فحفظها بسرعة. وفي يوم الاثنين، وأثناء عودته في منتصف النهار ،فاضت عيناه بالدموع لما رآني وبدأ يجهش بالبكاء وفمه يرتعد، أخذته إلي بسرعة فشرح لي بأن بالمعلمة أشبعته ضربا على كفي يديه حينما استظهر الآية بتلك الطريقة، وقالت له: - واش أنت فقيه في المقبرة .هنا مدرسة آمولاي؟ بقيتُ مشدوها للحكاية، زامًّا فمي أحبسُ ضحكة قوية جراء ما سمعتُ، ولما رآني هكذا سبقني وتحول بكاؤه إلى ضحك دون توقف. ضحكنا ولم يعد إلى طريقة الفقهاء واكتفى، بعد ذلك اليوم بقراءة المعلمة المحترمة. *** قبل أن أدخل المدرسة، ولجتُ المسيد عند الفقيه الحاج أحمد لسنة واحدة، حفظت خلالها عددا كبيرا من سور القرآن الكريم بالحفظ الجماعي والقراءة على لوحة خشبية كُتبت بالسمق على الصلصال. ثم سجلتني أختي بمدرسة يوسف ابن تاشفين والتي كانت في الأصل معسكرا للجنود ولا تُعرَف إلا باسم القشلة، ونحن جنودها الصغار؛ تعلمتُ فيها حب العلم من خلال الحروف وتركيب الجمل والإدمان على المطالعة وسط انشغالاتي الصغيرة والكبيرة بالمدينة والبادية. كنتُ في سن علاء الآن (عشر سنوات) أعيش في الأسبوع الواحد أكثر من حياة واحدة، في البيت والمدرسة، ثم في الضيعة والشارع ويوم السبت في السوق خلال العطل المدرسية. بعد نجاحي في الشهادة الابتدائية انتقلت إلى ثانوية ابن عباد، والتي يسميها الفلاحون سوق التبن، قضيت فيها سبع سنوات للحصول على الباكلوريا، وفي هذه الفترة تشكل وعي الثقافي والاجتماعي والسياسي. *** في حوالي الحادية عشرة والنصف ليلا جِيئَ لنا بالأكل، لحم بالبرقوق تلاه دجاج بالمرق. ولما رُفعت الأطباق، انسل الفقهاء فاسحين المجال للطرب، فنانات شعبيات، كبيرات في السن، كل واحدة منهن يُعَبِّر الهرم فيها عن بؤسه بطريقة ما. أحسستُ على الفور بالضجر يتملكني، وبينما هن يعملن على تسوية ملابسهن ووقوفهن المتهالك بالطعاريج والبنادر، أنقذني أصدقائي الذين دعوني وبتنسيق مع صديقهم عم العريس بالانتقال إلى بيته المجاور لمكان العرس. في الطابق الثاني، دخلنا صالونا ضيقا ومستطيلا ذي نافذة واحدة تطل على سرادق العرس، جلست قربها. كنا ستة جِيئَ لنا بالشاي وأطباق بها اللوز والتمر والزبيب. عاد إلي الإحساس الطبيعي وشعرت بطمأنينة بالغة. أخبرني واحد من أصدقائي الثلاثة، وكلهم من رجال التعليم الابتدائي، بأننا سنستمتع بليلة من الفن الرفيع الذي أُحب، وهو أساس مجيئنا.لم ننتظر كثيرا حتى دخل علينا رجل في الثلاثين من عمره تقريبا، عليه ملامح بدوية بارزة يلبس جلبابا قصيرا ويحمل كيسا من أكياس الدقيق بداخله كمنجته ولوازمها. قدَّمه لنا عم العريس بأنه فنان من الدوار ويسمونه عبد الحليم حافظ.. ةضحكنا وهَمَّ حليم بكمنجته وهَمَّتْ به، فأتحفنا بأنغام وأغاني تعود إلى ريبيرتوار كل المراحل التاريخية والشعبية السابقة، فيها الهزل والحب والعذاب والود والعتاب،كما استمتعنا معه بأغاني من تأليفه وتلحينه رغم بساطتها وعفويتها لكنها تعبر عن صدق وفنية وعي شعبي جماعي. غنىَّ لنا حليم بصوته الرجولي الطروب بضمير الرجل والأنثى وبضميرنا نحن المتحلقون حوله في غرفة ضيقة ومستطيلة. كنت قرب النافذة، أتابع عيوط حليم الغرقى في الحنين والوجدان، وفي نفس الوقت أراقب السرادق من عل وما يجري حوله من مناوشات بعض عزارى الدوار الدين رغبوا في الدخول بالقوة وقد شدتهم أغاني الفنانات الشعبيات الهرمات..كل ذلك يجري بالالتماس ثم السب والرشق بالحجارة، لما لم يسمحوا لهم بالدخول.وسيتكرر المشهد عدة مرات لكنه سيعرف ذروته حينما دخلت الفنانات الهرمات في أغنية "العلوة" وجذبتها الخاصة . في عزلتنا نحن رفقة حليم كان الجميع سعيدا بتلك الأغاني منقطعا عما يجري بالخارج لكن الفجر سيأتي ليكشف حدثا لم نكن لنتوقعه.. صخب وضجيج بدأ يتعالى من الجهة التي خُصصت لدُخلة العريس على عروسه، إنها الشرارة الأولى -كما قدَّرتُ الأمر- لذلك أنقدنا عم العريس لما جاء إلينا يطلب بارتباك واضح أن ننهي اللقاء، ثم التفتَ إلينا نحن الأربعة وخاطبنا باحترام متصنع، فيه بعض التوتر، وسألنا إن كنا نريد النوم حتى الصباح ...ثم انصرف دون أن يسمع ردًّا منا. قمتُ كما قام الآخرون للانصراف، سلمتُ على الجميع واتجهت نحو سيارتي وقد بدأت شرارة العنف المصحوب بالكلام الفاضح. ضغطتُ على الدواسة في اتجاه مدينة سطات. دم الثوار ليس للبيع غشت شهر ولادة الثوار الذين يُطهّرون الأرض من الآثام بدمائهم. وفي كل غشت كان أجدادي يصنعون من جلودهم نِعالا للأنبياء والأولياء والثوار ويقتطعون من أعمارهم لجعل حياتنا مديدة وشاسعة. الشاوية بالنسبة إليَّ ليست مكانا وُلِدتُ فيه وانتمي إلى متخيله وأُفقه فقط ولكنها الجهة النابضة في الروح وحوض خيالي الذي يجد في التاريخ والمجال واليومي أفقا لا محدودا للحكاية بمختلف رسوماتها. والأمر ليس إحساسا عابرا أو نزوة ولكنها هوية حقيقية بدونها لا وجود لي. لذلك، فإن زوجتي تحمل أمانة ووصية في عنقها مني: "إذا ما مت فادفنني بأرضنا لا بغيرها". وهي أيضا الجهة الوحيدة في هذا الكون – باستثناء بلاد الإغريق في ما أعتقد – التي تحفل بالآلاف من الأولياء والوليَّات ،كل واحد منهم له حكايات وخرافات – وهو ما يهمني – وكذلك عشرات الآلاف من الثوار منذ الفتح الإسلامي لهذه البلاد حتى الآن ، يتوارثون حب الأرض وعزة النفس وتحويل الحياة إلى حكاية.حتى إن الجهات الحكومية المغربية منذ الاستقلال حتى الآن لم ترغب قط في إدراج سير العلماء والثوار الشهداء وسير المجاهدين بالشاوية في مقررات التعليم بمختلف أسلاكه أو تسمية الشوارع والساحات بأسمائهم..لم ولن يرغبوا وهو أمر لا يهمنا إطلاقا ولا نسعى إليه أبدا. في غشت من سنة 1903، أعلن القرشي بن الرغاي بداية المقاومة على اللصوص وعملاء فرنسا والدول الأوربية وقد شرعوا يمهدون للاستعمار، وقامت في عدة نقط من سهول الشاوية الجنوبية ثورات شعبية بقيادة القرشي رفقة فرسان ورماة، فدخلوا القصبات وطردوا منها القواد الطغاة والمتآمرين وانتخبوا زعماءهم الذين يسيرون شؤونهم ويعقدون الاتفاقات مع القبائل الأخرى. ويعتبر القرشي بن الرغاي أحد زعماء ثورات قبائل أولاد سيدي بنداود، فقيه وفارس، وسيقود حرْكة شهيرة وهو على فرسه دفاعا عن مدينة سطات التي كان الجنود الفرنسيون يتقدمون لاقتحامها، يوم عيد أضحى من سنة 1908، فقام القرشي إلى جانب فرسان آخرين محاربا إلى أن استشهد برصاص العدو وبقى فوق فرسه تتقطر دماؤه الزكية على الأرض حتى فارق الحياة ولم يخطر بباله، في ما أخمن الآن، أن يفر أو ينتحر أو يبحث عن بطولة أو اتفاق مع هيئة الإنصاف والمصالحة يعفيه من هويته. الموت بهذه الصيغة شئ حقيقي و يستحق المجازفة. سيرة الفارس الأحمر في حوالي العقد السابع من القرن التاسع عشر، سيولد بالمذاكرة منطقة القوادرة/الأحلاف، طفل سيفتح بصره الواسع على فضاء الشاوية المشرع على كافة الاحتمالات الملحمية ووسط عائلة شجاعة، فيسميه والده السيد الحاج البشير، باسم الأحمر بن منصور. بعد ذلك تربى وترعرع وسط عز عائلته وبطولات أهل المذاكرة وأهل الأعشاش وأولاد امحمد في صراعات عابرة وقوية دفاعا عن القبيلة... ومنذ طفولته المبكرة بزغ طموحه في أن يكون محاربا ومقاتلا، فحمل السلاح وركب الخيل ثم صار شابا بملامحه الحازمة ونظراته التي لا يمكن لنا إلا تخيلها، ملآى بعز الماضي والشوق إلى كل الحياة ،حيث الموت ركن أساسي فيها. كان رجلا متوسط القامة، أحمر اللون، بسِمات الهيبة ولباس الأبطال، يحب الحياة، لا يحتمل أن يرى الناس تموت ظلما وقهرا، ولم يفهم لحظتها من كان وراء كل هذا، وخلف صراع القبائل.. لأنه ولسنوات كان يُبري قوته وشراسة مواجهاته بذراع أيمن مثل الطيف الرحيم، مسعود ولد رحيمو، الخارق في كل شيء، والذي بموته سيترك فراغا عميقا في حياة الأحمر، بل أثرا سيتلمس ضياعه كلما حن إلى سند قوي؛ ومن عادته أن يختار من أصدقائه الأصفياء والأقوياء... بوشعيب بن الغزواني والعربي بن بوعزة هذا الأخير الذي أنقذه مرة من موت محقق فقال فيه قولا مازال الحفدة حتى الآن بتوارثونه بتقدير كبير: " العربي بن بوعزة والباقي الله". آصبري آصبري يا بنتي / خيام الغدَّارا تْريبْ آشْ هاذْ العشوية /تْخَلْطَتْ الخيل والرَّجْلِيَّة ضُربوا ماكاين هروبْ / تخلط حجر وكركوبْ يانا فين مسعود وفين عَوْدُو/ حتى من مراتو مجاهدة آلميمة آلميمة /شكون هو ولدك من هاذو. ومن أصدقائه الأصفياء بوعزة بن الشرقي، الفقيه والعلامة الذي درس بالأزهر وصاحب فتاوى كثيرة، ةلأنه" رجل العلم والقلم والدواية". كان قاضي القبيلة، تزوج أربع نساء وترك 12 ذكرا و12 بنتا. ويروى أنه كان ينسج للأحمر بن منصور لباسا يصلي عليه أربعين يوما في الثلث الأخير من كل ليلة... لباس لا يخترقه رصاص الفرنسيين، إنه بالتأكيد جزء من المتخيل الضروري الذي يلازم الأبطال والفقهاء. ومع بوعزة بن الشرقي أصبحت نساء المذاكرة يرثن حقوقهن كاملة، كما كان يسلك سبيل الزواج من القبائل المجاورة وتزويج بناته لها حتى يحد من التناحرات. آفين الزَّرْكَة بنت محمد / اللابسة القفطان بِدمُّو غَوْتَاتْ بنت العطيوي / الِّلي ترصص ها عَبُّوُني . تزوج الأحمر بن منصور أول مرة وقد بلغ سن الشباب، من ابنة عمه " الكردة" ثم بعدها خديجة بنت المكناسي، والحمداوية واليسيفية، وجوهرة، والفاسية الحيانية والشْبَانية والرباطية والزبيرية...خلَّف منهن عددا من الأطفال ومات له أيضا عدد كبير، حتى إن ابنه الأصغر "أحمد" لما مات قال للمعزين : لو أطللتم على كبدي لوجدتموها قد تفتتت من شدة حزني على كل أولادي المفقودين... في حروبه التي ستخلد ذكراه بالدم والغبار الأسود، كانت " المْجَدْمَه" والجواسيس، قبيل دخول الاستعمار يطوفون بالمذاكرة فلا يقربون خيام الأحمر بن منصور، وفي سنة 1907 من شهر غشت الصاهد، ومع دخول الفرنسيين إثر حادثة البابور، كما نحب التعبير عنها، ركب فرسه وخلفه أهل المذاكرة في اتجاه الدارالبيضاء،فخاض حروبا مريرة في أراضي الدارالبيضاء ابتداء من مديونة إلى مناطق تسمى الآن القريعة، العوينة، عين الشق.... مازالت تذكر الكر والفر وترى صوره كفارس رافعا يديه في اتجاه الموت أو الحياة.تغازله الرياح المنزوعة من سراب الصيف كأنما تلثم كل أطرافه بعشق وهو عنها منشغل في حركاته الأزلية. وابتداء من سنة 1908 ومع مجيء الجنرال داماد، واصل الأحمر بن منصور جهاده إلى جانب باقي الفرسان في معارك ملحمية بجاقمة وسيدي مبارك وفخفاخة، وادي المالح.. وأخيرا في المعركة الحاسمة ببير الورد قرب الغابة وهي معركة قوية مات فيها من العدو العدد الكثير ومن جانب المذاكرة أبطال من رفاق الأحمر، منهم محمد الزيداني. كانت لحظات عصيبة... حفر فيها الأحمر ورفاقه الخنادق وقاموا لمدة خمسة عشر يوما .وأخيرا وبعد مشاورات مع موحا وحمو الزياني، حمل السلالة وتوجه عند بني خيران ( إقليمخريبكة) في ضيافة صديقه حمو الشرقي لمدة سنتين (1909/1910)، كان خلالها يستجمع قواه ويتأمل في المصاب الجلل. ثم سيتنقل إلى فاس لمدة خمس سنوات (1911/1915) محاربا الفرنسيين هناك بحنكته وخبراته العسكرية الفريدة، وسيذيع صيته كمجاهد رفيع المستوى. وكان من شدة وفائه لأصدقائه وحبه لهم، أن زوجته الفاسية خلفت له ابنا وحيدا أسماه "حمو الشرقي" على الاسم الكامل لصديقه ببني خيران. عاد إلى المذاكرة بجراح كثيرة ظلت عالقة في صوته وملامحه الحزينة... من دخول الفرنسيين، من موت أبنائه وأصدقائه ورفاق كفاحه،ومن الخيانات المتسربة مثل السم. استقر بنزالة الأحمر وهو يلبس جلبابين وسلهامين، وبقي هناك يحمي كل من يتردد عليه أو يسكن بجواره دون أن يصله الفرنسيون، رافضا أن يراهم، كانت له القدرة على الاحتفاظ بصورة الفرنسيين مهزومين أمامه في ساحة المعارك، إلى أن مات ذات يوم خميس من شهر أكتوبر سنة 1928... وهناك دفن ويده اليسرى تحمل سبع رصاصات، وأخرى أسفل بطنه. فطرية الصراع لم تكن ثورات رجالات الشاوية حدثا عابرا، ولا شيئا مفصولا عن كل حركات التحرر الإنسانية،لأنها رسمت لنا ثلاثة ملامح في حياتنا، وهي التأكيد على هوية المقاومة والجهاد، والرغبة الفطرية في التحرر ثم التنمية المستمرة للأمل رغم كل المآزق الصعبة. يتحدد موقع منطقة الشاوية الكبرى قديما ما بين وادي أم الربيع ووادي أبي رقراق. وبين حدود المحيط الأطلسي وجبال الأطلس، وربما امتدت أوسع من هذا في فترات معينة، ذلك أن وجود المنطقة يرجع إلى حوالي مليون سنة خلت، كما كشفت عن ذلك الحفريات التي رصدت وجود أقدم أثار للوجود البشري ،وما تزال مجهودات المتخصصين جارية في التنقيب عن علامات مادية مؤكدة. إن طبيعة الإنسان الشاوي ضمن تنوع طبيعي نادر ، وما يتسم به من خصوصيات جعلته بالطبيعة والفطرة مقاوما يقظا يحرص على أرضه المنبسطة والمشرعة على كافة الاتجاهات والاحتمالات المفاجئة، فقد مر من هنا القرطاجيون في وقت مبكر (5 ق.م) دون أن يستطيعوا الاستقرار والاستمرار بها، شأن الرومانيين (سنة 42 م) الذين لم يقدروا على إخضاع المنطقة تحت نفوذهم، رغم البعثات الرحلية والاستكشافية السابقة التي وصفت الشاوية من نواحيها الخاصة والعامة مع حنون القرطاجني ( 5 ق.م) وهيرودوت الأغريقي، ثم بولبيوس الروماني ( 2 ق.م) وبعده بطوليمايوس. بعد ذلك، سيترسخ عنصر المقاومة في تامسنا/ الشاوية مع الفتح الإسلامي الذي كان سبيلا لتحول هام وتاريخي بالمنطقة، لكن تعسفات بعض العمال والحكام الذين كانوا يمارسون الابتزاز والقهر فجر غضبا تحول إلى تمرد متواصل انتهى بتكون كيان سياسي مستقل. ومع بروز الإمارة البورغراطية (ق2 ه) وخلال أربعة قرون باذخة وغامضة حتى الآن سياسيا ودينيا وأثريا، عرفت الشاوية تحولات أخرى حيث كان العنصر البربري يؤسس لتاريخه المليء بالجهاد إلى أن جاء الموحدون الذين راهنوا على حروب انتحارية بالمنطقة انتهت بالقضاء على البورغواطيين (6 ه)، بعد جرائم اعتمدت البطش والقتل الجماعي وعمليات إحراق المزروعات والأراضي والمنازل، مما جعل المنطقة تعرف خرابا معماريا وسكانيا إلى حين قدوم يعقوب المنصور الموحدي الذي "استجلب" بعض القبائل العربية الهلالية، محاولة منه لسد الفراغ وتهجين الساكنة، وبالفعل سينصهر العنصر العربي مع العنصر البربري في وحدة مازالت ملامحها بارزة حتى الآن، وأعطى لقيم الصراع بعدا آخر. ذلك أن الشاوية ستصبح مرة أخرى قلعة دائمة لانطلاق المجاهدين خصوصا وأن الاستعمار البرتغالي والإسباني لم يستطع الاستحواذ على بلاد الشاوية رغم المحاولات المتعددة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر (1468 و1575 م)، وربما قاد هذا الوضع التاريخي المؤرخين الذين أوردوا شذرات متفرقة عن تامسنا/الشاوية أن يشيروا في كل مرة إلى عنصري المقاومة والتمرد، وكيف أن الشاوية استمرت مدة قرنين كاملين في حروب متواصلة إضافة إلى كونها كانت تضم مئات الآلاف من المحاربين والفرسان.. ذخيرة تتنمى على الدوام، بموازاة مع ما تقدمه من شهداء في مجتمع تنصهر فيه التناقضات كلها. داخل محطات التصدي الشعبي العفوي والمنظم منذ ما قبل الفتح الإسلامي إلى الأربعة قرون الجميلة والقاسية في العهد البورغواطي، ثم مع الموحدين والحلقة الساخنة في مواجهة تحرشات الأجنبي... داخل هذه المحطات المترابطة كانت الهجرات هي القاعدة وسط استثناءات الاستقرار، ثم التمازج بين العناصر المحلية البربرية والعناصر القبلية الوافدة، مما أعطى للوجود الشاوي حضورا مفرطا في الواقعية والخيال، إذ ستعرف الشاوية سلاسل متنوعة من الأحداث والأوعاء إلى الآن : منذ الادعاء الخارق من طرف صالح بن طريف البورغواطي للنبوة المزعومة إلى التشكل الكامل للأولياء والمتمردين والطامعين في اعتلاء عرش الشاوية، امن الدجالين وأنصاف الأنبياء الحالمين ومن الشهداء الذين استشهدوا بإيمانهم بأن الشهادة حق واجب. ثورات بمذاق الرمان منذ القرن السادس عشر بدأت الإشارات الدالة لطموحات الأوربيين في نهبنا واستعمارنا، خصوصا بعد اكتشاف أمريكا والانتباه المتوحش للدول غير المسيحية المحيطة، فاستمر الترقب والتقارير الداعية إلى استعمار المغرب منذ سفارة الجاسوسين خورخي دي هنين (1603-1613) إلى سفارة دومينكودي باديا (علي باي) (1803-1807)، وسيعترف المغرب لفرنسا (1767 م) ببعض الامتيازات التي تخص رعاية القناصل لخدمهم والكتاب الموظفين والمترجمين العاملين معهم من المغاربة، وقد كان هذا التنازل إشارة واضحة لبداية مسلسل التنازلات أمام الطموحات الممهدة للإستعمار، وعلامة على ضعف الدولة المغربية التي لم يعد أمامها سوى الحفاظ على وجودها في جو من المضاربات وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وغياب بعض المؤن الغذائية الأساسية، ثم المجاعات والأوبئة الكاسحة، مما سبب في تسلط أعوان المخزن من قواد وحاكمين، فكانت ثلاث معاهدات أخرى لامتياز الأجنبي مع انجلترا وإسبانيا وفرنسا (1856-1861-1863 م) الأمر الذي قاد إلى سنة 1880 حيث ستتخذ الحماية صبغة قانونية باتفاقية مدريد، وسيادة المخالطة والحماية كوسيلتين أخيرتين لفرض الاستعمار على المغرب كله. وإذا كان التاجر الأجنبي، من قبل ممنوعا من دخول الأسواق المغربية ومن شراء المنتجات، فإن أسلوب المخالطة باعتبارها مشاركة الأجنبي للفلاح المغربي في ملكياته، والحماية وخطرها المباشر، قد عجلا بتعبيد الطريق للاستعمار. وقد تجلت خطورة المخالطة والحماية، بالإضافة إلى سلبيات عدة، في إغراق المغاربة في ديون كثيرة – مخطط لها- بفوائد ربوية هددت رسوم ملكية الأرض والاستقرار العام أمام ضعف الدولة/المخزن وتراجعه عن التصدي لما يقع من تجاوزات تمس بالهوية والكيان، الشيء الذي جعل العديد من القبائل بالشاوية تعرف تضررا بليغا وبينا استفاد منه بعض الأجانب بشكل غير مباشر، وبعض السماسرة والشيوخ والقواد بشكل مباشر. في سنة 1894 ثلاثة من المغاربة قتلوا ألمانيا تجاوز حدود الأدب بسوء أخلاقه وتعجرفه، فعمد المخزن من خلال ممثله القائد أحمد بن العربي إلى إعدام عبد القادر باعتباره القاتل، والإبقاء على بوشعيب والوصيف امبارك في السجن مخلدين فيه لأنهما حضرا معه عملية القتل. وقد كان لهذا الحدث رمزية بعيدة تكشف عن الضغوطات والتدخل الأجنبي في سير الأمور السياسي بالمغرب، الأمر الذي دفع قبائل الشاوية إلى رفض هذا الأسلوب ومطالبة الدولة/ المخزن وبشدة، بإطلاق سراح المسجونين، والتخلي عن كل متابعة سببها ديون أجنبية؛ وللمزيد من الضغط فقد تمردت بعض القبائل وأصبحت رافضة لهذا الوقع الذي ينسحب من تحت أقدام المغاربة بشكل سريع، فتحركت جيوش المخزن في اتجاهات كثيرة لإخماد الانتفاضات الشعبية، وضمنها ثورة الأعشاش- أولاد امحمد بقبائل امزاب، والتي ستعرف قدوم : باحماد" الصدر الأعظم آنذاك، في صيف 1897 م ومذبحته الشهيرة في حق الأعشاش العزل، مخلفا آلاف الضحايا الأبرياء في حدث شنيع. الحب في زمن الثورات الملابسات التاريخية التي سبقت سنة 1903 والضغط الذي مورس بعنف وهمجية على الفلاحين كان فتيلا ساخنا لانفجار ثورات شعبية ضد القواد وأعوان المخزن وضد المحميين والمخالطين والسماسرة وعيون الأجانب والمجذمة ؛ كانت ثورات عفوية قبل أن تنتظم، ولم تكن "سيبة" كما حاول ويحاول العديد أن يتداولها ويصفها بها، حيث هاجم الفلاحون القصبات رمز الاستبداد واستعادوا منها ما سرق وأخذ منهم غصبا... ولأنها ثورة شعبية كان لها زعماء انتخبتهم القبائل وفرضوا بالاتفاق والتشاور والتداول نظاما على الجميع، حيث تتم المعاقبة الصارمة ضد كل من يرتكب جرما أو سرقة أثناء المقاومة. إنها معالم المقاومة الوطنية الحقيقية والتصدي الشعبي للانحراف، والتي أفرزت زعماء من طينة القرشي بن الرغاي، الأحمر بن منصور، الحاج محمد، الشيخ البوعزاوي والعشرات ممن سيكون لهم دور بارز في السنوات المحرقة الآتية. معالم انتفاضة يحركها عاملان : الديني والوطني برماة وفرسان وفقهاء وفلاحين أميين. كانت القروض التي تسلمها المخزن المغربي من فرنسا سنة 1904 قد أعطت للفرنسيين حق الإشراف على الجمارك واحتكار المال، كما كان مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906 الضربة الموجعة لاستقرار المغرب، لأنه حصل بالتعبير المشهور على قليل من المال وكثير من التدخل، مما خدش مشاعر المغاربة بالشاوية خصوصا مع احتلال وجدة (1906)، ودفع بالمجاهدين في الشاوية وعلى رأسهم الشيخ المرابط البوعزاوي إلى تحريض الفلاحين ودعوتهم للجهاد، وهو ما كان يدعو إليه الشيخ ماء العينين في جولته الموسعة الداعية إلى الجهاد ضد الكفار. وقد كانت الأشغال التي افتتحها المراقبون الفرنسيون باسم "الكومبانية المغربية" في ميناء الدارالبيضاء بمد خط حديدي وقاطرة لجلب الحجارة وانتهاك ونبش حرمة المقبرة الإسلامية المجاورة، بالإضافة إلى جلوس المراقب الفرنسي بالديوانة... هي آخر نقطة في كأس بلغ فيضه، الشيء الذي تختزله التواريخ التالية: الأحد 28 يوليوز 1907 : قدوم وفد عن بعض قبائل الشاوية إلى الدارالبيضاء للاتصال بقائدها السيد بوبكر بن بوزيد مطالبين إياه على وجه الاستعجال بطرد المراقبين الفرنسيين من الديوانة، والإيقاف الفوري لأشغال ميناء الدارالبيضاء وتخريب السكة الحديدية. وقد قيل بأنه إنه ماطلهم ثم لم يستقبلهم، وقيل إنه التقاهم وقال لهم أمهلوني إلى يوم 30 يوليوز متحيرا في أمره ؛ أو قال لهم أن الأمر برمته من اختصاص المخزن. الاثنين 29 يوليوز 1907 : اجتماعات داخل القبائل، واستمرار الترقب والانتظار مع التأهب ورص الصفوف والاستعداد من خلال حملات التنظيم والإخبار. الثلاثاء 30 يوليوز 1907 : قائد مدينة الدارالبيضاء بوبكر بن بوزيد يستدعي عددا من قناصل الدول الأجنبية والشخصيات السياسية والاقتصادية والإدارية ليتشاور في الأمور المستجدة، لكن قنصل فرنسا يوبخه مهددا إياه بأسلوب جارح. في الساعة 11.00 صباحا : محمد بن العربي البراح ينادي بمقاطعة الأجانب، ويهدد من لا يمتثل للإجماع الشعبي ، ويحذر الفرنسيين داعيا إياهم بمغادرة البلاد. عشية نفس اليوم تنطلق حركة الانتفاضة والاحتجاج بقتل تسعة عمال أجانب، وتخريب السكة الحديدية والقاطرة، وطرد المراقب الفرنسي. وفي نفس اليوم، اجتماع عدد من الزعماء الثوار في أولاد زيان، مديونة، المذاكرة، المزامزة، أولاد سعيد، أولاد سيدي بندود، أولاد بوزيري... في تجمعات خطابية هامة، بعدها دخل زعماء الانتفاضة على خيولهم وسيطروا على الأوضاع بالدارالبيضاء حيث أجلسوا مراقبا مغربيا بباب الديوانة لاستخلاص واجب الخراج من التجار اليهود. الأربعاء 31 يوليوز 1907 : السيطرة على الأوضاع بالدارالبيضاء من طرف الثوار، وانتشار الخبر بكل أطراف الشاوية التي تأهبت لأي مستجدات. وفي هذا اليوم كتب الثوار رسالة وجهوها إلى مجموع القبائل بأسمائها لتنفيذ ما جاء فيها، وهذا نموذج منها: تقول الرسالة :" الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، إخواننا قبيلة أولاد حريز كافة رعاكم الله والسلام عليكم وبركاته من خير مولانا نصره الله وبعد، فغير خاف عليكم أننا كنا تشوفنا لما ظهر وبان بثغر الدارالبيضاء ومرساها من جهة بابور البر فيها، ونزول الروم بمرستها كذلك بعد أن ينصر الله أمرا مفعولا على يد بعض رجال الإسلام، وقتلوا أصحاب البابور تسعة، وفسد عمله كله وخرج الكافر منها الذي كان بالمرسة، وكذلك دائرة الفرنسيس كلها وتجمع من حضر من قبيلة الشاوية وحصل الرفود على الثغر المذكور وغير ذلك من الطرقات والصادر والوارد في قبيلة الشاوية كلها تعين أعلامكم لتكونوا على بال وتتلاقوا مع بعضكم البعض وتعلموا جيرانكم من إخواننا أولاد أبورزك بأن يكونوا ببال وتقدموا للجمع يوم الاثنين الآتية في الصبيح ليقع الرفود بين القبائل وتبرحوا في الأسواق وتكونوا على بال بحيث إذا ظهر شيء في البحر وتكونوا فيه يدا واحدة، ومن وقع شيء في أرضه يحرق دوائره وأن الشاوية وما أضيف إليها يد واحدة، به الأعلام، وعلى الأخوة السلام في 20 جمادى الثانية 1325 (31 يوليوز 1907). أعيان قبيلة الشاوية كافة أمنهم الله. وتوجهوا بهذه إلى إخواننا أولاد أبوزرك. الخميس 1 غشت 1907 : فرقة عسكرية تابعة للمولى الأمين تعزف الموسيقي لنائب القنصل الفرنسي وهو يصعد إلى البارجة الحربية غاليلي التي رست صبيحة هذا اليوم بميناء الدارالبيضاء محملة بإنذار للمغاربة. الاثنين 5 غشت 1907: الخامسة صباحا من صيف غشت الصاهد، 66 بحارا فرنسيا من القتلة دخلوا من باب المرسى الذي وجدوه مفتوحا بأمر من المولى الأمين.. ومع وضع أرجلهم على الأرض المغربية شرعوا في قتل كل من وجدوه في طريقهم سواء من مخازنية أو سكان عزل، فيما بدأت البارجة غاليلي وبعدها البارجة دي شايلا بقصف المدينة بقذائف المنيليت الاشتعالية والقنابل التي التهمت الأحياء الشعبية خصوصا حي التناكر وقتلت الساكنة التي كانت آمنة وعزلاء.واستمر القذف خلال يومي 6 و7 غشت مع احتدام الصراع وكثرة القتلى ودخول فرسان الشاوية للانتقام من الغزاة. الأربعاء 7 غشت 1907 : البارجتان البحريتان تواصلان القصف الوحشي تمهيدا لنزول جيش الاحتلال بقيادة الجنرال درود رفقة 300 جندي، لكن فضيحة يوم سابع غشت كانت هي المؤامرة الثانية بعد باب المرسى، وتجلت في واقعة السور الجديد حيث احتمت أفواج مؤلفة من المغاربة العزل الفارين داخل السور الجديد في حماية وأمان المولى الأمين.... لكن الذي وقع أنهم احترقوا جميعهم بالغدر والدسيسة فماتوا شهداء انضافوا إلى من قتلوا في اليومين السابقين. وإذا كان سكان الدارالبيضاء،ديوان الشاوية، في تلك اللحظة لا يتجاوز ثلاثون ألف نسمة فإن ما بين 6000 و15000مواطن استشهدوا، وفر معظم المتبقين إلى النواحي، كما اعتقل العديد من الثوار والمجاهدين الذين حوكم بعضهم بالإعدام الفوري والبعض الآخر بالسجن ووضع ثوار آخرون في المعتقلات دون محاكمة ومن غير أن يعرف مصيرهم حتى الآن. كل هذا زاد من غضب الفلاحين بدليل أن الجنرال الفرنسي ظل محاصرا في الدارالبيضاء ومديونة لمدة ستة أشهر إلى أن تم تغييره بالجنرال داماد. من يتذكرنا؟ إن الحصيلة التي سيحملها معه درود في شكل هزائم وخيبات بدأت تجلياتها في معارك شهد الأعداء أولا عبر تقارير المخبرين أو التقارير العسكرية أو الكتابات الصحفية في ذلك الوقت أنها بطولية أبانت عن قتالية لدى الفرسان المغاربة وقدرة خارقة في التكتيك الحربي والإقدام ليل نهار. ففي يوم عاشر وثامن عشر غشت أمام اندحار قواته أمام فرسان الشاوية بعث درود برسائل استنجاد يطالب فيها بالذخيرة لمعاقبة أهل بلاد الشاوية. وفي غمرة المعارك سيوجه أهل الشاوية رسالة إلى عبد الحفيظ أخو السلطان عبد العزيز يحثونه فيها على إعلان الجهاد حفاظا على أعراض المسلمين وحريتهم وأملاكهم، الرسالة التي دونها الفقيهان السطاتيان البجاج وبن عزوز يوم حادي عشر غشت، وحملها إلى مراكش الزيراوي والعفيف سيكون الرد عليها خروج أول محلَّة حفيظية للجهاد يوم سادس عشر شتنبر بقيادة محمد ولد رشيد الفيلالي والتي ستخيم بسيدي عيسى قرب مديونة مقابل تحرك المحلَّة العزيزية بقيادة بن بوشتى البغدادي في أواخر أكتوبر وانهزامها بشكل فظيع . كل هذه الهزائم التي مني بها الفرنسيون بأسلحتهم المتطورة وبثلاثين برقية أرسلتها الحكومة الفرنسية للجنرال تحثه فيها على التقدم بأية طريقة لاستكمال احتلال الشاوية وتقليم أظافر أهلها..لم ينفع في شئ ، فجاء عزل الجنرال الذي أسندت إليه مهمة قيادة الإنزال الفرنسي في ثالث غشت 1907 . تسلم الجنرال داماد القيادة يوم خامس يناير 1908، وقد جاء لينفذ سياسة الاستعمار الفرنسي بأية وسيلة، فهو صاحب المنطاد الذي استعمله في عمليات التحرك والاستكشاف، وصاحب القتل بدون تمييز للأطفال والنساء والشيوخ وكل المدنيين وحرق الأراضي وتسميم المواشي ومياه الأنهار والآبار... إنه محارب قذر. وفي المعارك التي سيقودها، خصوصا يوم 15 يناير 1908 في معركة سطات المشهورة ستبرز بطولات المجاهدين الشهداء وعلى رأسهم القرشي بن الرغاي الذي سيستشهد في ذلك اليوم استشهاد الأبطال التاريخيين، بعدها معركة عين مكون (24 يناير) وهزيمة المعسكر الفرنسي أمام حركات المذاكرة بقيادة الأحمر بن منصور ومجموعة كبيرة من المجاهدين يقاتلون خلفه بشكل أشد ضراوة. في تراجعه، قصد الجنرال دماد المزامزة/ سطات في معركتين فاصلتين الأولى بلقصابي (2 فبراير)، والثانية بسطات (6 فبراير) مارس كل عدوانيته من قتل وبطش وتخريب لكن معركة برابح والسدرة، ومعركة فخفاخة (16 – 17 – 18 و 29 فبراير 1908) لقنت المذاكرة بقيادة الأحمر بن منصور الليث الهصور مول العلام، دروسا أخرى للجنرال وقواته وهي تسقط وتتراجع وتفر مهزومة. بعد ذلك جاءت مذابح داماد بمكارطو (8 مارس) وسيدي الغنيمي (15 مارس) ثم بإيحاء من الجنرال ليوطي شرع في إحداث ملحقات عسكرية لإنهاء المقاومة، فعرف أن أهل الشاوية لا يستسلمون بالسهولة التي كان يتخيلها وهو يتسلم القيادة يوم خامس يناير، ذلك أن 29 مارس 1908 بسيدي عسيلة، المذاكرة وقبائل أخرى داعمة سيسقطون اثنين من كبار قادة المعسكر الفرنسي وهما سلفستر وبوشرون. كما كان أهل المزامزة وبجانبهم أولاد سعيد، أولاد سيدي بنداود، وأولاد بوزيري وقبائل أخرى بقيادة الشيخ البوعزاوي ومجاهدين أفذاذ يدافعون ضد التقدم الوحشي للفرنسيين في معركة سطات الثالثة ( 6 أبريل) وهي الفترة التي خابت فيها آمال رجالات الشاوية بعد انتظار طويل وتشويقي لمجيء محلة عبد الحْفيظ... هذا الأخير الذي رحل إلى فاس بحثا عن حل سلمي بعدما كانت خطاباته المتبادلة مع أهل الشاوية كلها أمل ودعوة إلى الجهاد والقتالية. معارك الغابة (سيدي كامل، صخرة عبو، بريغيت، واد العطش) ومعركة بيرالورد منذ 11 ماي وخصوصا في الخامس عشر والسادس عشر منه هي آخر المعارك الكبرى في سلسلة ملحمة قوية أبانت عن مجاهدين كبار وشهداء يحملون قيما كبيرة وأحلاما أكبر. من أكون؟ لماذا نسيت الكلام.. قليلا وحولت بصري إلى أصدقائي القدامي، أكتب تأويلات لجزء يسير من أفعالهم.. أسرد فقط الإشارة دون العبارة؛ وأنا أعرف عنهم تفاصيل حيواتهم الداخلية ، شساعة وجدانهم وبداهة التصور. الفرس الذي تركه لي جدي مربوطا في السْمَارْ، مضغ الرسن وراح ولم تبق لي غير نفسي، فكل المعارك انتهت، فقط معركة النفس والقيم وحروب الإطاحة بكل ما هو جميل تكاد تنهي عملها. الآن وجدت شيئا أتشبث به عند أجدادي وجداتي وأصدقائي الذي أحبهم أكثر من نفسي.. ووجدت شيئا أكتب عنه وأفخر به، يُقوِّمني وأمشي على هدْيه. ماذا سنترك نحن لأبنائنا وحفدتنا. بع