عفو ملكي على 1304 أشخاص بمناسبة ذكرى 11 يناير    اطلاق ثلاث خطوط جوية جديدة تربط الصويرة بباريس وليون ونانت ابتداء من أبريل المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    طنجة : الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة للثقافة والإعلام    المنتخب المغربي يودع دوري الملوك    مراكش... توقيف مواطن أجنبي مبحوث عنه بموجب أمر دولي بإلقاء القبض    حرائق لوس أنجلوس .. الأكثر تدميرا والأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا (فيديو)    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    تهنئة السيد حميد أبرشان بمناسبة الذكرى ال81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    وزير الخارجية الفرنسي "يحذر" الجزائر    توقيف شخصين في مراكش بتهمة النصب والاحتيال وتزوير وثائق السيارات    "الباطرونا" تتمسك بإخراج قانون إضراب متوازن بين الحقوق والواجبات    مدن مغربية تندد بالصمت الدولي والعربي على "الإبادة الجماعية" في غزة    إيكال مهمة التحصيل الضريبي للقطاع البنكي: نجاح مرحلي، ولكن بأي ثمن؟    هذا ماقالته الحكومة عن إمكانية إلغاء عيد الأضحى    مؤسسة طنجة الكبرى في زيارة دبلوماسية لسفارة جمهورية هنغاريا بالمغرب    الملك محمد السادس يوجه برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنان الراحل محمد بن عبد السلام    المناورات الجزائرية ضد تركيا.. تبون وشنقريحة يلعبان بالنار من الاستفزاز إلى التآمر ضد أنقرة    أحوال الطقس يوم السبت.. أجواء باردة وصقيع بمرتفعات الريف    الضريبة السنوية على المركبات.. مديرية الضرائب تؤكد مجانية الآداء عبر الإنترنت    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    الملك محمد السادس يهنئ العماد جوزيف عون بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية    توقف مؤقت لخدمة طرامواي الرباط – سلا    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إيداع 10 علامات تجارية جديدة لحماية التراث المغربي التقليدي وتعزيز الجودة في الصناعة الحرفية    أسعار النفط تتجاوز 80 دولارا إثر تكهنات بفرض عقوبات أميركية على روسيا    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    فيلود: "المواجهة ضد الرجاء في غاية الأهمية.. وسنلعب بأسلوبنا من أجل الفوز"    "الأحرار" يشيد بالدبلوماسية الملكية ويؤكد انخراطه في التواصل حول مدونة الأسرة    تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، محطة نضالية بارزة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية وتحقيق السيادة الوطنية    القِرْد سيِّدُ المَشْهد !    ميناء الحسيمة يسجل أزيد من 46 ألف من المسافرين خلال سنة 2024    جماعة طنجة تعلن نسبة تقدم أشغال تأهيل معلمة حلبة ساحة الثيران    من هو جوزيف عون الرئيس الجديد للبنان؟    وفاة صانعة محتوى أثناء ولادة قيصرية    حوار بوتين وترامب.. الكرملين يعلن استعدادا روسيا بدون شروط مسبقة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    بوحمرون يواصل الزحف في سجون المملكة والحصيلة ترتفع    ملفات ساخنة لعام 2025    تحذير رسمي من "الإعلانات المضللة" المتعلقة بمطارات المغرب    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أقدام أوديب
نشر في العلم يوم 03 - 01 - 2013

ولد ووتد شيخوخة الوالدين ، يشده الى العزلة. وحيد أمه و أبيه . تدرجت به الطفولة بين أسيجة حب خائف. تراكمت سنون اليفاعة مطوقة باللاءات الحمراء. لم يكن كارها لحياته. فيض الحب الأمومي ، وازى كفة الحب الصارم للأب. لذا جاءت نتائج تحصيله العلمي ، عالية الإيجابية و التفوق.حصل على شهادة الباكلوريا بميزة حسن جدا. لكن قدمه ما زالت مربوطة الى سنديانة الحب الأبوي. مكتوب لخطوه أن لا يتعدى المدار الحضري لمدينة تطوان. شغفه بالقراءة و الأدب العربيين هون عليه الأمر، فالتحق بكليه الآداب بمرتيل.
مستسلما لحبله السري ، كان خطوه.لا يرى غير صبار مخاوف الأبوين عليه.كان يتنكر للندى في راحتيه. خجول بين براري العالم الذي ولجه، يفر منه الكلام. صرخت في أذنه الأيام الطلابية. أومأت إليه الأنشطة الشبابية. غمزت إليه عين الأنثى الغضة الطرية، المتعطشة لشغب الصبا.لكن كل هذه ألغاز يصعب عليه فكها. همست لها عناوين الكتب و المراجع، أغرته بوشوشتها الكتومة، فاستجاب لها. غاص بين أحضانها. فرشت له جدائل معرفية عشقها. مسحت آلهة التنوير ، آثار مسالك الطفولة المقيدة التي عاشها. نفثت حوله ، رياحا مشطن غبار الأسر الأبوي. لغز هو هذا الميلاد لشخصية محمد . لم يستطع أن يفسر كيف انشق صخر السكون . كيف نهضت أفراس الفكر ، ترتع في المدى.تبهره طبول التمرد فيعدو نحوها. يصيخ السمع لإيقاعاتها الهادرة. أفكار و حراك و لهيب. جمرات الرفض ، شهب الحرية ، وديان العسل المر تنساب على الجراح. أدرك كم كان مقصيا من هذه الباحة. تطايرت الأسئلة حوله ، طيورا شرسة، تفقأ عينيه. ملعونة ساحة الكر و الفر.
أحبوك ، « لكنهم كتبوا عليك نشيدهم لتكون» أنت « «هو» الوحيد». 1
ظل محمد طيلة الفصل الدراسي الأول ، مكتفيا بالإعجاب و المشاهدة.متكئا على دكك ساحة الكلية. يتحدى مهابة الجدة فيما يدور حوله ، فينفلت منه هتاف خجول تارة ، و تارة يرنو إلى ظله الثاوي تحت عباءة الأب. يتسلل نحو عتبات الرفض.يتوق لشغب مختلف. يغضب . يرفس الأرض بقدمه. يشاكس في نقاشه . يرفع صوته مع الحناجر الفتية الصارخة .هؤلاء أقراني، لا يهبون هباء.الصدى متعدد في جنبات الكلية، لكن الرفض واحد. الاحتجاج واحد. التنديد واحد.الشجب واحد . و القضايا تصب في قضية واحدة هي الدفاع عن «الإنسان»، سواء تعلق الأمر بطالب مطرود، أو بقرار مجحف يتعلق بشؤون الوطن، أو بموقف دعم و مساندة ،لشعوب هم إخوان لنا في الإنسانية .عند كل نشاط طلابي كان يتعلق بالانتماء أكثر.قرأ دواوين الشاعر المصري أحمد فؤاد. تعرف على غيفارا من خلال إحدى قصائده عنه «غيفارا مات، غيفارا مات «. استبد به فضول المعرفة، فقرأ عن حياته، و نضالاته ، و مبادئه لنصرة المستضعفين في الأرض. استمتع بأغاني الشيخ إمام و سعيد المغربي. أصبح يدندن بأغنية « وليدك أللا ما بغا يقرا». اطلع على قصائد مظفر النواب المهربة. استهوته لغة النار. أدرك هموم و قضايا الوطن. شكل مفاتيح البدائل المحتملة. مشط المتون المستشيطة غضبا برموشه. مشى في ركب النضال الطلابي.تفجرت قريحته، بعد أن صقلته تجربة معانقة آلام الآخرين. قال أشعارا في منظمته العتيدة آنذاك « أوطيم». كتب أشعارا لسعيدة المنبهي، و هي تواجه حتفها بشجاعة.
أشرق صبح سوسني ، يتضوع أريجه بوعد، مع فطام بطعم خاص.خلفه تخفى قمر و ناي. هفهفت ذبذبات محملة بحفيف الحبق و الرياحين.من أذن للوردة بالزيارة ذاك الصباح؟!! لم انهمر لونها في الكون؟!! كيف أتقنت فعل الابتسامة؟!! كيف تسرب العشق، إلى الأغوار المطمسة؟!! كيف غافل الحراس و السياج؟!! كان الزمن ذاك الصباح على موعد مع نور سيقذف في القلب الفتي. التبس المكان ببهاء غادة،ذات إطلالة كللها الحسن. غمر ضياؤها الباب. رج كيانه. ولولا أنها نطقت لوقع مغشيا عليه قالت بصوت لأول مرة يسمعه. نغمة ؟! أنشودة؟ّ! زغرودة؟! أكيد أنها ذبذبات سحرية من عوالم أخرى :
- خالتي هنا؟
انتشله صوت أمه. كانت سمعت رنين الجرس. تسأل من الآتي؟ لكن لسانه خذله . لم يستطع التحرر من عقاله. أقبلت الأم . ابتسمت مرحبة، و قد تهللت أساريرها :
- رقية حبيبتي تفضلي. التفتت الأم نحو محمد الغافي تحت ظلال انبهار جميل و ساحر، ألم تتعرف عليها .انها ابنة خالتك عشوشة؟ استفاق محمد من غفوته. علق نظره بعيونها. تفجرت ابتسامتان بصفاء اللؤلؤ.ازدهر الفرح الطفولي في الفضاء.
أسر البنفسج لمحمد أن الربيع أرسى خيامه، و أن منعطفا ورديا ، سيعرج عليه العمر. أغمض عينيه . رأى ينبوع الحب ينبجس بينهما، ينثر من حولهما رذاذ أحاسيس، بطيب الود.
استطردت الأم ، موجهة الكلام لولدها :
- رافق خالتك الى الصالون ، أنا سألحق بكما بعد قليل.
تصفعه كلمة « خالتك «، بكف من جندل. تكدر صفو لونه، غير أنه احتفظ بابتسامة على شفاه تغالب البكاء.كيف يا أمي نفرت عصافيرالسعادة من حولي؟!
جلس محمد في مكان مقابل للزائرة. استقرت رقية في مجلسها في هدوء . شرد هو في الحلم الذي تبدد.
- أماه لا تدسي أولى قطوفي في لحمة القرابة.
تكسر الصمت المعمد بالسلام، لولا ما شاب اللحظة من غيم. حين بادرته بسؤال :
- أنت محمد؟
ومن غير أن تنتظر جوابا منه ، استأنفت كلامها:
- كنت صغيرا ، عندما زرتكم آخر مرة.
تجاهل جملتها الأخيرة. فر بنظره الى الكتاب المستكين فوق ركبتها، مستنجدا به في ايجاد مدخل آخر للكلام بينهما. فنطق قائلا :
- أتحبين المطالعة؟ ما عنوان كتابك ؟
- انه كتاب « أمل دنقل التجربة و الموقف» لحسن الغرفي.
يعود الصمت ، ليبسط رداءه من جديد على المشهد ، الى أن تمزقه عودة الأم بأكواب العصير. يرتفع ايقاع الكلام، رويدا رويدا. يلتقط محمد الكلمات . يحلل معانيها في عقله. يقلبها على جميع الأوجه المحتملة، لعله يتوصل الى حل لغز « الخالة التي ليست بالخالة».بينما قلبه كان يسائلها :
من أنت؟ و من أكون أنا لك؟ بالنسبة لي الكينونة بيني و بينك عشق ولد ملتهبا. لكن أين الحدود المحرمة لهذا العشق؟ و أين تمتد علاقة الدم بيننا؟ اللحظة كثيفة و مشحونة. أمي تتكلم عن القرابة، ومن الأكيد هي تشير الى فرق السن.أي جحيم اغتال اشراقة هذا الصباح؟هل كان برقا أم اشراقا؟ لم أعد أرى أمامي غير الغيوم و العواصف.
أنهكه التفكير. كل الياسمين الذي داعب كفه هذا الصباح، ذبل. يا دامي القلب ، ترجل.
خاطب نفسه. سيثمر الكلام لغما ينسف قلبي، أو أملا ينعش حبي.
أخرجه صوت أمه ، بعدما تنبهت أن ابنها ، بعيد عن جو دردشتهما ، وهي توجه اليه الكلام :
- محمد انها ابنة خالتي عشوشة التي تقطن بمدينة شفشاون، حيث يشتغل زوجها .أنت تعرفهما جيدا، فهما عادة ما يزوراننا، غير أن رقية كانت دائمة منشغلة بدراستها بمدينة فاس. و ها هي الآن أنهت دراستها ، و جاءت الى مرتيل لتدرس في المدرسة العليا للأساتذة.كأن السماء أمطرت عليه وحده . رحمته . أنعشته . أعادت الحياة اليه.
- آه ياأمي كيف تكون هي خالتي و أمها خالتك. فهمتك يا أمي سأظل في نظرك دائما صغيرا. و باقي خلائق الله يكبرون. لن أناقشك يا أمي . المهم أشكرك أنك أخرجتني من كابوس قرابة المحارم.
استعذب تفاصيل حوار الأم مع رقية. انغمس في تفاصيله الدقيقة، بكل حواسه. يلتقطها مفاتيح لما يريد أن يعرفه عن شخصية رقية. انتبه لأسلوبها الراقي في الكلام، مع ابتسامها الهادئ . جلستها ، أناقتها، كل ما فيها يشي بشخصية مميزة لا تقاوم. كانت أحيانا تخصه ببعض الأسئلة حول دراسته بالكلية. حول مطالعاته الحرة ، دون أن تخرج عن سياق حديثها مع خالتها. فهي بأسئلتها تلك ، تشجع محمد على الدراسة و التحصيل، وهذا ما يفرح فعلا قلب الأم. أشرفت الزيارة على نهايته.و قبل أن تغادر أخرجت من حقيبة يدها قلما .كتبت كلمة إهداء في أول صفحة للكتاب : « فهمت مما بلغتني به عن قراءاتك أنك تبني موقفك حول كل ما يجري حولك. كتاب الأستاذ الغرفي حول التجربة و الموقف عند أمل دنقل، قد يعطيك دفعة نحو مشروعك، وقد يعينك على الثبات في المواقف التي قد تتبناها في حياتك».
لم يكن محمد قد اطلع على كلمة الاهداء ، لكنه التقط الكتاب بفرح طفولي و احتضنه شاكرا.
من يومها صارت الأرض أوسع.هلت هذه السنة مضرجة بالبدايات. امتطى راحلة بدايات بألوان الطيف.
أخيرا، تسلل من نفق الطفولة التي طالت أعوامها. اكتشف ملح الرفقة . انعتق من قلعة الخطو المقيد.عانق انشقاق الزهور من الصخور. تتبع أصوات أجراس العمر في أكمامها.هبت رياح الصبا. لا أحد يصد المشاعر عن انطلاقها. في كل درب سار فيه، حوض بنفسج يتضوع بعطرها .يمني النفس أنه سيأخذه اليها.و في المساء اذا تدلى القمر من سقف السماء، اختصر ضياؤه في محياها. يراها امرأة « في جسد من بلور» . « هل للروح أرداف و خاصرة و ظل؟»2. كان كلما فكر فيها بقلبه، تحرر من المألوف. دخل الصرح الممرد للمعرفة.لبس ثوب العيش الجديد، المزركش بالشباب و الصبا. تمادت به أفنان الوله. . تفتح العمر زهرة. تأججت مشاعرمحمد ، و أيقن أن رقية هي حبيبته، فربط لذلك جأشا. مد الخطو.انقاد لنور قلبه. تزود بما تساقط على دروب خطوها، مفهوم. كتاب. نشيد. ديوان.....بقايا كلام لها ترسخ في الذاكرة.....
في الممرات كان خطوهم . بعد انقضاء ساعات الدرس بالكلية، ينطلق مشيا إلى مرتيل، كان على علم بمواعيد خروجها من المدرسة العليا للأساتذة . اللقاء كان دائما مبررا . يتبادلان الكتب و الشرائط المحظورة آنذاك . أهدته ديوان أحمد فؤاد نجم « يعيش أهل بلدي»، و أعطاها شريط قصيدة لمظفر النواب مسجلة بصوته. زودته بقصة الخبز الحافي للمرحوم محمد شكري في احدى طبعاتها الأولى، باللغة الفرنسية. قبل أن تترجم.أمدته بأعداد من مجلة « المشروع «، و بأعداد من سلسلة الجدل الفلسفية. المهم كانت لقاءاتهما تواصلا معرفيا. يسوده النقاش و الجدل.
مرة فاجأها بقصيدة عن المرحومة سعيدة المنبهي ، حملها بعضا من لواعجه. أعجبت بالقصيدة، و تجاهلت الاشارات.كانت جداول العشق في الدماء تهدر. زفر محمد بتنهيدة كدرت ملامحه. و في ثواني معدودة، و بعد أن غشيه خوف ضياع اللحظة، فتصبح خسارته مضاعفة. اصطنع بشاشة منفلتة. افتعل جدلا ناريا حول قضايا الحرية، و الشباب ، و المواطنة. كان بذكائه العاطفي ، يدرك أنه بهذه المواضيع ، يجذب اهتمامها و تركيزها، ومن ثمة يحظى باعجابها.
دافئة كانت صباحات اللقاء، و و متوردة كانت الأحلام و الأحاسيس.حتى الهواء المحوم كان ينشد خلالها لحنا نهاونديا. كان كلما تصفح أوراق غده، وجد وجهها يملأ صفحاته. يحلم بسبل جديدة ملونه ، تمتد أمامه. تغريه بالانطلاق والسير فيها .أصبح اسمها زغرودة قلبه. ونور جبينها يشع في دربه.أعاد رتق رداء القرابة بالعشق. تمسكت أمه بشعرة السن . لاذت رقية بمداراة مشاعرها. تجاهلت التلميحات . غمرته بحنان مشوب بالكثير من حدب الأمومة.
كرت أيام السنة مترعة بمناهل بطعم الحياة. استعذب محمد بعضها، وضاق ذرعا ببعضها، عندما لا يجد من يشاركه هول ما يعيشه، ويصطدم بغياب المنطق الجدلي فيما يجري حوله..كانت الأوضاع تزداد تأججا . مع بداية السنة الدراسية الثانية لمحمد، تفاقمت أكثر. تخطت قدماه ما ألفت أذناه. حيف اجتماعي. غلاء في المعيشة. أحداث صبرا و شاتيلا ، و بقايا « أوطيم « ، يقاوم الاقصاء و الاندثار. قلوب الرفاق مهتاجة. الأفكار متقدة، و الأحداث متلاحقة ، يتداول أخبارها الطلبة بالممرات. يصيغونها مواضيع لحلقاتهم. لكن ما كان يعتبره الرفاق تنازلا، تحت ضغط المتغيرات الايديولوجية المتلاحقة ، يعد غير كاف في نظر النظام لاثبات حسن النوايا. قلق النقاش ، وازداد التبرم من كلتا الجهتين.
يناير تلك السنة ، جاء متمردا ، لم يرضخ للبرودة . لم يركع لصقيع. و لم تردعه الأعاصير. جاء حارقا. اصطلى بنيران القهر المحتقن في الصدور. لفحه لهيب الحناجر الشابة. تطوان يا زهرة المراعي،سوف لن يأتي اليك الربيع هذا العام. الظلام الكثيف، يجثم على حقولك.ارتفع وجيب فؤاد محمد. تصاعد انفعاله على غرار باقي أقرانه بالكلية.
حلقات و خطب و مناشير و هتافات، فجرت المواقف .الشباب انفلت منه العيار. اندفع في صخب هادر نحو الشوارع الرئيسة للمدينة، ليجدوا الأمن لهم بالمرصاد. محمد ينفث كل ما كان جاثما على صدره . محمد ينهض من رماد الاحتراق . حب فاشل. خطو الطفولة المقيد. كل هذا نبذه محمد الآن . أطلق لقدميه السير دون قيود. تحررت الذات، و الباقي سيأتي.مشى بجرأة. تقدم الصفوف الشاجبة المنددة.كانت الحياة تمتد أمامه كي يعبر.
بباب العقلة، حدثت الانتكاسة. امتدت إليه يد ، لا يدري كيف تمكن صاحبها من اختراق كل ذلك الحشد الهادر من الشباب. التفت ، تحجرت المقلتين في محجريهما. كانت قبضة مستميتة ، و صاحبها أبوه، رجل الشرطة المتقاعد.
الأغلال مرة أخرى . في البيت قاوم بكل الطرق، بالتوسل ، بالصراخ ، بالتهديد ، حتى دموع أمه ، كان يتحاشى النظر اليها .حاول إقناعهما بالمنطق و الواجب ، عسى أن يسمحا له بالالتحاق بأصحابه، لكن كل محاولاته باءت بالفشل. كيف يوافقان ، وهو وحيدهما، و قد رزقا به على كبر.
بكى محمد كما لم يبك يوما. رفاقه سيتوجون بشرف النضال. و هو سيلاحق بالخزي. تبا لكل عين كحلت بالكرى هذه الليلة.
اشتعلت المدينة بنيران الغضب . استمات الشباب على هتافهم ، و أصر النظام على إخراسهم. فجرح من جرح، و قتل من قتل، و أودع في المخافر و السجون، كل من طالته يد الاعتقال.
اعتكف محمد بالبيت طوعا و كراهية. استصغر نفسه.كانت الأخبار تأتيه عبر هاتف البيت. أو من أصحابه الذين كتبت لهم النجاة ، عندما حمي الوطيس، وأطلقوا سيقانهم للريح.
كانوا ملمين بوضعه العائلي. يحبونه لكرمه معهم، وطيبة نفسه. كانوا يناقشون الأوضاع، ينتقدون ، يشجبون، يتألمون ، لكن في همس مرتعش مذعور.
عاد أصحاب الخوذات الخضر، الى ثكناتهم، وعم المدينة نوع من الهدوء الرمادي،بينما الغمام المتوعد بالطوفان ، لا زال يملأ سماءها. جاءت رقية لزيارة بيت خالتها رفقة أمها. كانت قلقة بشأن محمد ، و أمها كذلك . كل بيت فيه شاب كان الأهل يقلقون من أجله.
ذوت شعلة الحماس، في عيون محمد. لم تجد رقيه محمدا كما ألفته. كان أكثر من حزين. و أكثر من محبط . و أكثر من حانق. و أكثر من يائس و خجلان. بعد انتهاء الزيارة، ودعته و أمه و هي غير مطمئنة على حاله.
كنست النكبة آمال محمد. أنهكت آماله. اشتد حنينه للرفاق المغيبين ، الذين كانت صرخات حناجرهم ، تفجرا لحقائق، و اعتبرها الرعاع فتنة تشعل الحرائق .الآفاق الشاسعة الواضحة التي كانت ترنو اليها رؤاهم، غزتها العتمة.
أيها المسجى فوق أرصفة الفراغ، كم مرة ستكون رحلتك البداية. لم تكن سليقته «سليقة نهر يبحث عن ثبات» 3،غير أنه الفرار من الجحيم.
خاطب محمد نفسه ذات ليلة ، وهو يحشو جواز سفره داخل محفظته :
قد تصبح المنافي إحدى تلك البدايات التي نبذتها يوما، حين شببت عن الطوق، وقلت لها كفي. لا تلاحقيني بعد اليوم . لقد أمسكت خارطة الكون بين يدي.و يكفيني أن تحتويني حدود وطني.
الوطن واحد لا ثاني له. أفارقه بعدما اجتاحت الحرائق حقول الحرية. و علقت المبادئ على المشانق.و سبيت الكرامة.سأهاجر ما دامت الرؤى و الأفكار و التاريخ يوأدون في وطني.
ثم رفع بصره الى رفوف مكتبته. أخذ منها كتاب « أمل دنقل ، التجربة و الموقف»، أعاد قراءة كلمة الاهداء، ثم قال و كأن الكتاب قد تحول الى رقية :
أما أنت يا شقيقة الروح، فإنني أرى في صفحة حبنا، خربشات جهل ، تحفر للأساطير نواميس، تشرع للفراق و الجوى . لذلك لن أرهقك بحبي.
رحل محمد و ما زالت شموع الحب تومض بين حناياه.صمم أنه « لن يكون من الذين لا يعرفون من الحياة سوى الحياة كما تقدمها الحياة»4. كان قد نحت ذاتيته من اكتواء و ألم ولوعة، و من صوان التجربة اقتطع حريته.
1 بيت من قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش
2 من قصيدة لنفس الشاعر أعلاه
3 من قصيدة لشاعر روسي
4 من قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.