ونحن نتسكّع في الأزقة الضيقة للنيت قد تشد انتباهنا صورة أو يستوقفنا شريط فيديو، فتكون مناسبة للتأمل أو ربما فرصة لإعادة النظر في أحد مسلماتنا العتيقة التي طالما اعتقدنا أنها كذلك... في الأيّام الأخيرة أثارني شريط قصير انتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر مجموعة من الطفلات يجلسن فوق أريكة حمراء ويجبن كل واحدة على حدة على أسئلة رجل لا نراه في الفيديو. الأسئلة تتعلق بمشاركتهن في إحدى المسرحيات. المستجوب يضعهن بين خيارين: أن تمثل الطفلة دور الفتاة الطيبة... القبيحة، أو دور الفتاة الشريرة... الجميلة. توقعت أن تنتصر البراءة للطيبوبة لكنّ المفاجأة كانت أنّ جميع الصغيرات سيجبن بنفس الجواب : - الجميلة... الشريرة . لا شيء يعلو على الجمال إذن. الفيديو "صادم" بالنظر إلى ارتفاع منسوب ذكوريته، ذكوريته المدسوسة في خيار الصغيرات... الذكورية التي جعلتهن يتلعثمن أو يفركن أصابعهن أو ركبهن وهن يعلنن اختيارهن للشر ، اختيار اضطراري لأنّه مرتبط بقيمة أعلى هي الجمال، اختيار يتخلين بموجبه عن قيم الخير لأنه ارتبط بالقبح. هن متوترات حائرات وهن يكتشفن ربّما لأوّل مرّة أن الحياة ليست أخلاقا نبيلة فقط بل هي أيضا الحرص الشديد على امتياز الانتماء للفئة الرابحة اجتماعيا، امتياز أن تحظي بالحبّ والاهتمام لأنك جميلة... جميلة طبعا حسب مقاييس المحيطين بك. الفيديو يعيدنا وبكل بساطة إلى حقيقة ثقافية قديمة ننشغل عنها أحيانا بل وقد ننساها، لكنها تعود لتفاجئنا عند أوّل منعطف وتؤكّد لنا بلهجة صارمة: جمال أجسادكن هو جواز مروركن الأساسي أمّا البقية فمجرد تحصيل حاصل. الجميلات هن الجميلات. أفهم صغيرات الفيديو وأتفهم موقفهن "غير الأخلاقي" جيدا. خلال طفولتي ومراهقتي كنت الفتاة الذكية المتمردة التي يقال لها بصوت واضح ومسموع : "أنت مختلفة" لم أكن الفتاة التي يقترب منها أحدهم ويهمس لها بصوت حنون ومنخفض جدا: "أنت جميلة". لم أكن تلك التي يختارها مدير المدرسة لتقديم حفل عيد العرش فتحظى بحبّ الأساتذة والاداريين وأولياء الأمور... و التلاميذ . لم أكن الفتاة صاحبة الحقيبة الوردية حيث يمكن العثور على أحمر شفاه ضائع بين طلبات "التصاحيب" غير المردود عليها التي ستُطلع عليها صويحباتها في بهو المدرسة وهي في غاية السعادة والانتشاء باعتبارها الفتاة الجميلة المرغوبة التي لا تكترث بجيش المعجبين... كنت أشعر أنّ غالبية رفيقاتي كنّ ينظرن إليّ شزرا بسبب سمعتي السيئة كفتاة "مختلفة" تضع نظارة طبية، تؤمن بالمساواة، تجادل أساتذتها وتتجول في الحيّ وفي يدها كتاب أو جريدة. كنت أجعلهن يعتقدن أن لهن دينهن ولي ديني لكنّ في أعماقي كان أقصى ما أتمناه في الحقيقة هو أن أرتدي قفطانا زاهيا وأضع أحمر شفاه... وأقدم حفلة عيد العرش. أتفهم صغيرات الفيديو وكل الصغيرات اللواتي لم يسجل لهن أي فيديو ولم يسألهن أحد. صغيرات هذا العالم الذي قذفنا فيه... أتفهم لماذا فضلن الانتماء للفرقة الناجية من النبذ الاجتماعي في كوكب الذكور حتّى ولو كان ذلك على حساب القيم التي علموهن إياها: قيم الخير والطيبة والإنسانية. أتفهمهن لأنّ الدرس الافتتاحي الذي يلقن لنا بمجرد ما نحلّ بينهم عنوانه : "كوني جميلة". كوني جميلة، تحدثي أو اصمتي، غني أو اصرخي، كوني طيبة أو شريرة، ذكية أو بلهاء... لا يهم، هي مجرد توابل لا غنى عنها تعطي مذاقا خاصا للطبق الرئيسي لكنها ليست الوجبة التي ينتظرها الآخر... الذي يتضور جوعا.