ظهر عبد المغيب السليماني في غشت 2009، وهو يستنشق هواء الحرية بكورنيش عين الذياب. مسح بعينيه أوراشا بعضها أثثت المشهد البيضاوي دون أن تغير الكثير من اليوميات الملتهبة قضاياها للعاصمة الإقتصادية. لقد مرت السنوات الخمس بطيئة على صهر وزير الداخلية المخلوع في سجن عكاشة بالعاصمة الإقتصادية، التي أدنته ابتدائيتها، وإستئنافيتها في قضية فساد واختلاس أموال عامة، وتزوير وثائق تجارية وإدارية، ومصرفية، والتعامل بالرشوة، واستغلال النفوذ. أما الابن المدلل لإبنة عمه فتيحة السليماني، والابن البكر لإدريس البصري رجل الشاوية القوي على عهد السحن الثاني، الذي كان بالأمس القريب ( في بداية حكم محمد السادس) يتنقل بين باريس ونيويورك فيما يطارده شبح مذكرة قضائية، فقد عاد ليضخ البنزين في مشاريعه القديمة، وليمارس الكثير من هواياته المفضلة، بما في ذلك ولعه بجمع السيارات النادرة والرقاية، وفي غشت المنصرم دائما، شوهد توفيق البصري، الإبن الثاني لوزير الداخلية الأسبق، الذي درس مع الأمير مولاي رشيد، وهو يسوق اليخت " عزيزة" في المضيق، غير بعيد عن أبناء النخبة و أثرياء المملكة الذين يستمتعون بجوهرة الشمال بالقرب من الإقامة الملكية، أليست " عزيزة" نفس اليخت الذي كان يحلو لرجل الشاوية أن يقضي فيه قيلولته في الصيف بعد إعفائه من منصبه شهرين فقط بعد اعتلاء محمد السادس العرش؟، ألم تطوق الشرطة اليخت وتحتجزه وغصة رجل الشاوية في الحلق، وهو يهاجم الهمة شخصيا، بعد أن اتضحت له ملامح خلفه في أم الوزارات حينئذ، في الكثير من الخطوات التي ضيقت الخناق عليه وعلى أسرته؟، ظهر من جديد أثار النعمة والرخاء على عائلة البصري التي تخلصت من عقدة رب الأسرة المغضوب عليه، العدو الوفي للمملكة أو "الوزير الحارك"، والرجل القوي في أم الوزارات الذي انتهت صلاحية جواز سفره وهو يخضع للعلاج في باريس، ورفضت القنصلية المغربية تجديده، فإذا به يخوض حربا ضروسا من منفاه الاختياري ضد رموز العهد الجديد، عكستها تصريحاته النارية. فهل يعيش آل البصري بعد مرور عشر سنوات على وفاة إدريس البصري السياسية ( إقالته في نونبر1999)، ومضى سنتين على وفاته الجسدية، على إيقاع توديع الأيام العصيبة لمحاولة تحييد مسؤول أمني كانت تنقصه الحكمة وهو بالقرب من ولي العهد ويحتك بملك المستقبل، وقد فقدا أعصابه، بعد أن أشتد عليه الخناق؟، هل تلقى ورثته الضوء الأخضر لاستغلال الهبات التي لم يبخل بها الحسن الثاني على خديمه الأرضى، وقد كادت في فترة سابقة تتعرض للتتريك أكثر من قرينة تؤكد على أن صفحة رجل الشاوية إدريس البصري قد طويت، الإفراج عن صهره عبد المغيث السليماني في مناسبة عيد الشباب التي احتفى فيها محمد السادس بعيد ميلاده السادس والأربعين، ودخول مولاي حفيظ العلمي الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب، في شراكة مع آل البصري لتشييد مشروع عمراني في بنسليمان مسقط رأس فتيحة السليماني أرملة البصري، التي كانت في بداية حكم محمد السادس على رأس لائحة الممنوعين من مغادرة التراب الوطني، وتعيين هشام البصري الرئيس الشرفي لفريق النهضة السطاتية، وتجميد كل الملفات التي كان العهد الجديد قد فتحها للإبن البكر للبصري بعد أن وجه له قاضي التحقيق جمال سرحان المذكرة الشهيرة، وورد اسمه في محاضر استنطاق بعض المتهمين في ملف السليماني و العفورة. إن كانت المؤشرات تؤكد أن ضغائن الأمس جمدت، وهذه على الأقل أبرزها: أولا: الترخيص لمشروع من حجم بنسليمان الذي تعاقد على إنجازه وإخراجه إلى الوجود مع ورثة البصري مستثمرون من عيار الأخوين القباج، أو رجلي الأعمال اللذين يتربعان على عرش بناء وتجهيز الأشغال العمومية، أو الشركة ( إ س .جي .تي .إم )، وهي في ملكية شقيقي الجنرال القباج الذي كان يقود الطائرة خلال المحاولة الانقلابية الثانية، بالإضافة إلى المجموعة المالية " زلاخ" ، ومولاي حفيظ العلمي، علاوة على مستثمرين آخرين بعضهم من المغاربة اليهود وآخرين لديهم تجربة في عالم العقار، وإن آخر شئ يمكن أن يصدقه العقل ويقبله المنطق، أن يكون كل هؤلاء الشركاء قد دخلوا في صفقة عقارية مع ورثة البصري، دون أن تكون لديهم ضمانات محسوبة العواقب و قرائن دقيقة لا تتجاوز القرار السياسي الذي اتخذه من يهمه الأمر، ثانيا: الإفراج عن صهر البصري، وإن كان لم يقض إلا نصف العقوبة الحبسية التي أدين بها، مع ما تحمله من إشارات ودلالات . ثالثا: بعد غياب طويل عن المغرب، يعود هشام الابن البكر للبصري الذي وجهت إليه أصابع الاتهام بالأمس ليسير شركته الموزعة لأحد الفاعلين في الاتصالات الهاتفية، ويصفي بعضا من الملفات العالقة في تركة والده التي كان أغلبها متمركزا بين يده في شكل شركات كانت وراء مشروع " بوزنيقة باي" و "أفيفون" و "إي بي إس " الشركة التي يديرها الآن شقيقه الأصغر خالد البصري، مثلما ربح باقي ورثة البصري رهان ملفات قضائية كادت أن تجردهم من بعض الممتلكات العقارية، سواء تلك المكتراة أو التي كانت موضوع هبلة ملكية. حزم عبد المغيث السليماني حقيبته بالمستشفى ليلة20 غشت 2009 أكثر من مرة، ارتفعت دقات قلبه وتزايدت وتيرة تصببه بالعرق، فقد بشرته عائلته بإمكانية استفادته من العفو الملكي بمناسبة احتفالات عيد العرش. لأول مرة سيسترجع عبد المغيث السليماني أنفاس الحرية منذ اعتقاله في فبراير2004، توالت طلبات العفو المشفوعة بملتمسات الصفح، لكن يبدو أن القضبان كانت أصلب من أن تفتح لصهر وزير الداخلية المخلوع إدريس البصري في ذكرى تربع محمد السادس على عرشه قبل 21 غشت 2009 . نزل حمام بارد على عائلة عبد المغيث السليماني، فقد علموا بما لا يدعو للشك أن آخر طلب التمسوا فيه العفو الملكي، منذ ستة أشهر، قد حظي بالموافقة، لاسيما وقد ركزوا في ملتمس العفو هذه المرة دفوعات أسرته، خصوصا بعد أن استبد به مرضا السكري والقلب ومضاعفاتها، وقد تقدمت العائلة بوثائق طبية تثبت درجة خطورة مرضه، بما في ذلك شبح تدهور حالته الصحية الذي يهدده ببتر رجليه كما حدث مع شقيقه، في حالة ما إذا لم يواصل علاجا مكثفا. وما زاد من صدمة العائلة أن المصدر الذي أكد لهم إمكانية حصول السليمان على العفو، قد يكون من الذين يشغلون موقعا عاما في القصر يبوئه الإطلاع على صحة نبأ العفو من رفضه، على نحو ما أكدت لل "الأيام" مصادر مطلعة. كنزة السليماني هي ابنة شقيق عبد المغيث السليماني، وهي في نفس الآن زوجة المهدي ابن محمد الشرقاوي زوج للامليكة عمة الملك محمد السادس وأحد أبرز ابنائهما ليس إلا مولاي عمر ذو الملامح الصارمة الذي يتمتع بحظوة كبيرة لدى الملك، فهل لعبت المصاهرة العائلية لصالح صهر رجل الشاوية القوي على عهد الملك الراحل، والتعجيل باستفادته من العفو علما أن مولاي عمر ابن محمد الشرقاوي صهر الملك، هو قريب مولاي الطيب الشرقاوي الرئيس الأول للمجلس الأعلى الحالي، ورئيس مديرية الشؤون الجنائية والعفو، قبل أن يخلفه محمد عبد النبوي، أم لعلها المصاهرة العائلية التي تجمعه برشدي الشرايبي بحكم أن زوج أخت عبد المغيث السليماني تجمعه علاقة مصاهراتية بالشرايبي العضو في الديوان الملكي، هي التي قد تكون عبدت له الطريق نحو الحرية؟ ألم يتخذ قرار العفو عن صهر البصري بمعزل عن أي نوع من العلاقات المصاهراتية وعن الحالة الصحية للمعتقل؟ أهو القرار السياسي القاضي بطي صفحة البصري الذي يقف وراء العفو عن رئيس المجموعة الحضرية للدار البيضاء سابقا والمدان بست عشرة سنة حبسا نافذا ابتدائيا ، قبل أن تخفض عقوبته الحبسية استئنافيا إلى عشر سنوات حبسا نافذا؟، إن أية قناة مهما كانت درجة العلاقة العائلية أو المصاهراتية التي تجمعهما بعبد المغيث السليماني لا يمكنها أن تغلب كفة العفو من عدمه خارج قرار سياسي يقضي بطي صفحة صهر وزير الداخلية المخلوع، التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من كتاب إدريس البصري ككل . اعتقال عبد المغيث السليماني تجاوز مساءلة شخص رئيس المجموعة الحضرية للدار البيضاء وفتح مشروع أولاد زيان والنبش في ملف لوفاط، وفي بعض من الفواتير الوهمية، ومصادرة أملاك رئيس جماعة الصخور السوداء. ألم تكن الرسالة القوية التي بعث بها النظام المغربي إلى وزير الداخلية الأسبق الذي كان قد اختار خط اللاعودة؟ كان رجلا متقد العينين شرارا، تختلط لكنته البدوية بالغضب الذي يفقد صاحبه السيطرة في عباراته، مرت أيامه في المنفى رتيبة، ظل يمكث متبطلا نهاراته بطولها بين أفخم المقاهي، والمطاعم الباريسية، وبين اللقاءات الصحافية المكرورة. لم تجد لا تقريعات بعض من أفراد أسرته ولا التعنيفات الكلامية لبعض من أصدقائه لوضع حد لتصرحاته النارية. فلم يغادر البصري أرض الوطن إثر عزله من منصبه، إلا بعد أن بلغ الاحتقان درجة كبيرة بينه وبين رجالات الملك الحالي محمد السادس، خاصة الوزير المنتدب لدى وزير الداخلية فؤاد عالي الهمة، والمدير السابق للأمن الوطني حميدو لعنيكري، وقد اتهمهما في أكثر من تصريح صحافي بالوقوف وراء تجهيز صك اتهام صهره عبد المغيث السليماني بالفساد، وجره إلى المحكمة. أعلن مواقف راديكالية من ملف الصحراء واستمر في كتاباته المعارضة للإستراتيجية الجديدة في التعامل مع الملف، وانتقد تعامل الدولة مع الحركات الإسلامية. هو ذا البصري في عز الصراع ، وكلما ابتعد أكثر عن أم الوزارات وعن مقر السلطة وقاعة العرش والأمكنة المهيبة والقصور و الإقامات، وضيق الخناق على تحركاته وتحركات أبنائه، لاسيما ابنه البكر هشام، كلما أصبح معارضا شرسا أكثر من ذي قبل. لم تكن إذن إدانة السليماني إلا محاكمة ومساءلة لتدبير الجماعات المحلية بالمغرب لما يزيد عن عشرين سنة، أي الفترة التي كان فيها البصري وزير للداخلية، وأكثر من ذلك، كانت بمثابة السيف الذي قطع حبل أسرار هدد العدو الوفي للمملكة بالكشف عنها، ومات وهو يحرص على أن تكفنه في قبره إلى الأبد، كما يؤكد لل " الأيام" مصدر تتبع ملف مشروع أولاد زيان عن كثب: البصري كان رحمه الله رجل دولة، يقدر أسرار الدولة حق تقديرها، ولم يكن تهديده بتسريب بعضها، إلا واحدا من فصول شد الحبل بينه وبين رموز العهد الجديد الذين هددوه في فتره سابقة بفتح ملف صهره السليماني وبجر ابنه البكر إلى المحاكمة.."، فهل كان من الممكن أن يغادر السليماني السجن وهو لم يقض إلا نصف العقوبة الحبسية خارج قرار سياسي يجب ما قبله، ويضع حدا لبعض التضييقات التي تعرض لها وزير الداخلية المخلوع، الذي مات دون أن يكشف عن أي من الأسرار الثقيلة التي حملها ربع قرن إلى جانب الحسن الثاني؟ لعل الحسم في هذا السؤال رهين بعلامة استفهام أخرى عن مصير الممتلكات المصادرة لآل السليماني بحكم قضائي، وإن كانت قد خضعت لتسوية أو موضوع مفاوضات ما بعيدا عن العدالة ورقابة الرأي العام الوطني. قبل أن يغادر صهر البصري السجن، كانت عائلة وزير الداخلية القوي تنفض الغبار عن واحد من أهم الرسوم العقارية التي أغدقها الحسن الثاني بسخاء على خديمه الأرضي يتعلق الأمر بقطعة أرضية تبلغ مائة وعشرون هكتارا، ستحتضن مشروعا عقاريا ضخما، ما كان المتتبع للشأن الذي طبع العلاقات بين البصري والعهد الجديد، يعتقد أنه سيأتي اليوم الذي يستعيد فيد أبناء البصري قدرتهم على الدخول في مشاريع عقارية، تماما مثلما حدث على عهد الحسن الثاني في مشروع " بوزنيقة باي" ، وقد كان بطله بامتياز هشام، الإبن البكر للبصري، الذي لم يخرج بأقل من شيك بمبلغ خيالي وقعه منير الماجيدي مدير الكتابة الخاصة للملك. وقع مولاي حفيظ العلمي رئيس الباطرونا السابق ورئيسها الشرفي هذه المرة مع آل البصري وشركائهم صفقة بنسليمان في غشت 2008 فهل كان يمكن لمولاي حفيظ العلمي، الذي يملك عشر في المائة من مشروع آل البصري، أن يقدم على خطوة من هذا القبيل وهو الذي ارتبطت الكثير من مصالحه بالقصر دون أن يحظى بالتزكية، أو على الأقل أن يكون قد التقط أكثر من إشارة تطمئنه بأن شراكته مع ورثة البصري لن تضر بمصالحه السياسية والمالي؟، التوقيع مع الشركاء في المدينة بدأ في غشت 2008، لكن بمجرد ما باشرت الشركة التي تضم ورثة البصري بنسبة خمسين بالمائة ، وباقي الشركاء بالنصف الثاني، الإجراءات القانونية و المسطرية لإنجاز المشروع، حتى اصطدمت ببعض العراقيل التي كان يمكن أن تقبر المشروع ، حسب مصادر مطلعة. إذ ظل المشروع موقوف التنفيذ إلى غاية أبريل 2009، فإما جرت العادة أن لا يبرمج في لجنة الاستثمارات التي تعقد اجتماعها بشكل منتظم كل خميس بعمالة بنسليمان، أو تبرمج ويخضع عند كل مرة مشروع ورثة البصري للتأجيل بقرار من العامل أو نائبه. لكن، يبدو أن طرفا ذا نفوذ دخل على الخط و أوصل الملف إلى من يهمه الأمر، وأن الترخيص له معناه أن العهد الجديد طوى صفحة البصري الممهورة بالصراعات والحسابات القديمة. يبدو أن رجل الشاوية القوي على عهد الحسن الثاني كان في حاجة إلى وفاة الصدر الأعظم السياسية والجسدية، كي يتخلص آل البصري والبصري نفسه من الإرث الثقيل الذي راكمه وزير الداخلية مع رموز العهد الجديد. عن الأيام