«ذلك الطفل الذي كنته يوما ما، تتملى العالم من حولك ببراءة الحالمين.. تخطو.. تتعثر.. تلهو.. تزهو.. تشاغب.. تكبر. فيكبر معك العالم من حولك، وتكبر مودتك للحضن الأول.. لبلدتك الصغيرة التي وطأتها قدماك. هناك كنت تحصي أيام شغبك الجميل.. هي لحظات آسرة كانت منفلتة من ذاك الزمن السرمدي، وشمت خيالك ووجدانك لتنسج عبرها، ومن خلالها علاقات حميمية هنا والآن. فتلتقطك على حين غرة أسرار الكتابة وتجذبك مليا إليها في عز اليفاعة، لتتقوى آصرة العلاقة بينكما، ومن خلالها سال مداد كثير. رسمت بعدها مسارا مميزا في الكتابة، هو نسيج لا محالة لتجربة في الحياة كما استهوتك وكما عشقتها أن تكون...»هي إذن فسحة للصيف نستضيفك لها لنكتشف معك، ومعنا القراء، مسارات الطفولة وشغفها بالمكان وما تحتفظون به من صور الذاكرة ولقاؤكم الأول مع الكتابة. شهادة هي في النهاية من تجربتكم في الحياة.. حين أعود بذاكرتي الى صفو الطفولة الاولى ، ألتقي بالطفل الذي كنته أنا ، أكثر ما أراه في حيفا ... حين كنت صغيرا فيها كانت السماء أكثر زرقة متوجة بعباءة من النجوم... وكانت الرمال الممتدة على الشاطئ ،وأمواج البحر، وحتى زخات المطر ، ولطمات عصف الرياح ، ليست من صنوف ما لدينا الآن ... كان ورد «الحنون» الأحمر يستدرج الندى وقت الظهيرة في السهول ، وهاتيك الأتلام القديمة الممتدة في كل الجهات كانت أكثر فسحة لليمون والزيتون واللوز والرمان. ألملم شملي في كل مساء ، وأرجع من جديد الى حيفا ... أسترجعها ، تمتد أمامي ، أسير في أزقتها على َهدْي قلبي ، أرقبُ فيها من نافذة في حي النسناس آلاف الوجوه ، أستحضرمنها في عيني الشاردتين صورا شتى ، وأستشعر حولها صدى حكايا قديمة ...أقف قليلا ... ومن جديد أنطلق مسرعا ، أوغل في الأزقة ثانية وأتي إلى شارع الناصرة ، أقف عند ناصية تقاطعه مع طلعة الكرمل خلف تمثال فيصل وأرى عن بعد بيتي ... أصله ، وبشعور ملؤه الشوق والحزن أطوف حوله سبعا وأكثر . أقلب ذاكرتي في محاولة لتذكر أيامي الأولى في حيفا ، أستحضر منها حارتي ، على مقربة من بيتي أرى ثمة أطفال ، أتجه اليهم أشاركهم بالوقوف أمام « صندوق العجائب « ، أسمع كلمات صاحبه يتمتم بحكاياه المسلية ،ألاحق كلماته عبر طاقة أمامية دائرية صغيرة تترامي فيها صور ممزوجة ببقايا أساطير أزمنة غابرة . أحببتُ بالفطرة وطبيعة النشأة والعصر حكايا صندوق العجائب ، تعرفت عليها مبكرا في حيفا ، كنت أحس أنها تجسد كل الدنيا ، تتقافز فيها الصور والمعاني وأخبار الحروب ... يوما إثر يوم اكتشفت منها ُكنه عالم من الخيال يتجاوز أرض الواقع ، يمكن به توظيف حروف دائمة الإنشاء والتحول في خيالات مزخر فة على إيقاع مؤثرات وانفعالات متواصلة مفعمة بالتأمل . حكايا صندوق العجائب بإيقاعها وحلاوة سجعها ، رسخت في نفسي رغم سنواتي الباكرة فرط عشق للحواديت الشعبية بتجلياتها التخيلية ، وأصبحت بها مهيئا لحب القراءة والتخيل والكتابة في مواضيع الانشاء . أستعراض وقائع حياتي في أرض مولدي ومسارب التكون تحيي زاوية قابعة في أعماقي ، تذكرني بأنني مدين أيضا لحب التخيل والقراءة والكتابة إلى خال أمي الشيخ ديب عوض ( أبو النجي ) من قرية « سيلة الظهر» ، تعيدني عقارب الساعة الى الوراء كثيرا وألقاه يجلس في ركن مهم من ذاكرتي ... كان شيخا جاوزالسبعين من عمره ، ذا لحية كثة بيضاء ، يرتدي دوما قنبازا مقلما بخطوط زرقاء نصف معوجة ،اعتاد على زيارة أسرتي في حيفا بين الحين والحين ... كنت أقتات في الأماسي من حكاياه الطويلة عن بطولاته مع ابن قريته القائد أبو خالد في ثورة 36 . كانت حكاياه سلسلة متصلة من الأحداث ،يمزج فيها الواقعي بالأسطوري على مدى مساحات واسعة ، يسردها على إيقاع مؤثرات صوتية يخرجها من ثنايا صوته الجهوري ، تعلو وتهبط مع تراقص يديه بحركات يلوح بها في الهواء بلا انتهاء ... وفي أحيان كان يبكي بكاء حارا أكثر فأكثر بنشقات عالية كلما ذكر استشهاد أحد أصحابه الثوار، وكانت أمي تتابع أحاديثه باكية منتحبة حين يذكر مرج صانور في هاتيك الأيام الخوالي ، و قصة استشهاد ابن عمومتها من ذنابة قائد الثورة العام ،ا لراحل الكبير الشهيد عبد الرحيم الحاج محمد أل سيف ( ابو كمال ) . أذكره وهو يربت ُعلى رأسي حين أشعر بالخوف من بعض تفاصيل حكاياه المؤثرة ، كان يغير مجرى حديثه ، ويمزج حكاياه بأشعار الأغاني الشعبية ، يسافر فيها عبر الزمن تراثا وتاريخا ، في كل القرى والمدن الفلسطينية ،كنت أحس بها خشخشة أوراق الزيتون، وأسمع صدى أغاني النساء والرجال في مواسم الحصاد ، وإيقاعات سحجة عالية تشكل خلفية رائعة . حكايا الشيخ ديب كانت لي مرآة شديدة الصفاء ، َفتحتُ عيني على أرجوحة شبكية منسوجة من الحروف والأحبار الملونة ... اعتدت على حكاياه و كنت أحاول تقليده كثيرا في صغري ... ذات يوم وكنت حينئذ بحدود التاسعة ، طلبت مني أمي أن أقرأ لها في كتاب ديني ... كانت أمية لا تعرف القراءة والكتابة ... أصيبت بالدهشة للأنني كنت أقول لها ما كنت أختزنه من حكايا الشيخ ديب عن الثوار ، كنت أضبط حديثي بصوت يهتز انفعالا بالنظر الى صفحات الكتاب بكيفية سريعة متصاعدة ... أتصفح الأوراق صفحة تلو أخرى ، للتأكيد على أنني أقرأ منها ... كانت أمي تضحك وتضحك وتقول لي غدا ستقرأ لي من الكتاب ، « يكفيني اليوم تخيلاتك وحكايا خالي «. وأذكر في ذات يوم أيضا أنني خرجت مع أمي للتنزه ، شبكت يدها بيدي الصغيرة ، لأظل معها ، لأنني كنت دوما أحث خطواتي لأتقدمها ، أو أتلكأ لأغدو خلفها ... سرنا معا صوب حديقة أشجار الخروب المترامية على أطراف الكرمل السفلية... جلسنا على مقعد خشبي و رحنا نثرثر ، وعلى حين غفلة رأيت عن بعد قطار سكة الحديد خارجا من محطة حيفا الرئيسية ، في طريقه الى الجنوب ... استمتعت بمنظره وهو يتهادى في شريط مجراه على صوت و قع عجلاته، تاركا خلفه حلقات طويلة من الدخان على امتداد الطريق المحاذي لشاطئ البحر... حدثت أمي بصوت عال بحواشي وصفية للقطار مفعمة بألوان صور ساذجة من التخيل عن سرعته وانزلاقه المتواصل فوق القضبان الحديدية. امتلأ قلبي بفرح زائد حين ابتسمت أمي عند توقفي عن الحديث ...احتضنتني ، وهمست بنبرة حنان زائد « أنت مثل خالي الشيخ ديب كثير حكي « ... كاد يغمى علي من فرط الفرح لما قالته ، ولا زلت أتذكر إحساسي بالفرح حتى الآن . بعد عام واحد ، تجاوزت محاولة فهم حكايا التخيل ... دخلت مرحلة َتَلقي واقع الاغتراب والنفي ، ُهاجرت قسراً في عام 1948،لجأت مع أسرتي الى قرية « برقة « مسقط رأس والدي ... تحجرت أحلامي وتراكمت في نفسي حالة وجدانية مؤثرة من مأسي الهزيمة ترسخت في ظل غربة باكرة لصبي صغير . مرارة الغربة ترُدني دوما الى أيام مضت لا يطويها النسيان ، أتحسس فيها وميض ضوء أراه يحبو على أمواج بحر حيفا ... ينفضُ عن كاهلي عبء السنين ، يعيدني ثانية الى حيفا عبر حروف أنشرها في جريدة الاتحاد الحيفاوية ،أمد بها خيطا من التواصل مع أيام مزهرة مضت في طفولتي الباكرة ، لا زالت تفاصيل صُورها باقية في نفسي حتى الآن ... لن تختفي ستبقى دائما جوهرا ثابتا للروح حتى آخر لحظة في الحياة .