في هذا المكان خبز لا تقبله معدتي. أوراق ورسائل بعثها لي صديق كان يسكن بجوار المنزل الذي ماتت فيه جدتي. صور بالأبيض والأسود ورائحة الأحذية تنبعث من ثقب خلف الباب. أرز متعفن أشم رائحته من بعيد ودخان المريخوانا يتنزه في ممر الطابق. حالتي أمست غريبة. ومن خلال نظراتي في المرآة ،بدأت أكتشف أنني بين الحياة و الموت. أنا أفهم الموت بطريقة مغايرة. فكل محروم من كسرة خبز يُهدّأ بها بطنه الجائع فهو ميت. ما قيمة الحياة في ظل الجوع، وماجدوى العيش في مجتمع يهددنا بالانقراض . الصراع الطبقي يغتال كل ما هو جميل فوق الأرض. أما رائحة هذه الغرفة العجيبة، فقد امتزجت برائحة عرق أبي. أصبحت قطعة مني. تضاعفت الأمور، قرأت رسائل حملتها معي و كلها كلام عن الطفولة و الحب البريء. اغتال الملل رغبتي في الجلوس والقراءة أوحتى الأكل من إناء صدئ كان قد سلمه لي أحمد، زوج تلك الملعونة التي أرادت أن تغريني بجسدها وفستانها الليلي. غريبة هذه القسوة التي تحول الناس إلى كائنات هوائية لا تستقر على حال. قررت أن أتخلص من هذه المساحة الضيقة. توجهت مسرعا نحو الحانة، هناك الفتاة الصربية ورفاق النكتة و كلام عن الوطن. أحيانا أدخل إلى هذا الفضاء الجامعي لأتعلم كيف أطير وأنصت إلى قهقهات تبكيني ضحكا. عندما ألتقي بسيمو ، يبدأ يحدثني عن غرامياته ويومياته داخل المسجد. أنا لست كالعديد من الناس، لا تثيرني هذه المزاوجة. سيمو صديق لا يحب المزاح. يصلي نهارا و يشرب البيرة ليلا. يوما سألته عن هذه العادة التي تجمعالعبادة و روح الانتشاء، قال لي: في كل عالم هناك شيئان وأنا لي جنتان.لم أفهم مقاصد كلامه ثم طرحت سؤالي بصيغة أخرى: هل تؤمن بالغربة عن الحق ؟ الحق حلم والكلام عنه غبار يتطاير ذراته بمجرد ما ننتهي منه.تقدم عباس و رفيقته صوفيا والمجموعة قدام البارمان ،فسكت سيمو وكأنه يرفض البوح بشيء يخنق أنفاسه أمام بعض الطلبة المعروفين بعلاقاتهم المشبوهة مع جهاز المخابرات. كلهم كانوا هناك، جالسين على طاولة واحدة. كل واحد منهم يريد التحدث أكثر من الآخرين، عن كلام الأولين وأساطير لا نسمعها إلا نادرا. إنهم يعشقون نهش أجساد بعيدة و غائبة. أرفض سماع هذا النوع من المحادثة. في كل الحالات، العقول الصغيرة هي التي تتداول أخبار الناس.انسحبت ثم تبعني سيمو . كان يريد أن يحكي لي شيئا عن صَلاته أو عن أسراره.تلك الليلة، قلت له بصراحة حتى لا ينزعج أو يقع سوء تفاهم بيننا: إنني فضولي و أسئلتي مستفزة. أريد أن أفهم سر كل شيء...رد علي: أنتظر فقط زوجتي التي اختارتها لي أمي مؤخرا.كان فرحا وهو يحدثني عن بنات قريته الجميلات. بنات لا يخرجن إلا ليلا حتى لا يقعن ضحية العين الشريرة، عين الرجال الذين لا شغل لهم سوى الكلام عن مؤخرات النساء.سألته و الكثير من الأفكار تتزاحم في ذهني: وهل تعرفت على زوجتك أو سبق لك أن رأيتها ؟ نعم رأيتها مرة واحدة. كانت رفقة أمها، لم أكن قادرا على تجاوز بعض الخطوط الحمراء... لم أسمع يوما عن رجل أحب امرأة لم ير وجهها... الحب مجرد عادة سرعان ما يندثر سواء رأيت وجه المرأة أو قفاها ! أتخيل كيف تقوض المعاني و ترشح كلماتك كي تلعب دورها الوقائي. لا تعتقد في شيء من هذا، أنا بعيد عن أحلامي و لا أشم إلا هواء محمل براحة القيء التي تطاردني كلما فكرت فيها... ومن تكون هذه الروح الخفية ؟ الله الذي يعلم كل الأشياء المطمورة. وأنت كذلك تعلم أمورك ؟ راحت قبل أن تراني عريسا أجلس بجانبها . كانت لا تنام قبل أن تضع صورتي بالأبيض و الأسود على نهديها و تستنشق هواء العشق الأبدي. إذن أنت محب بالفعل و القوة ؟ أنا طائر يذرف دموع الحسرة كلما تبللت الأرض و سقطت أوراق الأشجار الخريفية. ولم هاجرت بعيدا عن من يحتضن صورتك بالأبيض و الأسود ؟ لم يعد لصورتي قيمة . النجمة التي كانت تحتضنها، غادرت الحياة إلى الأبد. حادثة سير مروعة كانت كافية لينتهي كل شيء يتحرك بداخلي. احك لي بسرعة ...وهل الحب يمكن أن يتكرر مرات عديدة ؟ العشق لا يتكرر، الهيام قلما تجده، أما الحب فمصيره الاندحار. غريب هذا الأمر . العديد من الناس يحترقون لكن لا أحد يرى النار التي تحرق هذا العالم. وأنت لماذا تطرح كل هذه الأسئلة ؟ لقد نسيت ما قلت لك، أريد أن أفهم... بيني و بينك يا صديقي ،بيرة اليوم فاسدة. لا أتذوق حلاوتها...سيمو يريد أن يخرج بعضا من كلماته المدفونة في جوفه أو يعبر عن حب يثقل لسانه. سكت لحظة. كنت أنظر إليه . فاه مفتوح و ينظر إلى مؤخرة إحدى الفتيات البدينات، ثم قال لي من غير أن يشعر برقة كلامه: والله يا صديقي، إن ثقتي في أمي عمياء، أعرف أنها لن تختار لي إلا بنت الناس. فالمرأة هي القادرة على فهم حقيقة المرأة وحتى ألاعيبها. آه ، وهل أنت ستتزوج أو ستدخل في حرب ... المرأة كالسوسة ،إن دخلت إلى الفم تخربه و تعفن كل أرجائه . وكيف ستعمل عندما تصطدم بالحائط، ولا تجد من تكلمه سوى هذه المرأة التي ستكون زوجتك ؟ لا أريد التفكير في هذا الأمر...هل تريد بيرة أخرى أم وصلت إلى نقطة النهاية. هناك نهايات عديدة...بدأت نظرات سيمو تتغير. عيناه حمراوان، يداه ترتعشان، و لا يقدر على شرب ما تبقى من كأسه. جسده لا يقوى على الكحول ومناعته ضعيفة. أعطيته قليلا من اللوز. أخد مني الحبة الأولى ثم قال لي : وما اسم صديقتك ؟ أحلام...وعلاش كل هذا الكذب...صديقتك ليست بنت البلاد... سأقول لك بصدق. أطلق على كل نساء العالم نفس الاسم: أحلام ابتعد عن الفلسفة الخاوية و تكلم بدون ... أفضل كلمة ملهمة بدلا من صديقة...هن ،يحملن نفس الحلم الضائع. جاء علال وقطعنا الحديث. سيمو يكره هذا الشخص لأنه ينقل كل صغيرة و كبيرة للطلبة و ربما للبوليس.سيمو يفضل أن تظل قصة زوجته التي لم ير وجهها طي الكتمان حتى تحصل على الأوراق وتأتي إلى كيبيك . وبمجرد ما أن غادرنا علال حتى نطق سيمو بلهفة: أنت تكذب يا صاحبي. قل لي هل تحب مجالسة كل النساء ؟ هل لك قدرة على استنشاق النسيم الذي يحملونه ؟ عشق امرأة أفضل من مجالسة ألف رجل. الجلوس مع المرأة يشبه مطاردة الشيطان. تجاوزنا حكايات النساء التي لا تنتهي، و تناولنا الحديث في أمور عديدة...انصرف سيمو عندما رآني أتحدث مع صوفيا وصديقتها التي كانت تجهش بالبكاء و لا أدري سبب ذلك. لم تكن علامات النشوة تظهر على جبيني. كنت أحاول مراقبة سيمو من بعيد، قد يسقط على الأرض لأنه شرب كثيرا هذه الليلة. أعتبر هذا الصديق ضحية زمانه. وعندما أكون بجواره يحكي لي عن مغامراته مع نساء لم ير وجههن، وفروج لم يذق حلاوتها، وأفواه لم يشم رائحتها وأحمر شفاه لم يذق طعمه. إنه يعوض عن شيء لم يحدث أبدا، والتعويض شكل من أشكال الحلم. غادر الوطن وترك أمه وحيدة بعد وفاة أبيه. بدأ يبيع البطائق الهاتفية واضطر إلى بيع كل شيء حتى ملابسه البالية من أجل تسديد مقابل ثمن الحجرة التي تحتضنه عندما يأتي سكرانا ليلا.ومن أجل الحد من تكهناتي المريضة عدت إلى رفيقي وطلبت منه أن نترك المكان حتى لا يتكرر ما وقع تلك الليلة ،عندما غلبه الكحول فكسر زجاج نافدة حجرته ونقل إلى المستشفى بعد تدخل إحدى الطالبات الكنديات التي كانت تقطن بجواره. قلت له بلطف: لنعد من حيث أتينا. ليلنا يطول وهو أطول من ليل المغتربين. حملته على كتفيّ . كنت أستنشق رائحة نتنة تنبعث من فمه. كنت أحس بدقات قلبه وكأن شيئا يريد أن يخرج من مكانه. صدره يريد أن ينفجر. أدخلته إلى حجرته الموجودة في الركن الأيسر من الطابق. خرجت بعدما وضعته كجثة هامدة على سريره. كتبت على ورقة صغيرة وجدتها مرمية قرب حذائه المثقوب: وككل مرة أتركك وحيدا تناجي النجوم وتخاطب أحلامك التي ذهبت أدراج الرياح . لتكن ليلتك أفضل من سابقاتها وتصبح على وطن. رفيقك إلى الأبد. أحزن عندما اترك سيمو في هذه الحالة ،لكنني سرعان ما أقول : إن النوم له شكل مغاير. أنا الذي حرمت من هذه اللذة منذ شهور. ساعات و دقائق تنقضي دون أن أصل إلى قرار. أرغب في العودة إلى الوطن لكن شيطانا ماردا بداخلي يحطم كل قواي حتى لا أعود. وعندما يتأخر الليل عن موعده ، أبدا في استعادة الساعات و الثواني التي كنت بجانب حسناء أو الحاجة مبروكة أو حمودة . و كلهم بمثابة شهود أنطّقُ كل واحد منهم عندما لا أجد من أحاوره. في ذلك النهار المنير ، قضى علي التعب فسقطت على السرير . رجلاي ممددتان. أنفي ملتصق بالحائط، أحب رعشة البرودة التي تنبعث منه. لم أكن على وعي بما يحدث . عشت لحظات حلم غريبة. رأيته قادما نحوي. كنت أطل من نافدة توجد بطابق أعرف مكانه جيدا ببلدتي . وأسفل الطابق يوجد بائع الحريرةالمعروف. كان أبي واقفا قبالتي. قال لي مستغربا : أنت هنا ؟ لقد اعتقدت أنك تناجي الضباب بكيبيك . يا للمصادفة . أنا فرح لأنك تنظر إلي بهذه الطريقة المجنونة . عيناك لؤلؤتان تنير كل هذه البناية.صرخت: أبي توقف، تمهل، هذا ابتلاء وليس بقدر . إنني أشم رائحة عرقك الصباحي كل يوم، ومنذ أن كنت تحملني بين ذراعيك وتقدم لي القهوة والزيت البلدية*. يا أبي توقف ، هذا زمهرير يسقط على الرؤوس ...اختفى أبي ولم أعثر سوى على بائع الحريرة . كان واقفا أمام النافدة رفقة غلام متسخ يشتغل عنده وتبدو عليه علامات القهر . نظرت إلى الغلام . كان قدام قِدر كبير مملوء بالحريرة . ضحك قبل أن يلوح لي بيده، وكأنه يقول لي: ودع أحلامك وعد إلى حالتك.وقّفت هذا السيل الجارف من الذكريات ، وجدت نفسي أتجه صوب حجرتي . شاهدت كل بنات الليل وشباب الظلمة. كلهم كانوا كالخفافيش الضاحكة. ناداني يونس، شاب من أسرة ثرية أبوه قاضي القضاة، أرسله من أجل الدراسة لكنه حول حلم الأب إلى كابوس. لقد اتبع هوس الموضة وتحول إلى لوطي. لم يكن يفصح عن أمره لكن أحد رفاقه في هذه الحرفة العجيبة فضحه. عندما اقترب مني ،عرفت أن ابن القاضي يريد سيجارة. لم ألبي طلبه لأنني تخلصت من هذه العادة التي انتهكت جسدي، لم يعد هناك من مكان يسع لدخان السجائر بصدري. صعدت إلى الطابق الخامس، أحس بالاختناق. أرغب في الخروج من نفسي والدخول عالم يسمح لي بان أعبر عن كل الأشياء وحتى تلك التي أجهلها. دخلت إلى مكاني الأعزل. قلت لنفسي، لا ينبغي علي أن أظل حبيس أفكار مهزومة. أرفض الجلوس على هذا الكرسي المتآكل في مكان تنبعث منه رائحة الموت. عادة سيئة ينبغي علي محاربتها بكل ما أوتيت من قوة. رن الهاتف. لم أكن أنتظر هذه المكالمة. إنه سليم ، الذي رمته أقدار عائلته إلى هذه البلاد. أبوه اختلس مال الوزارة وأمه تزوجت برجل آخر بعدما رمي الأب وراء القضبان. سليم يحب كل شيء في وطنه حتى أوساخه و مياهه التي تخنق مداخل قريته عندما يسقط المطر بشدة. لم يكن سليم قادرا على مواجهة إعصار كلام الناس ،فقرر أن يرمي جسده في هذه المطمورة الغربية. خاطبني بصوت أبح وكلمات متقطعة. بدأ يحكي لي عن أطوار يومه المكرور بكيبيك وأمه وكل الأشياء القبيحة التي تذكره بماضي الصفحات. لم يقدر على مواصلة الكلام على الهاتف. توقف وهو يجهش بكاء. طلب مني المعذرة لحساسية الموقف ثم قال لي: أتعرف لا أريد أن أحكي هذه الأشياء لأي أحد لكن أنت...! لا تفكر في هذا الأمر. رأسي عامر بحكايات الوطن المكشوف والغريزة والكرسي المفقود وأشياء أخرى. حاول أن تنسى كل كلام تحكيه لي حتى لا أتذكر فيزداد عذابي. أنا لست بحاجة إلى الكتابة عن المطر والعنف والشهوة. لقد سطرت الكثير من هذه الخطوط على الورق. بات مدادي يبكي كي لا يفيض مرة ثانية. قل لي ماذا أفعل، إنني في ورطة ! حاول أن تبعد أمك من ذلك الوحش حتى تستريح... الوحش يسكنني و لا أقدر على السفر و الترحال بعيدا عن نفسي. عليك بالقراءة. إنها تشبه الصلاة. وأنت تمرر أناملك على الخطوط السوداء ستكشف العديد من الخفايا. ستحس بالاطمئنان وستدخل قارات جديدة لم تكن تعرفها من قبل. عليك بتعلم المقاومة عن طريق القراءة.وكالعادة، أنهيت حديثي مع سليم بدون أن نصل إلى حل لعقدة طال أمدها. وبالرغم من أن التعب يقتلني ويمزق أحشائي ،قررت النزول إلى باب الإقامة لأشم رائحة الثلج ودخان يخرج من الأفواه كالطاعون. كل ليلة أشم رائحة الآدميين الجائعين وهي تلتصق بأركان الأسوار وظلمات الغرف التي خصصت لتسجيل كل شيء يصدر عن أجناس وألوان آدمية لم تصل بعد إلى رشد أولئك البيض. أحس بهذه الإقامة وكأنني في ثكنة عسكرية يحكمها انضباط على الطريقة الكندية.ولما خرجت وجدته هناك. متكئا على حاشية الباب الرئيسي. طوبل القامة. يضحك حتى تظهر نواجذه. ذكرني بوصايا صديقي حمان الذي كثيرا ما قال لي : أحذرك من ضحكة النواجذ ،فهي تشبه حركة المناجل عندما تقتلع السنابل من تحت الأرض.تقدم نحوي وسألني عن أشياء عديدة لا أعرفها. مكان ولادتي و اسم أمي وحتى خالتي التي أكرهها. أمر غريب. هذا الشخص كنت أجيبه بمنتهى التلقائية. قلت لنفسي: سأكمل المشوار هذه الليلة مع هذا المنحوس ولتكن النهاية ! كان ينظر إلي بنظرات قبيحة. القبح لا يزعجني ولا يخيفني لكن الأفعال تؤلمني. كان يرمي كلماته الجميلة في حق الوطن الفرح وكأنه ملح يسكبه على جراحي. لحظات ثم جاء صديقي عبدالسلام . هذا فنان أصيل، ترك الريشة منذ أن كسر له أبوه لوحة رسم فيها صورة أمه. كان آخر يوم تمس أصابعه الثوب الأبيض و صباغة الزيت المزركشة. عقدة لسان عبدالسلام لا تفك إلا تحت دقات الأقداح. ناداني ثم همس في أدني: أدعوك إلى شرب يعض الكؤوس...لقد انتهى زمن الخمور الرخيصة وبدأت لعنة الجعة المريضة. أردت أن أتخلص بأي ثمن من هذا الكائن الذي يستنطقني منذ نصف ساعة.أعرف أن الموت بيد الله والحياة أقصر من أي شيء في الوجود. لكني أرى العمر أطول عندما أكون بجانب عبدالسلام ،ولو أنني لا أراه إلا نادرا ، نتفاهم ونحن نتجادل في قضية معينة أو نتناقش في مواضيع الساعة. صديقي يحمل هم البلاد ويكره اللصوص والمخبرين وأبنائهم. غالبا ما يقول ضاحكا: أولاد القحاب في البلاد ، يلاحقوننا حتى في بلاد الضباب.ولما استقرت أجسادنا بحانة الجامعة وبدأ صخب الموسيقى يملأ الأرجاء.تحركت الكؤوس ،وجاء رفاق الخير والشر ،وكلهم يرتدون أقمصة بالية وسراويل طويلة و مثقوبة ، رؤوسهم مدهونة بماء لزج وأفواههم مفتوحة . كانوا يتقمصون أدوار مختلفة. لا أريد أن أبالي بهذا الوضع المفزع ،فعبدالسلام يحكي لي عن ذكريات اغتالها الظالمون و يشدو أعذب الألحان. سألني صارخا في وجهي: لماذا تباع كل الأشياء وحتى الرموز ؟ الإنسان أصبح رخيصا ... لم ينس عبدالسلام شعر محمود درويش وأغاني فيروز . لا أحد يسمعه بداخل حانة الطلبة وكأنه مسافر عبر الزمن. أنا و كاتلين التي جاءت بسرعة وارتمت بيننا وخاصة عندما بدأ عبدالسلام يغني عن الحب والصيف وحر الشمس التي لا تحرق إلا الغرباء عن العشق، كنا جميعا هناك . أنظر في عينيها وهي تحاول الاقتراب من كتفه. صوته فيه رقة مثيرة ونبراته الأمازيغية تضفي على مقاطعه جمالا.ارتمت كاتلين ثانية ،لكن هذه المرة أمسكت بيد عبدالسلام وبدأت تقبله و تطبطب على رأسه. يا لها من لحظة يمتزج فيها البوح بالحقيقة بسر الكلمة. وأخيرا تكلم صديقي ساخرا وخاطب كاتلين : وكيف تستمتعين بإنشادي في هذا الضجيج اللامتناهي؟ عندما نعشق لحنا رائعا ، تصبح آذاننا صماء ولا تفتح إلا عند سماع كل كلمة صادقة تخرج من الأفواه! اعتبرت هذا الكلام إطراء أو ربما أن كاتلين التي لا أعرفها إلا من بعيد ،تحب الثقافة والفن العربي ،وربما متخصصة في أمورنا كماري . هذه المرأة الكندية المعروفة في الأوساط العربية بكيبيك ، تبحث في فنون العمارة الإسلامية. صديقي عبدالله استمع إليها يوما ما فسخر من نفسه وقال: ما تعرفه ماري عن الفنون الإسلامية يجهله الكثير ممن يصلي إلى جانبي كل يوم بالمسجد الصغير تحت الأرض.في يوم من الأيام، تحدثت عن أعمال ماري العلمية مع بعض الطلبة، فصرخ أحدهم في وجهي وهددني بالقتل. آه كيف ننكر الحقائق ونقوم بكل شيء من أجل طمسها كي لا تفضح أمورنا ونصبح عراة أمام ذواتنا . كاتلين أخرستها اللحظة ،تركت عبدالسلام يعلق على كلامها . في تلك اللحظة، لم أنتبه مطلقا لحركاتهما. صوت ملائكي بدأ يرن في أسما عي، وقلت، إن هذا الليل المرهون بالنهاية تظل قيمته غالية. الكلام عن ديكارت أو أغنية جميلة على لسان عبدالسلام أو حتى نظرات بريئة لكاتلين يدفعني إلى الحسرة. أنا مقتنع أن كنوز العالم مطمورة ولا تظهر للعيان. كان عندي انطباع يقول لي بأن صاحبي بدأ يمل من نظرات كاتلين . أما أنا فعادتي معروفة . مزقت الورقة التي تلف زجاجة البيرة وبدأت أكتب عليها بعض الكلمات التي تلهمني بها طقوسي الليلية حتى لا أنساها. فهوس الماء العذب خلاق لكنه يندثر بسرعة. أحيانا أكتب اعترافاتي ويومياتي،وأقدمها هدية لصديقتي الصربية أو ماريا. ماريا مجنونة بكتاباتي و تتصل بي كل أسبوع حتى أقدم لها بعضا من يومياتي. كانت تقول لي بأن حكاياتي وحروفي تكمل لها الصورة وتساعدها في بحثها حول معاناة العرب في بلاد المهجر. أتساءل دوما عن أية صورة تحتاج لأن تكتمل ؟ كنت أجد عزائي في هذا الكلام. لم أرغب في تطوير علاقتي بماريا . كانت تطلب مني الكثير من الأشياء. قوة شخصيتها وكلامها لا يتناسب معي. أحس دوما وكأنها تستفزني، لأنني أتيت من الجنوب ولم أكتشف بعد جوهر الأشياء. مرة قالت لي بوضوح:لو وصلت إلى هنا قبل أن تشرب الماء هناك لحصلت المعجزة. لم أكن أفهم دلالات هذه العبارة و لا أريد الخوض في هذا الأمر...!دفعتني الرغبة إلى الانسحاب، فالصربية القاتلة لم يعد لها من أثر في حلبة الرقص. ساعدت عبدالسلام على الوقوف كالعادة. قال لي بسخريته المعروفة: أنت لا تأخذ منك البيرة لا حق و لا باطل ... آه لو أخد مني هذا السائل العجيب شيئا لانقرضت!أحيانا يطول الليل وتتبد غيومه فتصبح النجوم هي مخاطبي الوحيد، عندما ينصرف الكل و تتحول ساحة الجامعة والإقامة وكل هوامش المدينة إلى فراغ رهيب. دخلنا حجرة عبدالسلام . طلب مني ورقة صغيرة، لم يعد قادرا حتى على النطق باسمي. أعطيته ورقة من كتاب ممزق وجدته على مكتبه، ثم حددت له مكان الكتابة حتى لا يزيغ ويكتب على نص الورقة المطبوع. كتب بحروف جد مائلة: لماذا تحتفظ كيبيك برائحة الأغبياء ؟*زيت الزيتونمحمد نبيل كاتب و صحافي مقيم بألمانيا